خطب ومحاضرات
موقف الفكر الإسلامي من العلمانية
الحلقة مفرغة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لاشريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبعد:
قبل أن نبدأ في الموضوع أريد أن أنبه على بعض الأشياء وقد تكون شكلية، ولكن نحن المسلمين يجب ألا نفرق بين الشكل والمضمون، بل لا بد أن نلتزم ما أمكن بهما معاً.
فالعنوان (موقف الفكر الإسلامي من العلمانية) ولنبدأ القضية من العنوان نفسه.
فاختيار العنوان لا يقصد به عقد مقارنة بين فكرين متقابلين، لكن لعل هذا يشعر بذلك .
إن موضوع الفكر الإسلامي ينبغي أن نطرحه دائماً على أنه وحي أنزله الله تبارك وتعالى، وعلى أنه أمر ممن لا يضل ولا يخطئ، أنزله الله الذي يعلم السر في السماوات وفي الأرض، وبلغه الأنبياء المعصومون عن الخطأ في التبليغ عن الله عز وجل.
يقابل هذا الوحي: الهوى والجهل والخرافة والأساطير، وما شئت من مسميات..!
فلتكن بأي شعار، وبأي اسم، وفي أي زمان، وفي أي مكان، فما لم يكن من الوحي فهو هوى وجهل وخرافة، إلا فهماً يؤتاه المؤمن من كتاب الله وسنة رسوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
ولو نظرنا إلى العلمانية من هذه النظرة، لوجدنا أن القضية قضية توحيدٍ دعا إليه الرسل جميعاً ونزلت به الكتب جميعاً، يقابله شركٌ وجهل وجاهليةٌ وخرافات وردود فعلٍ بشرية، جاءت في فترات معينة في قومٍ معينين، لا يصلح بأي حال أن يكون مبدأً أو منهجاً يسير عليه البشر جميعاً في كل مكان، ولا سيما من كان الوحي النقي بين أيديهم وفي متناولهم، ويقرءونه ويتلونه ليلاً ونهاراً، فمن هذه القضية يبدأ الموضوع.
إن الله عز وجل إنما أرسل الرسل لدعوة الناس إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وذكر الله عز وجل في كتابه أن الأنبياء جميعاً بعثوا ليقولوا: أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ [الأنبياء:25] وفي الآيات الأخرى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] فمعنى (لا إله إلا الله) عبادة الله واجتناب الطاغوت، وهي التي ذكرها الله تعالى أيضاً عقب آية الكرسي: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ [البقرة:256] فهذه كلها تدل على معنى شهادة (لا إله إلا الله) التي جاء بها الأنبياء جميعاً، فأي مجتمع يؤمن بها ويقيمها ويعرف معناها لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون مجتمعاً علمانياً، أو أن يقبل العلمانية، لأن القضيتين متضادتين متناقضتين، لايمكن أبداً أن تتفقا.
إنها ظروف تاريخية وملابسات معينة لا أطيل بشرحها، ,إنما أختصرها في كلمة واحدة، وهي الخرافة، فالخرافة هي سبب العلمانية، سواء في أوروبا أم في بلاد المسلمين!
وأعني بالخرافة أن يختلق البشر صورةً يتزينون بها من البدع ومن الضلالات غير ما شرع الله عز وجل، فعندما تنتشر الخرافة في أي مجتمع؛ فإن هذا المجتمع يقبل العلمانية، ويمكن أن يتحول إلى علمانية جزئية أو كلية بحسب تقبله للخرافة أو مقاومته لها.
والعلمانية إذا حددت بالاسم وقيل: العلمانية فإنها تعني: المذهب الفكري المعروف، وهو مذهب نشأ في أوروبا وهي قارةٌ مظلمة، ولم ولن تخرج من الظلمات أبداً.. وهم يطلقون على فترة من تأريخهم قرون الظلمات، وكأنهم الآن في النور، والواقع أن أوروبا لم تخرج من الظلمات مطلقاً ولن تخرج منها إلا إذا آمنت بالله وحده، واتبعت دينه الذي هو الإسلام الذي لا يقبل الله ديناً غيره، فـأوروبا تتخبط من جهلٍ إلى جهلٍ، ومن ظلمات إلى ظلمات، وعندما نشأت فيها هذه الفكرة، ما كان ذلك نتيجة تفكير منطقي علمي مجرد، كما يوهم الاسم أو يشعر، ولا يمكن على الإطلاق أن يكون العلم الحقيقي أو التفكير الحقيقي مضاداً لما أنزل الله تبارك وتعالى، وإنما نشأت كردود فعلٍ طويلة.. ولو حاولت أن أعرضها عليكم، لكان معنى هذا: أن نعرض تاريخاً طويلاً يمتد من سنة (325م) على الأقل إلى الآن، أي منذ أن اعتنقت الامبراطورية الرومانية ما يسمى بالمسيحية وحتى الآن.
لقد نشأت أوروبا في الخرافة وعاشت فيها، ومن هنا اتجهت إلى خرافة العلمانية .
