أرشيف المقالات

(11) التذرّع بشُبهة.. تغيُّر الفتوى بتغيّر الزمان والمكان والحال! - بصائر في الانتخابات - أبو فهر المسلم

مدة قراءة المادة : 7 دقائق .
كثيرًا ما تذرّع أهل كلّ باطل وبدعة ومخالفة، بهذه القاعدة؛ وهي وإن كانت على أصولها وضوابطها صحيحة؛ إلا أنهم أساؤوا التعامل معها، واتّخذها أهل كلّ باطلٍ وبدعة؛ مطيّةً لنَيل هواهم!
خاصّةً المحسوبين على التيّار الإسلاميّ، في كثيرٍ من المسائل المعاصرة، كالانتخابات والبرلمانات والحدود، وكثير من الثوابت، حتى فحُش الأمر وغلُظ، وطال العقائد المُحكمَة، والأصول الثابتة.

وحتّى نُفنّد هذه الشبهة، ونتبيّن وجه الاحتيال بها على الدّين وأهله؛ فلْنذكر على عَجلة، شيئًا ممّا يخصّ هذه القاعدة، من كلام أهل العلم ، ولْنذكر الضوابط التي تُحصّنها من الزَّيف والتحريف، في نقاط:
أولًا: القاعدة بإجمال هي: "تغيّر الفتوى واختلافها، بحسب تغيّر الأزمنة والأمكنة والأحوال".
ثانيًا: كما نرى فإنّ الذي يتغيّر إنما هي الفتوى لا الأحكام - وإن كان بعضهم ذكر الأحكام، لكنه عنى بها العُرف والعادة كما سيأتي- ففرقٌ كبير بين تغيّر الحكم، وما سيؤول إليه ذلك، وتغيّر الفتوى، وفي ذلك يقول الشيخ محمد بن إبراهيم في فتاويه: "وحُكْمُ الله ورسوله لا يختلف في ذاته باختلاف الأزمان وتطوّر الأحوال وتجدّد الحوادث، فإنه ما من قضية كائنة ما كانت إلا وحكمها في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم نصاً أو ظاهراً أو استنباطًا أو غير ذلك.
عَلِم ذلك من عَلِمَه وجَهِله من جَهِله".
** ثمّ أنكر الشيخ المعنى المغلوط من القاعدة، فقال: "وليس معنى ما ذكره العلماء من تَغَيّر الفتوى بتغير الأحوال؛ ما ظنّه مَن قَلّ نصيبهم - أو عُدِم - مِن معرفة مدارك الأحكام وعللها..
حيث ظنوا أن معنى ذلك، بحسب ما يلائم إرادتهم الشهوانية البهيمية، وأغراضهم الدنيوية، وتصوراتهم الخاطئة الوَبِـيّـة..
ولهذا تجدهم يُحَامُون عليها، ويجعلون النصوص تابعةً لها منقادة إليها مهما أمكنهم، فيُحَرّفون لذلك الكَلِم عن مواضعه".
** ثم أوضح رحمه الله، المعنى الصحيح من القاعدة، فقال: "وحينئذ مَعنى تَغَيّر الفتوى بتغير الأحوال والأزمان؛ مُراد العلماء منه: ما كان مُسْتَصْحَبة فيه الأصول الشرعية والعِلل المرعية، والمصالح التي جِنسها مُراد لله تعالى، ورسوله صلى الله عليه وسلم".
قلتُ:
إذًا فالأحكام الشرعيّة في نفسها، ثابتة مستقرّة بالوحي، لا تبديل فيها ولا نسخ، لا سيّما بعد انقطاع الوحي، وإلا كان في ذلك تجويز لتحريف الدّين، وتشويه مضامينه، ونسخ شرائعه، وتحليل الحرام، وتحريم الحلال..
وليس هذا من الدّين، لذا يقول الشّاطبيّ، متحدّثًا عن خصائص الشريعة : "الثبوت من غير زوال..
فلذلك لا تجد فيها بعد كمالها نسخًا...
ولا رفعًا لحكم من أحكامها، لا بحسب عموم المكلفين، ولا بحسب خصوص بعضهم، ولا بحسب زمان دون زمان، ولا حال دون حال، بل ما أثبت سببًا؛ فهو سبب أبدًا لا يرتفع، وما كان شرطًا؛ فهو أبدًا شرط، وما كان واجبًا؛ فهو واجب أبدًا.
وهكذا جميع الأحكام؛ فلا زوال لها ولا تبدّل، ولو فرض بقاء التكليف إلى غير نهاية؛ لكانت أحكامها كذلك"، الموافقات.
ثالثًا: الفتوى هي التي قد تتغيّر وتختلف..
