أرشيف المقالات

وإذا رأوك إن يتخذونك إلا هزوا

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
الدفاع عن النبي صلى الله عليه وسلم في سورة الفرقان (4)
﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا ﴾
 
قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا * إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا * أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا * أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [سورة الفرقان: 41-44].
 
سبب النزول:
قال البغوي والقرطبي رحمهما الله تعالى: نزلت في أبي جهل، وقال ابن كثير رحمه الله: يخبر تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول، صلوات الله وسلامه عليه، إذا رأوه، كما قال: ﴿ وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ ﴾ [الأنبياء: 36]، يعنونه بالعيب والنقص، وقال ها هنا: ﴿ وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ﴾ [الفرقان: 41]؟ أي: على سبيل التنقص والازدراء - قبحهم الله - كما قال: ﴿ وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ ﴾ [الرعد: 32].
 
ثانيًا: تضمنت الآية بحسب ما ورد في سبب نزولها استهزاءَ أبي جهل وجماعة من المشركين بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو المبرأ من كل عيب وله من الكمال ما لم يحزه أحد من البشر، وكان استهزاؤهم كفرًا زائدًا على إنكارهم لنبوته صلى الله عليه وسلم.
 
ثالثًا: جاء دفاع الله تعالى عن نبيه صلى الله عليه وسلم، ورده ذلك الاستهزاء عليهم برد لم يخطر للمشركين على بال، وجعلهم عبرة لكل من أراد السير على ذلك القبيح من الأفعال والأقوال، وذلك بعدة أساليب، فقال تعالى مفرحًا لكل مؤمن لبيب:
1- قال تعالى حاكيًا لقولهم: ﴿ أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ﴾ [الفرقان: 41]، فالله تعالى أخبر عن المشركين أنهم متى رأوا الرسول عليه الصلاة السلام، أتوا بنوعين من الأفعال: أحدهما: أنهم يستهزئون به، وفسر ذلك الاستهزاء بقوله: ﴿ أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا ﴾، وذلك جهل عظيم؛ لأن الاستهزاء إما أن يقع بصورته أو بصفته.
أما الأول وهو صورته، فباطل؛ لأنه عليه الصلاة والسلام كان أحسن منهم صورة وخلقة، وبتقدير أنه لم يكن كذلك، لكنه عليه السلام ما كان يدعي التمييز عنهم بالصورة، بل بالحجة.
وأما الثاني وهو صفته، فباطل؛ لأنه عليه الصلاة السلام ادعى التميز عنهم في ظهور المعجز عليه دونهم، وأنهم ما قدروا على القدح في حجته ودلالته، ففي الحقيقة هم الذين يستحقون أن يهزأ بهم.
وثانيهما أنهم كانوا يقولون فيه: ﴿ إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا ﴾ [الفرقان: 42]، وذلك يدل على أمور: الأول: أنهم سموا ذلك إضلالًا؛ وذلك يدل على أنهم كانوا مبالغين في تعظيم آلهتهم، وفي استعظام صنيعه صلى الله عليه وسلم في صرفهم عنه..
الثاني: يدل هذا القول منهم على جد الرسول عليه السلام، واجتهاده في صرفهم عن عبادة الأوثان، ولولا ذلك لما قالوا: ﴿ إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا ﴾ [الفرقان: 42]، وهكذا كان عليه السلام، فإنه في أول الأمر بالغ في إيراد الدلائل والجواب عن الشبهات، وتحمل ما كانوا يفعلونه من أنواع السفاهة وسوء الأدب.
الثالث: أن هذا يدل على اعتراف القوم بأنهم لم يعترضوا البتة على دلائل الرسول صلى الله عليه وسلم، وما عارضوها إلا بمحض الجحود والتقليد; لأن قولهم: (لولا أن صبرنا عليها)، إشارة إلى الجحود والتقليد، ولو ذكروا اعتراضًا على دلائل الرسول عليه السلام، لكان ذكر ذلك أولى من ذكر مجرد الجحود والإصرار الذي هو دأب الجهال، وذلك يدل على أن القوم كانوا مقهورين تحت حجته عليه السلام، وأنه ما كان في أيديهم إلا مجرد الوقاحة.
الرابع..
ثم وصفوه بأنه كاد يضلنا عن آلهتنا لولا أن قابلناه بالجحود والإصرار، فهذا الكلام الأخير يدل على أن القوم سلموا له قوة الحجة وكمال العقل، والكلام الأول وهو السخرية والاستهزاء، لا يليق إلا بالجاهل العاجز، فالقوم لما جمعوا بين هذين الكلامين، دلَّ ذلك على أنهم كانوا كالمتحيرين في أمره.
 
2- ومما دافع الله تعالى به عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سبحانه لما حكى عنهم هذا الكلام زيف طريقتهم في ذلك ودحض شُبهتم، وذلك من ثلاثة أوجه:
أولها: قوله: ﴿ وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 42]؛ لأنهم لما وصفوه بالإضلال في قولهم: (إن كاد ليضلنا)، بيَّن تعالى أنه سيظهر لهم من المضل ومن الضال عند مشاهدة العذاب الذي لا مخلص لهم منه، فهو وعيد شديد لهم على التعامي والإعراض عن الاستدلال والنظر.
 
