خطب ومحاضرات
غاية الدعوة
الحلقة مفرغة
علم التفسير علم مستقل ذو صلة بالعلوم المختلفة، وله قواعد وأسس قام عليها، إما قواعد تدخل في المعاني وفهمها، أو في الاستنباط، ولهذه القواعد أهميتها البالغة حيث إنها قواعد لعلم العربية التي بها نزل القرآن، ولا يفهم القرآن من لا يفهم العربية.
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له, وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإن أمر الدعوة إلى الله، ومنهجها أمر مهم, والحاجة إليه ملحة، لأن المسلمين اليوم بعد أن انتبهوا وأفاقوا ووجدوا حالهم بعيداً عما شرع الله, وعما كان عليه الجيل الأول المبارك, ووجدوا أن الكفار سيطروا عليهم وغزوهم ودخلوا عليهم من كل منفذ, فعندما أفاقت هذه الأمة وجدت أنه لا حياة لها ولا قيام ولا خير فيها إلا بإحياء الدعوة إلى الله.
ولكن كيف تكون الدعوة إليه تبارك وتعالى؟
وما السبيل القويم الذي تتحقق به الدعوة التي يرضاها الله, ويرضى عنها, ويقبلها ويبارك فيها, وتعيد لهذه الأمة مكانتها في العالمين, واستخلافها في الأرض؟
إن المسلمين قد دب بينهم داء الأمم التي من قبلنا, بل هي أدواء وعلل, منها:
أنهم ابتعدوا عن المنهج الصحيح في عبادة الله تعالى, ومِنْ ثم انحرفوا في منهج الدعوة إلى الله تبارك وتعالى, إلا من وفقه الله في الدعوة إليه عز وجل, كما أمر تبارك وتعالى نبيه محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين قال له: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ [يوسف:108].
فهذه الآية العظيمة الجامعة, فيها منهج الدعوة إلى الله تبارك وتعالى كاملاً لمن تدبره وفطن إليه .
نحب أن نوضح أول قضية من قضايا الدعوة, بل من قضايا الإيمان جميعاً التي لا يمكن ولا يصح أن نتجاوزها أبداً, وهي التي ذكرها الله تبارك وتعالى في هذه الآية في قوله: أَدْعُو إِلَى اللَّهِ [يوسف:108].
فهذه الكلمة ليست كلمة عابرة، وليست جملة عادية، كما نتحدث ونقول في بعض العبارات والجمل التي لا مكان لها، بل إنها هي الأساس, وهي: نقطة البداية في هذا الأمر العظيم, وهي أن تكون الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وهاهنا مفترق الطرق بين من يدعو إلى الله, وبين من يدعو إلى غير الله, وإن ظن أو زعم أنه يدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
والدعوة إلى الله معناها: الدعوة إلى توحيد الله تبارك وتعالى الذي أرسل الله عز وجل به جميع الرسل: وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25]، وإذا قرأنا في كتاب الله نجد أن كل نبي بعث إلى قومه، قال لهم: اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ [الأعراف:59]، فهذه هي القضية التي تتكرر دائماً, وبعدها تأتي كل قضية أخرى، قال تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] هذه هي القضية الأساس .
فإذاً أول ما ندعو إليه, وأول ما نعبد الله تعالى به: هو توحيد الله عز وجل .
والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما بعث معاذاً إلى اليمن, ماذا قال له؟ قال: (إنك تأتي قوماً من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه: شهادة أن لا إله إلا الله)، وفي رواية (عبادة الله) وفي رواية: (إلى أن يوحدوا الله) وكلها روايات صحيحة, ومعناها حق وصحيح, فعبادة الله هي: شهادة أن لا إله إلا الله, وهي توحيد الله.
حقيقة التوحيد
فهذه قضية عظيمة, ولو أن الأمر أمر نطق فقط لما كان هذا الجهد العظيم, ولما كانت هذه التضحيات الكبيرة, النهايات العظيمة المفزعة المروعة، ولكنه لتحقيق أن يوحدوا الله, وأن يعبدوا الله, وأن يشهدوا أن لا إله إلا الله.
