عرض كتاب الإتقان (80) - النوع الثامن والسبعون في معرفة شروط المفسر وآدابه [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين, نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين, أما بعد:

فسنأخذ النوع الثامن والسبعين من كتاب الإتقان في علوم القرآن, في معرفة شروط المفسر وآدابه.

هذا الموضوع كما سبق أن ذكرت, والموضوعات الآتية كلها متعلقة بعلم التفسير, وهذا النوع يعتبر من أصول التفسير, وجل ما طرحه السيوطي رحمه الله تعالى في شروط المفسر وآدابه مرتبطة بهذا العلم: الذي هو علم أصول التفسير.

ولم يذكر هنا من ألف في هذا الموضوع؛ لأن موضوع الشروط والآداب موضوع جزئي في علم عام, ولكن يوجد كتابات متفرقة للعلماء فيما يتعلق بشروط المفسر, وبعض العلماء يسميها العلوم التي يحتاج إليها المفسر, وهي التي اصطلح عليها عند بعضهم بمسمى الشروط, وتفاوت حديث العلماء عنها كثيراً, بدءاً بالسلف رحمهم الله تعالى من الصحابة والتابعين وأتباعهم, حتى عصرنا الحاضر، وقد صدرت رسالة علمية في شروط المفسر وآدابه.

الموارد التي يحتاجها المفسر

فنجد مثلاً علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه لما دخل المسجد ورأى قاصاً يقص, فقال له: أعرفت الناسخ والمنسوخ قال: لا, قال: هلكت وأهلكت. فهذا فيه إشارة إلى حاجة من يتكلم في كتاب الله بمعرفة الناسخ والمنسوخ, والناسخ والمنسوخ كما سبق تقريره في مصطلح علي بن أبي طالب المراد به: رفع أي جزء من الخبر أو الحكم الذي في الآية, الذي هو: النسخ العام عند السلف, بتخصيص العام وتقييد المطلق وبيان المجمل والاستثناء, فهذا كله يسمى النسخ عندهم, ويضاف إليه النسخ الاصطلاحي المعروف الذي هو: رفع الحكم الشرعي.

أيضاً نجد مجاهداً يقول: لا يحل لأحد أن يتكلم في كتاب الله وهو غير عالم بلغات العرب. فكأنه يشترط المعرفة بلغة العرب, أما الشعبي فيمر على أبي صالح باذام ويعرك أذنه ويقول: تفسر القرآن وأنت لا تقرأه، أي: لا تحفظه، فكأنه يشترط على المفسر أن يكون حافظاً للقرآن.

ولو تتبعنا كلام السلف من الصحابة والتابعين وأتباعهم فسنجد أن عندنا مجموعة من العلوم التي اشترطوها لمن أراد أن يفسر كلام الله سبحانه وتعالى.

وأول من اجتهد في جمع مجموعة من هذه الشروط هو يحيى بن سلام في مقدمة تفسيره, حيث ذكر عشرة علوم يحتاجها المفسر, ولكنه ذكرها مطلقةً مجردة, ثم جاء بعده الراغب الأصفهاني المتوفى بعيد الأربعمائة على الصحيح, وذكر خمسة عشر علماً في مقدمة تفسيره, ثم كل من جاء بعده فهو عالة عليه في تنظيمه لهذه العلوم, كـالأصفهاني المتأخر المتوفى في القرن التاسع, وقد اعتمد في مقدماته على مقدمات الراغب , وقد استفاد منه في العلوم التي يحتاجها المفسر, وكذلك استفاد السيوطي من كلام الراغب الأصفهاني في مقدمة تفسيره.

هذه الشروط تحتاج منا إلى وقفة طويلة لو أردنا أن نحرر الكلام فيها, ولعله بما أنه بقي علينا في كتاب الإتقان ثلاثة علوم فقط؛ وهي: الثامن والسبعون، والتاسع والسبعون، ثم الثمانون ويختم بها الكتاب, والثمانون ليس فيه كلام كثير, فلعلنا نقف عند هذا بالذات, ونجتهد في أن نعلق عليه تعليقاً أكثر من غيره؛ للحاجة الماسة إليه لمن أراد علم التفسير.

بدأ هذا المبحث بذكر كلام للعلماء، وهو موجود في مقدمة أصول التفسير لشيخ الإسلام ابن تيمية , وهي: أن من أراد تفسير الكتاب العزيز، طلبه من القرآن أولاً, فما أجمل منه في مكان فقد فسر في موضع آخر, وما اختصر في مكان فقد بسط في موضع آخر.

