الإجابة عن سؤال الملاحدة: ما الدليل العقلي على كمال الله؟
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
الإجابة عن سؤال الملاحدة: ما الدليلُ العقليُّ على كمال الله؟
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين، وعلى أصحابه الغُر الميامين، وعلى مَن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
فقد انتشر في عصرنا مرضُ الإلحاد، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة؛ إذ يفتك بالإيمان، ويُعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن، وتجد المريض به يجادل في البديهيات، ويجمع بين النقيضين، ويفرِّق بين المتماثلين، ويجعل مِن الظن علمًا، ومن العلم جهلًا، ومن الحق باطلًا، ومن الباطل حقًّا.
ومن عوامل انتشار هذا المرض: الجهلُ بالدين، وضعف العقيدة واليقين، والاسترسال في الوساوس الكفرية، والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصَّل.
وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوالٌ بلا دليل صحيح، وادعاءاتٌ بلا مستند راجح، ورغم ضعفها وبطلانها فإنها قد تؤثر في بعض المسلمين؛ لقلة العلم، وازدياد الجهل بالدين؛ ولذلك كان لا بد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوى أهل الإلحاد؛ شبهة تلو الأخرى، ومغالطة تلو المغالطة، ودعوى تلو الدعوى؛ حتى لا ينخدع أحدٌ بكلامهم وشُبَههم.
ومِن المغالطات التي يدَّعيها الملاحدة - هداهم الله -: دعواهم أنْ لا دليلَ عقلي على كمال الله؛ تعالى الله عما يقول الظالمون!
ويسأل أحدُ الملاحدة: "ما الدليلُ العقلي على كمال الله؟ ثم يقول: طبعًا لا يمكن أن نستدل هنا بالسبب والمسبِّب؛ لأن كون السبب عظيمًا يعني أن المسبِّب أعظم، وليس كونه كاملًا، ومهما كان الكونُ معقدًا ورائعًا يظل هذا الاستدلال غير منطقي؛ لأنه بطبيعة الحال، المسبِّب أعقد، لكن ليس بالضرورة كاملًا"[1].
ويدَّعي ملحدٌ آخرُ أن لا دليل عقلي على كمال الله، ويرفض استدلال المؤمنين بقياس الأولى، الذي مُفاده: أن معطيَ الكمال أحقُّ أن يوصف به؛ بحجة وجود صفات نقص في المخلوقات، فإذا كان معطي الكمال أحقَّ أن يوصف به، فكذلك معطي النقص - على حد زعمه - لا بد أن يوصَفَ به؛ لأنه معطيه.
ورغم وجود الكثير من الأدلة العقلية التي تدلُّ - بوضوح - على اتصافِ الخالق بالكمال، فإن الملاحدةَ يغُضُّون الطَّرف عنها، بقصدٍ أو بدون قصد.
ويعتقد المؤمنون أن الكمالَ ثابتٌ لله، بل الثابتُ له هو أقصى ما يمكن من الأكملية، بحيث لا يكونُ وجود كمال لا نقص فيه إلا وهو ثابتٌ للرب تعالى، يستحقُّه بنَفْسِه المقدَّسة، وثبوت ذلك مستلزمٌ نفيَ نقيضِه؛ فثبوت الحياة يستلزم نفيَ الموت، وثبوت العلم يستلزم نفيَ الجهل، وثبوت القدرة يستلزم نفيَ العجز، وإن هذا الكمال ثابتٌ له بمقتضى الأدلة العقلية، والبراهين اليقينية، مع دلالة السمع - مِن قرآنٍ أو سنَّة - على ذلك[2].
ومِن الأدلة العقلية على اتصاف الخالق بالكمال: قياسُ الأَوْلى، فإذا كانت هناك الكثير مِن المخلوقات متصفةً بصفات كمال؛ كالقوة، والقدرة، والحكمة، والعِلم - فخالقُ هذه المخلوقات لا بد أن يكونَ متصفًا بالكمال مِن باب أَوْلى، وهو أحقُّ بهذا الوصف منها؛ لأنه خالقُها، ومَن يخلُقُ أجَلُّ وأفضلُ وأكملُ وأعظمُ ممَّن لا يخلُقُ، ولا يشكُّ في هذا إلا صاحبُ هوًى، أو متشبِّعٌ بشُبهة[3].
ومِن الأدلة العقلية على اتصاف الخالق بالكمال: أن معطيَ الكمالِ لا بد أن يوصف به، وهو أحقُّ بالوصفِ بالكمال مِن الذي أعطاه، وإذا كانت هناك الكثيرُ مِن المخلوقات متصفةً بصفات كمال، فخالقُ هذه المخلوقات لا بد أن يكونَ متصفًا بالكمال؛ لأنه هو الذي أعطاها الكمالَ؛ فكمالها مِن خالقها، وكلُّ كمال فيها منه سبحانه؛ فالله خالقُ المخلوقات وصفاتِها، ومِن ثم فهو خالق الكمال فيها، ومِن ثم فهو أحقُّ بالوصف بهذا الكمالِ منها[4]، وفاقدُ الشيء إذا كان لا يملِكُه ولا يملِكُ أسبابَه لا يُعطيه[5]، فإذا كان الخالقُ قد أعطى صفاتِ كمالٍ لكثيرٍ مِن مخلوقاته فهو أحقُّ أن يوصف بها منها، كما نقول: إذا كان الطالب عالِمًا فمُعلِّمه العلمَ لا بد أن يكونَ عالِمًا؛ لأنه الذي أعطاه هذا العلم، ومَن يعطي المال لا بد أن يكون معه مالٌ كي يعطيه، ومَن يعطي طعامًا لا بد أن يكون معه هذا الطعام كي يعطيه، ولله المَثَلُ الأعلى[6].