دور العلمانية في الفكر النصراني
أول ما حدث في دين النصارى أن عيسى عليه السلام رفعه الله تعالى إليه قبل أن يقيم مجتمعاً إسلامياً، فقد بُعِثَ عليه السلام في فلسطين، وهي جزء من مستعمرات الامبراطورية الرومانية الكبيرة، وكانت الامبراطورية الرومانية لا تريد أن تتدخل في قضية العلاقة بين المسيح وبين المجتمع اليهودي الذي بعث فيه، لأن القضية قضية داخلية، والامبراطورية تحرص على أن توحد الأمة أو الولايات تحت حكمها، وهذا رجل جاء في ولايةٍ جزئية بدعوةٍ داخليةٍ محددة إلى بني إسرائيل.
ومن هنا نشأت قضيتان:
القضية الأولى: قضية أنها لم تقم دولة، وهذا ما جعل العلمانية تبدأ جذورها وبذورها في فكر القوم، فعندما لم يقم المسيح عليه السلام دولة منفصلة مستقلةٍ جهادية كما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كانت هذه بذرة تلقائية للعلمانية بلا شعور؛ أي: يمكن أن يوجد الدين ولا دعوة له ولا جهاد فيه.
والقضية الأخرى: أن تتحول هذه الديانة من قضية دعوة محلية لقومه خاصة، إلى دين الامبراطورية تحكم شعوباً كثيرة، وهي ربما كانت أكبر امبراطورية آنذاك في الأرض، هذه النقلة بعيدة جداً؛ لأن قومها الذين بعث فيهم المسيح لم يقيموها في أنفسهم، فكيف تقوم على مستوى أكبر من ذلك؟! فلا بد أن يضيق نطاق التشريع والأحكام عن استيعاب الأحكام في العالم، والله اختص محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن دينه هو الدين الذي يهدي العالمين جميعاً، فالاعتراض ليس على كون الإنجيل لم يأت بأحكام للبشرية جميعاً، ليس هناك اعتراض على هذا إطلاقاً، ولكن أهل الإنجيل محددون بأنهم هم أهل التوراة نفسها -أي اليهود- ومع هذا كله لم يصل الدين -كما هو في الإنجيل الذي أنزله الله- إلى أوروبا، فحصل أيضاً خطأ أكبر.
التحريف والتلفيق في الديانة النصرانية
القسم الأول: المسيحية اليسوعية، أو مسيحية يسوع أي: عيسى عليه السلام، ويقولون: بدأت عام كذا وانتهت عام كذا بالتحديد، وهذه مسيحية مستقلة.
القسم الثاني: المسيحية الرسمية: سميت بالرسمية لأن قسطنطين تبناها وجعلها ديناً رسمياً للدولة، وبولس هذا رجل يهودي على الأرجح، اسمه اليهودي شاول، دخل في النصرانية ليفسدها، وكان هو -كما في رسالة أعمال الرسل المطبوع مع الأناجيل- يعذب المسيحيين -أي: المؤمنين بالمسيح- الموحدين عذاباً شديداً، ثم انقلب فجأةً، وأعلن أنه كان سائراً إلى دمشق لتعذيب المسيحيين، وإذا بالنور يخاطبه من السماء -وهي خرافة- ويقول له: أنا ابن الله أو نحو ذلك، فكيف وإلى متى تضطهد أتباعي؟! قال: فعرفت أنه المسيح، فرجعت وآمنت.
وبدأ يدعو إلى المسيحية، فانقسم الناس تجاهه إلى قسمين:
أما المضطهدون ففرحوا لأن الاضطهاد رفع، فهذا المضطهد تحول إلى معين وإلى داعية، فكان هذا شيئاً رائعاً بالنسبة لهم، وأما الذين هم على العقيدة الصحيحة، فتعجبوا أن هذا الرجل يرى هذه الرؤية-كما يزعم- من السماء، وأصبح يدعو إلى دين كامل، ليس هو الذي عرفوه عن المسيح ولا الذي في الإنجيل، فبدأ يبرمج ويمنهج، ويشرع تشريعاً من عنده، فيقول: هذا يجوز وهذا لا يجوز، وأخذ يرسل الرسل الذين يسمونهم رسلاً في الإنجيل (العهد الجديد)، فبعث هذا إلى الحبشة، وهذا إلى قبرص، وهذا إلى الإسكندرية، وبدأ ينظم لهم الدعوة بشكلٍ عجيب!!
كيف هذا؟! ومن أين أخذ هذا الدين؟! ومن أين جاء به؟! وهكذا ظلت المعركة قائمة على أشدها.
ثم كُتبت الأناجيل، وأقدم نص موجود للإنجيل كُتب عام (209م) وإذا كان المسيح عليه السلام رفعه الله عز وجل، وهو يبلغ الثالثة والثلاثين -كما يقولون- ولعلها تكون فوق الأربعين والله أعلم.
