خطب ومحاضرات
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الكسوف - حديث 527-529
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونصلي ونسلم على خاتم رسله، وأفضل أنبيائه وخيرته من خلقه، محمد بن عبد الله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأزواجه وأتباعه بإحسان إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
ثم السلام عليكم ورحمة الله.
ورقم هذا المجلس: (186) من مجالس شرح بلوغ المرام.
وهذا يوم الإثنين (13) من جمادى الآخرة من سنة (1426هـ).
اليوم عندنا باب جديد, وهو باب صلاة الكسوف، وفيه أحاديث عديدة ومباحث مفيدة بإذن الله تعالى.
الحديث الأول منها: هو حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.
قبل أن ندخل في الحديث الأول أشير إشارة عابرة إلى معنى الكسوف:
(باب صلاة الكسوف) طبعاً الباب مركب من لفظين: صلاة، والكسوف، أما (صلاة) فقد سبق معنا مراراً، والصلاة معروفة من حيث التعريف الشرعي، ومن حيث التعريف اللغوي، ومن حيث الأنواع والأقسام.. إلى غير ذلك.
أما الكسوف فهو يعني: الميل إلى السواد، انقلاب اللون إلى نوع من السواد، هذا أصل معنى الكسوف في اللغة، ومنه يقال: كسف وجهه إذا اربدَّ واسودَّ وجهه لخوف أو لسبب من الأسباب.
والكسوف يطلق على الشمس، ويطلق أيضاً على القمر، لكن الغالب في الشمس أن يعبر عنها بالكاف: كسفت الشمس، أما القمر فالغالب أنه يعبر عنه بالخسوف، وهذه لغة القرآن الكريم فيما يتعلق بالقمر: فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ [القيامة:7-8], وفيها مبحث لغوي طويل، خلاصته: أن الأمر واسع، يعني: يمكن أن يطلق الخسوف على الشمس والقمر، ويمكن أن يطلق الكسوف أيضاً على الشمس والقمر، ولكن الأحسن والأفصح أن يكون الكسوف للشمس، والخسوف للقمر، وهي لغة الحديث النبوي.
فيما يتعلق بسبب الكسوف؛ فإن سبب كسوف الشمس هو: حيلولة القمر بينها وبين الأرض من حيث مدارها المعروف، وسبب خسوف القمر هو: تظليل جزء من الأرض بينه وبين الشمس أيضاً؛ لأن القمر كما هو معروف جرم معتم ليس فيه نور، وإنما النور الذي في القمر هو انعكاس نور الشمس على وجه القمر، وقد بحث أهل العلم في مسألة الكسوف والخسوف، وهل يمكن إدراكها أو لا؟ وهل يمكن معرفتها بالحساب أو لا يمكن؟
والذي حرره المتقدمون من أهل العلم أن ذلك ممكن، وأنه يستطيع الحسَّابون كما يعرفون أن للقمر وقتاً يظهر فيه، وللشمس وقتاً تظهر فيه، وكذلك يغيب في وقت معين، أنه يمكن معرفة أوقات الخسوف وأوقات الكسوف، وهذا ما نجده يعلن اليوم، وقد نص على هذا الأئمة كـابن تيمية وابن القيم والشيخ ابن باز وغيرهم، أن ذلك ممكن وإن كان العوام يستغربونه ويستنكرونه، لكن لا إنكار في ذلك, بل هو أمر معروف، إنما مع كونه أمراً معروفاً فإنه ليس معروفاً لكل أحد، هو معروف لأهل الاختصاص، وإلا فقد يدعي أقوام مثل ذلك من باب التنجيم أو الظن أو التحري أو ما أشبه ذلك، ولا يصدق حسبهم وظنهم، وإنما المقصود: أن أصل المسألة ممكن.
هناك مسائل كثيرة جداً, نعرض لها- إن شاء الله- خلال الدرس حتى لا يتشتت الموضوع.
الحديث الأول من أحاديث الباب: هو حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: ( انكسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم مات
قال: وفي رواية للبخاري: ( حتى تنجلي )، يعني: بدلاً من قوله: (حتى تنكشف) وهذه رواية مسلم .