فهذا الكلام من حيث الإجمال صحيح, وليس فيه إشكال في هذه المسألة العلمية؛ لكن الذي يحتاج إلى تنبيه هو: هل يستطيع طالب علم التفسير أن يعرف ما أجمل هنا وما فسر هناك, أي: الوصول إلى ما أجمل وما فسر, هل هو من السهولة بمكان بحيث أنه لا يحتاج إلى مقدمات علمية؟

والجواب سيكون لا، فإذاً هذه القضية التي يذكرها السيوطي رحمه الله تعالى ونقلها عن ابن تيمية وغيره من العلماء ينبه على أنها نتيجة وثمرة لمعرفة سابقة؛ لأن الإتيان إلى القرآن بمقررات سابقة سيؤثر على المفسر, فقد يحمل بعض الآيات على بعض بسبب مقررات سابقة, ويرى أن هذا من المجمل الذي بين في موطن آخر, لكن بناءً على قواعده وليس على القول الصحيح في الآية, فإذاً هذه القضية متفق عليها من حيث الجملة؛ لكننا نقول: لا يمكن الوصول إليها إلا بعد معرفة أصول متقدمة عليها.

ومن أهم هذه الأصول كما سيأتي: علم اللغة, وقد ذكر أن ابن الجوزي ألف كتاباً فيما أجمل في القرآن في موضع, كما ذكر الدكتور حازم حيدر في كتابه النفيس الذي هو علوم القرآن بين البرهان والإتقان أنه بحث في موارد كتب ابن الجوزي ولم يجد أحداً أشار إلى هذا الكتاب, فإما أن يكون رسالةً أي: كلاماً في وسط كتاب, وأما أن يكون رسالةً صغيرة مما ضاع من تراث هذا الإمام المفيد ابن الجوزي .

دور السنة في تفسير القرآن

وقد ذكر كلام الإمام الشافعي بعد ذلك وهو قوله: فإن أعياه ذلك طلبه من السنة. وهذا كلام شيخ الإسلام في المقدمة قال: فإنها شارحة للقرآن وموضحة لها. وهذا المجال مجال آخر، الذي هو مجال السنة.

فإن كنا ابتداءً نعرف أن هذا الحديث يفسر هذه الآية؛ لأنه إذا كان تفسيراً نبوياً صرفاً فهذا لا إشكال فيه؛ لأنه واضح جداً، مثلما نقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مفاتح الغيب خمس ثم يذكرها ), فهي مفسرة لقوله: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام:59], فبين الرسول صلى الله عليه وسلم أن مفاتح الغيب المقصودة في هذه الآية هي ما ورد في آخر سورة لقمان, فهذا تفسير نبوي ومباشر لا نحتاج فيه إلى كبير ذهن وإعمال رأي, أما عندما يتكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلام عام مطلق, فإننا نجتهد في حمل هذا الكلام المطلق منه صلى الله عليه وسلم على هذه الآية, فكأننا نقول: إن معنى هذه الآية هو معنى هذا الحديث, وهذا يحتاج إلى اجتهاد؛ فربط الحديث بالقرآن له مقدمات علمية تسبقه ولا يستطيعه كل أحد.

ونحن الآن نرتب أدلة، وهذا الترتيب هو ترتيب فني وليس ترتيباً علمياً؛ لأننا لا نجد مفسراً من المفسرين يبدأ فيفسر الآية من القرآن, ثم ينتقل إلى ما يفسرها من السنة, ثم ينتقل إلى ما يفسرها من أقوال السلف ثم ينتقل إلى ما يفسرها من اللغة، فهذا لا يوجد، والدليل على أنه لا يوجد أن من قال بهذا القول هو شيخ الإسلام ابن تيمية ولم يعمل به في آية واحدة, مما يدل على أنه يرتب ترتيباً فنياً, وفي حال التفسير فإن هذه المصادر الأربعة وغيرها من المصادر تكون متداخلة, وهذه قضية مهم أن ننتبه لها, لكي لا يفهم كلام شيخ الإسلام ولا يحمل على غير محمله, فبعض المعاصرين من العلماء رحمهم الله وقف عند كلام شيخ الإسلام وإن لم ينص على أنه كلامه وانتقده انتقاداً شديداً؛ لأنه ذهب بكلام شيخ الإسلام إلى الترتيب العلمي, وشيخ الإسلام لا يريد هذا الترتيب, وإنما أراد الترتيب الفني, والدليل على أنه أراد الترتيب الفني: أنه عندما كتب في المقدمة أشار إلى أمور تدل على أن هذا الترتيب فني, وكذلك لم يعمل رحمه الله في تفسيره بآية واحدة على هذا المنهاج, ومنهج التفسير: أن هذه المصادر الكلية يعتمد بعضها مع بعض ثم يخرج لنا التفسير والمعنى الذي نريده, ولا يكون في هذا الترتيب على أنه من باب الترتيب العلمي.

