تفسير سورة البقرة [51-66]


الحلقة مفرغة

ثم قال تبارك وتعالى: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ [البقرة:51]، قوله تعالى: وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، فيها قراءتان: هذه قراءة: (واعدنا) وقراءة أخرى: (وعدنا) بدون الألف، وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، والمقصود: ليس أربعين ليلة، والأصل: وإذ واعدنا موسى تتمة أربعين ليلة؛ لأن الله أخبر أنه واعده ثلاثين ليلة ثم أتمها بعشر ما في قوله: وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً[الأعراف:142]، فإذاً: المقصود هنا: وإذ واعدنا موسى تتمة أربعين ليلة، و(موسى) كلمة معناها باللغة العبرانية، المنشول من الماء، ذات مرة موسى عليه السلام، انتشله آل فرعون من الماء وهو في التابوت، فمعنى (موسى) بالعبرية: المنشول من الماء.

وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ، نعطيه عند انقضائها، التوراة التي تعملون بها؛ لأن الخطاب ما زال موجهاً لبني إسرائيل، (وإذ واعدنا) يعني: واذكروا يا بني إسرائيل! يعني: الوقت الذي واعدنا موسى تتمة أربعين ليلة؛ حتى نعطيه بعدها التوراة، لتعملوا بها.

قوله: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ، ثم اتخذتم العجل الذي صاغه لكم السامري إلهاً.

أين المفعول به هنا: ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ ؟ كلمة (اتخذ) تتعدى لمفعولين، أين المفعول الثاني؟

المفعول الأول: هو العجل.

المفعول الثاني: محذوف وتقديره: ثم اتخذتم العجل إلهاً.

ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ ، يعني: من بعد ذهاب موسى عليه السلام إلى موعد الله سبحانه وتعالى: وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ، أي: باتخاذه، ما معنى الظلم في اللغة؟ الظلم في اللغة: وضع الشيء في غير محله، فهذا يسمى ظلماً، فقوله تعالى هنا: (وأنتم ظالمون) أي: باتخاذه، لوضعكم العبادة في غير محلها، فإن العبادة ينبغي أن توجه إلى الله سبحانه وتعالى وحده.

قال تعالى: ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ [البقرة:52] أي: محونا ذنوبكم (من بعد ذلك) أي: من بعد ذلك الاتخاذ، وليس العجل، (من بعد ذلك) الاتخاذ الذي هو يعاتبون عليه، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ أي: نعمتنا عليكم.

وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:53].

ما المقصود بـ ( الكتاب ) في قوله تعالى: (وإذا آتينا موسى الكتاب)؟

(والفرقان) هل هناك كتاب ثانٍ اسمه الفرقان؟ لا، المقصود في هذا عطف تفسير، يعني: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ، الذي هو الفرقان فعطف على التوراة عطف تفسير، يعني: والمقصود من ذلك الكتاب الفارق بين الحق والباطل والحلال والحرام، فتنزل الصفات منزلة تغاير الذوات، فعطفها عليها، كما يقول الشاعر:

إلى الملك القرم وابن الهمام وليث الكتيبة في المزدحم

وهنا القاسمي زاد ذلك توضيحاً فقال: وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ يعني: الجامع بين كونه كتاباً منزلاً وفرقاناً يفرق بين الحق والباطل كقولك: (رأيت الغيث والليث) فهذا مثال آخر، غير بيت الشعر، فهل معنى ذلك (رأيت الغيث) المطر (والليث) الأسد، أم أنك تقصد مدح رجل بصفتين؟

تقصد مدح رجل واحد في ذات واحدة بصفتين (رأيت الغيث والليث) تريد الرجل الجامع بين صفة الغيث، وصفة الليث، فالغيث صفة الكرم: كان أجود من الريح المرسلة، أي: رجلاً جامعاً بين الكرم والجراءة والشجاعة، ونحو ذلك قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ[الأنبياء:48]، ثلاثة أشياء في وصف شيء واحد وهو التوراة، وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ[الأنبياء:48] يعني: الكتاب الجامع بين كونه فرقاناً، وضياء وذكرى، لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ، يعني: لكي تهتدوا بالعمل بما فيه من الضلال.