ومعنى ذلك: أن يُطيعوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وأن يقفوا عند حدوده, ويتبعوا أوامره, ويجتنبوا نواهيه, ويتقربوا له عز وجل بكل عمل من أعمال القلوب, بالصدق والإنابة والرغبة والرهبة والرجاء والاستعانة والاستعاذة, ولا يتبعون غير نبيه، ولا يتحاكمون إلى غير شرعه, ولا يتبعون عادات ولا تقاليد, ولا ما كان عليه الآباء والأجداد, ولا قوانين, ولا بدع, ولا مناهج, إلا ما شرع الله, وما أنزله الله تبارك وتعالى.
ففي كل أمر مما يقربهم من الله يسألون: ماذا قال الله فيه؟ وما أنزل الله فيه من الوحي.. قرآناً أو سنة .
التوحيد هو أول الأمر وآخره
إذاً أعظم شيء هو التوحيد, وهو أول شيء وآخره.
الجهاد لأجل التوحيد
نجاهد من أجل التوحيد: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39], إذاً الغرض من الجهاد ألَّا يكون هناك فتنة, وما هي الفتنة؟
الفتنة كما ذكرت في الحديث الصحيح: (الفتنة الشرك) فنقاتل الكفار حتى لا يكون هناك شرك, وحتى يكون الدين كله لله, فلا يعبد إلا الله, ولا يتبع إلا شرع الله, ولا يطاع إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو من أمر الله تعالى بطاعته تبعاً لطاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كالأنبياء وولاة الأمر من علماء وأمراء, الذين يُعلمون الناس ويحكمون بينهم بما أنزل الله .
ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصف حاله ووضعه ونفسه بناءً على ما ذكر ربه عز وجل, عندما قال له ربه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] فكأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يترجم ذلك الأمر فيقول: { بعثت بالسيف بين يدي الساعة } فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث بالسيف وبالجهاد, ولا يقوم ديننا هذا إلا على الجهاد, ولا يمكن أبداً أن يقوم إلا على الجهاد بجميع أنواع ودرجات الجهاد .
فالمؤمن في جهاد مع نفسه وهواه, ومع شيطانه ومع أعدائه, وجاءت لفظة [السيف] في الحديث ليدل على المرتبة العليا للجهاد, التي لا يقوم ولا يتحقق الدين إلا بها.
ولكن الجهاد والسيف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله من أجل ماذا؟
يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له} فهذا هو الغرض الوحيد، وهو أن يُعبد الله وحده لا شريك له { وجعل رزقي تحت ظل رمحي } فكل الأنبياء لهم مكاسب يكسبون منها, فمنهم من كان نجاراً, ومنهم من كان حداداً, ومنهم من رعى الغنم وكلهم رعوا الغنم, وكل نبي له مهنة.
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من فضله وحكمته البالغة بعث هؤلاء الأنبياء من البشر: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً [الإسراء:95] لكن نحن بشر, فبعث منا بشراً يعمل ويكدح, ويحتاج أن يأكل ويشرب وينام, ويمشي في الأسواق كما نفعل, والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أين يأتي بدخله؟
يأتي بدخله من خلال أشرف وأعظم وأعلى أنواع المكاسب, وهو: { وجعل رزقي تحت ظل رمحي }، فلو أن الأمة الإسلامية آمنت بالله ووحدت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق توحيده, لأكلت من تحت ظل رمحها.
فالكفار يبنون الحضارة ثم تكون للمسلمين, والفرس والروم بنوا حضارتهم في ألفين سنة، وأجروا فيها الأنهار, وسقوا الأشجار, وبنوا القصور, وفتحوا القنوات العظيمة, وبنوا الطرق الرومانية التي تمتد من شمال أوروبا إلى مصر وجزيرة العرب, كل ذلك فعلوه, فكان ماذا؟
كان غنيمة للمسلمين, غنيمة لمن وحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فخرجوا من هذه الجزيرة حفاة عراة جائعين, إلا ما كان منهم ميسور الحال وما أقلهم, فأورثهم الله تبارك وتعالى تلك الحضارات, وتلك القصور، وتلك المباني .