لكن مع الترتيب الفني نقول: إن هذه التي ذكرت تحتاج إلى مقدمات علمية للوصول إلى ما ذكره ابن تيمية ولحقه في ذلك السيوطي رحم الله الجميع.

وقد أورد عن الإمام الشافعي أنه قال: كل ما حكم به رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو مما فهمه من القرآن, قال تعالى: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105], فالسؤال الذي قد يرد: هل نحن في مقام أحكام أم في مقام بيان معان؟

إذا كنا في مقام الأحكام فيمكن أن ينطبق كلام الإمام الشافعي , أما إذا كنا في مقام بيان المعاني فالمسألة أوسع من الأحكام, أي: بيان المعاني أوسع من الأحكام, ولهذا لا يصلح في نظري ما ذكره في هذا الموطن, أي: لا يصلح هذا النقل في هذا الموطن.

ثم هل السنة شارحة للقرآن؟ نقول: نعم, إذا كان في بيان المعاني, أما في بيان الأحكام فما يكون من باب بيان المعاني، فالسنة شارحة للقرآن فيه, لكن لا نحتاج أن نبين الأحكام النبوية التي انطلقت من الآيات القرآنية على باب الاستدلال والاستنباط منه صلى الله عليه وسلم؛ لأن مقامه هذا مقام الفقه والأحكام، وليس مقام التفسير.

أريد أن ننتبه مرة أخرى: إذا كان منطوق الحكم الذي ذكر في القرآن هو من التفسير أي: بيانه من التفسير, فلا ننظر هل هو حكم أم خبر أصلاً, بل ننظر كيف نفسره على سبيل المثال: لما يأتي مفسر إلى قوله سبحانه وتعالى: وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة:228], فبين أن نوع المطلقة هي مطلقة رجعية, تتربص ثلاثة قروء, وأن القرء بمعنى: الحيض مثلاً, هذا هو في ذاته بيان معنى وبيان حكم, لكن أحياناً تكون المسألة بيان أحكام فقط لا علاقة لها بالمعاني, تأتي من باب الاستدلال والاستنباط أي: بعد المعنى, فهذا الصنف من الأحكام ليس من باب التفسير، وإنما هو من باب الأحكام أو من باب الاستنباطات والفوائد.

مرتبة قول الصحابي في التفسير

ثم قال: فإن لم يجد في السنة رجع إلى أقوال الصحابة, وذكر العلة في ذلك، والعلة معروفة طبعاً من أهمها ما ذكر هنا: لما شاهدوا من القرائن والأحوال عند نزوله, ولما اختصوا به من الفهم التام والعلم الصحيح والعمل الصالح, وأيضاً يضاف إلى ذلك: لكونه نزل بلغتهم, وهذا أيضاً أحد الأسباب التي يرجع إلى تفسيرهم فيه.

قال هنا: إن الحاكم قال: إن تفسير الصحابي الذي شهد الوحي والتنزيل له حكم المرفوع. وهذا سيأتي تفصيله إن شاء الله بعد قليل. وكان نفس المؤلف رحمه الله قد وقف عنده وفصله، لكن تفسير الصحابة كما ذكرت لا شك أنه مرجع من المراجع, ولكن فيه تفصيلات طويلة, لعلنا نناقشها حينما نتكلم عن تفسير التابعين، أي: ما هو مقام تفسير الصحابة مع مقام تفسير التابعين؟ ونتكلم عن كيفية تعامل العلماء بخلاف التنظير؛ لأننا نذكر أحياناً قواعد وننظر على أنها قواعد عامة ومجملة, ولكن في حال الأمثلة قد يقع ما يظنه طالب العلم خلافاً للقواعد؛ لأن القاعدة إنما قعدت على سبيل الأغلب وليس على سبيل التعميم الكلي, فنحن نقول مثلاً: أيهما يقدم قول الصحابي أو قول التابعي؟ مباشرةً نقول: قول الصحابي بلا تفصيل, لكن سنفاجأ أننا ونحن نقرأ في التفسير أن كبار العلماء المحررين يقدمون أحياناً أقوال التابعين على أقوال الصحابة في بعض المواطن, فلو كنا نتعامل بهذه القاعدة على إطلاقها فسنقول: إن هذا اختيار خطأ؛ لأن قول الصحابي مقدم.