وقال بعضهم في قوله تعالى: ﴿ وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾: تهديد لهم على سوء أدبهم، وعلى جحودهم للحق بعد أن تبيَّن لهم؛ أي: وسوف يعلم هؤلاء الكافرون حين يرون العذاب ماثلًا أمام أعينهم، من أبعد طريقًا عن الحق، أهم أم المؤمنون؟ فالجملة الكريمة وعيد شديد لهم على استهزائهم بالرسول الكريم الذي جاءهم؛ ليخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان.
 
وثانيها: قوله تعالى: ﴿ أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا ﴾ [الفرقان: 43]، والمعنى أنه سبحانه بيَّن أن بلوغ هؤلاء في جهالتهم وإعراضهم عن الدلائل إنما كان لاستيلاء التقليد عليهم، وأنهم اتخذوا أهواءهم آلهة، فكلما دعاهم الهوى إليه انقادوا له، سواء منع الدليل منه أو لم يمنع.
والاستفهام في قوله سبحانه: ﴿ أَرَأَيْتَ ﴾ للتعجب من شناعة أحوالهم، ومن قبح تفكيرهم، والمراد بـ (هَواهُ) ما يستحسنه من تصرفات حتى ولو كانت في نهاية القبح.
والمعنى: انظر وتأمل أيها الرسول الكريم في أحوال هؤلاء الكافرين، فإنك لن ترى جهالة كجهالاتهم؛ لأنهم إذا حسن لهم هواهم شيئًا، اتخذوه إلهًا لهم، مهما كان قبحُ تصرُّفهم، فهل مثل هؤلاء يصلحون؛ لأن تهتم بأمرهم، أو تحزن لاستهزائهم؟ كلا إنهم لا يصلحون لذلك، وعليك أن تمضي في طريقك، فأنت لا تقدر على حفظهم أو كفالتهم أو هدايتهم، وإنما نحن الذين نقدر على ذلك، وسنتصرف معهم بما تقتضيه حكمتنا ومشيئتنا.
 
وثالثها: قوله: ﴿ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ﴾ [الفرقان: 44]، أم ها هنا منقطعة، معناه بل تحسب، وذلك يدل على أن هذه المذمة أشد من التي تقدمتها، وهي كونهم مسلوبي الأسماع والعقول; لأنهم لشدة عنادهم لا يصغون إلى الكلام، وإذا سمعوه لا يتفكرون فيه، فكأنه ليس لهم عقل ولا سمع البتة، فعند ذلك شبَّههم بالأنعام في عدم انتفاعهم بالكلام، وعدم إقدامهم على التدبر والتفكر، وإقبالهم على اللذات الحاضرة الحسية، وإعراضهم عن طلب السعادات الباقية العقلية.
 
3- ختم الله تعالى دفاعه عن نبيه صلى الله عليه وسلم أنه سبحانه جعل أولئك المشركين المستهزئين بسيد العالمين أقل منزلة من الأنعام التي لا تعقل، فقال سبحانه: ﴿ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا ﴾ [الفرقان: 44]، وهذا غاية الذم لهم على عدم انتفاعهم بالهداية التي أرسلها الله تعالى إليهم؛ أي: هؤلاء المشركون ليسوا إلا كالأنعام في عدم الانتفاع بما يقرع قلوبهم وأسماعهم من توجيهات حكيمة، بل هم أضل سبيلًا من الأنعام؛ لأن الأنعام تنقاد لصاحبها الذي يحسن إليها، أما هؤلاء فقد قابلوا نعم الله بالكفر والجحود.
 
فوائد:
وقد أجاب الله تعالى عن شبهة المشركين واستهزائهم بخير المرسلين صلى الله عليه وسلم، وقولهم: ﴿ أهذا الذي بعث الله رسولًا ﴾ في مواضع أُخر بجواب غير ما سبق وبأسلوب مغاير، ومن ذلك ما جاء في سورة الرعد، فقال تعالى: ﴿ وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ﴾ [الرعد: 43]، وإليك بيانها:
1- ﴿ وَيَقُولُ الذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا ﴾؛ أي: لست مرسلًا من عند الله تعالى، وقد حكى سبحانه قولهم الباطل هذا بصيغة الفعل المضارع، للإشارة إلى تكرار هذا القول منهم، ولاستحضار أحوالهم العجيبة الدالة على إصرارهم على العناد والجحود.
 
2- ﴿ قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ﴾: أمر من الله تعالى لرسوله بأن يرد عليهم بما يوقف ألسنتهم، (قل) لهم أيها الرسول الكريم: ﴿ كَفى بِاللَّهِ شَهِيدًا ﴾؛ أي تكفي شهادة الله بيني وبينكم، فهو يعلم صدق دعوتي، ويعلم كذبكم، ويعلم ذلك أيضًا: ﴿ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ ﴾؛ أي: كل من كان على علم بالكتب السماوية السابقة، فإنها قد بشَّرت برسالتي، وجاءت أوصافي فيها.
وقيل المراد بمن عنده علم الكتاب: المسلمون، وبالكتاب: القرآن.

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