أولاً: فيما يتعلق بتخريج الحديث:
فقد رواه البخاري في أبواب الكسوف، باب: الدعاء في صلاة الكسوف، ومسلم أيضاً في تلك الأبواب: ذكر النداء لصلاة الكسوف، ورواه النسائي في سننه في الكسوف، ورواه جماعة كالإمام أحمد وأبي عوانة وابن حبان والبيهقي وابن أبي شيبة والطحاوي والطيالسي والطبراني وغيرهم.
أيضاً الحديث الثاني وهو في معنى حديث الباب ورقمه (503): وللبخاري من حديث أبي بكرة رضي الله عنه: (فصلوا وادعوا حتى ينكشف ما بكم) فهذا الحديث بهذا اللفظ رواه البخاري في صحيحه، باب الصلاة في كسوف الشمس، ورواه النسائي أيضاً في الكسوف, باب الأمر بالدعاء في كسوف الشمس، ورواه أحمد وابن خزيمة والبيهقي والبزار وابن المنذر وابن أبي شيبة وغيرهم.
شواهد الحديثين
في الصحيحين أيضاً من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قصة صلاة الخسوف، وهي طويلة.
ومن حديث عائشة أيضاً في المتفق عليه وهي طويلة.
وحديث أسماء مثل ذلك.
وحديث عبد الله بن عمر في مسلم .
وحديث عمرو بن العاص المتفق عليه أيضاً، وحديث أبي موسى الأشعري، إلى غير ذلك من الروايات والنصوص في ذكر قصة الكسوف وصفة الصلاة والأمر بالدعاء.
ألفاظ الحديثين
طبعاً الكسوف والخسوف والشمس القمر أشرنا إليه.
قوله: (يوم مات إبراهيم ): إبراهيم هنا هو ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمه هي مارية القبطية، ولم يولد للنبي صلى الله عليه وسلم أولاد إلا من خديجة، إلا إبراهيم فهو ابن لـمارية القبطية، أما بقية ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلهم أبناء خديجة رضي الله عنها.
و إبراهيم ولد في السنة الثامنة من الهجرة، والسنة الثامنة هذه حصل فيها فتح مكة، وعاش ثمانية عشر شهراً، يعني: سنة ونصفاً، وأحبه النبي صلى الله عليه وسلم، وحزن لموته حزناً شديداً، وكان يأتي إلى حاضنته ومرضعته ويدخل عليها ويحضنه ويقبله، ولما مات إبراهيم تأثر الرسول صلى الله عليه وسلم، وحزن لذلك حزناً شديداً، وبكى ودمعت عيناه حتى قال له الصحابة: وأنت يا رسول الله! قال: ( إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا
ومات إبراهيم، يعني: إذا كان ولد في السنة الثامنة فهو مات بعد ذلك بسنة ونصف كما ذكرنا، وهذا معناه -والله أعلم- أن موته كان قبل حجة الوداع، ظناً وتخميناً.
قوله: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله) آيتان: تثنية آية، وتجمع على آي أو آيات، والآية في الأصل هي: العلامة، وقد يراد بها: المعجزة، فالآية هي المعجزة والعلامة على ربوبية الله عز وجل وألوهيته، أو على صدق رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالآية هي المعجزة التي يتحدى الناس بها ولا يستطيعونها.
والمقصود: أن الشمس والقمر آيتان بذاتهما، فخلق الشمس وخلق القمر آية، وجريان الشمس والقمر بحسبان آية، وكسوف الشمس والقمر أيضاً هو آية من آيات الله تعالى.
قوله عليه السلام: (لا تنكسفان لموت أحد) هذا واضح، يعني: لا تنكسف الشمس أو القمر بسبب موت أحد، كأن يكون ذلك حزناً، أو علامة على أن هناك حدثاً معيناً يقع، وهذا متناسب مع قول الناس: انكسفت الشمس لموت إبراهيم، وقد كانوا في الجاهلية يعتقدون ويظنون أن الكسوف يكون بسبب موت عظيم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا لحياته) يعني: لمولده، وهذا فات على كثير من الشرَّاح، وظنوا أن قوله: (ولا لحياته) أنه من باب الاستتباع لقوله: (لموت أحد) يعني: كأنه استطراد، والواقع أن قوله: (ولا لحياته) يعني: لا تنكسف أيضاً لميلاد أحد، فهي ليست علامة لأن أحداً مات أو أن أحداً ولد، وإنما هي آية من آيات الله تعالى الكونية التي فيها عبرة.
قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأيتموها) هذا بالإفراد، أو (رأيتموهما)، يعني: رأيتم كسوف الشمس أو خسوف القمر، وهذا معناه: أن الأمر معلق بالرؤية، وليس معلقاً بمجرد التخمين أو الظن.
قوله: (فصلوا وادعوا حتى ينكشف) (ينكشف) هذه متناسبة مع قوله: (ينكسف) انكسفت الشمس، والمعنى: يزول ويعود الأمر إلى ما كان عليه من ظهور الشمس وزوال الكسوف، وكذلك قوله: (تنجلي) أو (ينجلي) الانجلاء: هو الوضوح والظهور، ومنه انجلى أو تجلى، يعني: وضح وظهر.
فوائد الحديثين
أولها: حصول الكسوف على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأن ذلك كان يوم مات إبراهيم عليه السلام، كم حصل الكسوف من مرة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ مرة واحدة. وخسوف القمر لم يثبت أنه حصل، وإنما الثابت في السنة أن الشمس كسفت مرة واحدة فقط، وهذه فائدة مهمة جداً؛ لأن رواة الحديث اختلفوا في صفة الصلاة كما سوف يأتي، فمنهم من قال: إنه صلى في كل ركعة بركوعين، وقيل: بثلاثة، وقيل: بأربعة، وقيل: بخمسة، وبعض هذه الروايات في الصحيح في مسلم وغيره، ومن هنا قال بعض أهل العلم بتعدد الكسوف, وحملوا هذا على تنوع الصفة، وهذا مذهب مرجوح، والأصح: أن الكسوف وقع مرة واحدة، وأن ذلك كان يوم مات إبراهيم رضي الله عنه.
وبناءً عليه نقول: إن الصفة الواردة في صلاة الكسوف صفة واحدة فقط, وما سواها فهو يكون شاذاً أو ضعيفاً ولا يعول عليه في مواجهة الأحاديث التي هي ثابتة وقوية.
إذاً: الكسوف حصل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم مرة واحدة فقط، وكان ذلك كسوف الشمس، أما خسوف القمر فلم يقع وإن كان ورد في رواية, لكنها رواية ضعيفة ومنكرة؛ فلا تثبت.
كذلك من الفوائد التابعة لهذا الأمر: أن كسوف الشمس له وقت معين، وهكذا خسوف القمر، فالعلماء يقولون: إن خسوف القمر لا يقع إلا في ليالي البيض, التي هي: ليلة الثالث عشر, وليلة الرابع عشر, وليلة الخامس عشر التي يسمونها: ليالي الإبدار حيث يكون الهلال واضحاً، ومن هنا سميت: الليالي البيض.
إذاً: كسوف القمر لا يقع في أول الشهر ولا يقع في آخره, وإنما يقع في إحدى هذه الليالي الثلاث.
كسوف الشمس متى يقع؟
في ليالي الاستسرار، وهي آخر الشهر، يعني: آخر ليلة أو آخر ليلتين من الشهر: ليلة تسع وعشرين وليلة ثلاثين. آخر الشهر؛ ولذلك لا يقع كسوف الشمس في أول الشهر مثلاً، ومن هنا غلَّط العلماء من قال من الفقهاء: إنه إذا اجتمع العيد والكسوف بأيهما يبدأ، فقالوا: إنه لا يمكن أن يجتمع العيد والكسوف؛ لأن الكسوف لا يقع في أيام الأعياد, وإنما يقع في آخر الشهر، وإن كان يمكن التكلف في تصوره فيما لو غلط الناس في دخول الشهر إما برؤية كاذبة، أو بحساب خاطئ، ودخل الشهر عندهم في غير وقته، فيمكن أن يتصور هذا الأمر ويكون ذلك دليلاً على الغلط الذي وقعوا فيه، فإن الكسوف يكون في ليالي الاستسرار آخر الشهر كما ذكرنا.