المهم أنه بعد المائتين كُتب أول إنجيل، وهو عبارة عن سيرة رآها صاحبها، قال: عندما رأيت الناس يكتبون عما سمعوا عن الكلمة -أي المسيح- فأحببت أن أكتب إليك ياعزيزي ساوفيلد بما رأيت وبما سمعت وبما بلغني من الناس الذين عاشروا الكلمة -أي المسيح- فكان مؤلف الإنجيل يقول: ''أنا إنسان أكتب أشياء بلغتني سمعتها عن المسيح'' وما قال: إنها كتاب الله، ولا أنزلها الله.. أبداً. وهذا موجود الآن بنصه في مقدمة الإنجيل.
وفي القرن الثالث -حوالي الثلاثمائة- كتب إنجيل يوحنا وهو أخطر الأناجيل، ونُص فيه بصراحة على أن الآلهة ثلاثة! أي: عندما تبنت الدولة رسمياً عقيدة بولس، وضع إنجيل يوحنا الذي يتبنى أيضاً بشكلٍ قطعي أن التكليف هو الشرك والعبادة، ثم استمرت البدع والانحرافات طويلاً.
وكانت ديانةٍ -كما سماها الغربيون- تركيبية، ركبت من فلسفات عديدة لا مجال للتفصيل فيها، أخذت الثالوث من الأفلاطونية الحديثة، وأخذت قضية الصليب الذي يصلب فداءً عن غيره من المسرائية وهي دين وثني كان يدين به بولس، وأخذت أيضاً من التوراة المحرفة بعض الأمور، وهم يرجعون إليها كشريعة لهم، وهكذا تجمعت خرافاتٌ وأفكارٌ وأراءٌ فلسفيةٌ، وسمي الدين الرسمي للدولة باسم المسيحية.
وأكبر رجل -كما قلنا- بولس اليهودي ومن جاء بعده، واعتنقت أوروبا هذا الدين، واستمرت عليه .
ثم بُعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكتب -كما نعلم- كتابه إلى هرقل عظيم الروم، وذكر فيه الآية من سورة آل عمران: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64].
وأنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قوله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31] وأنزل الله عز وجل أيضاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34].
وكثير من الآيات؛ وخاصةً في سورة آل عمران التي نزل فيها أكثر من ثمانين آية في شأن نصارى نجران، وهي تعالج قضية انحراف النصرانية.
وعندما بُعِثَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت أوروبا مشركة؛ لأنها لا تقيم حكم الله ولا دينه، فهي تعبد المسيح وهو بشر وليس إلهاً، وتعبد الأحبار والرهبان، وذلك شرك في الاتباع، وكانت تتبع القوانين الرومانية التي سنها جوستنيان وغيره، بل كانت مشركة في كل أمورها حتى في قضايا الأخلاق، فكانت حتى الأخلاق مستمدة من الأعراف، أو مستمدة مما يضعه الأحبار والكهان ورجال الدين.
بدعة الرهبنة
هذه الرهبانية تفصل علنياً وواقعياً بين الدين والواقع، وبين الدين والحياة، فوضعت المسيحية المحرفة الجزئية الإنسان بين طريقين لا خيار له فيهما: إما أن تدخل في ملكوت الله، فتذهب إلى الدير تتعبد عبادة صارمة مقننة، يشرف عليها رجالٌ غلاظٌ شداد، يبتدعون ما شاءوا، ويفرضونه بالقوة: كذا كذا ترنيمة، وكذا كذا ترديده، وكذا من العشاء الرباني... إلخ!
وغيرها من الخرافات التي يُملُونها على دينهم إملاءً، ومن أراد الدنيا فليطرد من ملكوت الله؛ لأنه يريد الدنيا -ويريد التزوج، وهو أمرٌ ترفع عنه المسيح ويترفع عنه رجال الكنيسة- ويريد أن يحرث الأرض -كما كان حال الشعوب الأوروبية- وهذا شغل دنيوي حقير، فالرجل الذي يعبد الله يأتيه الرزق وهو في الدير، تأتيه الهبات، وتأتيه الصدقات، وليس محتاجاً إلى أحد، فهي جبرية بالمعنى الإسلامي، فالكنيسة شرعت مع الرهبانية جبريةً معينة.
ركود الحياة الأوروبية
ومرت قرون والحياة ثابتة راكدة، ومرت على أوروبا فترة ظلمات أشد عندما جاء ما يسمى النورمانديون -شعوب الشمال- وكلها شعوب همجية، فاحلتوا روما، أي احتلوا الكنيسة الغربية ونقضوها، وأما الكنيسة الشرقية في القسطنطينية فبقيت نصرانية، أما الكنسية الغربية ودولها مثل إيطاليا، وفرنسا، وألمانيا، وبريطانيا؛ فبقيت قروناً طويلة لا تعرف كتابةً ولا علماً على الإطلاق، وكل رأس مالها من العلم كتب كتبت قبل الغزو، يقرؤها بعض الآباء (الكرادنة) فقد كانت مفلسةً تماماً من العلم.
ويعتبر الأوروبيون بداية التاريخ الحديث هو فتح القسطنطينية، لماذا؟!
هل ذلك يعتبر لنا نحن لأننا فتحنا القسطنطينية؟!