لكونها استعمال للنصّ وتنزيلٌ له على وقائع قد تتفاوت وتختلف، وعادات وأعراف لا تتّحد وتتّسق، وهذا ما يجعلها من باب الاجتهاد المُرتَهن بشروطه لا على إطلاقه، بل ويلزم المُفتي في مثل ذلك؛ مراعاة هذا الاختلاف السابق، وإلا ضلّ في علمه، وأضلّ في فتواه، وفي ذلك يقول القرافيّ رحمه الله، في الفروق: "فمهما تجدّد في العُرف اعتَبرْه، ومهما سَقط أسقِطْه، ولا تَجمد على المسطور في الكتب طول عمرك، بل إذا جاءك رجل من غير أهل إقليمك يستفتيك؛ لا تجْرِه على عُرف بلدك، واسأله عن عُرف بلده، واجْره عليه وأفتِه به، دون عُرف بلدك والمُقرر في كتبك، فهذا هو الحق الواضح ..
والجمود على المنقولات أبدًا؛ ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين".
رابعًا: يظهر من كلام الإمام القرافي، الأخير..
أن التغيّر الذي عناه العلماء، إنما يكون في الأعراف والعادات، واختلاف الفتوى في ذلك، على حسب الأحوال والبلاد، ولم يقصدوا أبدًا تغيّر الأحكام المستقرّة كما بينّا، وخاصةً المُجمَع عليه، والمعلوم بالضرورة من الدّين والعقائد وأصول الإيمان .
وفي ذلك يقول الشيخ عليّ حيدر: "إن الأحكام التي تتغيّر بتغيّر الأزمان، هي الأحكام المُستندة على العرف والعادة ..
لأنه بتغير الأزمان تتغير احتياجات الناس، وبناءً على هذا التغيّر؛ يتبدل أيضًا العرف والعادة، وبتغير العرف والعادة؛ تتغير الأحكام حسبما أوضحنا آنفًا، بخلاف الأحكام المستندة على الأدلة الشرعية، التي لم تُبن على العرف والعادة فإنها لا تتغير".
انظر: درر الحكام شرح مجلة الأحكام.
خامسًا: يجمع شتات التفصيل السابق، ما ذكره الدكتور محمد الزحيلي، في كتابه" القواعد الفقهية" حيث قال:"إن الأحكام الأساسية الثابتة في القرآن والسنة والتي جاءت الشريعة لتأسيسها بنصوصها الأصلية، الآمرة والناهية، كحرمة الظلم ، وحرمة الزنى والربا، وشرب الخمر والسرقة ..
فهذه لا تتبدل بتبدل الزمان، بل هي أصول جاءت بها الشريعة لإصلاح الزمان والأجيال، وتتغير وسائلها فقط.إن أركان الإسلام وما علم من الدين بالضرورة؛ لا يتغير ولا يتبدل، ويبقى ثابتًا كما ورد، وكما كان في العصر الأول ..
لأنها لا تقبل التبديل والتغيير.جميع الأحكام التعبدية التي لا مجال للرأي فيها ولا للاجتهاد؛ لا تقبل التغيير ولا التبديل بتبدل الأزمان والأماكن والبلدان والأشخاص.إن أمور العقيدة أيضًا ثابتة لا تتغير ولا تتبدل ولا تقبل الاجتهاد، وهي ثابتة منذ نزولها ومن عهد الأنبياء والرسل السابقين، حتى تقوم الساعة، ولا تتغير بتغير الأزمان".وأخيرًا..
أقول:
هل بقي قولٌ لقائل أو مُستدلّ بهذه القاعدة، من أدعياء السُّنة والحفاظ على الشريعة، على تحليل ما يتلبّسون به اليوم؟ فمِن معاونة الطاغوت، إلى إهدار الحقائق والحقوق، مرورًا بالمرجعيّة الدستوريّة الوضعيّة، وسنّها والتحاكم إليها، ثم مجاراة العلمانيين والليبراليين، ومهادنة من هم عداءٌ على الدين وأهله، حتى والَوا القاتل الظالم، وجلدوا بألسنةٍ حداد؛ المظلومين والمجاهدين الموحّدين، وانتهاءً بإقرار المُنكرات والمُكفّرات، في البرلمانات.
وهل أبقيتم شيئًا..
أو بقي لكم شيء؟
فإنّا لله، ولا حول ولا قوة إلا به.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