تفسير سورة البقرة [8-20]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على محمد وعلى آله وصحابته أجمعين.

أما بعد:

فيقول الله تبارك وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة:8] أي: أن هؤلاء الناس المقصود بهم المنافقون، وكلمة الناس أصلها أناس، لكن حذفت الهمزة تخفيفاً، وإذا دخلت (أل) على كلمة أناس فإنه يلزم أن تحذف هذه الهمزة، فلا يقال: الأناس، ولكن يقال: الناس، فحذف الهمزة مع لام التعريف كاللازم.

وسموا ناساً؛ لظهورهم ولأنهم من المخلوقات التي يؤنس بها وترى تظهر بعكس الجن، فإن الجن يختفون عن الأعين، وسموا جناً؛ لاجتنانهم واختفائهم، وكلمة الجن تأتي في كل ما خفي، يقول عز وجل: فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ[الأنعام:76]، والجنين في بطن أمه، والمجنون؛ لأنه غاب عقله؛ كذلك الجنة؛ لأنها لا ترى الآن.

إذاً الجن سموا بالجن؛ لاجتنانهم، والإنس سموا إنساً؛ لأنهم يؤنسون ويبصرون ويشاهدون.

وقيل: سموا إنساً من الأُنس، وهو ضد الوحشة، والقول الأول أولى.

قوله تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ يعني: يوم القيامة؛ لأنه آخر الأيام.

قوله: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ روعي في قوله تعالى: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ معنى كلمة (مَنْ)؛ لأن التعبير عن جماعة؛ ولذلك قال تبارك وتعالى: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ .

يقول تبارك وتعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ على أساس أن اللفظ على واحد، لكن بعد ذلك قال: وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ روعي معنى كلمة (مَنْ) التي تعبر عنهم بالجمع.

قال الله تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:9]، لفظ (المخادعة) بوزن المفاعلة، هي استعمال الخدع من الجانبين، وهذه المخادعة هي إظهار الخير واستبطان الشر، ومخادعة الله سبحانه وتعالى، هي مخادعة رسوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم؛ لقوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ[النساء:80]، أما خداع المنافقين على القول بأن المخادعة تستوجب مقابلة الخداع من الطرفين، فهناك خداع من الله سبحانه وتعالى والمؤمنين وهناك خداع من المنافقين للمؤمنين، فأما خداع المنافقين بأنهم يظهرون الإيمان والمحبة، ويبطنون الكفر والعداوة، من أجل إجراء أحكام الإسلام عليهم، وحقن دمائهم وتحصين أموالهم وغير ذلك، لكن عاقبتهم وخيمة فقد فضحهم الله في الدنيا بالوحي؛ وفي الآخرة يكونون في الدرك الأسفل من النار.

والفرق بين خداع المنافقين وخداع الله سبحانه وتعالى والمؤمنين إياهم أن خداع المنافقين لا ينجح ولا يكون له مفعول وأثر إلا على أنفسهم، فيعود وبال هذا الخداع على أنفسهم بإهلاكها وإشقائها، أما خداع الله سبحانه وتعالى فإنه يؤثر فيهم أبلغ التأثير، كما قال تبارك وتعالى: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ[آل عمران:54].

يقول الإمام السيوطي رحمه الله تعالى: يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا[البقرة:9] بإظهار خلاف ما أبطنوه من الكفر؛ ليدفعوا عنهم أحكامه الدنيوية.

فالمنافقون يظهرون الإسلام؛ ليدفعوا أحكام الكفر عنهم: كالقتل والأسر وضرب الجزية عليهم.

قوله: (وما يخادعون إلا أَنْفُسَهُمْ) وفي القراءة الأخرى: وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ يقول السيوطي : لأن وبال خداعهم راجع إليهم، فيفتضحون في الدنيا بإطلاع الله نبيه على ما أبطنوه، ويعاقبون في الآخرة.

قوله: (وما يشعرون) يعني: وما يعلمون خداعهم لأنفسهم، والمخادعة هنا من واحد.

فالإمام السيوطي يرجح أن المخادعة هنا ليست مفاعلة تقتضي خداعاً من الجانبين على النحو الذي بيناه، فهو يرى أن المخادعة هنا من واحد تماماً كقولك: عاقبت اللص، هل المعاقبة هنا من الطرفين؟ فهذه الصيغة أيضاً تقتضي وقوع المعاقبة من طرف واحد.

ثم يقول: وذكر الله فيها تحسين، في قراءة (وما يخادعون).