ونحن الآن -مثلاً- نقول: العالم الغربي لديهم الحضارة والعلم والتطور والتقدم والتكنولوجيا, ولو وحدنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق توحيده, وذهبنا في سبيله، ودعونا إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكان هذا هو همنا, وكان ذلك شغلنا الشاغل، كما قال في الآية سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي [يوسف:108] أي: هذا هو فعلي, وهذه هي طريقتي, وهذا هو عملي, أدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
ولو فعلنا ذلك لكنا بفقرنا هذا وعلى تأخرنا هذا -ونحن لا نريد التأخر في التكنولوجيا أو التقنية, ولا نريد الفقر, ولا نريد الجوع- لكنا منتصرين عليهم ولأورثنا الله تبارك وتعالى هذه الحضارات جميعها, فمنهم من يؤمن, فيسلم هو وما لديه من حضارة, ومنهم من نجاهده فيعطينا الله ملكه وحضارته غنيمة للمسلمين, بماذا؟
بتوحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فلو وحَّدناه سبحانه لغزوناهم في عقر دارهم, ولما كانت لهم أي فرصة ليغزونا في دارنا, كما هو حال بلاد المسلمين اليوم إلا ما رحم الله .
إذاً: {وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وكتب الذل والصغار على من خالف أمري} وهذا هو حال المسلمين اليوم، إلا من كان في عز الطاعة وفي عز الدعوة إلى الله, أما البقية فهم في ذل, وإن جمعوا من المال ما جمعوا, وإن حازوا من المناصب ما حازوا, فهم بالنسبة للكفار في ذل, لماذا؟
لأنهم خالفوا أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ونحن قوم أعزنا الله بالإسلام, فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله, فإذا تمسكنا بهذا الدين, وأخذنا بأسباب الدنيا وهي من الدين ومطلوبة، فإن الله تعالى يوفقنا وينصرنا على كل عدو .
أما إذا تركنا ديننا وأردنا العزة والقوة في آلات نشتريها, ومعدات نستوردها, وصناعات نظن أنها تحقق لنا ما نريد, فلن يكون ذلك أبداً , إلا بدين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
{ومن تشبه بقوم فهو منهم} فمن تشبه بالكرام وبالمقربين: من أنبياء أبرار ودعاة ومجاهدين وصالحين, كان منهم, وإن تشبه بالكفار كان منهم, وإن تشبه بالمنافقين أو المبتدعين أو الضالين أو الفاجرين كان كذلك منهم: { من تشبه بقوم فهو منهم } وكأننا نلمس داخل الحديث أملاً, وهو أنكم إن كنتم تريدون العزة, وإن كنتم تريدون النجاح فهو في دعوتكم وفي جهادكم وفي عملكم أيها المسلمون: { من تشبه بقوم فهو منهم } فتشبهوا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بأن تكونوا مجاهدين داعين إلى أن يُعبد الله وحده لا شريك له, وليكن رزقكم تحت ظل رماحكم, فتكونوا مثله, وتنالوا ما نال الصحابة الكرام من الفوز والغنيمة في الدنيا والآخرة.
فإذاً الجهاد والأمر بالمعروف من أجل ماذا؟ من أجل توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
التوحيد في سورة الفاتحة
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] وهذا توحيد الأسماء والصفات.
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] وهذا من الأسماء والصفات ولكنه يتعلق بأمر عظيم, ولا يمكن أن يُوحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلا به, وهو الإيمان باليوم الآخر وبالوقوف بين يدي الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين [الفاتحة:5] فهذه الآية هي معنى لا إله إلا الله, ففي الشهادة: الحصر، جاء بـ(لا وإلا), وهنا جاء الحصر بالضمير المفعول المتقدم, أي: إِيَّاكَ نَعْبُدُ [الفاتحة:5] وكأنك قلت: وحدك لا غيرك يا رب نعبدك.