إذاً: رجع الأمر إلى التفصيل, ولعلنا نناقش التفصيل إن شاء الله لما يأتي كلامه عن التابعين.

ثم ذكر عن الإمام أبي طالب شكلوها هنا الطنزي اللي هي نسخة مجمع الملك فهد, والطبعات الأخرى كلها الطبري وهي الأشهر, وهذا العلم سواء الطنزي أو الطبري غير معروف, وقد بحث الدكتور عبد الله الرومي في كتابه مصادر السيوطي في الإتقان وهو كتاب مهم بحث المصادر ومنها هذا الكتاب الذي هو تفسير أبي طالب , وأيضاً مع بحثه وتحريه لم يقف على هذا العلم, ولن نستطيع أن نهتدي إليه إلا إذا اهتدينا إلى كتابه الذي نقل منه السيوطي , فلا كتابه الآن معروف ولا هذا الرجل أيضاً معروف, ونقل منه نقلاً طويلاً سماها: أدوات المفسر قال: القول في أدوات المفسر.

أثر صحة الاعتقاد في التفسير

ثم ذكر قال: اعلم أن من شرطه أي: شرط صحة التفسير, التي هي شروط التفسير الصحيح: صحة الاعتقاد أولاً, ولزومه سنة الدين، فإن كان مغموصاً عليه بدينه لا يؤتمن على الدنيا فكيف بالدين, ثم ذهب يذكر أمثلةً لبعض المخالفين الذين لا تقبل أقوالهم.

يأتي الآن سؤال هنا: هل صحة الاعتقاد شرط في فهم القرآن؟

الجواب: لا, والدليل على ذلك: أن المشركين فهموا القرآن، كـجبير بن مطعم وغيره.

لكن في القرآن نص آية صريحة وهي قوله تعالى: أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا [النساء:82], أن الله سبحانه وتعالى يدعوهم إلى التدبر، وهل يكون التدبر إلا بعد الفهم, فهذا فيه إشارة واضحة جداً إلى أن فهم القرآن لا علاقة له بصحة المعتقد, لكن المسألة هنا ليست في فهم القرآن أي: إنه يمكن أن يصل إلى فهم القرآن الكافر, لكن الذي يريده أبو طالب في صحة الاعتقاد هذا: أن الأخذ ممن عرف أنه صاحب عقيدة باطلة، يؤثر على المتلقي؛ لأن صاحب العقيدة الذي فيها انحراف وفيها بدعة وفيها بطلان يحرف الآيات ويصرفها إلى بدعته, فالمشكلة عندنا في أن صاحب المعتقد غير الصحيح لو كان سيفسر القرآن على ظواهره وعلى أصله فليس هناك مشكلة, لكن المشكلة أنه سيصرف الآيات ويحرفها إلى بدعته, وأمثلة هذا كثيرة جداً.

فإذاً: من هنا جاء هذا الاشتراط, وهو اشتراط مهم, لكن الاشتراط في التلقي بالنسبة لطالب العلم أن يتلقى عمن صحت عقيدته؛ لكي لا يقع هو في الخلل فقط, وإلا من كان في عقيدته مشكلة؛ لن ينتظرني وينتظرك أو يستأذنني ويستأذنك في كتابة التفسير، وهذا تنبيه للمتلقي في أن يتلقى عمن عرف بالعقيدة الصحيحة.

ثم بعد ذلك قال: ويجب أن يكون اعتماده على النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم, وعن أصحابه ومن عاصرهم, ويتجنب المحدثات, هذا الكلام عام، فمن أراد التفسير عليه أن يتلقى المنقول عن النبي صلى الله عليه وسلم, وعن الصحابة ومن عاصرهم من التابعين, ويتجنب المحدثات.

قال: وإذا تعارضت أقوالهم وأمكن الجمع بينها فعل, يعني: الآن عبارته قال: وإذا تعارضت أي: يذكر ثلاث تعارضات, إذا تعارضت وأمكن الجمع بينها فعل، وضرب مثالاً في: الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6]؛ لأنها عنده في النهاية تؤول إلى معنى واحد, ثم قال: [ وإن تعارضت رد الأمر إلى ما ثبت فيه السمع ], هذا النوع الثاني من التعارض.

