مقدمة في أصول التفسير [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

وبعد: على ما يتعلق بمصطلح أصول التفسير:

أصول التفسير يعتبر علماً من حيث الكتابة فيه متأخراً، لكن مفردات هذا العلم موجودة من قبل، ومن أهم الكتب التي كتبت في أصول التفسير: رسالة شيخ الإسلام ابن تيمية وهو رحمه الله تعالى لم يجعل لها عنواناً وإنما سماها: قواعد تعين في فهم القرآن، فهي إجابة لسائل سأله عن قواعد تعين في فهم القرآن.

سنأخذ محاولة اجتهادية معاً لمعرفة ما هي أصول التفسير؟

معنى الأصل

عندما نرجع إلى لفظ الأصل في اللغة سنجد أن المدلول لهذا اللفظ يدل على أول الشيء، أو على أسفله، أو على ما يرجع إليه الشيء، ومن هذا قوله سبحانه وتعالى: أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ [إبراهيم:24]، في قراءة عبد الله قال: (أصلها ثابت في الأرض) وهذه تبين أن الأصل هو أسفل الشجرة، والفرع هو ما كان عالياً، فهذا يدل على أن الأصل المراد به في هذه الآية هو أسفل الشجرة، وهو ما ترجع إليه الشجرة، وكذلك أول الشجرة تجد أنه ينطبق عليها هذه المعاني.

كذلك قوله سبحانه وتعالى: مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا [الحشر:5]، وقوله تعالى: تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ [الصافات:64]، يعني: في أسفل الجحيم.

فإذاً: الأصل المراد به هنا: أول الشيء أو أسفله أو ما يرجع إليه الشيء.

ويقرب من معنى الأصل معنى الأساس، وكذلك معنى القاعدة، فلو سمينا أصول التفسير بأسس التفسير لصح ذلك.

أما قواعد التفسير فإنها من حيث المصطلح صارت مرتبطة بجزء من علم أصول التفسير، سواء كانت قواعد عامة تفيد في التفسير، أو القواعد الترجيحية التي تفيد في الترجيح بين أقوال المفسرين، كما سيأتي إن شاء الله بيانها مفصلاً بإذن الله.

معنى التفسير لغة

نأتي إلى التفسير وسنطيل الحديث عنه قليلاً؛ لأن الكلام عنه مهم جداً، وسيبنى عليه كثير من المعلومات التي ستأتي بعد ذلك.

عندما نرجع إلى اللغة نجد أن مصطلح التفسير يدل على البيان، والإيضاح، والشرح، وكذلك الكشف، فكلها معان تدل على التفسير، فعندما نقول مثلاً: فسر الحديث فإن المعنى: بينه، أو شرحه، أو كشف عن معناه، أو أوضح معناه .. إلى آخره.

ويلاحظ أن مصطلح التفسير صار يغلب على بيان القرآن؛ ولذلك قل أن تجد مثلاً: تفسير الحديث، لكن تجد شرح الحديث، وكذلك لا تجد تفسير أبيات الشعر لكن تجد شرح الأشعار، وإن كان في النهاية المؤدى فيها واحد، لكن هي مصطلحات صار الذهن ينصرف حينما يقال: التفسير إلى علم التفسير المرتبط ببيان القرآن.

معنى التفسير اصطلاحاً

نأتي إليه في الاصطلاح هو: تفسير القرآن، فلو جعلنا بدل لفظ (التفسير) (بيان)، فقلنا: بيان القرآن، لكان كافياً في بيان معنى التفسير، ولا نحتاج إلى أن نقول: التفسير هو بيان كلام الله المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم المتعبد بتلاوته المعجز بأقصر سورة؛ لأن هذا إطالة لا داعي لها؛ لأنه في النهاية كلام الله المنزل على محمد المتعبد بتلاوته المعجز بأقصر سورة هو القرآن، فلا نحتاج نحن إلى هذه الإطالة، فينتبه إلى أنه لا داعي لإطالة التعريف ما دام أنه يوجد شيء يدل عليه بأقصر عبارة، فنكتفي بأقصر عبارة وانتهى.

واقتصرنا على قولنا: بيان القرآن؛ لأننا ننظر إلى ما هو المراد من تفسير القرآن فتبين أن المراد منه: البيان، ففسر القرآن بمعنى: بينه، فلذا تكون أقصر عبارة هي: التفسير، بيان القرآن.