لا!! إنما لأنهم يقولون: إنه عندما فتحت القسطنطينية، وأعطى محمد الفاتح الأمان لمن فيها من النصارى، هاجر العلماء الذين كانوا موجودين في القسطنطينية إلى روما وإلى الكنيسة الغربية، واستبشر أصحاب الكنسية الغربية بالقضاء على الكنيسة الشرقية، وإن كان المسلمون هم الذين أخذوها، فانتقلوا إلى هناك، فقالوا: بدأ العلم وبدأت الحضارة، والحقيقة أن أوروبا تريد ألا يكون لنا فضل عليهم.
وهناك قضية انتقال الحضارة الإسلامية إلى أوروبا عبر الأندلس، وعبر إيطاليا، وكانت جامعات إيطاليا تدرس باللغة العربية، وكان فريدريك الثاني أكبر امبراطور في العصور الوسطى الأوروبية -كما هو معروف- وهو الذي كان في عصر الكامل الأيوبي، وجاء إلى الكامل الأيوبي، وتقابلا في فلسطين وتخاطباً باللغة العربية الفصحى بدون مترجم، لأن فريدريك تعلم اللغة العربية، وكان من المفروض أن أي مثقف لا بد أن يتعلم اللغة العربية، وإلا فلا يعتبر مثقفاً، فكان جنوب إيطاليا مركزاً لانتقال الحضارة الإسلامية إلى أوروبا.
ومع ذلك لا تعترف أوروبا بهذا، ولا يهمنا أن تعترف، فهو أمر طبيعي، لكن الشيء العجيب أن أوروبا جاءها الإسلام بحضارة كاملة، وتراث علمي كامل، فاختارت رجلاً هو الآن عندهم أعظم رجلٍ في فكرهم من غير الأوروبيين، وهو ابن رشد الذي يسمونه أَفِيروس، وكيف لا وهو الرجل الذي جاء بكتب أرسطو وترجمها؟!!
فهذا هو الانتقاء الذي انتقته أوروبا، ونحن أخذنا علمانيتها كاملةً ولم ننتق!
وبدأ عندهم ما يسمى بالعلوم الإنسانية، والتسمية نفسها -مع الأسف نحن نقلناها- سميت لأن العلم كان من وضع رجال الدين، كانوا يضغطون على العلماء، ويتحكمون في كل شيء، وكان العلم هو ما يقوله رجل الدين، سواء حدثنا عن الأرض أم عن الكون أم عن التشريع، كما قال تعالى: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31] فكل ما يقوله الحبر أو الكاهن فهو الدين والعلم.
أما الذين ارتدوا إلى الجاهلية الإغريقية فقد جاءوا بالفكر الإنساني كمقابل للفكر أو العلم اللاهوتي، وقالوا: هذا فكر إنساني، وهو يطلق على علم الاجتماع، وعلم النفس.
وهذه العلوم -حتى هذا الوقت- لا تزال في أوروبا وقد استوردناها منهم، وفي كثير منها نظريات تتصادم مع الإسلام، وفي الغالب لا نجد كُتَّاباً مسلمين متخصصين يكتبون هذه القضايا من خلال الإسلام.
وبدأ ما يسمى بعصر النهضة وبدأ الصراع بين الدين وبين الفكر الإنساني كما يسمونه.
الصدام بين العلم والكنيسة
فإن مجال النظريات الكونية هو العقل، قال تعالى: قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ [يونس:101] قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ [الأنعام:11] والآيات كثيرة ومعروفة.
فالنظر في الكون هو من شأن الإنسان ومن شأن العقل، ولكن النظر في الإنسان ونفسه واجتماعه وتشريعاته، فهذا ليس من شأن البشر، فقد قدر الله عز وجل أن أول ما يصطدم مع خرافات النصارى هو النظريات الكونية، فظهرت التجارب العلمية قليلاً قليلاً، كان منهم جاليليو الذي قال -وهذه كلمة ليست سهلة عندهم-: (إنَّ الأرض تدور) فيترتب على ذلك مصائب كثيرة جداً.
وحتى ندرك الفرق بين النظرية ذاتها في الإسلام -صحت أم لم تصح- وبينها في دينهم، أنه إذا بطلت الخرافة؛ فمن الطبيعي أن ينتهي الدين الذي يحمل هذه الخرافة، لكن دين الله عز وجل وحي منزل كما قال تعالى: قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ [الأنبياء:45] والجانب العلمي البشري منه متروك للإنسان، فليخطئ الناس إذا قالوا: تدور مثلاً، أو قالوا: لا تدور، فهذا لا يمس الدين نفسه، لكن رجال الكنيسة شعروا بأنَّ مجرد أية نظرية تخرج عن غير ما قرروه هم، أنَّ هذا بداية الخروج على الكنيسة، ولو خرج الآن شبراً، فسيصل بعد ذلك إلى ذراع، ثم سيكون الخروج الكلي وهو ما حصل فعلاً! فبدءوا بتعذيب جاليليو، حنى قتلوه في الأخير.