وفيه أيضاً من فوائد الحديث: أن الكسوف يقع للتخويف؛ ولهذا صلى النبي صلى الله عليه وسلم صلاة خشوع وخوف، وقال: ( فافزعوا )، وفي بعض الروايات: ( خرج فزعاً يجر رداءه )، صلى الله عليه وآله وسلم، فذلك دليل على أن الكسوف يقع للتخويف، وهذه مسألة مهمة؛ لأنه طال الجدل حولها لما وقعت الأحداث الأخيرة في بلاد إندونيسيا وتايلاند وما حولها، ووقع بما يسمى: بمد تسونامي، والفيضان الذي أهلك مئات الآلاف من الناس، فأثار الناس هذه القضية, وتحدث الكثيرون فيها، وعادة بعدما تهدأ الأمور يحتاج الإنسان إلى أن يتأمل المسألة بلغة علمية وصحيحة، ما هو الكلام الصحيح في هذا؟
فنقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هنا أن الله تعالى يخوف بهما عباده.
إذاً: الزلازل والفيضانات والبراكين والخسوف والكسوف تقع للتخويف بنص حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذلك القرآن الكريم نص الله تعالى فيه في قوله: وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا [الإسراء:59]، فدل أيضاً على أن الله تعالى يرسل بالآيات لتخويف العباد، فهذا معنىً ثابت وصحيح وصريح.
هنا ينبغي أن يراعى أن التخويف ليس بالضرورة أن يكون متطابقاً مع العقاب، التخويف شيء, والعقاب شيء آخر، وقد يرسل الله تعالى بالآيات عقوبات للناس، قد تكون الآية أو المصيبة النازلة: وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، وهذا- والله أعلم- لا يقال في حق الأفراد، بمعنى: أن المصيبة التي تنزل بالشخص عينه لا نقول بالضرورة: إنها عقوبة له؛ لأن: ( أشد الناس بلاءً الأنبياء، ثم الصالحون، ثم الأمثل فالأمثل ).
إذاً: ليس بالضرورة أن كل مصيبة تنزل بالشخص من موت قريب أو مرض، أو اجتياح مال، أو تسلط عدو- أن ذلك عقوبة عليه هو شخصياً، بل قد يكون هذا لرفعة درجاته، وقد يكون هذا لحكمة يعلمها الله تعالى، وإنما نقول: إنها عقوبات إذا كانت مصائب عامة.
وأيضاً: هنا لا يلزم أن تكون عقوبة بخصوص من وقعت عليهم، وهذا في نظري مهم، فائدة مهمة، أنه لا يلزم أن تكون عقوبة خاصة لمن وقعت عليهم بالذات, بل قد تكون عقوبة للجنس، فالله سبحانه وتعالى عندما يقول: فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى:30]، يخاطب البشر، جنس الإنسان.
وكذلك: ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ [الروم:41]، فلا يلزم أن تكون هذه عقوبة للناس الذين وقعت عليهم، فقد يقول قائل مثلاً: لماذا وقعت العقوبة على هؤلاء القوم المسلمين ولم تقع على غيرهم؟
نقول: ليس بالضرورة أن تكون العقوبة خاصة للجنس، مثلاً: وقعت مصيبة على أهل فلسطين، هل يليق أن واحداً يقول: هذه العقوبة للفلسطينيين؟! أو عقوبة على أهل العراق؟! يقول: هذه العقوبة للعراقيين؟ الله سبحانه وتعالى لا يعامل الناس بمقتضى جنسياتهم أو أحوالهم أو بلدانهم أو قبائلهم.
ولذلك نقول: إن هذه العقوبات لا يلزم أن تكون عقوبة خاصة لمن وقعت عليهم، بل قد تكون تنبيهاً لجنس الناس، لجنس البشر، ولفتاً لأنظارهم، وتحذيراً لهم ولا يلزم، وقد تقع على الفاضل دون المفضول، وقد تقع على المفضول دون الفاضل، وقد تقع عليهم جميعاً؛ ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم لما ذكر الخسف الذي يقع وقيل: ( يا رسول الله! كيف يخسف بهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: يخسف بهم ثم يبعثون على نياتهم ), فهؤلاء قد يكون فيهم كثير ممن لم يستحقوا العقوبة؛ لكن لأن الدنيا ليست دار جزاء وإنما هي دار ابتلاء- فقد يكون هذا ابتلاء لأقوام, وقد يكون عقوبة لآخرين, وقد يكون تحذيراً لفئة ثالثة؛ ولهذا الله عز وجل ذكر في القرآن أيضاً: تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ [الرعد:31].