ثم هذا البيان أحياناً قد يكون بيان ألفاظ، وأحياناً يكون بيان المعنى العام، ولا شك أنه عندما تتبين الألفاظ يتبين المعنى العام، لكن أحياناً يتبين اللفظ ولا يتبين المعنى العام، فقد أعرف اللفظ من حيث اللغة لكن ما يتبين المعنى العام، أو أنه بعدما عرفت اللفظ يكون فيه أشياء أخرى تحتاج إلى بيان فلا يتبين بها معنى الآية إلا بمعرفة أشياء أخرى؛ ولهذا نقول إنه: معرفة بيان الألفاظ؛ لأن أغلب القرآن مرتبط ببيان الألفاظ، ولذلك أصبح عندنا كتب تسمى بكتب غريب القرآن، وهي تدرس ألفاظ القرآن، وتبين معناها.

هذا البيان سواء كان بيان ألفاظ أو بيان معان قد يكون بآية، يعني: تبين آية بآية، يعني: الآن نعرف ما هي المصادر لهذا البيان، وقد يكون بتفسير نبوي، وقد يكون أيضاً بسنة عامة وقد سبق ذكرها مجملاً، والتفصيل سيأتي إن شاء الله مستقبلاً، وقد يكون بسبب نزول، فقد يكون باللغة، وقد يكون بذكر قصة، وقد يكون بسبب نزول.

ولا يلزمني أحد بنوع البيان الذي يبين به، فعندما أقول لك: التفسير هو: بيان القرآن، أنا وضعت لك ضابطاً، وهو البيان.

ما هو مصدر هذا البيان؟ هل اعتمدت في البيان هذا على لغة؟ أو اعتمدت على سنة نبوية؟ أو اعتمدت على سبب نزول؟

المعلومات الموجودة في كتب التفسير وليست متعلقة بالبيان

هذه قضية المصادر التي اعتمدتها في البيان، فعندما نجعل حد التفسير هو البيان فهذا يعني: أن هناك معلومات موجودة عندنا في التفسير قد تكون خارجة عن حد البيان، فهل ذكر المفسرين لها حجة على أنها من علم التفسير؟

فمثلاً: يأتي إنسان يحتج فيقول: القرطبي ذكر كذا، فهذا من علم التفسير، أو يقول مثلاً: ابن عطية ذكر هذه القضية إذاً هي من علم التفسير.

الجواب: لا؛ لأنه ليس كل معلومة في كتب التفسير داخلة في حد البيان؛ ولهذا فتفسير الرازي وسماه هو: مفاتيح الغيب، ويسمى التفسير الكبير، يقولون عنه: فيه كل شيء إلا التفسير.

فلأنه ذكر شيئاً خارجاً عن حد البيان، اعترضوا عليه بذلك.

وسأذكر أمثلة ذكرها بعض العلماء إما اعتراضاً على بعض المفسرين كونهم أدخلوا بعض المعلومات في كتبهم وليست من التفسير، أو التنبيه على عدم دخول بعض المعلومات في التفسير.

عندي أربعة نقول، ولو بحث الإنسان فسيجد أكثر:

النقل الأول: عن ابن عطية الأندلسي، في تفسير قوله تعالى: يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ [الطلاق:1]، يقول: وطلاق النساء حل عصمتهن، ثم قال: وصور ذلك وتنويعه مما لا يختص بالتفسير، يعني: صور الطلاق، أنواع الطلاق مما لا يختص بالتفسير، لكن ستجد أن بعض المفسرين يستطرد ويذكر هذه القضايا، فهل تعد هذه المسائل من علم التفسير؟

يقول ابن عطية: إن هذه المسائل لا تدخل في علم التفسير.

المثال الثاني: أبو حيان الأندلسي، له أكثر من موطن، وهذا أحد المواطن التي ذكرها في قوله سبحانه وتعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، يقول: وقد تعرض الزمخشري هاهنا لذكر فائدة تفصيل القرآن وتقطيعه سوراً، قال: وليس ذلك من علم التفسير وإنما هو من فوائد التفصيل والتسوير.

فالفائدة التي ذكرها الزمخشري في كتابه الكشاف وهو كتاب في التفسير هذه الفائدة يقول أبو حيان عنها: ليست من علم التفسير.

