مقدمة في أصول التفسير [6]


الحلقة مفرغة

أسباب وقوع المتشابه

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.

وبعد:

قد يقع الزيغ والانحراف بسبب الخوض في اتباع المتشابه وله أسباب، مثال ذلك أن الله سبحانه وتعالى أثبت المشيئة مثل: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ[الإنسان:30], فهذا فيه إثبات المشيئة لله, وأنه لا تقع مشيئة من العبد إلا بمشيئة الله, وفي آيات أخرى إثبات المشيئة للعبد.

فيقع الزيغ هنا، وهذا من نوع المتشابه, وكذلك قوله تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ[النساء:79], فنسبت الأمر إلى الله سبحانه وتعالى, ومرة تنسب الأمر إلى العبد, فهذا يقع فيه تصادم عند بعض الناس وتشابه، وخفاء، وإشكال.

فيثبت شيئاً في الآية وينفي الشيء الآخر الذي في الآية الأخرى, فقد يقول بالجبر ويتمسك بالآيات التي تدل على ذلك المذهب, أو يقول بضد الجبر ويتمسك بالآيات التي تدل على ذاك المذهب ويترك الآيات الأخرى أو يأولها, فيقع في ذلك الانحراف.

التشابه في اتباع المجمل

فالمتشابه الذي يقع فيه زيغ هو مثل هذه الأشياء, أحياناً يأتي إجمال فيقع فيه الزيغ, مثل قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ[القصص:85], فإنه ثابت عندنا نحن أهل السنة أن عيسى عليه السلام يرجع في آخر الزمان فيأتي عبد الله بن سبأ ويقول: عجباً لمن يرى أن عيسى يرجع في آخر الزمان ولا يرى أن محمداً الذي هو أفضل منه يرجع، والله يقول: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ[القصص:85], يعني يردك إلى الدنيا, فهذا فيه زيغ بسبب اتباع المجمل؛ لأن هذا فيه إجمال: لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ[القصص:85], وأنت لما ترجع إلى تفسير السلف العالمين بالقرآن تجد أنه لم يقل منهم أحد بهذه العقيدة التي صنعها عبد الله بن سبأ .

الخلاصة: أن المتشابه الذي يكون فيه زيغ ينتبه له ولا يلزم أن نقول: هذه الآية وهذه الآية وهذه الآية, فقد تكون آيات متعددة, فيأتي إنسان ويأخذ بآية ويصرفها لما يراه هو, إما لإجمال فيها, وإما لجهل فيه، يريد أن يركب هذه العقيدة له, وإما لأنه بالفعل لم يجمع بين الآيات؛ لكي يعرف المعنى الصحيح أو العقيدة التامة في قضية من القضايا التي تكون منثورة بين الآيات.

فيقع الإشكال في مثل هذا، وهذه الآيات التي يقع فيها الإشكال مثل: لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ[القصص:85], أو ما استدلت به الخوارج، أو ما استدلت به الجهمية، أو ما استدلت به المعتزلة إلى آخره, يعلمه العلماء.

المتشابه النسبي والكلي

فيكون المعنى أن نرجع مرة أخرى نفسر على نفس المعنى: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ[آل عمران:7], يعني: لم يقع فيها خفاء ولا إشكال بل هي معروفات معلومات: هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ[آل عمران:7], لأنه ما وقع فيها خفاء: وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ[آل عمران:7], أي: وقع فيهن خفاء, بأي شكل من أشكال الخفاء، بمعنى: أن أي معنى أو أي آية لا تعرفها بالنسبة لك تكون متشابه قال: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ[آل عمران:7], فقيد ذلك بالذي في قلبه زيغ، يعني: عنده نية الانحراف: فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ[آل عمران:7], فيبحث عن الآيات التي تعينه على مذهبه فيستدل بها.

وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ[آل عمران:7], أي تفسيره: إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[آل عمران:7], يعني: الذي هو علم التفسير: يعلمه الله والراسخون في العلم، وزيادة على ذلك يقول الراسخون في العلم: آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا[آل عمران:7], بمعنى: إذا جاء مثل هذه المتشابهات التي يقع الزيغ فيها عند بعض الناس فإنه يؤمن بها هؤلاء الذين هم أول الناس في الإيمان؛ لأنهم أعلم بالكتاب: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ[آل عمران:7], وهذه مزية لهم: يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ[آل عمران:7], يعني: كل المؤمنين يؤمنون به, لكن هؤلاء هم أول من يعلم زيغ هؤلاء وفساد رأيهم، فيثبتون على الإيمان, ويَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ[آل عمران:7], يعني: آمنا بأن هذا من عند الله، وليس فيه أي تضارب ولا تعارض.