إذاً: هذا معنى شهادة أن لا إله إلا الله, فهو الغاية سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وهو المقصود والمعبود وحده. ومن يعيننا على ذلك؟ وما الوسيلة التي نحقق بها ذلك؟
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين [الفاتحة:5] فأيضاً نستعين به وحده على تحقيق توحيده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وحده لا شريك له، فله العبادة ومنه العون.
إن أمرنا نأمر بما يرضي الله, ونستعين على ذلك به, وإن دعونا ندعو إلى الله, ونستعين على ذلك به, وإن جاهدنا نجاهد من أجل إعلاء كلمة الله, ومن أجل توحيد الله, ونستعين على ذلك بالله.
إذاً لا بد منهما: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وأيضاً وَإِيَّاكَ نَسْتَعِين وهذا هو توحيد الألوهية .
ثم ندعو الله تبارك وتعالى في كل ركعة: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7] فعندما ندعو الله بذلك, فنحن نأتي بنوع آخر من أنواع التوحيد -وإن كان هو جزءً من توحيد الألوهية- وهو أننا نوحد ربنا سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى باتباع شرعه, وباتباع رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما جاء به من الدين, فلا نعبد الله إلا كما عبد رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ولا ندعو إلا الله إلا كما دعى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
أقسام الناس في العبادة
الأول: ألَّا يُعبد إلا الله.
والآخر: أن يعبد الله بما شرع ولا يعبد بالأهواء والبدع.
ولا يكون حالنا في دعوتنا أو عبادتنا أحد الحالين اللتين خرج بهما أصحابهما عن الصراط المستقيم:
الحالة الأولى: حالة من علم الحق وعرفه, ولكنه أعرض عنه واجتنبه، وهؤلاء هم اليهود المغضوب عليهم, وكل من سلك طريقهم, كما ورد عن ابن عباس وعن سفيان بن عيينة رضي الله عنهما: [[من ضل من علمائنا ففيه شبه من اليهود]] ولا نعني بالعالم -فقط- ذلك الذي هو عضو في هيئة كبار العلماء بل المغضوب عليه في هذه الحالة هو: كل من علم شيئاً من دين الله ولم يعمل به ففيه شبه من اليهود, يعلم أن الزنا حرام فيزني, أو أن الخمر حرام فيشربها, أو أن النظر إلى المرأة الأجنبية حرام وكل ليلة ينظر إليها, أو أن الربا حرام ويرابي ويتعامل مع المرابين كل يوم, هذا هو المتعرض لكونه من المغضوب عليهم، سأل الله العفو والعافية .
إذاً ما فائدة العلم إذا لم نعمل به؟
الحالة الثانية: وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] والضالون هم الطرف الآخر: وهم الذين عبدوا الله على ضلالة, وعبدوا الله على بدعة وعلى هوى وجهل, فلم يعبدوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على علم وعلى بصيرة, وانظروا ماذا في الآية نفسها -آية الدعوة-: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] .
إذاً: أول شيء الدعوة إلى الله، لا إلى غيره أبداً, لا إلى النفس, ولا إلى الشيخ, أو الإمام أو من أحب أو من كره! لا أدعو إلا إلى الله وحده سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى على بصيرة, فلا ندعو على ضلالة, ولا ندعو على بدعة, ولا ندعو على رأي يخالف ما أنزل الله, بل على بصيرة وعلى علم من الله, وعلى برهان وحجة ونور وكتاب أو سنة .
أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108] أي: ليس هذا الأمر خاصاً برسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بل أنا ومن اتبعني, فهذا هو شأن كل أتباع النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, أنهم يدعون أولاً وقبل كل شيء إلى توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وإلى أن يُعبد الله وحده لا شريك له, فلا يشرك به أبداً بأي شيء, وهذا هو شأنهم.
غرض الدعوة إلى الله
لو تدبرت أحوالهم لوجدت أنهم لا يسبحون الله, ولا نقصد أنهم لا يقولون: سبحان الله؟ لا, بل هذه يقولها أكثر الناس وأكثر المصلين من أهل البدع والضلالة والشرك, بل نقصد أنهم لا ينزهون الله عما لا يليق به, وهي لا تعني كلمة أو لفظاً باللسان, بل تنزيه الله عما لا يليق به.