مثال عند الشوكاني في أول سورة الأسرى لما ذكر وأخرج، ومنهجه أنه يبدأ بالتفسير بما يراه هو (بالدراية) ثم يذكر الرواية، في آخر هذا المبحث في أول آية يقول: واعلم أنه قد أطال كثير من المفسرين كـابن كثير والسيوطي وغيرهم في هذا الموضع بذكر الأحاديث الواردة في الإسراء على اختلاف ألفاظها، وليس في ذلك كثير فائدة فهي معروفة في موضعها من كتب الحديث، وهكذا أطالوا بذكر فضائل المسجد الحرام والمسجد الأقصى وهو مبحث آخر، والمقصود في كتب التفسير ما يتعلق بتفسير ألفاظ الكتاب العزيز، وذكر أسباب النزول، وبيان ما يؤخذ منه من المسائل الشرعية، وما عدا ذلك فهو فضلة لا تدعو إليه الحاجة.

إذاً الشوكاني كأنه يريد أن يرشدنا إلى مفهوم التفسير، فما يذكره ابن كثير ويستطرد فيه لا شك أن له سبباً؛ لأن ابن كثير محدث، وكل عالم يؤثر عليه علمه في ذكر المعلومات التفسيرية التي يذكرها في كتابه، فـابن كثير ؛ لأنه محدث تجد في كتابه: حديث آخر، حديث آخر، ثم يورده بالإسناد من كتاب صاحبه، فيقول مثلاً: أخرجه أبو داود ويذكر سند أبي داود ، و الترمذي ويذكر سند الترمذي وهكذا.

المثال الأخير: لـالطاهر بن عاشور في تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ [المجادلة:2] يقول: ولم يشر القرآن إلى اسم الظهر ولا إلى اسم الأم إلا مراعاة للصيغة المتعارفة عليها بين الناس يومئذٍ بحيث لا ينتقل الحكم من الظهار إلى صيغة الطلاق إلا إذا تجرد من هذه الكلمات الثلاث تجرداً واضحاً، ثم قال: والصور عديدة، يعني: صور الظهار، وليست الإحاطة بها مفيدة، وذلك من مجال الفتوى وليست من مهيع التفسير، يعني: من طريق التفسير ومنهجه.

هذه النقول الأربعة من أربعة من المفسرين تبين لنا إما اعتراضاً وإما تنبيهاً حد التفسير، أو أن بعض المعلومات لا تدخل في التفسير.

فنفهم من هذه النصوص أن من كتب في التفسير قد يدخل من المعلومات ما ليس من علم التفسير، والضابط في معرفة ما هو من علم التفسير وما ليس من علم التفسير هو ضابط البيان، فالمعلومة إذا كان فيها بيان عن المعنى فإنها من التفسير، وإذا لم يكن فيها بيان عن المعنى فإنها ليست من التفسير.

مثال على ما يدخل في التفسير وما لا يدخل

لنأخذ مثالاً يتضح به ذلك، وسنرجع إلى ذكر أمثلة أخرى إن يسر الله.

في قوله سبحانه وتعالى: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ [الإخلاص:1-2].

معنى الصمد السيد الذي كمل في سؤدده، وهذا أحد وجوه التفسير فيها، فلنأخذ هذا الوجه الآن، عندما أقول: الله هو السيد الذي كمل في سؤدده، المعنى أتضح، فبيان معنى هذه اللفظة هو التفسير.

وإعراب الصمد بأنه خبر، أو يكون خبراً لمبتدأ محذوف تقديره هو الله، على حسب التقديرات الموجودة في كتب الأعاريب.

فعندما أعرف أن الصمد خبر فليس لها أثر في البيان بمعنى: أنك لو جهلت هل الصمد خبر، وعرفت أن الصمد بمعنى: السيد الذي كمل في سؤدده، تم التفسير فجهلك بوجه الإعراب هذا لم يكن له أي أثر في معرفة المعنى، فتكون كثير من وجوه الإعراب لا أثر لها في المعنى.

فهذه المعلومة ليست من علم التفسير، لكن بيان معنى لفظة (الصمد) من علم التفسير.

نأخذ مثالاً آخر: في قوله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ [التوبة:37]، حين نرجع إلى اللغة نجد أن مادة: (نسيء) بمعنى: أخر، ولا يتبين المعنى حين نقول: إنما التأخير زيادة في الكفر. ولا شك أن معرفة (النسيء) بأنه التأخير مفيد لكن ما تبين المعنى، إذاً نحتاج إلى شيء آخر وهو معرفة قصة النسيء، فعندما أعرف قصة النسيء يتبين لي معنى الآية كاملاً.