ما نطيل في هذا لأن فيه أفكار أخرى في قضية المتشابه.

لو قلنا: إن التأويل ما تؤول إليه حقيقة الشيء, فسنقول في تفسيرها هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ[آل عمران:7], أي: وما يعلم حقيقة ما تؤول إليه هذه المتشابهات إلا الله, فإذا قلنا: إن التأويل ما تؤول إليه حقيقة الشيء, فإن التشابه يكون كلياً أي: على كل الناس ولذا نقف على لفظ الجلالة, مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ[آل عمران:7], المحكمات هنا أي: المعلومات للناس عموماً، فيدخل فيها المتشابه النسبي. يعني: على القول الثاني: يدخل المتشابه النسبي في المحكمات؛ لأنها بالنسبة للبشر كلهم معلومات, مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ[آل عمران:7], أي: معلومات معروفات للناس عموماً, وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ[آل عمران:7], أي: تشابهاً كلياً لا يعلمها إلا الله.

فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ[آل عمران:7], يبحثون عن المتشابه الكلي الذي لا يعلمه إلا الله, ويريدون تفسيره قال: فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ[آل عمران:7], يعني: معرفته, وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ[آل عمران:7], يعني: حقيقة ما تؤول إليه هذه الآيات المتشابهات, إِلَّا اللهُ[آل عمران:7], هنا الوقف، ثم قال: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ[آل عمران:7], أي: نعم استئناف, يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا[آل عمران:7], وهذا هو الوجه الثاني عند السلف في التفسير.

فهذا الملخص يبين الصحيح في معنى الآية على هذا الوجه وعلى هذا الوجه, وما بعد ذلك فهو كلام كثير منه يدخل بسبب المصطلح الحادث, أعني: الإيهام الذي يحصل بسبب المصطلح الحادث, لكن لو أخذت كلام السلف نفسه والتأويل عندهم وحملته على الآية بهذا المعنى فلا يكون فيها أي إشكال.

ما تؤول إليه حقيقة الشيء أي: حقائق الأمور نفسها، كمعرفة متى وقوعها, والكيفيات التي تقع عليها, ولهذا قوله سبحانه وتعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[طه:5], عندنا في هذه الآية أمران: هل يدخلها المتشابه النسبي أو ما يدخل؟ الجواب: يدخل فيها, لكن فيما يتعلق بالمعنى, ولذا قد يأتي إنسان ويقول: ما معنى استوى؟ فنقول له: قال ابن عباس : علا وارتفع, وقال مجاهد : صعد, إلى آخره, ونفسر له بما فسر السلف، هذا معنى الاستواء في اللغة وهو قول السلف, فهذا التشابه يصير نسبياً, ونخبره بهذا.

فلو قال: كيف استوى؟ قلنا: هذا داخل في المتشابه الكلي؛ لأن الكيف مجهول بالنسبة للبشر يعني: غير معلوم.

فنلاحظ أننا لما نأتي إلى قوله سبحانه وتعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[طه:5], ففيها جانبان: جانب المعنى, وجانب الكيف, جانب المعنى معلوم فيها, فإن خفي على أحدٍ من الناس فنقول: بالنسبة له يكون متشابهاً نسبياً, ثم إذا علمه انتهى وزال التشابه, لكن كيف استوى؟ هذا لا يمكن أن يعلمه أحد, فهو متشابه كلي.

ولهذا مالك رحمه الله تعالى لما سأله السائل عن قوله تعالى: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[طه:5], قال: الاستواء معلوم, الذي هو جانب المعنى, والكيف مجهول، الذي هو جانب الكيفية، أي الذي يدخل في المتشابه الكلي.

وهذه هي طريقة السلف في جميع صفات الله سبحانه وتعالى التي أخبر عنها, فتثبت حقائق الصفات لله سبحانه وتعالى, أما الكيفيات فلا يعلمها إلا هو, المعاني معروفة، والله سبحانه وتعالى خاطبنا بما نعرف ونعلم من لغة العرب, لكن الكيفيات غير معروفة بالنسبة للبشر.

فمن تتبع هذه الكيفيات دخل في الزيغ, ولهذا كثير من المؤولة لا يأول إلا ويمر بمرحلة التشبيه, وإن شئت قل: التمثيل فهي أدق منها، فلما يأتي مثلاً إنسان إلى قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ[المائدة:64], فيقول: يداه اليد بمعنى النعمة أو بمعنى القدرة؛ لأنه يفر من التشبيه, فقبل أن يفر من التشبيه هناك مرحلة في الوسط مر بها والتي هي التمثيل، فهو أراد أن ينزه, فوقع فيما هو شر من ذلك, ولو أخذ بقول السلف لسلم.