ثم جاء رجل كان له دور أخطر وهو كوبرنيك وقال: ''إن مركز الكون هي الشمس، وأن الأرض تدور، وهي كوكبٌ تابعٌ للشمس'' وهو قد قرأها في كتب قديمة، وطالع فيها كثيراً عن علماء المسلمين حيث ذكروا حجم الشمس وأنها أكبر من الأرض -وهذا معروف ولا مجال الآن لذكره- المهم أنَّه قال هذه الحقيقة، فقال أعضاء الكنيسة: لو قلنا: إن الأرض كروية، لكان الناس الذين في النصف الثاني من الأرض يمشون وأرجلهم فوق، وهذه أفكار شيطانية!
الغريب أن كوبرنيك نفسه كان قسيساً! وكذلك نلاحظ أن أبطال أوروبا في الفكر أكثرهم كانوا قسيسين وأبناء قساوسة؛ وذلك لأن السيطرة العامة على أي شيء اسمه العلم أو الكتابة كانت بيد الكنيسة، ولذلك لا يتخرج إنسان متعلم إلا وهو قد تربى في دير أو في كنيسة.
ولم يكتفوا بذلك؛ بل جاءوا بهذا القسيس العاق كوبرنيك فهددوه بالتعذيب والقتل فاعترف أمامهم بأنَّ هذه فكرة أوحى له الشيطان -لعنه الله- بأن الشمس مركز الكون، وإنما الشيطان هو الذي سوَّل له فكتب ما كتب! ولا زال هذا الكتاب محفوظاً وهو علمي على قدر عصرهم، هكذا اضطر أن يعترف في المحضر: أن الشيطان جاءه في النوم وأوحى إليه بذلك وها هو يتوب ويعود إلى الإيمان والدين!
فهذه كانت مرحلة مهمة، ثم تتالت بعدها المراحل فتطور الأمر -لأن الخرافة لا تثبت- بعد كوبرنيك، وجاء نيوتن، ونظريته بسيطة وهي: نظرية الجاذبية، وهي مبسطة ومعروفة لنا جميعاً بأن الكائنات أو الكواكب جميعاً تتماسك بفعل الجاذبية، فهذه نظرية ليس فيها إشكال، ولا يترتب عليها أية إساءة للدين، وهو تفكير عقلي وطبيعي، فنظرية نيوتن نظرية بشرية لا إشكال فيها، إلا أن الكنيسة اعتبرت هذه خارقة أعظم من مصيبة كوبرنيك، وأعلنوا في منشورات وزعوها في طول أوروبا وعرضها أن هذا ملحد وكافر... الخ.
بينما هو يعلن أنه مؤمن بالله وأن هذا لا يتعارض مع الإيمان، المهم أنه أعطى ما يسمى تفسيراً فهو لاحظ أنَّ الكون متناسق ومستقيم بطريقة ميكانيكية.
الاستغلال اليهودي للصراع بين العلم والكنيسة
هذه القضية شغلت كثيراً من علماء أوروبا الهاربين من الكنيسة، فبدأ الهجوم على الدين ولكن بطريقة الهجوم على رجال الدين، فإنه لم يكن بإمكانهم في ذلك الوقت أن يهاجموا الدين، أي أن يهاجموا الإنجيل.
ومعروف في الأدب الأوربي أن القصص والأعمال الأدبية كثيرة وموضوعاتها تتمحور في أمرين:
الأمر الأول: رجل الدين الذي يتظاهر بالدين والخشوع في الدير، ويبكي ويقرأ الإنجيل، ولكنه في السر يرتكب الفواحش، ويزني مع الراهبات، ويأكل الربا، ويفعل الموبقات إن عادة الناس أنهم يقرءون الأدب لأنه يثير النـزعة الإنسانية -كما يسمونها- فيقرءون الأعمال الأدبية، فتعطي ردة فعل وتصوراً معيناً -لكن ليس تصوراً علمياً ضد الدين- وإنما هو ضد رجال الدين.
الأمر الثاني: العطف على البغايا! وهذا أصبح منهجاً معروفاً في الأدب الأوروبي، فهناك أعمال أدبية كثيرة معروفة موضوعها المرأة البغي التي لجأت إلى البغاء، نتيجة ظروف اجتماعية قاهرة وأوضاع سيئة ومشاكل، لكن مع أنها بغي وأنها تضحي بعرضها وشرفها لمن شاء، لكنها محترمة لأنها لا تسرق، وأخلاقها ومعاملاتها طيبة، وكذا وكذا، هذه الصورة تعرض مقابل ما يعلمه الناس جميعاً -وأولهم الكرادنة والقساوسة- عما يدور في الأديرة من الفواحش ومن الموبقات!
والذين درسوا الأدب الإنجليزي والعربي من مُجَّان شعراء العرب كانوا يدخلون الأديرة فيجدون هناك الملذات والشهوات والمحرمات والموبقات والعياذ بالله!