هذه قاعدة لا بد أن نستصحبها حينما يعبر الإمامان الجلالان عن القراءة، فإذا قال واحد منهم في قراءة، فهذه العبارة يشير بها كل من الجلالين إلى القراءة التبعية أو القراءة التي في العشرة، أما القراءة الشاذة، فيوهمون إليها بقولهم: (قُرئ) فهذه تكون إشارة إلى أن هذه قراءة شاذة؛ ولذلك هنا: القاضي كنعان في هذه الطبعة أضاف بعد كلمة (قرئ) كلمة: شذوذاً؛ حتى لا ينسى القارئ هذا المعنى.

يقول: وفي قراءة (وما يخادعون إلا أنفسهم).

يقول تبارك وتعالى: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10] المرض هو: السقم، وسبب المرض هذا عندهم ضعف يقينهم وضعف دينهم، فكما توصف قلوب المنافقين بالمرض والسقم، كذلك توصف قلوب المؤمنين بالسلامة، كما قال تبارك وتعالى: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ[الشعراء:88] * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ[الشعراء:89].

أو المقصود من قوله: (في قلوبهم مرض) يعني: مرض الشك ومرض التردد؛ لأن المنافق متردد، كما قال تعالى: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لا إِلَى هَؤُلاءِ وَلا إِلَى هَؤُلاءِ[النساء:143]، وفي صحيح مسلم يقول عليه الصلاة والسلام واصفاً المنافقين: مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين: تَعِْيُر إلى هذا مرة، وإلى هذا مرة، ومعنى العائرة: هي المترددة.

فالمرض هنا المراد به التردد، فهم يذهبون لا يعرفون اليقين ولا الجزم، فمعنى: (في قلوبهم مرض) يعني: التردد والشك؛ لأن سمة المنافق التردد؛ ولأن المريض متردد بين الحياة والموت.

قوله: فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا يعني: فزادهم مرضاً آخر من حقد وحسد وغل بإعلاء كلمة دينه ونصرة رسوله والمؤمنين، فبالتالي ازداد المرض الذي في قلوبهم.

الفرق بين عذاب الكافرين وعذاب المنافقين

قوله: (ولهم عذاب أليم) أي: مؤلم موجع، يبلغ إيجاعه غاية البلوغ. ومنه يعلم إيثار كلمة (أليم) في عذاب المنافقين على (عظيم) المتقدم في عذاب الكافرين، فإن الله سبحانه وتعالى قال قبل ذلك عن الكافرين: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7] أما المنافقون فلأنهم في الدرك الأسفل من النار، ولأنهم أسوأ حالاً من الكافرين، عبر عن عذابهم بالأليم، لأنه بالغ في الإيلام الغاية العظمى!!

الكذب من الأسباب الموجبة للعذاب

قوله: (( بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ )) هذه الباء إما للسببية، أو للمقابلة، يعني: إما أن المعنى: (( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) بسبب كذبهم، وهو قولهم: (آمنا بالله وباليوم الآخر) وهم غير مؤمنين. أو (( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ )) أي: في مقابلة كذبهم حين قالوا: (آمنا بالله وباليوم الآخر). وفي هذه الآية تقبيح للكذب وتنفير منه. قوله: (( بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ )) إشارة إلى أن السبب في عذابهم واستحقاقهم هذا الوعيد هو أنهم كانوا يكذبون، ومعلوم أن الكذب أحد الأسباب الموجبة لتعذيبهم، أما الأسباب الأخرى فهي كثيرة ومعروفة كما سيتضح في هذه الآيات، لكن قد يعبر الله سبحانه وتعالى عن إهلاك الكافرين أحياناً ببعض الذنوب؛ تنفيراً منها وتغليظاً في حق فاعليها واستعظاماً لها وتنفيراً عن ارتكابها، كما قال تبارك وتعالى في شأن قوم نوح عليه السلام: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح:25]، وقوم نوح كانوا كفرة، فإهلاكهم إنما كان بسبب كفرهم بجانب المعاصي، فتعظيماً لشأن الخطايا التي تدنسوا بها جعل السبب في تعذيبهم هو الخطيئات؛ استعظاماً لها وتنفيراً عنها فقال: (مما خطيئاتهم أغرقوا) وقال: هنا: (ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون). إذاً: معنى قوله: (( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ )) أي: شك ونفاق أمرض قلوبهم وجعل اليقين فيها ضعيفاً. قوله: (فزادهم الله مرضاً) أي: بما أنزله من القرآن لكفرهم به؛ لأنه لا يجالس أحد القرآن إلا قام منه بزيادة أو نقصان، أما المؤمن فيزيد إيمانه، وأما الكافر فيزداد رجساً إلى رجسه، كما يقول تبارك وتعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة:124] إلى آخر الآيات، كذلك يقول تبارك وتعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82]. قوله: (( بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ )) وفي قراءة أخرى: (بما كانوا يكذّبون) بالتشديد، أي: بما كانوا يكذبون نبي الله عليه الصلاة والسلام، وبالتخفيف بما كانوا يكذبون في قولهم: (( آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ )).