فلما نأتي إلى تحقيق ذلك: بَلْ يَدَاهُ[المائدة:64], على قولهم: نعمتاه أو قدرتاه, لا يستقيم الكلام هنا، نعمتاه: النعمة الأولى ما هي، والنعمة الثانية ما هي؟ والقدرة الأولى ما هي، والقدرة الثانية ما هي؟ فهذا كلام مخالف للبلاغة ولهذا أستاذ البلاغة الزمخشري رد على من أول بهذا التأويل, مع أنهم شيوخه المتقدمون, هم من قال: بل نعمتاه, فيقول: هذا من ضيق العقل، ومن البعد عن البلاغة مسافة كذا, بمعنى: أنه كلام غير محقق, لكن مع ذلك ما سلمت الآية عنده من التأويل، وحملها على المجاز, لكنه رأى أن هذا النوع من المجاز الذي فسر به قوله تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ[المائدة:64], تفسيراً ضعيفاً للغاية عنده, مع أنه من كلام المعتزلة أصلاً, فلو ترجع إلى كلام عبد الجبار الهمداني ستجد الموجود في كلامه: بَلْ يَدَاهُ[المائدة:64], نعمتاه, نعمة الدنيا، ونعمة الآخرة, فانظر التأويل ومحاولة البعد إلى أشياء تحس بالفعل أن الإنسان يهرب من شيء فيقع فيما هو أشد منه، ولو قرأت كتاب متشابه القرآن فستجد فيه أمثلة كثيرة من هذا النوع؛ لأنه هو اسمه متشابه القرآن متعلق بهذه القضايا التي هي في المتشابه.

على العموم نخلص إلى أن المتشابه الكلي في الغالب يقع في كيفيات الأشياء الغيبية، وفي وقت وقوعها.

البحث عن حكمة التشريع وعلاقته بالمتشابه

هناك نوع أيضاً يشار إليه هنا، ويحرر هل يمكن أن يدخل في المتشابه أو ما يدخل، وهو البحث عن الحكمة, يعني: لماذا الله سبحانه وتعالى جعل صلاة الظهر أربع ركعات, وجعل صلاة المغرب ثلاث ركعات, هذا لا يمكن أن يعلم, ولم يأت به خبر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ومما لا يدرك بالعقل.

فتطلب هذه الحكم التي يجزم بأنه لا يعلمها إلا الله، لا شك أنه أيضاً نوع من الدخول في هذا الباب, لكن ينظر هل الآية تشير إليه أو ممكن أن يدخل في معناها أو لا، هذا يحتاج إلى تحرير.

ولا شك أنكم تعرفون أننا في عصر فيه نوع من هذه الفتنة التي هي فتنة البحث عن فلسفة التشريع, وعن حكمة التشريع، حتى تأتي أحياناً أشياء تتعجب منها وتعرف أنها غير مرادة, فيأتي بعضهم ليبين لنا فضل الصلاة، ويقول: أنه كشف على مجموعة من المرضى فالذين لا يصلون يصيبهم المرض، والذين يصلون لا يصيبهم ويأتي بكلام طويل عريض في مثل هذه القضية, حتى إنك تستغرب كيف تنزل عقول البعض إلى مثل هذه القضية, فهذا يريد أن يثبت لنا فضل الصلاة, ونحن لا نحتاج لإثبات مثل هذه القضية.

فقضية فضل الصلاة بمثل هذا الأمر أو غيرها من الأشياء التشريعية لا تحتاج إلى إثبات، ولهذا يجب أن ينتبه المسلم إلى أن الحكمة هي أمر الآمر, فالآمر هو الله, فما دام قد أمر انتهى الموضوع, وهذا هو معنى التسليم والإيمان لله سبحانه وتعالى, فليس المعنى أننا لا نؤمن بالشيء إلا إذا بحثنا عن حكمته أو عرفنا حكمته، لا, نحن أصلاً نؤمن به بدون البحث عن الحكمة.