إذاً: قد تكون عقوبة لأشخاص من وقعت عليهم، وقد تكون عقوبة للجنس البشري، وقد تكون ابتلاءً، وقد تكون تحذيراً، وهذا التعميم أولى؛ لأن الإنسان قد يجد أحياناً أنه يتكلم عن مصيبة وقعت في أناس لهم قدر وفضل, وابتلوا في حج أو في عمرة أو في مناسبة معينة، فأن يكون هناك اطراد في النظام والقاعدة والتفسير أولى من أن يظن أن هذه عقوبة نزلت بهؤلاء الناس في خصوصهم.
أيضاً من فوائد الحديث: الإشارة إلى عادة الجاهلية، وأن أهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن الشمس والقمر تكسف لموت أحد أو لحياة أحد، فجاء الإسلام يبطل هذه الأسطورة، ويضرب المثل بشخص رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
وقد يكون كثير من العظماء والأكابر وأهل المكانة والسلطان يمكن لو حصلت مناسبة معينة وصار فيها تكريس لمكانته لم يأنف منها، فإذا جاء إنسان شريف إلى بلد من البلدان, وعلى قدومه نزل المطر؛ فقام الشعراء وقالوا: المطر جاء على وجهك وعلى قدومك وفألك الطيب- وجدت أن وجهه يتهلل ويفرح، ويمكن من باب التواضع قال: لا. يعني: هذا ليس كذلك، ولكنه في قرارة نفسه قد يكون مبسوطاً، أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو شيء آخر؛ ولهذا يقوم على المنبر ويحذر أصحابه أن يعتقدوا مثل ذلك بولده إبراهيم، وأنه لا تنكسف لموت أحد ولا لحياة أحد, وإنما يخوف الله بها عباده.
والشيء العجيب أنني قرأت اليوم في الإنترنت في بعض المواقع النصرانية، التي فيها توقح وبذاءة: أنهم تكلموا عن موضوع الكسوف، وزعموا أن هذه عادة جاهلية، أن أهل الجاهلية كانوا يصلون, وأن الإسلام كرَّس هذه العادة، وأن العرب في الجاهلية كانوا يعبدون الشمس والقمر, فإذا حصل الخسوف ظنوا أنه إله قد غضب عليهم، يعني: أن الشمس وهي إله معبود، أو القمر وهو كذلك، فصلوا له وسجدوا، وهذا الكلام افتراء وكذب، والعرب لم يكونوا يعبدون الشمس، ولا يعبدون القمر. وهذا معروف عندهم، ولم يكونوا يصلون أصلاً لا صلاة الكسوف ولا غيرها، فالصلاة نظام شرعي ديني كان عند الأنبياء, وجاء به النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وشرعه للكسوف والخسوف، وأبطل عادة الجاهلية الذين كانوا يعتقدون أنها كسفت لموت فلان أو حياة فلان.
وفي الحديث: مشروعية الصلاة والدعاء عند الكسوف والخسوف، وسوف يأتي بعد قليل، أو يفترض أن يأتي الحديث عن حكم صلاة الكسوف، وصلاة الكسوف ركعتان بصفة معينة، ولا يشرع والله أعلم تكرارها، وإنما إذا انتهوا من الصلاة ولم ينكشف الكسوف فإنهم يدعون الله تعالى ويذكرونه ويستغفرونه ويسبحونه، إضافة إلى مشروعية الصلاة والدعاء، كذلك نقول: مشروعية الأعمال الصالحة، وقد ورد فيه ذكر العتق والصدقة وغير ذلك.
ومن الفوائد: مشروعية النداء بصلاة الكسوف، بالصلاة جامعة، ولا ينادى لها كما ينادى للصلوات المفروضة، وإنما ينادى لها بهذا النداء وهو: الصلاة جامعة، استحباباً، ولفظ النداء: (الصلاةَ جامعة)، يعني: احضروا أو الزموا، أو أدوا الصلاة، فالصلاة: مفعول به منصوب لفعل محذوف، وقد يكون منصوباً على الإغراء، و(جامعة): صفة للصلاة.