والنصارى عندما قالوا: إن لله تعالى ولداً, هل هم مسبحون لله؟
لا أبداً: سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ* إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ)[ المؤمنون:91] عباد الله المخلصين فقط، أما غيرهم فإنهم لا يسبحون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بل ينسبون له الولد والصاحبة، ويزعمون أن معه شريكاً .
والذين يقولون: إن الشريعة أو الدين لا يصلح للتطبيق في القرن العشرين, قرن الحضارة والعلم والتكنولوجيا, هؤلاء لا يسبحون الله ولا ينزهون الله عما لا يليق به, بل هم ينسبون إليه ما لا يليق به, وهو أنه -تعالى عن ذلك- جاهل لا يدري أن الحضارة ستأتي, أو هو يعلم أن القرن العشرين سيأتي بحضارته, لكنه لا يستطيع أن يجعل له من الشرع ما يلائمه وما يناسبه, تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
إذاً لا يسبحون الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وكل من دعا إلى اشتراكية أو ديمقراطية أو بعثية أو أي اسم مهما كان: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَاناً مَرِيداً* لَعَنَهُ اللَّه)[ النساء:117].
فكل من دعى إلى غير الله فنهايته أن يصل إلى الشيطان، لأن هؤلاء لم يسبحوا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى:مثل الذي يقول: الإسلام كله يعجبني بل وأدعو إليه, وأرجو وأحب أن تدعوني إليه -أيها الدعاة- إلا مسألة المرأة, فلا بد أن تعمل ولا بد أن تخرج وأن تتبرج وأن تشارك في وسائل الإعلام وفي كل مجال, فهل نزّه الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى هذا؟!
لا، لم ينزه الله أبداً، لأنه اعترض على حكم من أحكام الله, ورأى أن رأيه أفضل منه.
إذاً ندعوه إلى أن يؤمن بالله, وأن يسبح الله, ويوحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
فغرض الدعوة هو تسبيح الله وأن ينزّه الله, فتنزيه الله ركن أساس في الدعوة إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وقد ضربنا الأمثلة على ذلك .
أول ما يبدأ به الداعية هو توحيد الله تبارك وتعالى, ولا يقل قائل: إن التوحيد متحقق وموجود, لأن الذي يقول ذلك, لا يفهم من توحيد الله وعبادته، إلا أنه يقول: أشهد أن لا إله إلا الله, ولو أن الله تبارك وتعالى بعث الرسل ليقولوا للناس: قولوا: لا إله إلا الله, مجرد قول باللسان بلا حقيقة ولا معنى, ولا شروط, ولا اجتناب نواقض, لقالتها الأمم, وما كانت هذه المعارك مستمرة التي ترتب عليها -كما تقرءون في كتاب الله- الهلاك والدمار لكل من خالف ذلك, والفوز والنجاة لمن وحِّد الله, وأطاع الرسل واتبعهم .
فهذه قضية عظيمة, ولو أن الأمر أمر نطق فقط لما كان هذا الجهد العظيم, ولما كانت هذه التضحيات الكبيرة, النهايات العظيمة المفزعة المروعة، ولكنه لتحقيق أن يوحدوا الله, وأن يعبدوا الله, وأن يشهدوا أن لا إله إلا الله.
ومعنى ذلك: أن يُطيعوه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, وأن يقفوا عند حدوده, ويتبعوا أوامره, ويجتنبوا نواهيه, ويتقربوا له عز وجل بكل عمل من أعمال القلوب, بالصدق والإنابة والرغبة والرهبة والرجاء والاستعانة والاستعاذة, ولا يتبعون غير نبيه، ولا يتحاكمون إلى غير شرعه, ولا يتبعون عادات ولا تقاليد, ولا ما كان عليه الآباء والأجداد, ولا قوانين, ولا بدع, ولا مناهج, إلا ما شرع الله, وما أنزله الله تبارك وتعالى.