فالله سبحانه وتعالى مثلاً لما حرم الخنزير قبل أربعة عشر قرناً والمسلمون يعرفون تحريم الخنزير، ولا أحد منهم دخل في قضية لماذا حرم أو كيف؟ ثم لما جاء هذا العصر وبدأوا يشرحون الخنزير وينظرون ما فيه، فخرجت فيه تلك الطوام من الأمراض, بدأنا نحن نقول: لهذا السبب حرم الله الخنزير, هذا قد يكون أحد الأسباب وهذا يعزز ويدل على مصداقية التحريم؛ لكن ليس هو السبب بذاته, لا يلزم أن يكون هذا هو السبب, السبب عندنا -نحن المسلمين- أمر الآمر, ولهذا عائشة رضي الله عنها لما سألتها امرأة: لماذا تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة؟ قالت: أحرورية أنتِ يعني: فيها نوع من استخدام العقل في مسائل لا يدركها الإنسان, قالت: كنا نؤمر بذلك فنفعل, إذاً أمر الآمر هو نفس الحكمة، ما نحتاج نحن كمسلمين إلى البحث أكثر من هذا.

فإن ظهرت حكم في التشريع فإنا نقبلها والله سبحانه وتعالى يلقي لعباده يوماً بعد يوم شيئاً من المعلومات. لكن ليست هي الأصل في التحريم والتحليل عندنا، أو في القبول وعدم القبول؛ لأن عندنا قضية كلية في هذا.

هذا استطراد.

الوقف والابتداء في آية آل عمران في التأويل

ونأتي الآن إلى استطرادٍ ثانٍ وهو إذا كان الآن التأويل عندنا له معنيان فندخل في علم الوقف والابتداء.

أي أنواع الوقوف يصلح للوقف في هذه الجملة، الآن عندنا التأويل بمعنى التفسير، والتأويل بمعنى: ما تؤول إليه حقيقة الشيء, وعلمنا أنه إذا كان المراد بالتأويل التفسير فيكون كل القرآن معلوماً للعلماء, وإذا كان ما تؤول إليه حقيقة الشيء، فالذي تؤول إليه حقيقة الشيء لا يعلمه إلا الله.

فإذا نظرنا في المصاحف نجد المصحف المصري كاتب ميم, وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ[آل عمران:7], يعني: وقف لازم, الذي لو وصل طرفاه لغير المرام.. ولغير معنى الكلام تماماً.

ومصحف المدينة النبوية كاتبين: قلي, يعني: الوقف أولى, فأيهما أصح بناءً على هذا؟ طبعاً لو رجعنا إلى كتب العلماء مثل الشنقيطي و ابن كثير وغيره فسنجد أنهم رجحوا أن التأويل بمعنى: ما تؤول إليه حقيقة الشيء, وأنا قد قلت: إنهما وجهان معروفان عند السلف وكلاهما حق, ما بينهما إلا مجرد ترجيح فقط، أي أن الوقوف أولى لمثل هذا المكان فتحط (الجيم) عند لفظ الجلالة أو عند: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[آل عمران:7], والمعنى أنه يجوز الوصل والوقف وفي كلا الأمرين الوقف نفسه, وهناك وقف يمكن أن يؤدي المعنيين معاً, يعني: نريد أن نؤدي المعنيين ونحرر اختلاف السلف دون أن يكون هناك ترجيح.

هذا الوقف الذي له ثلاث نقاط, نسميه وقف التعانق. وضعوا الآن في أذهانكم لو نظرتم إلى المصحف حطوها تعانقاً على الموضوع هذا, يعني: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ[آل عمران:7], ثلاث نقط, وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[آل عمران:7], ثلاث نقط.

فيكون عندنا في القراءة وجهان مبنيان على التفسير الصحيح، أيضاً أؤكد عليها؛ لأن كليهما حق, فلو قلنا: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ[آل عمران:7], يكون التأويل هنا بمعنى: التفسير.

والوقف الثاني: وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ [آل عمران:7], هنا نقف: وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ[آل عمران:7]، فيكون التأويل بمعنى: ما تؤول إليه حقيقة الشيء, والتعانق عندي أولى من هذا ومن ذاك؛ بناءً على أنه ما دام الأمر فيه قولان للسلف, فالأولى أن نختار من الوقوف ما يتوافق مع أقوالهم, وهذا أولى من اختيار (قلي) الذي فيه ترجيح قول بالأولى، وأولى من اختيار الوقف اللازم، الذي يرجح أحد المعنيين قطعاً.

ووقف التعانق في هذا الموضع لا يوجد في كتب الوقف ولم تشر إلى هذا, بالعكس كتب الوقف كالذي للسجاوندي بالذات الذي هو صاحب الوقف اللازم, كان يختار الوقف اللازم, واتبعوه بعد ذلك, وهذا اجتهاد مني.