ومِن الأدلة العقلية على اتصاف الخالق بالكمالِ: أن الخالقَ واجبُ الوجود بنفسه[7]، وما كان واجبَ الوجود بنفسِه يمتنعُ العدمُ عليه، ويمتنع أن يكونَ مفتقرًا إلى غيره بوجهٍ مِن الوجوه؛ إذ لو افتقَر إلى غيرِه بوجهٍ مِن الوجوه كان محتاجًا إلى الغير، والحاجة إما إلى حصول كمالٍ له، وإما إلى دفعِ ما ينقُصُ كمالَه، ومَن احتاج في شيء مِن كماله إلى غيره لم يكُنْ كمالُه موجودًا بنفسه، بل بذلك الغيرِ، وهو بدون ذلك الكمالِ ناقصٌ، والناقص لا يكون واجبًا بنفسِه، بل ممكِنًا مفتقرًا إلى غيرِه [8]، ويمكن أن نقولَ: لو لم يكُنِ الخالقُ له الكمالُ المطلَق، لكان يعتريه النقصُ في صفةٍ مِن صفاته، وكلُّ نقصٍ يفتقر إلى استكمال، وطلبُ الاستكمال دليلُ الفقرِ والاحتياجِ إلى الغير، والفقرُ والاحتياجُ إلى الغير دليلُ الحدوث، والحدوثُ ينافي كونَه واجبَ الوجود بنفسِه، وبالتالي كونُ اللهِ واجبَ الوجود بنفسِه يستلزم كونَه متصفًا بالكمالِ الذي لا نقصَ فيه بوجهٍ مِن الوجوه.
ومِن الأدلةِ العقلية على اتصافِ الخالق بالكمال: أفعالُه في الكون؛ فأفعالُ اللهِ في الكون مِن خَلْق هذا الكونِ الشاسع في أحسنِ خِلقة، وأبدعِ نظام، وأجملِ منظَر - دليلٌ واضحٌ بيِّنٌ على كمالِ الله، وعِلمِه، وحكمته، ولو لم يكُنِ الخالقُ متصفًا بالكمال، لوجدنا الخلَلَ؛ إما في جميع الكون، أو في بعض أجزاء الكون، وهذا لم يحدُثْ قط، بل الواقعُ خلافه.
ودعوى الملاحدةِ: أنه لا يمكِنُ أن نستدلَّ على كمال الله بالسبَبِ والمسبِّبِ - دعوَى باطلةٌ؛ فالفعلُ قد يدلُّ على صفةِ الفاعل، والأثَر قد يدلُّ على صفة المُؤثِّر، مثاله: رؤية قصر جميل بديع، تدلُّ على أن مصمِّمَه مهندسٌ عبقريٌّ ذكيٌّ، وفي هذا استدلال بالأثر (القصر الجميل البديع)، على صفة المُؤثِّر (المهندس الذي صمم القصر)، وعندما نقرأ قصةً جميلة نصِفُ مؤلفَها بالإبداع والإتقان، وفي هذا استدلالٌ بالأثَر (القصة الجميلة) على صفة المُؤثِّر (مؤلِّف القصة وكاتبها)، وعندما نرى الكثيرَ مِن صفات الكمال في المخلوقات نصِفُ خالقَها بالكمال، وفي هذا استدلالٌ بالأثَر (الكمال الذي في المخلوقات) على صفة المُؤثِّر (خالق المخلوقات)؛ لأن الكمالَ لا يصدُرُ إلا مِن كامل؛ ففاقدُ الكمالِ لا يمكِنُ أن يعطيَ الكمالَ.
ودعوى الملاحدةِ: أنه إذا كان معطي الكمال أحقَّ أن يوصفَ به، فكذلك معطي النقص، على حد زعمهم، لا بد أن يوصَفَ به؛ لأنه معطيه - دعوَى باطلةٌ؛ إذ لا يُشترط لِمَن يعطي النقصَ أن يكونَ ناقصًا، بخلافِ اشتراطِ الكمالِ فيمَن يُعطي الكمالَ، فمَن يُعطي الكمالَ قد يعطيه، فيكون قد أعطى كمالًا، وقد يمنَعُ العطاء، فكأنه قد أعطى نقصًا[9]، ومن أمثلة ذلك: المعلِّم الذي يعلِّم علمًا نافعًا (صفة كمال)، قد يُنعِم على أحد طلابِه بتعليمه مسألة (صفة كمال)، وقد يحرِمه مِن العلم بهذه المسألة، فيكون جاهلًا بها (صفة نقص)، ومَن عنده مال حلال (صفة كمال) قد يعطيه لفقيرٍ فيصير غنيًّا (صفة كمال)، وقد يحرمه مِن المال فلا يعطيه، فيظل هذا الفقير فقيرًا (صفة نقص)، والإنسان الحي (صفة كمال) قد يُنقِذ شخصًا مِن الموت فيظل حيًّا (صفة كمال)، وقد يقتُلُه فيصبح ميتًا (صفة نقص).