ففي كل أمر مما يقربهم من الله يسألون: ماذا قال الله فيه؟ وما أنزل الله فيه من الوحي.. قرآناً أو سنة .
أول شيءٍ في الدعوة إلى الله وفي عبادة الله, هو توحيد الله تبارك وتعالى، فبالنسبة لك يا أخي المسلم الشهادة هي أول شيء وآخره، فالمحتضر -مثلاً- الذي جاءته الوفاة, وهو على فراش الموت نلقنه شهادة أن لا إله إلا الله, فهل المقصود فيها اللفظ فقط؟ لا, المقصود أن يموت وهو موحد لله تبارك وتعالى, فأول ما يدخل العبد به الإسلام هو شهادة أن لا إله إلا الله, وآخر ما يقوله وما يلقنونه هو: شهادة أن لا إله إلا الله.
إذاً أعظم شيء هو التوحيد, وهو أول شيء وآخره.
لماذا نجاهد؟
نجاهد من أجل التوحيد: وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ [الأنفال:39], إذاً الغرض من الجهاد ألَّا يكون هناك فتنة, وما هي الفتنة؟
الفتنة كما ذكرت في الحديث الصحيح: (الفتنة الشرك) فنقاتل الكفار حتى لا يكون هناك شرك, وحتى يكون الدين كله لله, فلا يعبد إلا الله, ولا يتبع إلا شرع الله, ولا يطاع إلا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، أو من أمر الله تعالى بطاعته تبعاً لطاعة الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى كالأنبياء وولاة الأمر من علماء وأمراء, الذين يُعلمون الناس ويحكمون بينهم بما أنزل الله .
ولهذا يقول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يصف حاله ووضعه ونفسه بناءً على ما ذكر ربه عز وجل, عندما قال له ربه: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ [يوسف:108] فكأنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يترجم ذلك الأمر فيقول: { بعثت بالسيف بين يدي الساعة } فإن النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث بالسيف وبالجهاد, ولا يقوم ديننا هذا إلا على الجهاد, ولا يمكن أبداً أن يقوم إلا على الجهاد بجميع أنواع ودرجات الجهاد .
فالمؤمن في جهاد مع نفسه وهواه, ومع شيطانه ومع أعدائه, وجاءت لفظة [السيف] في الحديث ليدل على المرتبة العليا للجهاد, التي لا يقوم ولا يتحقق الدين إلا بها.
ولكن الجهاد والسيف والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الله من أجل ماذا؟
يقول الرسول صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {بعثت بالسيف بين يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له} فهذا هو الغرض الوحيد، وهو أن يُعبد الله وحده لا شريك له { وجعل رزقي تحت ظل رمحي } فكل الأنبياء لهم مكاسب يكسبون منها, فمنهم من كان نجاراً, ومنهم من كان حداداً, ومنهم من رعى الغنم وكلهم رعوا الغنم, وكل نبي له مهنة.
والله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى من فضله وحكمته البالغة بعث هؤلاء الأنبياء من البشر: قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَسُولاً [الإسراء:95] لكن نحن بشر, فبعث منا بشراً يعمل ويكدح, ويحتاج أن يأكل ويشرب وينام, ويمشي في الأسواق كما نفعل, والنبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أين يأتي بدخله؟
يأتي بدخله من خلال أشرف وأعظم وأعلى أنواع المكاسب, وهو: { وجعل رزقي تحت ظل رمحي }، فلو أن الأمة الإسلامية آمنت بالله ووحدت الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق توحيده, لأكلت من تحت ظل رمحها.
فالكفار يبنون الحضارة ثم تكون للمسلمين, والفرس والروم بنوا حضارتهم في ألفين سنة، وأجروا فيها الأنهار, وسقوا الأشجار, وبنوا القصور, وفتحوا القنوات العظيمة, وبنوا الطرق الرومانية التي تمتد من شمال أوروبا إلى مصر وجزيرة العرب, كل ذلك فعلوه, فكان ماذا؟
كان غنيمة للمسلمين, غنيمة لمن وحد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فخرجوا من هذه الجزيرة حفاة عراة جائعين, إلا ما كان منهم ميسور الحال وما أقلهم, فأورثهم الله تبارك وتعالى تلك الحضارات, وتلك القصور، وتلك المباني .