ثم قال تبارك وتعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة:54].

قوله: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ لمَنْ مِنْ قومه؟ للذين عبدوا العجل من قومه؛ لأن بني إسرائيل ليسوا كلهم عبدوا العجل، فسبط: (بني لاوي) لم يعبدوا العجل، فالخطاب هنا موجه للذين عبدوا العجل من قومه من بني إسرائيل: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ ، يعني: الذين عبدوا العجل، والقوم: اسم للرجال دون النساء، فالأصل في كلمة (القوم) أنها تطلق على الرجال دون النساء، والدليل من القرآن آية في سورة الحجرات قوله تعالى: لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ[الحجرات:11] فغاير بينهما، فدل على أن القوم هي: للرجال، ويقول الشاعر:

ولا أدري وسوف إخالُ أدري أقوم آل حصن أم نساءُ

يعني: أرجال هم أن نساء؟ فعبر عن الرجال بالقوم، وسموا قوماً لأنهم هم الذين يقومون بالأمور: الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ[النساء:34]، هم يقومون بالأمور، ويتولون الحروب والقيادة .. وغير ذلك.

وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يعني: الذين عبدوا العجل: يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ إلهاً ما إعراب العجل؟ مفعول أول للمصدر، والمصدر هنا عامل: (باتخاذكم العجل) والمفعول به الثاني محذوف وتقديره: إلهاً، يا قوم! إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل إلهاً؛ لأنهم قالوا: (هذا إلهكم وإله موسى فنسي) فتوبوا إلى بارئكم أي: خالقكم من عبادته، يعني: توبوا من عبادة العجل: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ، ليقتل البريء منكم المجرم، والمقصود: إن الذين لم يعبدوا يقتلوا الذين عبدوا العجل، هذا هو المطلوب، ولم يكن الأمر موجهاً إلى جميع بني إسرائيل، وإنما كان الأمر موجهاً إلى الذين لم يعبدوا العجل أن يقتلوا إخوانهم ممن تلطخوا بعبادة العجل؛ ولذلك يقال هنا: ليقتل البريء -أي: الذي لم يعبد العجل- منكم المجرم، يعني: الذي عبد العجل: ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ ، الإشارة إلى القتل.

خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ يعني: فوفقكم لفعل ذلك وأرسل عليكم سحابة سوداء مظلمة؛ لئلا يدفن بعضكم بعضاً فيرحمه، حتى قتل منكم نحو سبعين ألفاً.

القول الأول في تفسيرها: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ يعني: يقتل البريء منكم المجرم، بعض العلماء قالوا: هذا خطاب للكل، أن يقتل بعضهم بعضاً، والبعض قال: هو خطاب للعادلين فقط، فجعل القتل للقتيل شهادة وللحي توبة، فالذي يقتل يكون شهيداً وهذا يمحو عنه عبادة العجل، والذي يبقى حياً فإن هذا يكون توبة من الله سبحانه وتعالى عليه؛ لكن الذي اعتمده هنا الإمام السيوطي : قوله تعالى: فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ، أي: ليقتل البريء منكم المجرم الذي عبد العجل، والذين لم يعبدوا العجل هم من سبط (بني لاوي) سبط من أسباط بني إسرائيل من أبناء يعقوب عليه السلام، فهؤلاء اللاويون هم الذين لم يعبدوا العجل، فَتَابَ عَلَيْكُمْ أي: قبل توبتكم: إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ .

قال تعالى: وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ [البقرة:55] يعني: وإذ قلتم وقد خرجتم مع موسى؛ لتعتذروا إلى الله سبحانه وتعالى من عبادة العجل، وسمعتم كلامه.

يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً يعني: عياناً: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ يعني: الصيحة، فمتم (وأنتم تنظرون) ما حل بكم.

وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ يعني: الصيحة فمتم، وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ، وأنتم تنظرون ما حل بكم، لكن هل قوله تبارك وتعالى: وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا[الأعراف:143]، كان موتاً بالنسبة لموسى عليه السلام؟! لا، بدليل: أن الله سبحانه وتعالى قال: فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ[الأعراف:143]، فكان نوعاً من الغشيان، غشي عليه عليه السلام، أما هنا: فقال الله سبحانه وتعالى: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ[البقرة:56]، فالصيحة هنا: كانت موتاً (فأخذتكم الصاعقة) فمتم؛ لذلك انظر دقة السيوطي حيث يقول: (فأخذتكم الصاعقة) يعني: الصيحة فمتم، والدليل على تفسيرها بالموت لأنه بعد ذلك قال: ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ[البقرة:56]؛ انظر إلى الدقة في اختيار الكلمات: فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ ، الصيحة، فمتم وأنتم تنظرون ما حل بكم.

ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:56] ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ أي: أحييناكم مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ، يعني: تشكرون نعمتنا لذلك الإحياء.

وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [البقرة:57]، يعني: كانوا في فترة التيه مع شدة الحر، كان الله سبحانه وتعالى يظللهم بالغمام، وهو سحاب رقيق، فلذلك قال السيوطي : وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ أي: سترناكم بالسحاب الرقيق من حر الشمس في التيه، وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى يعني: وأنزلنا عليكم في التَّيِه المن والسلوى، يقول هما: الترنجبين، يعني: شيء مثل العسل الأبيض، يقع على الشجر فيأكله الناس، فهذا هو المن، شيء مثل العسل الأبيض، ولا أستطيع أن أقطع وأجزم بأنه موجود حتى الآن؛ لكن حكى لي أحد إخواننا الأفاضل أنه منذ عشرين سنة سافر إلى العراق، فأحضر معه نوعاً من (البودرة) البيضاء هي في طعمها كالعسل تماماً، يقول: إنهم في تركيا والعراق في الصباح يجمعونها من فوق أوراق الأشجار، تسقط من السماء حتى الآن، فيجمعون هذه (البودرة) من فوق أوراق الأشجار وهذه الظاهرة موجودة في تركيا والعراق، يجمعونها ويضيفون لها بعض المكسرات وهذه الأشياء، ويسمونها في المحلات مَنّ السماء، وأنا قد أكلت منها، لكن كونهم يجمعونها من فوق الأشجار في الصباح هناك، ويسمونها: منّ السماء الله تعالى أعلم به.

المهم: أنا أحكي هذه القصة؛ حتى تتذكروا أن المن: هو مثل العسل الأبيض، وشيء يقع على الشجر، فيأكله الناس، والطير السماني، الذي هو السلوى.

كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ، يعني: ونزلنا عليكم المن والسلوى، وقلنا: كلوا من طيبات ما رزقناكم ولا تدخروا.

كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ ، يعني: (كلوا ولا تدخروا) وطبيعة اليهود معروفة: فكفروا النعمة وادخروا، فقطع الله تعالى عنهم النعمة لما ادخروا.

وَمَا ظَلَمُونَا يعني: ما نقصونا وما ضرونا، وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ؛ لأن وباله عليهم؛ هذا معنى الظلم، فهم الذين ظلموا أنفسهم بقطع هذه النعمة عنهم.

قوله: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ [البقرة:58]، يعني: بعدما بقوا في صحراء التيه وخرجوا منها: وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا قلنا لهم بعد خروجهم من التيه: ادخلوا هذه القرية بيت المقدس، أو أريحا.

فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا يعني: أكلاً واسعاً لا حجر فيه: رَغَدًا ، أي: لا حجر فيه: وَادْخُلُوا الْبَابَ ، يعني: ادخلوا بابها سجداً، والباب هنا المقصود: باب القرية سُجَّدًا يعني: منحنين أو ركعاً، ويطلق عليه أحياناً سجود، أو الانحناء يسمى سجوداً وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا أي: منحنين؛ لأجل مهمة كبرى، هل يمكن أن يدخلوا الباب وهم ساجدون؟ سيبقى الأمر صعباً أن يبحث على الأرض وهو ساجد فلذلك تعيَّن أن يفسر قوله: (وادخلوا الباب) أي: باب القرية (سجداً) أي: منحنين، لكي يستطيعوا أن يمشوا، والمقصود به: وهم راكعون.

وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ ، (وقولوا حطة) يعني: مسألتنا حطةٌ؛ لأنها مرفوعة هنا، فلا بد أن تقدر كخبر؛ لكن لو قلنا إن تقديرها: (نسألك حطة) لكانت منصوبة، والمعنى: نسألك أن تحط عنا ذنوبنا، وتغفر لنا هذه الذنوب، (وقولوا حطة) أي: وقولوا مسألتنا حطة، أي: أن تحط عنا خطايانا، وهنا أمرهم بفعل وقول.

أما الفعل فهو: السجود، والقول: هو أثناء الدخول يقولون: حطة، يعني: حُطّ عنا خطايانا، فهم عكسوا الفعلين، لا امتثلوا في الأمر ولا في الفعل، ولا امتثلوا في القول: وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ ، وفي قراءة (يُغفر لكم خطاياكم) هذه قراءة أخرى، أو قراءة هنا: نغفر لكم خطاياكم.

وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ يعني: بالطاعة ثواباً.

قال تعالى: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ [البقرة:59]، المقصود: فبدل اللذين ظلموا أي: منهم.

قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ ، فبدل أن يقولوا: حطة، قالوا: حبة في شعرة، يعني: استبدلوا الكلمة التي أمر الله سبحانه وتعالى بها كنوع من الاستهزاء، قالوا: حبة في شعرة، بدل كلمة (حطة) كأنهم زادوا فيها النون كما يقولون (حنطة)!

ودخلوا يزحفون على أستاههم كما في حديث رواه البخاري ومسلم والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: قيل لبني إسرائيل: ((وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ))[البقرة:58] فدخلوا يزحفون على أستاههم، فبدلوا وقالوا: حبة في شعرة)، وفي رواية: قالوا: حنطة بدل حطة؛ وذلك استهزاءاً منهم، فاستهزءوا بأمر الله، فبدل أن يقولوا: حطة، قالوا: حنطة، يسخرون! فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ.

فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ، (فأنزلنا على الذين ظلموا) كان يقتضي السياق أن يكون: (فأنزلنا عليهم) لكن وضع الظاهر موضع المضمر مبالغة في توضيح شأنهم؛ حتى يتكرر وصفهم بالظلم.

فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا أي: طاعوناً، وقال بعض العلماء: ظلمة وموتاً، وقيل: الثلج رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ، الباء هنا باء سببية، يعني: بسبب فسقهم، وأصل الفسق: الخروج، فسقت البيضة يعني: خرجت. والمقصود هنا: يفسقون أي: بسبب التيه وهو خروجهم عن طاعة الله سبحانه وتعالى، فهلك منهم في ساعة سبعون ألفاً أو أقل.

وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ [البقرة:60]، يعني: واذكر إذ (استسقى) أي: طلب السقيا، لما دخلوا في التيه، لم يوجد فيه ماء وكان هناك حر شديد، فقالوا: يا موسى! أهلكتنا وأخرجتنا من مصر وكنا هناك في عيش أحسن من هذا، وسنموت نحن إن بقينا من العطش، فنريد ماءً (فاستسقى موسى لقومه)، وهذه السين تسمى: سين الطلب، مثل: استغاث استخار: سأل الله الخيرة.

كذلك (استسقى) أي: طلب السقيا، وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ وقد عطشوا في التيه: فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ كأن هنا (ال) للعهد الذهني، يعني: الحجر الذي هو معلوم من قبل؛ الذي فر بثوب موسى عليه السلام، يقولون: صغير مربع كرأس الرجل، فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا فضربه فانفجرت، السيوطي قال: (قلنا اضرب) فضربه، فانفجرت منه .. يعني: انشقت، وسالت منه اثنتا عشرة عيناً بعدد الأسباط.

قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ ، قد علم كل سبط منهم مشربهم، أي: موضع شربهم، فلا يشركهم فيه غيرهم، (كلوا واشربوا) يعني: وقلنا لهم: كلوا واشربوا من رزق الله، وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ، عثى يعني: أفسد.