هذا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحاتُ!
[1] - المؤمنون يستدلون بصفات الكمال التي في المخلوقات على كمالِ خالقها؛ استنادًا إلى أن فاقدَ الشيء لا يعطيه، واستنادًا إلى أن الخالقَ أكملُ وأعظم وأفضل مِن المخلوق، ويعتقدون أن عدمَ وجود أيِّ خلَلٍ في الكون دليلٌ على كمال خالقه، ولا يستدلون على كمالِ الله بمثلِ ما يعتقدُه الملحدُ.
[2] - الرسالة الأكملية فيما يجبُ لله مِن صفاتِ الكمال، لابن تيمية ص 7.
[3] - يقول ابن تيمية - رحمه الله -: كلُّ كمال لا نقصَ فيه يثبُتُ للمُحدَث المخلوق الممكن فهو للقديمِ الواجبِ الخالق أَوْلى، مِن جهة أنه أحقُّ بالكمال؛ لأنه أفضلُ؛ (مجموع الفتاوى لابن تيمية 16/ 358).
[4] - يقول ابن تيمية - رحمه الله -: ولأن ذلك الكمالَ إنما استفاده المخلوقُ مِن الخالق، والذي جعل غيره كاملًا هو أحقُّ بالكمال منه؛ فالذي جعَل غيرَه قادرًا أَوْلى بالقدرة، والذي علَّم غيره أَوْلى بالعلم، والذي أحيا غيره أَوْلى بالحياة، والفلاسفة توافق على هذا، ويقولون: كلُّ كمالٍ للمعلول فهو مِن آثار العلة، والعلةُ أَوْلى به؛ (الرسالة الأكملية فيما يجب لله من صفات الكمال لابن تيمية ص 7).
[5] - ربما يدَّعي بعضُ الملاحدة أن قولنا: إن فاقدَ الشيء لا يعطيه، ناشئٌ من رؤيتنا ذلك في حياتنا اليومية وخبراتنا، فربما يوجَد مَن يفقِد شيئًا، ورغم ذلك يعطيه، وعليه، فلا يصلُحُ هذا مستمسَكًا على اتصاف الخالق بالكمال، والجواب: أن قولنا: إن فاقدَ الشيء لا يعطيه، نابعٌ مِن العقل، وإن كانت تدعَمُه الخبراتُ اليومية، والأدلة الحسية، والزعم بأنه ربما يوجد مَن يفقِدُ شيئًا ورغم ذلك يعطيه زعمٌ باطلٌ مخالِفٌ للعقل، وهو قولٌ بلا دليل، وما قيل بغيرِ دليلٍ يُرفَض بغير دليل.
[6] - في هذا الدليل استدللنا بالأثر على صفة المؤَثِّر، لكن في الدليل السابق رجحنا بين الأثر والمؤثر عن طريق قياس الأَوْلى.
[7] - مِن الأدلة على أن الخالق واجبُ الوجود بنفسه: أن أي موجود إما أن يكون موجودًا بذاتِه، مستغنيًا بنَفْسه عن غيره، وإما أن يكون موجودًا بغيره، مفتقرًا لغيره لإيجاده، والكونُ الذي نعيش فيه لم يكن موجودًا، ثم وُجِد؛ فهو مُحدَث، مفتقِر إلى مَن يُحدِثه، ممكِن الوجود، يحتاج إلى مَن يرجِّح وجودَه على عدم وجوده، وهذا المرجِّح لا بد أن يكون واجبَ الوجود بذاتِه، وإلا لزم التسلسل في الفاعلِينَ، والتسلسلُ في الفاعلينَ باطلٌ؛ فتعيَّن وجودُ خالقٍ للكون، واجبِ الوجود بذاته.
[8] - منهاج السنة لابن تيمية 2/ 160 - 161.
[9] - وكون الخالق يعطي نِعمًا لبعض خَلْقه، وينزع هذه النِّعَم مِن بعض خَلْقه، فهذا لحِكَم كثيرة، منها: الابتلاء، والاختبار، ورفع الدرجات، ورؤية عبادة الصبر مِن عباده المحرومين مِن هذه النِّعم، ورؤية عبادة الشُّكر مِن عباده الذين وهَبهم هذه النِّعَم، ولولا المرضُ ما عُرِفت قيمة العافية، ولولا الفقرُ ما عُرِفت قيمةُ الغِنى، ولولا الخوفُ ما عُرِفت قيمة الأمن، ولولا الجهل ما عُرِفت قيمةُ العلم، وبضدِّها تتميَّزُ الأشياءُ.