ونحن الآن -مثلاً- نقول: العالم الغربي لديهم الحضارة والعلم والتطور والتقدم والتكنولوجيا, ولو وحدنا الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حق توحيده, وذهبنا في سبيله، ودعونا إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وكان هذا هو همنا, وكان ذلك شغلنا الشاغل، كما قال في الآية سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي [يوسف:108] أي: هذا هو فعلي, وهذه هي طريقتي, وهذا هو عملي, أدعو إلى الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
ولو فعلنا ذلك لكنا بفقرنا هذا وعلى تأخرنا هذا -ونحن لا نريد التأخر في التكنولوجيا أو التقنية, ولا نريد الفقر, ولا نريد الجوع- لكنا منتصرين عليهم ولأورثنا الله تبارك وتعالى هذه الحضارات جميعها, فمنهم من يؤمن, فيسلم هو وما لديه من حضارة, ومنهم من نجاهده فيعطينا الله ملكه وحضارته غنيمة للمسلمين, بماذا؟
بتوحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى, فلو وحَّدناه سبحانه لغزوناهم في عقر دارهم, ولما كانت لهم أي فرصة ليغزونا في دارنا, كما هو حال بلاد المسلمين اليوم إلا ما رحم الله .
إذاً: {وجعل رزقي تحت ظل رمحي، وكتب الذل والصغار على من خالف أمري} وهذا هو حال المسلمين اليوم، إلا من كان في عز الطاعة وفي عز الدعوة إلى الله, أما البقية فهم في ذل, وإن جمعوا من المال ما جمعوا, وإن حازوا من المناصب ما حازوا, فهم بالنسبة للكفار في ذل, لماذا؟
لأنهم خالفوا أمر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, ونحن قوم أعزنا الله بالإسلام, فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله, فإذا تمسكنا بهذا الدين, وأخذنا بأسباب الدنيا وهي من الدين ومطلوبة، فإن الله تعالى يوفقنا وينصرنا على كل عدو .
أما إذا تركنا ديننا وأردنا العزة والقوة في آلات نشتريها, ومعدات نستوردها, وصناعات نظن أنها تحقق لنا ما نريد, فلن يكون ذلك أبداً , إلا بدين الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى .
{ومن تشبه بقوم فهو منهم} فمن تشبه بالكرام وبالمقربين: من أنبياء أبرار ودعاة ومجاهدين وصالحين, كان منهم, وإن تشبه بالكفار كان منهم, وإن تشبه بالمنافقين أو المبتدعين أو الضالين أو الفاجرين كان كذلك منهم: { من تشبه بقوم فهو منهم } وكأننا نلمس داخل الحديث أملاً, وهو أنكم إن كنتم تريدون العزة, وإن كنتم تريدون النجاح فهو في دعوتكم وفي جهادكم وفي عملكم أيها المسلمون: { من تشبه بقوم فهو منهم } فتشبهوا به صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, بأن تكونوا مجاهدين داعين إلى أن يُعبد الله وحده لا شريك له, وليكن رزقكم تحت ظل رماحكم, فتكونوا مثله, وتنالوا ما نال الصحابة الكرام من الفوز والغنيمة في الدنيا والآخرة.
فإذاً الجهاد والأمر بالمعروف من أجل ماذا؟ من أجل توحيد الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
المناهج | 2598 استماع |
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية | 2575 استماع |
العبر من الحروب الصليبية | 2509 استماع |
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم | 2461 استماع |
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول | 2349 استماع |
من أعمال القلوب: (الإخلاص) | 2264 استماع |
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] | 2261 استماع |
الممتاز في شرح بيان ابن باز | 2251 استماع |
خصائص أهل السنة والجماعة | 2198 استماع |
الشباب مسئولية من؟ | 2167 استماع |