قوله: (ولهم عذاب أليم) أي: مؤلم موجع، يبلغ إيجاعه غاية البلوغ. ومنه يعلم إيثار كلمة (أليم) في عذاب المنافقين على (عظيم) المتقدم في عذاب الكافرين، فإن الله سبحانه وتعالى قال قبل ذلك عن الكافرين: خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:7] أما المنافقون فلأنهم في الدرك الأسفل من النار، ولأنهم أسوأ حالاً من الكافرين، عبر عن عذابهم بالأليم، لأنه بالغ في الإيلام الغاية العظمى!!

قوله: (( بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ )) هذه الباء إما للسببية، أو للمقابلة، يعني: إما أن المعنى: (( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )) بسبب كذبهم، وهو قولهم: (آمنا بالله وباليوم الآخر) وهم غير مؤمنين. أو (( وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ )) أي: في مقابلة كذبهم حين قالوا: (آمنا بالله وباليوم الآخر). وفي هذه الآية تقبيح للكذب وتنفير منه. قوله: (( بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ )) إشارة إلى أن السبب في عذابهم واستحقاقهم هذا الوعيد هو أنهم كانوا يكذبون، ومعلوم أن الكذب أحد الأسباب الموجبة لتعذيبهم، أما الأسباب الأخرى فهي كثيرة ومعروفة كما سيتضح في هذه الآيات، لكن قد يعبر الله سبحانه وتعالى عن إهلاك الكافرين أحياناً ببعض الذنوب؛ تنفيراً منها وتغليظاً في حق فاعليها واستعظاماً لها وتنفيراً عن ارتكابها، كما قال تبارك وتعالى في شأن قوم نوح عليه السلام: مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا [نوح:25]، وقوم نوح كانوا كفرة، فإهلاكهم إنما كان بسبب كفرهم بجانب المعاصي، فتعظيماً لشأن الخطايا التي تدنسوا بها جعل السبب في تعذيبهم هو الخطيئات؛ استعظاماً لها وتنفيراً عنها فقال: (مما خطيئاتهم أغرقوا) وقال: هنا: (ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون). إذاً: معنى قوله: (( فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ )) أي: شك ونفاق أمرض قلوبهم وجعل اليقين فيها ضعيفاً. قوله: (فزادهم الله مرضاً) أي: بما أنزله من القرآن لكفرهم به؛ لأنه لا يجالس أحد القرآن إلا قام منه بزيادة أو نقصان، أما المؤمن فيزيد إيمانه، وأما الكافر فيزداد رجساً إلى رجسه، كما يقول تبارك وتعالى: وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ [التوبة:124] إلى آخر الآيات، كذلك يقول تبارك وتعالى: وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا [الإسراء:82]. قوله: (( بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ )) وفي قراءة أخرى: (بما كانوا يكذّبون) بالتشديد، أي: بما كانوا يكذبون نبي الله عليه الصلاة والسلام، وبالتخفيف بما كانوا يكذبون في قولهم: (( آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ )).

قال تبارك وتعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ [البقرة:11]، (وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض) هذه بداية بنهيهم عن المنكر، ثم ثنى بعد ذلك بأمرهم بالمعروف؛ كي تتم النصيحة، ففي هذه الآية قال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ فهذا نهي عن المنكر، وفي الآية الثانية قال: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ[البقرة:13] وهذا أمر بالمعروف، كي تستوعب النصيحة لهم.

وهنا شَرَعَ تبارك وتعالى في تعديد بعض من مساوئهم المتفرعة والنابعة عن نفاقهم وكفرهم، حيث قال: لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ الفساد في الأرض مثل: تهييج الحروب وإثارة الفتن، كما قال عز وجل: وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ[البقرة:205] ومعنى إفساد المنافقين في الأرض: أنهم يمالئون الكفار على المسلمين ويفشون أسرار المسلمين للكفار، وبالتالي يظهرون الكفار بقتال المسلمين ويجرئونهم على نصب الحرب للنبي صلى الله عليه وسلم؛ لطمعهم في الغلبة عليهم.

قوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ يعني: لا تتسببوا بهذا الذي تفعلون في تهييج الحروب وتأليب الكافرين على المؤمنين.

قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ يعني: هم تصوروا إفسادهم في صورة الإصلاح؛ لأن في قلوبهم مرضاً.

وإذا مرض قلب الإنسان فإنه تنقلب عنده القيم وتنعكس عنده الموازيين، فرأوا فسادهم إصلاحاً، وزين لهم هذا الإفساد فحسبوه إصلاحاً، قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ كقوله تعالى: أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا[فاطر:8] فهذا تزيين، وكما قال تبارك وتعالى: وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا[الكهف:104].

قال بعض المفسرين: قوله: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ يعني: بين المؤمنين وأهل الكتاب، وقوله تعالى عنهم: إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا[النساء:62] أي: نحن مصلحون بين المؤمنين وبين أهل الكتاب، فنحن نداري الفريقين ونريد الإصلاح بينهما.

يقول تبارك وتعالى: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ [البقرة:12] يعني: لا يشعرون بكونهم مفسدين، وهذه الآيات عند عامة المفسرين على أنها في المنافقين؛ لكن من المشايخ المعاصرين وهو أبو الفيض الغماري في كتاب له يتحدث فيه عن إخبار النبي عليه الصلاة والسلام ببعض الأمور الغيبية، فزعم وقال في كتابه حينما تعرض لهذه الآيات: إن هذه الآيات ليس المراد بها المنافقين الأوائل، وإنما المراد بها أهل هذا العصر من المنافقين أو العلمانيين الذين يصورون أعمالهم في الأرض بصورة الإصلاح.

وذكر من وجوه كثيرة انطباق هذه الصفات كلها عليهم، خاصة أنهم مولعون باستعمال عبارة الإصلاح الديني، وإذا مدحوا واحداً سموه مصلحاً، واليوم يسمونه مفكراً إسلامياً مستنيراً.

فأفاض في ذلك فلا نطيل بذكر التفاصيل، وإنما يُكتفى بمثل هذه الإشارة، أما مظاهر الإصلاح الديني فتعبير خبيث لا يجوز أبداً أن يطلق مثل هذا التعبير، فالذي يحتاج إلى إصلاح هو واقع الناس، أما دين الله فلا يحتاج إلى إصلاح، الإصلاح إنما يكون لما يطرأ عليه فساد، أما الدين فهو وضع إلهي سائغ لذوي العقول السليمة؛ لما فيه صلاح دنياهم وسعادة أخراهم، هذا هو الدين وكله صلاح، فعبارة (الإصلاح الديني) عبارة خبيثة، يراد بها إدخال البدع، وتحريف لمعاني الإسلام بحجة الإصلاح، فترى القوم مولعين بهذه التعبيرات، فلان مصلح ديني، أو مصلح اجتماعي مع أنه من أشد المفسدين في الأرض: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ.

يقول تبارك وتعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة:13] قوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا يعني: هذا أمر بالمعروف بعد نهيهم عن المنكر في قوله: لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ [البقرة:11].

قوله: (كما آمن الناس) يعني: كما آمن الناس الكمّل وهم المؤمنون؛ لأن المؤمنين هم الناس في الحقيقة، فالمقصود هنا بالناس هم المؤمنون.

قوله: قَالُوا أَنُؤْمِنُ هذا استفهام في معنى الإنكار، أي: هم يستنكرون على من يأمرهم بذلك، يقولون: (أنومن! كما آمن السفهاء) فسموا المؤمنين الكمّل سفهاء.

والسفه: هو خفة وسخافة في الرأي يورثهما قصور العقل، وقلة المعرفة بمواضع المصالح والمضار، وقد وصف الله تبارك وتعالى النساء والصبيان (بالسفهاء) بهذا الاعتبار؛ لعدم إحسانهم تقدير عواقب الأمور وميزانها بالميزان الصحيح حيث قال عز وجل: وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا[النساء:5].