وكذلك في أوروبا عندما جرت حروب بين البروتستانت والكاثوليك كان البروتستانت يدخلون إلى بعض الأديرة ويخرجون منها رفات وعظام أطفال الزنى -المولودين بالزنى- الذين رمتهم الراهبات والقساوسة تحت الأرض، فأخرجها البروتستانت ليبرهنوا على انحراف الكاثوليك، وكأنهم هم ليسوا منحرفين!
فالعطف على البغايا أيضاً كان اتجاهاً في هذه المرحلة ومن أشهر هذه الأعمال كتابات الرجل الأوروبي ديجرو الفرنسي الذي كتب دائرة المعارف لتحل محل الإنجيل، وكان ذلك في القرن الثامن عشر، وأما من مضى فكتبوها دائرة معارف عامة ليستغنوا عن علم اللاهوت بها، وديجرو هذا له قصة كبيرة جداً اسمها الراهبة، وسميت بعد ذلك المتدينة، وهناك أعمال كثيرة من هذا القبيل.
فهناك الاتجاه الإنساني أو الأدبي أو الاجتماعي يسير مع الصراع العلمي بين العلم وبين الكنيسة، حتى جاءت الثورتان المتقاربتان: الثورة الفرنسية وهي ثورة بالمعنى الصحيح، والثورة الصناعية.
الإعلان الرسمي للعلمانية
وكان عند رجال الدين أن أي شيء يخالف الوحي فهو خرافة، فخرافة دارون هذه جاءت نتيجة -كما ذكرنا- ما قاله نيوتن، وهي أن دارون جاء بنظرية ميكانيكية عن الكون، فهل نستطيع أن نأتي بنظرية ميكانيكية عن الإنسان؟ قد يقول قائل: نيوتن فسر كيفية أن الأجرام تتناسق في السماء، ولا يمنع أن يكون الذي جعلها على هذه الكيفية هو الله، فلماذا لم يقل النصارى: إن الله خلق الإنسان كما أراد، لكن عملية خلق الحيوانات جميعاً أو السجل الجيولوجي كله من أوله إلى آخره، أراد الله أن يكون الخلق متطوراً بهذا الشكل -مثلاً- في داخل نطاق النظرة الأوربية، لِـمَ لـَمْ يحصل هذا؟
نأتي هنا إلى قضية هامة وهي أن في الإسلام، أن آدم عليه السلام أول الخلق، وأن جميع الأنبياء هم من ذريته، ولا إشكال في هذا الموضوع، لكن عند الكنيسة هذه القضية خطيرة جداً، لماذا؟ لأن الدين النصراني عندهم فقط قضية الصلب والفداء التي سببها خطيئة آدم، والخطيئة أنه أكل من الشجرة، ولكن الله -تعالى عن ذلك علواً كبيراً- ضحى بابنه الوحيد ليكفر عن الجنس الذكري من هذه الخطيئة، فأنزل ابنه وقتل -تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً- لكن إذا قلنا كما تقوله نظرية دارون: أن الإنسان تطور تطوراً طبيعياً، وظهر ووجد بشكل تلقائي من الخلية إلى الكائنات العضوية واللافقاريات إلى القرد إلى شكل إنسان، كما تقول النظرية حلقة مقطوعة، كان الإنسان على هذا الكلام ليس هناك آدم، وإذا لم يكن هناك آدم فالمصيبة أنه إذاً: ليس هناك خطيئة، وليس هناك صلب، وليس هناك فداء.
إذاً: فمن حق الكنيسة -من وجهة نظرها- أن تستميت الاستماتة الكاملة في دفع النظرية -نظرية دارون- لأنها تهدم بها المسيحية هدماً تاماً، فإن الاعتقاد بأنه لم يوجد آدم معناه أنه لا يوجد مسيح ولا يوجد صلب ولا يوجد فداء، إذاً: ما بقي من الدين -دين النصارى- شيء.
فترتب على هذا أن الكنيسة قاومت نظرية دارون مقاومة شديدة، وجاء الصحفيون والهدامون والعلمانيون من كل ناحية، وأشاعوا نظريته بشكل رهيب لم يحلم به دارون، وربما لم يخطر له على بال، والعجيب أن لامارك وبوتيه وعدة علماء أو باحثين -كما يسمون- حاول كل واحد منهم أن يأتي بنظرية قريبة من نظرية دارون أو مؤدية إلى نظريته إلا أنه لم يكتب لها الشيوع، لأنهم أشاروا أو ذكروا أن الله اقتضت حكمته هكذا حتى لا يفاجئوا أن يصدمهم المجتمع أو تصدمهم الكنيسة.
ونظرية التطور اعتنقتها أوروبا وعممتها على كافة الحياة؛ لأنها استندت على فكرة التطور العلمي، التي جاء بها أوجوف كوم قبل دارون بأكثر من ستين سنة، في مطلع القرن التاسع عشر، جاء وقال: '' إن العلم البشري مر بثلاثة مراحل: مرحلة الخرافة والشعر، ومرحلة الدين، ومرحلة العلم''.