يعني: أنا أذكر هذا من باب خبر التاريخ، وذكرت هذا المثال للشيخ عبد العزيز القاري حفظه الله، وقلت له: لماذا اخترتم الوقف الأولى هنا مع أن فيه قولين للسلف, فهو قال: لأن ابن كثير و الشنقيطي رجحوا المعنى هذا، فوضعنا (قلي) بدلاً عن الميم؛ لأنهم هم أشاروا في الرسالة ولهم رسالة في كتابة هذا المصحف, يعني: الذي هو التقرير العلمي, فنبهوا على هذا الموطن بالذات, ونبهوا لماذا خالفوا ووضعوا قلي ميم.

فأنا ذكرت له هذا، أنه أولى لكي يبقى للقارئ ويفهم أن للسلف قولين، وكلاهما حق، فلمَ لا نجعله تعانقاً, فسجله عنده يعني: ملحوظة، لكن تعرفون أن غيره صار مسئولاً عن المصحف, وقل أن يغير شيئاً في المصحف فيما يتعلق في الوقوف, ومعنى ذلك أن الوقوف اجتهادية ومبناها الاجتهاد.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه.

وبعد:

قد يقع الزيغ والانحراف بسبب الخوض في اتباع المتشابه وله أسباب، مثال ذلك أن الله سبحانه وتعالى أثبت المشيئة مثل: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللهُ[الإنسان:30], فهذا فيه إثبات المشيئة لله, وأنه لا تقع مشيئة من العبد إلا بمشيئة الله, وفي آيات أخرى إثبات المشيئة للعبد.

فيقع الزيغ هنا، وهذا من نوع المتشابه, وكذلك قوله تعالى: مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ[النساء:79], فنسبت الأمر إلى الله سبحانه وتعالى, ومرة تنسب الأمر إلى العبد, فهذا يقع فيه تصادم عند بعض الناس وتشابه، وخفاء، وإشكال.

فيثبت شيئاً في الآية وينفي الشيء الآخر الذي في الآية الأخرى, فقد يقول بالجبر ويتمسك بالآيات التي تدل على ذلك المذهب, أو يقول بضد الجبر ويتمسك بالآيات التي تدل على ذاك المذهب ويترك الآيات الأخرى أو يأولها, فيقع في ذلك الانحراف.

فالمتشابه الذي يقع فيه زيغ هو مثل هذه الأشياء, أحياناً يأتي إجمال فيقع فيه الزيغ, مثل قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ[القصص:85], فإنه ثابت عندنا نحن أهل السنة أن عيسى عليه السلام يرجع في آخر الزمان فيأتي عبد الله بن سبأ ويقول: عجباً لمن يرى أن عيسى يرجع في آخر الزمان ولا يرى أن محمداً الذي هو أفضل منه يرجع، والله يقول: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ[القصص:85], يعني يردك إلى الدنيا, فهذا فيه زيغ بسبب اتباع المجمل؛ لأن هذا فيه إجمال: لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ[القصص:85], وأنت لما ترجع إلى تفسير السلف العالمين بالقرآن تجد أنه لم يقل منهم أحد بهذه العقيدة التي صنعها عبد الله بن سبأ .

الخلاصة: أن المتشابه الذي يكون فيه زيغ ينتبه له ولا يلزم أن نقول: هذه الآية وهذه الآية وهذه الآية, فقد تكون آيات متعددة, فيأتي إنسان ويأخذ بآية ويصرفها لما يراه هو, إما لإجمال فيها, وإما لجهل فيه، يريد أن يركب هذه العقيدة له, وإما لأنه بالفعل لم يجمع بين الآيات؛ لكي يعرف المعنى الصحيح أو العقيدة التامة في قضية من القضايا التي تكون منثورة بين الآيات.

فيقع الإشكال في مثل هذا، وهذه الآيات التي يقع فيها الإشكال مثل: لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ[القصص:85], أو ما استدلت به الخوارج، أو ما استدلت به الجهمية، أو ما استدلت به المعتزلة إلى آخره, يعلمه العلماء.




استمع المزيد من صفحة د. مساعد الطيار - عنوان الحلقة اسٌتمع
مقدمة في أصول التفسير [10] 2461 استماع
مقدمة في أصول التفسير [3] 2417 استماع
مقدمة في أصول التفسير [4] 2371 استماع
مقدمة في أصول التفسير [1] 2357 استماع
مقدمة في أصول التفسير [9] 2292 استماع
مقدمة في أصول التفسير [5] 2265 استماع
مقدمة في أصول التفسير [8] 2022 استماع
مقدمة في أصول التفسير [7] 1774 استماع
مقدمة في أصول التفسير [2] 1644 استماع
مقدمة في أصول التفسير [11] 1298 استماع