وبعضهم يجعلها مبتدأ وخبراً: الصلاةُ جامعةٌ، يعني: الصلاة: مبتدأ، وجامعة: خبر، يعني: يجتمع الناس لها، والخطب في ذلك يسير.
وفيه بيان وقت صلاة الكسوف، وأن وقتها يبدأ من حين ظهور الكسوف ورؤيته إلى تجليه، فإن كان الكسوف يطول أطال الصلاة, وإن كان يقصر قصر الصلاة إذا علم هذا, وإذا لم يعلم فإن الناس يجتهدون، ولو أنهم في الصلاة ثم أخبرهم مخبر أن الشمس قد تجلت فإنه يشرع لهم أن يخففوا الصلاة.
وفيه من الفوائد: جريان الأحوال البشرية على الأنبياء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم مات ولده إبراهيم، وماتت زوجه خديجة ومات عمه؛ حتى سمي عام الحزن، فيقع للنبي صلى الله عليه وسلم ما يقع لغيره من الناس.
وفيه أن المعول عليه في الكسوف هو الرؤية- كما ذكرنا- أن ترى بالعين .
وفيه خطبة الكسوف، وأنه يشرع أن يخطب للصلاة، لكنها ليست كخطبة الجمعة, وإنما المقصود: موعظة؛ ولهذا لم يرد أن النبي صلى الله عليه وسلم التزم فيها بصيغة وصفة الخطبة المعتادة.
ومن الفوائد: أن جر الثوب لغير خيلاء لا يدخل في النهي، فقد ورد في بعض ألفاظ الحديث: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج فزعاً يجر إزاره يخشى أن تكون الساعة )، وهو في الصحيح، فقال العلماء: إن جر النبي صلى الله عليه وسلم إزاره هنا يقيناً أنه لم يكن لخيلاء, وإنما كان بسبب الاستعجال والفزع، الإسراع للخروج، فإذا كان ذلك لغير خيلاء فليس داخلاً في النهي.
ونأخذ من هذا أيضاً مشروعية المبادرة لصلاة الكسوف؛ لأن خروج النبي صلى الله عليه وسلم فزعاً مسرعاً دليل على استحباب الإسراع لها أول ما يقع الكسوف.
وفيه: أن الجماعة ليست شرطاً للصلاة، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( فصلوا وادعوا )، وصلى هو جماعة, ولم يدل دليل على اشتراط الجماعة.
ومن فوائد الحديث أيضاً: مشروعية الاستغفار عند النوازل والأزمات.
لهذين الحديثين شواهد عديدة، وشواهد صحيحة أيضاً وكثيرة، نذكر منها على سبيل المثال حتى تعلموا قوة هذا الباب وكثرة أحاديثه، بالقياس إلى مسائل سبقت ربما يكون للحديث أربعة شواهد أو خمسة كلها ضعيفة، بينما أحاديث الباب تجدها في الصحيحين ولها شواهد كثيرة، مثلاً:
في الصحيحين أيضاً من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قصة صلاة الخسوف، وهي طويلة.
ومن حديث عائشة أيضاً في المتفق عليه وهي طويلة.
وحديث أسماء مثل ذلك.
وحديث عبد الله بن عمر في مسلم .
وحديث عمرو بن العاص المتفق عليه أيضاً، وحديث أبي موسى الأشعري، إلى غير ذلك من الروايات والنصوص في ذكر قصة الكسوف وصفة الصلاة والأمر بالدعاء.
قوله: (انكسفت الشمس)، هكذا: (انكسفت) بالنون، وقد يقال: كسفت الشمس، وهما بمعنىً واحد، وهو كما ذكرت: تغيُّر لونها إلى السواد، والكسوف قد يكون كسوفاً كلياً، يعني: ألا تُرى الشمس، بل أن يسودَّ جرمها كله، وقد يكون كسوفاً جزئياً، وله وقت معين، ينتهي إليه ويزول.
طبعاً الكسوف والخسوف والشمس القمر أشرنا إليه.