هذا التطور إذا نظرنا إليه بالنظرة المنطقية، وجدنا أنه: بدأ بمرحلة الحيوان، ثم مرحلة الدين، ثم مرحلة العلم، فهذا التطور الفكري الذي تخيله أوجوف كوم، أصبح حقيقة دعمتها التجربة ودعمها المعهد، ونعرف جميعاً ماركس كيف ركب نظرية المادية من نظرية التطور لدارون وقال: بأن المجتمع يتطور من خلال مراحل الاستكش -المراحل الخمس- الشيوعية.
والشاهد أن الديمقراطية والإنسانية ونظريات علم النفس ونظريات الاجتماع كلها ركبت على هذه الخرافة، ومن هذا أن التجارب تجري على الكلاب وعلى القرود وعلى الفئران وعلى أي حيوان، ويراد أن يفعلَ بالإنسان ما طبق على الفأر أو القرد أو الضفدعة!
هكذا وصل الأمر إلى انهيار معنى الإنسانية، وهبوط هذا المعنى، وظهرت الديمقراطية نتيجة للاحتكاك الذين أحدثته الثورة الصناعية وهذه الأفكار، ونحِّي الدين تنحية كاملة، ونحيت النفس الإنسانية، وأقيمت الدولة العلمانية على منهج بشري، أي: على منهج الهوى والخرافة كما قلنا.
أرسل الله عز وجل عيسى عليه السلام بما أرسل به الأنبياء جميعاً، كما قال تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ [النحل:36] ولا يمكن أن يدعو نبي إلى الشرك أبداً، فكيف نشأ الشرك في دين النصارى؟
أول ما حدث في دين النصارى أن عيسى عليه السلام رفعه الله تعالى إليه قبل أن يقيم مجتمعاً إسلامياً، فقد بُعِثَ عليه السلام في فلسطين، وهي جزء من مستعمرات الامبراطورية الرومانية الكبيرة، وكانت الامبراطورية الرومانية لا تريد أن تتدخل في قضية العلاقة بين المسيح وبين المجتمع اليهودي الذي بعث فيه، لأن القضية قضية داخلية، والامبراطورية تحرص على أن توحد الأمة أو الولايات تحت حكمها، وهذا رجل جاء في ولايةٍ جزئية بدعوةٍ داخليةٍ محددة إلى بني إسرائيل.
ومن هنا نشأت قضيتان:
القضية الأولى: قضية أنها لم تقم دولة، وهذا ما جعل العلمانية تبدأ جذورها وبذورها في فكر القوم، فعندما لم يقم المسيح عليه السلام دولة منفصلة مستقلةٍ جهادية كما فعل النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كانت هذه بذرة تلقائية للعلمانية بلا شعور؛ أي: يمكن أن يوجد الدين ولا دعوة له ولا جهاد فيه.
والقضية الأخرى: أن تتحول هذه الديانة من قضية دعوة محلية لقومه خاصة، إلى دين الامبراطورية تحكم شعوباً كثيرة، وهي ربما كانت أكبر امبراطورية آنذاك في الأرض، هذه النقلة بعيدة جداً؛ لأن قومها الذين بعث فيهم المسيح لم يقيموها في أنفسهم، فكيف تقوم على مستوى أكبر من ذلك؟! فلا بد أن يضيق نطاق التشريع والأحكام عن استيعاب الأحكام في العالم، والله اختص محمداً صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأن دينه هو الدين الذي يهدي العالمين جميعاً، فالاعتراض ليس على كون الإنجيل لم يأت بأحكام للبشرية جميعاً، ليس هناك اعتراض على هذا إطلاقاً، ولكن أهل الإنجيل محددون بأنهم هم أهل التوراة نفسها -أي اليهود- ومع هذا كله لم يصل الدين -كما هو في الإنجيل الذي أنزله الله- إلى أوروبا، فحصل أيضاً خطأ أكبر.
وكان سبب تحريف الدين هو بولس، ولذلك نجد المؤرخين الغربيين يعرفون المسيحية فيقولون: إنها تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: المسيحية اليسوعية، أو مسيحية يسوع أي: عيسى عليه السلام، ويقولون: بدأت عام كذا وانتهت عام كذا بالتحديد، وهذه مسيحية مستقلة.
القسم الثاني: المسيحية الرسمية: سميت بالرسمية لأن قسطنطين تبناها وجعلها ديناً رسمياً للدولة، وبولس هذا رجل يهودي على الأرجح، اسمه اليهودي شاول، دخل في النصرانية ليفسدها، وكان هو -كما في رسالة أعمال الرسل المطبوع مع الأناجيل- يعذب المسيحيين -أي: المؤمنين بالمسيح- الموحدين عذاباً شديداً، ثم انقلب فجأةً، وأعلن أنه كان سائراً إلى دمشق لتعذيب المسيحيين، وإذا بالنور يخاطبه من السماء -وهي خرافة- ويقول له: أنا ابن الله أو نحو ذلك، فكيف وإلى متى تضطهد أتباعي؟! قال: فعرفت أنه المسيح، فرجعت وآمنت.