فالنسيء هو: أن يؤخر شهر الله الحرام إلى صفر، حيث يقوم قائم العرب من كبارهم، ثم يعرف بنفسه في يوم الحج الأكبر عندهم، ثم يقول: أنا فلان بن فلان وإنني قد أخرت شهر الله المحرم هذه السنة إلى صفر؛ لكي يغزوا فيه؛ لأنه يأتيه شهر ذو القعدة وذو الحجة وهم مازالوا في حرم، ثم يأتيهم محرم ثلاثة أشهر متتابعات، فكانت تؤثر عليهم، وهم أهل غزاة فينسئون هذا الشهر المحرم ليغزوا فيه، فهذا عده الله سبحانه وتعالى كفراً، فيكون المعنى: إن تأخير الشهر الحرام إلى شهر آخر من الكفر، وبهذا يتبين المعنى.

فتبين المعنى هنا بقصة آية، وهكذا قس عليها غيرها من مصادر البيان.

فأحياناً يكون البيان بآية، وأحياناً يكون البيان بتفسير نبوي، وأحياناً يكون البيان بسنة عامة، وأحياناً يكون البيان بقول صحابي .. إلى آخره.

فإذاً ليس المقصود هنا أننا ننظر ما هي الأنواع ونحددها؟ بل عندنا هذا الضابط وهو البيان فنقيس عليه.

سأذكر مثالين من تعريفات بعض العلماء، وهناك تعريفات أخرى لكن ذكرت هذين المثالين؛ لكي أنبه إلى قضية وهي: أن بعض العلماء رحمهم الله تعالى لما أرادوا أن يعرفوا التفسير نظروا إلى جملة العلوم التي تتبطنها كتب التفسير، فحاولوا أن يعرفوه على هذا.

ومن أشهر التعريفات وينقله كثير من المعاصرين تعريف أبي حيان الأندلسي ، يقول عن علم التفسير: التفسير علم يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن ومدلولاتها، وأحكامها الإفرادية والتركيبية، ومعانيها التي تحمل عليها حال التركيب، وتتمات ذلك، فهو تعريف طويل يحتاج إلى تفكيك، وهو رحمه الله تعالى قد شرح هذه الجمل.

وسأذكر من شرحه موضعين:

الأول: قال: (وقولنا: يبحث فيه عن كيفية النطق بألفاظ القرآن)، قال: هذا علم القراءات.

السؤال الذي يرد: هل علم القراءات مما يحتاجه المفسر بحيث أنه لو جهل علم القراءات لأثر على التفسير؟

الجواب: هناك شيء ليس من علم التفسير في علم القراءات وهو وجوب الأداء، وهناك جزء آخر مرتبط بعلم التفسير كاختلاف القراءة المؤثر في المعنى.

فكيفية النطق بألفاظ القرآن إن كان يريد رحمه الله تعالى وجوه الأداء عموماً فهذا من مهمة المقرئ وليست من مهمة المفسر، فليس من مهمة المفسر أن يأتي إلى قوله سبحانه وتعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ [المجادلة:1]، ويقول: اختلف القراء في هذا على وجهين:

الوجه الأول: إظهار (قد سمع).

والوجه الثاني: إدغام (قد سمع)، لأنه لا يتأثر المعنى بهذا الاختلاف.

أما عندما تأتي إلى آية إذا اختلفت القراءة فيها اختلف المعنى، كقراءة: وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ [الكهف:42]، والقراءة الأخرى وهي قراءة أهل مكة: (وأحيط بثُمره) الثُمر كما يقول مجاهد : الذهب والفضة، يعني: المال المثمر، والثمر هو ثمر الشجر المعروف، فالمعنى هنا اختلف، فمعرفة المفسر بوجوه القراءة المؤثرة في المعنى من علم التفسير.

الخلاصة: وجوه القراءة التي تتأثر بالمعنى أو تختلف بالمعنى تدخل في علم التفسير، أما غير ذلك مما يرتبط ببيان إعراب القراءات، أو بيان أين يقف القارئ أو لا يقف أو بيان طريقة الأداء فهذه كلها خارجة عن علم التفسير؛ ولهذا لو نبه على أن علم القراءات يؤخذ منه فقط للمفسر ما يرتبط بالمعنى لكان أولى.

سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت، نستغفرك ونتوب إليك.