[ وإن لم يجد سمعاً كان للاستدلال طريق إلى تقوية أحدها ], رجح ما قوي الاستدلال فيه، كاختلافهم في معنى حروف الهجاء فيرجح قول من قال: إنها قسم, وهذا ترجيح ضعيف؛ لكنه يرى أن هذا هو الراجح, فهو الآن يريد أن يبين لنا كيفية التعامل مع الاختلاف, فإذاً هذا هو التعارض الثاني.

أما التعارض الثالث فقد قال: وإذا تعارضت الأدلة في المراد علم أنه قد اشتبه عليه فيؤمن بمراد الله منها ولا يتهجم على تعيين, وينزله منزلة المجمل قبل تفصيله، والمتشابه قبل تبيينه, أي: يتوقف فيه.

إذاً: صار عنده ثلاث أنواع من التعارضات:

الأول: تعارض ولكنه شاهد أن هذه المتعارضات تؤول إلى معنى واحد، فيقول بأحد المعاني أو بأحد الأقوال؛ لأنه لا تنافي بينها.

الثاني: تعارض فإنه يرد الأمر إلى ما ثبت في السمع, مع أن لفظة السمع هذه مجملة, فإن كان لم يجد في السمع فيرجع إلى استدلال، وفي هذا الاستدلال يقول: يأخذ ما رجح أي: ما رجح عنده, وذكر مثالاً في الأحرف المقطعة على أنه يأخذ بالقسم.

الثالث: تعارضت الأدلة ولكنه لم يستطع الوصول، قال: يتوقف, تكون من باب المتشابه عندهم, لو استبدل لفظة (تعارضت): اختلفت، لكان أولى؛ لأنه ليس من أقوال السلف كثير تعارض؛ لأن التعارض يدل على تصادم بين قولين وهذا قليل في تفسير السلف, فعبارة (تعارضت) الأولى منها (استبدلت)؛ لكن المؤلف رحمه الله تعالى كتبها هكذا, لكننا نحن نرى ملحوظة: أن الأولى منها عبارة اختلفت؛ لأن الاختلاف أوسع من التعارض.

ولما انتهى من الشرط الأول: الذي هو صحة الاعتقاد ذكر الشرط الثاني: الذي هو صحة المقصد, وذكر في صحة المقصد قال: فيما يقوله ليلقى التسديد فقد قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا [العنكبوت:69], وإنما يخلص له القصد إذا زهد في الدنيا؛ لأنه إذا رغب فيها لم يؤمن أن يتوسل به إلى غرض يصده عن صواب قصده, ويفسد عليه صحة عمله.. إلى آخر كلامه.

السؤال الآن: صحة المقصد هل هي شرط؟ ومرتبطة بصحة الاعتقاد، أي: جزء من صحة الاعتقاد, صحة المقصد أي: لو ألفت كتاباً أريد به مالاً, في التفسير وأريد به مالاً, فهل المقصد صحيح أو غير صحيح؟ أو مشوب؟

يكون مشوباً, بناءً على كلام المؤلف صحة المقصد شرط, لكن هل صحة المقصد شرط للوصول إلى الفهم الصحيح؟

الجواب: ليست شرطاً إذاً, فصحة المقصد ليست شرطاً لهذه الجهة.

الجهة الثانية: ما علاقة الزهد بقضية العلم, أي: هل يلزم من العلم الزهد؟ نعم.

العلاقة بين العلم والزهد

ولهذا ننبه إلى مسألة: أنه بعض العلماء رحمهم الله يكون عندهم نوع من العاطفة للزهد فيربطون العلم بالزهد على أنه لا يؤتى العلم إلا الزاهد, ثم يستشهدون أحياناً بقوله: وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ [البقرة:282], وأقول: لا علاقة للزهد بالعلم, بل إن المعروف غالباً أن الزهاد يكثر فيهم الجهل, فالعلم شيء والزهد شيء آخر.

فالمفترض بالعالم أن يكون زاهداً؛ لأنه عنده العلم بالله, والعلم بالله موصل إلى الخشية التي قال عنها الله سبحانه وتعالى: إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ [فاطر:28], لكن كون العالم يخل بهذا فهذا نقص فيه؛ لكن الزاهد لا يمكن أن يرقى إلى درجة العالم إلا إذا كان عنده قدرة عقلية؛ لأن هذه مرتبطة بالقدرات العقلية, والعبادة لا تحتاج إلى القدرة العقلية بقدر ما تحتاج إلى ملازمة الطاعة والحرص عليها.