إذاً: هؤلاء المنافقون كانوا في يسار وسعة عيش، وكانوا في رياسة وجاه، وكان أكثر المؤمنين فقراء، منهم الموالي: كـصهيب وبلال وخباب رضي الله تعالى عنهم أجمعين فدعوهم سفهاء؛ تحقيراً لشأن هؤلاء الصحابة؛ لأنهم ضعفاء، لذلك فقد ذكر أبو سفيان لـهرقل حينما سأله: أضعفاء الناس اتبعوه أم وجهاؤهم وأشرافهم؟ فقال: بل ضعفاؤهم اتبعوه، فقال: كذلك أتباع الأنبياء.

الشاهد هنا أن قوله: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ أي: الصحابة أو المؤمنون.

قوله: قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ يعني: الفقراء الضعفاء كـصهيب وبلال وخباب وغيرهم، نحن لا نفعل كفعلهم، فقال الله تبارك وتعالى رداً عليهم وذباً عن هؤلاء المؤمنين: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ يعني: لا يعلمون ذلك، فكأن السفاهة كلها منحصرة فيهم هم لا في غيرهم ولا تخرج عنهم.

يقول تبارك وتعالى: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ [البقرة:14] قوله: وَإِذَا لَقُوا (لقوا) أصلها إذا لقيوا فحذفت الضمة للاستثقال، ثم حذفت الياء لالتقائها ساكنة مع الواو، ثم ضمت القاف للمناسبة، فأصلها لقي فصارت لقوا.

قوله: وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا يعني: أظهروا لهم الإيمان والموالاة والمصافاة نفاقاً ومصانعة وتَقيَّة، وليشركوهم فيما أصابوه من الخير ومن المغنم.

قوله: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ يعني: إذا خلوا منهم ورجعوا إلى شياطينهم وجلسائهم: قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ يقال: خلوت بفلان أو خلوت إلى فلان، يعني: انفردت معه وخلا تكون بمعنى مضى في تفسير آخر إما أن يقال: (وإذا خلوا) يعني: انفردوا عن المؤمنين وصاروا منفردين بشياطينهم ورؤسائهم وأصحابهم، أو يقال: خلا بمعنى مضى، ومنه قولنا: القرون الخالية، يعني: السالفة والماضية.

قوله: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ يعني: إلى أصحابهم أولي التمرد والعناد، والشيطان يكون من الإنس ويكون من الجن، والدليل قوله تبارك وتعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا[الأنعام:112].

قوله: وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ يعني: إضافتهم إليهم؛ لأنهم مشتركون معهم في الكفر، ومن ثم أضافهم إلى شياطينهم.

قوله: قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أي: اطمئنوا نحن معكم وعلى ما أنتم عليه.

قوله: إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ يعني: إنما نحن في إظهارنا الإيمان عند المؤمنين مستهزئون ساخرون بهم.

يقول السيوطي رحمه الله تعالى: وَإِذَا خَلَوْا منهم ورجعوا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ رؤسائهم.

قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ في الدين.

إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ بهم بإظهار الإيمان.

يقول عز وجل: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة:15]. (اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ) يعني: الله سبحانه وتعالى يسخر بهم. قوله: وَيَمُدُّهُمْ يعني: يزيدهم على وجه الإملاء والاستدراج والترك لهم في عتوهم وتمردهم، كما قال تعالى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [الأنعام:110]. والطغيان هو: مجاوزة الحد، والشاهد من القرآن قوله تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة:11] ومنه أيضاً كلمة الطاغوت. قوله: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ذكر الله سبحانه أنه يستهزئ بهم، لكن لم يبين هنا تفاصيل هذا الاستهزاء، وقد بينه في سورة الحديد في قوله تبارك وتعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ [الحديد:12-13] فهذا هو استهزاء الله تبارك وتعالى بهم جزاء وفاقاً، والجزاء من جنس العمل. قوله: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ العمه بالهاء مثل العمى؛ لكن الفرق أن العمى عام في البصر وفي الرأي، أي: العمى في البصيرة وفي البصر، أما العمه فهو خاص بالرأي، وهو التحير والتردد لا يدري أين يتوجه؛ ولذلك يقول: وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ أي: يزيدهم حيرة وتردداً وضلالاً. قوله: (في طغيانهم) فيه إشارة إلى أن هذا الطغيان غمرهم دنسُه وعلاهم رجسُه، حتى غرقوا في هذا الطغيان، فهم يترددون حيارى ضلالاً لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً، حيثما يمموا لا يرون إلا هذا الضلال، وهذا التردد، وهذا الطغيان!