وبدأ يدعو إلى المسيحية، فانقسم الناس تجاهه إلى قسمين:
أما المضطهدون ففرحوا لأن الاضطهاد رفع، فهذا المضطهد تحول إلى معين وإلى داعية، فكان هذا شيئاً رائعاً بالنسبة لهم، وأما الذين هم على العقيدة الصحيحة، فتعجبوا أن هذا الرجل يرى هذه الرؤية-كما يزعم- من السماء، وأصبح يدعو إلى دين كامل، ليس هو الذي عرفوه عن المسيح ولا الذي في الإنجيل، فبدأ يبرمج ويمنهج، ويشرع تشريعاً من عنده، فيقول: هذا يجوز وهذا لا يجوز، وأخذ يرسل الرسل الذين يسمونهم رسلاً في الإنجيل (العهد الجديد)، فبعث هذا إلى الحبشة، وهذا إلى قبرص، وهذا إلى الإسكندرية، وبدأ ينظم لهم الدعوة بشكلٍ عجيب!!
كيف هذا؟! ومن أين أخذ هذا الدين؟! ومن أين جاء به؟! وهكذا ظلت المعركة قائمة على أشدها.
ثم كُتبت الأناجيل، وأقدم نص موجود للإنجيل كُتب عام (209م) وإذا كان المسيح عليه السلام رفعه الله عز وجل، وهو يبلغ الثالثة والثلاثين -كما يقولون- ولعلها تكون فوق الأربعين والله أعلم.
المهم أنه بعد المائتين كُتب أول إنجيل، وهو عبارة عن سيرة رآها صاحبها، قال: عندما رأيت الناس يكتبون عما سمعوا عن الكلمة -أي المسيح- فأحببت أن أكتب إليك ياعزيزي ساوفيلد بما رأيت وبما سمعت وبما بلغني من الناس الذين عاشروا الكلمة -أي المسيح- فكان مؤلف الإنجيل يقول: ''أنا إنسان أكتب أشياء بلغتني سمعتها عن المسيح'' وما قال: إنها كتاب الله، ولا أنزلها الله.. أبداً. وهذا موجود الآن بنصه في مقدمة الإنجيل.
وفي القرن الثالث -حوالي الثلاثمائة- كتب إنجيل يوحنا وهو أخطر الأناجيل، ونُص فيه بصراحة على أن الآلهة ثلاثة! أي: عندما تبنت الدولة رسمياً عقيدة بولس، وضع إنجيل يوحنا الذي يتبنى أيضاً بشكلٍ قطعي أن التكليف هو الشرك والعبادة، ثم استمرت البدع والانحرافات طويلاً.
وكانت ديانةٍ -كما سماها الغربيون- تركيبية، ركبت من فلسفات عديدة لا مجال للتفصيل فيها، أخذت الثالوث من الأفلاطونية الحديثة، وأخذت قضية الصليب الذي يصلب فداءً عن غيره من المسرائية وهي دين وثني كان يدين به بولس، وأخذت أيضاً من التوراة المحرفة بعض الأمور، وهم يرجعون إليها كشريعة لهم، وهكذا تجمعت خرافاتٌ وأفكارٌ وأراءٌ فلسفيةٌ، وسمي الدين الرسمي للدولة باسم المسيحية.
وأكبر رجل -كما قلنا- بولس اليهودي ومن جاء بعده، واعتنقت أوروبا هذا الدين، واستمرت عليه .
ثم بُعث محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وكتب -كما نعلم- كتابه إلى هرقل عظيم الروم، وذكر فيه الآية من سورة آل عمران: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران:64].
وأنزل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى قوله: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ [التوبة:31] وأنزل الله عز وجل أيضاً: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة:34].
وكثير من الآيات؛ وخاصةً في سورة آل عمران التي نزل فيها أكثر من ثمانين آية في شأن نصارى نجران، وهي تعالج قضية انحراف النصرانية.
وعندما بُعِثَ النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانت أوروبا مشركة؛ لأنها لا تقيم حكم الله ولا دينه، فهي تعبد المسيح وهو بشر وليس إلهاً، وتعبد الأحبار والرهبان، وذلك شرك في الاتباع، وكانت تتبع القوانين الرومانية التي سنها جوستنيان وغيره، بل كانت مشركة في كل أمورها حتى في قضايا الأخلاق، فكانت حتى الأخلاق مستمدة من الأعراف، أو مستمدة مما يضعه الأحبار والكهان ورجال الدين.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور سفر الحوالي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
المناهج | 2599 استماع |
(قاعدة أهل السنة في معاملة الأمة) لابن تيمية | 2575 استماع |
العبر من الحروب الصليبية | 2509 استماع |
محبة الرسول صلى الله عليه وسلم | 2462 استماع |
إبلاغ الأمة بكيفية محبة الرسول | 2349 استماع |
من أعمال القلوب: (الإخلاص) | 2265 استماع |
العبر من الحروب الصليبية [1، 2] | 2261 استماع |
الممتاز في شرح بيان ابن باز | 2251 استماع |
خصائص أهل السنة والجماعة | 2198 استماع |
الشباب مسئولية من؟ | 2167 استماع |