فإذا المقصد من ذلك أن هناك انفكاكاً بين العلم والزهد, ونجد بعض العلماء يحاول أن يربط بين الأمرين, وهذا ليس بسبيل, فإذاً قوله: إذا زهد في الدنيا.. إلى آخره, هذا فيه نظر من هذه الجهة.

دور الإعراب في التفسير

طبعاً اشترط بعد ذلك قال: تمام هذه الشرائط أن يكون ممتلئاً من عدة الإعراب, والإعراب سيذكره المؤلف مرة أخرى, ولو أردنا أن ننظر في تفسير السلف, هل رود عندهم لفظة من اللفظات أعربوها؟ أي: هل نجد الإعراب في تفسير الصحابة والتابعين وأتباع التابعين: فعل وفاعل ومفعول كمصطلحات؟ لا نجد, فالمصطلحات هذه وما نشأ عنها من تعليم النحو لم تكن موجودة عندهم, وأتباع التابعين كانوا في عصر النحويين واللغويين الذين رسموا هذه الحدود.

فمثلاً سيبويه إذا كان توفي سنة (170) تقريباً, وهو في عصر أتباع التابعين, مقاتل بن سليمان (150), و عبد الرحمن بن زيد بن أسلم (182), وهؤلاء من طبقة أتباع التابعين, فالمقصد من ذلك: أن الكلام عن الإعراب الحقيقة يحتاج إلى نوع من وزن, فكثير من المتأخرين اشترطوا الإعراب.

والجهل المطلق بالإعراب لا شك أنه خلل, فلو افترضنا وهذا مشكلة عند بعض طلاب العلم الشرعي: إذا كان لا يعرف الإعراب فنعم عنده مشكلة؛ لكن لا يعني ذلك أنه لا يستطيع أن يفهم أو أنه لا يمكن أن يفهم إلا بهذه الطريقة, والتعمق في الإعراب غير مطلوب, أي: ليس من شرائط المفسر التعمق في الإعراب, فإذاً المقصد من ذلك: أن تكون عنده على الأقل أصول الإعراب أي: يعرف الإعراب العام, أي: يعرف الفعل والفاعل والحال والتأكيد وغيرها, ويكون عنده قدرة على فهم المعاني؛ لأننا ننطلق من الإعراب لفهم المعنى, وبعد تقعيد قواعد النحو صار المتعلمون ينطلقون من الإعراب لفهم المعنى.

أما المتقدمون فكلامهم كان على الإعراب أصلاً, ولا يحتاجون إلى أن يتعلموا الإعراب, وهم ينطلقون من المعنى إلى الإعراب وليس من الإعراب إلى المعنى, بمعنى: أنه لا يحتاج الصحابة والتابعون وأتباع التابعين أن يعرفوا أين الفاعل والمفعول هو سليقة أن يفعل هذا, ونحن نبني الإعراب على ما يقول, فالإعراب فرع المعنى كما يقول العلماء.

فنحتاج إلى وزن في مثل هذا الموضوع, لا نقول: إن الإعراب مطلقاً لا يطلب, أو نقول: الإعراب بجميع أحواله مطلوب مطلقاً, وإنما نقول: إنما يحتاج منه قدر معين بحيث يكون قارئ التفسير أو المفسر على قدر على الأقل من معرفة الإعراب, ولا شك أن الإعراب سيفيده قطعاً.

ولذا الماهر بالإعراب قدرته في فهم المعاني أقوى من عدم الماهر بالإعراب.

انتهى كلام أبي طالب عند كلامه عن هذا الشرط الذي هو الإعراب.

قال: فإذا خرج بالبيان أي: وضع اللسان إما حقيقةً أو مجازاً. فإذا كان يقصد هذا أيضاً فالإعراب جزء من علم العربية, إذا كان يوجد علم العربية عموماً من لغة ونحو وصرف وبلاغة، أي: بعموم علم العربية أراد بالإعراب, فهذا نفس القضية أن هذه العلوم لها قدر معين يحتاج إليها, فهذا القدر المعين يحتاج إلى ضبط, ما الذي يكفي المفسر من معرفة علم العربية في نحوها ولغتها وصرفها وبلاغتها.

سبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.