قوله: (يوم مات إبراهيم ): إبراهيم هنا هو ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمه هي مارية القبطية، ولم يولد للنبي صلى الله عليه وسلم أولاد إلا من خديجة، إلا إبراهيم فهو ابن لـمارية القبطية، أما بقية ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلهم أبناء خديجة رضي الله عنها.
و إبراهيم ولد في السنة الثامنة من الهجرة، والسنة الثامنة هذه حصل فيها فتح مكة، وعاش ثمانية عشر شهراً، يعني: سنة ونصفاً، وأحبه النبي صلى الله عليه وسلم، وحزن لموته حزناً شديداً، وكان يأتي إلى حاضنته ومرضعته ويدخل عليها ويحضنه ويقبله، ولما مات إبراهيم تأثر الرسول صلى الله عليه وسلم، وحزن لذلك حزناً شديداً، وبكى ودمعت عيناه حتى قال له الصحابة: وأنت يا رسول الله! قال: ( إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا بفراقك يا
ومات إبراهيم، يعني: إذا كان ولد في السنة الثامنة فهو مات بعد ذلك بسنة ونصف كما ذكرنا، وهذا معناه -والله أعلم- أن موته كان قبل حجة الوداع، ظناً وتخميناً.
قوله: (إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله) آيتان: تثنية آية، وتجمع على آي أو آيات، والآية في الأصل هي: العلامة، وقد يراد بها: المعجزة، فالآية هي المعجزة والعلامة على ربوبية الله عز وجل وألوهيته، أو على صدق رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فالآية هي المعجزة التي يتحدى الناس بها ولا يستطيعونها.
والمقصود: أن الشمس والقمر آيتان بذاتهما، فخلق الشمس وخلق القمر آية، وجريان الشمس والقمر بحسبان آية، وكسوف الشمس والقمر أيضاً هو آية من آيات الله تعالى.
قوله عليه السلام: (لا تنكسفان لموت أحد) هذا واضح، يعني: لا تنكسف الشمس أو القمر بسبب موت أحد، كأن يكون ذلك حزناً، أو علامة على أن هناك حدثاً معيناً يقع، وهذا متناسب مع قول الناس: انكسفت الشمس لموت إبراهيم، وقد كانوا في الجاهلية يعتقدون ويظنون أن الكسوف يكون بسبب موت عظيم.
قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا لحياته) يعني: لمولده، وهذا فات على كثير من الشرَّاح، وظنوا أن قوله: (ولا لحياته) أنه من باب الاستتباع لقوله: (لموت أحد) يعني: كأنه استطراد، والواقع أن قوله: (ولا لحياته) يعني: لا تنكسف أيضاً لميلاد أحد، فهي ليست علامة لأن أحداً مات أو أن أحداً ولد، وإنما هي آية من آيات الله تعالى الكونية التي فيها عبرة.
قوله صلى الله عليه وسلم: (فإذا رأيتموها) هذا بالإفراد، أو (رأيتموهما)، يعني: رأيتم كسوف الشمس أو خسوف القمر، وهذا معناه: أن الأمر معلق بالرؤية، وليس معلقاً بمجرد التخمين أو الظن.
قوله: (فصلوا وادعوا حتى ينكشف) (ينكشف) هذه متناسبة مع قوله: (ينكسف) انكسفت الشمس، والمعنى: يزول ويعود الأمر إلى ما كان عليه من ظهور الشمس وزوال الكسوف، وكذلك قوله: (تنجلي) أو (ينجلي) الانجلاء: هو الوضوح والظهور، ومنه انجلى أو تجلى، يعني: وضح وظهر.
استمع المزيد من الشيخ سلمان العودة - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 38-40 | 4787 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة الجماعة والإمامة - حديث 442 | 4394 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 57-62 | 4213 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 282-285 | 4095 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 727-728 | 4047 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صلاة التطوع - حديث 405-408 | 4022 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الصلاة - باب صفة الصلاة - حديث 313-316 | 3974 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب الوضوء - حديث 36 | 3917 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المياه - حديث 2-4 | 3900 استماع |
شرح بلوغ المرام - كتاب الحج - باب فضله وبيان من فرض عليه - حديث 734-739 | 3879 استماع |