الأحكام الفقهية المتعلقة بالصيام [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين, وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد تكلمنا فيما سبق عمن يرخص له في الفطر، ونتكلم اليوم عن أنواع المفطرات، فالمفطرات في رمضان أصلها الأكل والشرب, وهي الأصل, والذي هو محل اتفاق, وما في حكمه مما يسد جوع الصائم أو الإبر المنشطة, وكذلك بعض الأدوية التي تؤخذ من غير الفم, كغسيل الكلى مثلاً, وغسيل الكلى هو دواء وغذاء, فإنه يوضع أثناء الغسيل مع الدم شيء من السكريات وغيرها التي تفيد الإنسان في دمه وتغنيه عن الطعام والشراب فهو من المفطرات, وكل ما كان منفذاً إلى الجوف فإنه يفطر الإنسان بوجود شيء في حلقه منه؛ كوضع شيء في الأنف من شراب أو غذاء, إذا كان الإنسان لا يطعمها عن طريق فمه، أو ما يضعه في أنفه من قطرات ونحو ذلك فهي منفذ إلى الجوف وما فيه من المفطرات, والعين منفذ لكن منفذها نادر وليس كالأنف, والأذن بالجملة ليست منفذاً إلا ما ندر.

وأما الحجامة فقد اختلف العلماء في كونها مفطرة للصائم أم لا, اعتماداً على ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا من حديث عبد الله بن عباس في الصحيحين وغيرهما: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو محرم ), وله في رواية: ( احتجم وهو محرم صائم ), وفي رواية أخرى: ( احتجم وهو محرم وهو صائم ), ذهب الإمام أحمد كما في العلل برواية ابنه صالح أن ذكر الصيام هنا غير محفوظ, وكذلك قال الشافعي عليه رحمة الله تعالى في كتابه الأم, وذهب الإمام أحمد إلى أن الحجامة تفطر؛ لظاهر حديث شداد عليه رضوان الله تعالى كما في السنن وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( أفطر الحاجم والمحجوم ), قال: وهذا آخر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم, فإنه قال ذلك في فتح مكة, قال: ومما يدل على إنكار ذكر الصيام في حديث عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ذهب محرماً في صيام إلى مكة, وكل عمر النبي صلى الله عليه وسلم في غير رمضان, والنبي صلى الله عليه وسلم آخر أمره أنه كان يفطر في حال صيامه كما تقدم الإشارة إليه في رمضان, وأما ذهاب الذي عليه الصلاة والسلام لفتح مكة فالنبي عليه الصلاة والسلام كان مفطراً, فجمع الصيام والإحرام في حديث عبد الله بن عباس وهم, ومال البخاري عليه رحمة الله تعالى إلى صحته, ولهذا قد أخرجه في كتابه الصحيح.

والذي عليه جمهور العلماء أن الحجامة لا تفطر, وهذا ظاهر عمل السلف, فقد ثبت عن غير واحد من السلف أنه احتجم من غير فطر بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر وسعد بن أبي وقاص وعروة بن الزبير وعبد الله بن الزبير وغيرهم, وقد روى الإمام مالك في الموطأ وكذلك البيهقي وغيرهم من حديث مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر: أنه احتجم وهو صائم, وكذلك جاء في المصنف من حديث عامر بن سعد عن سعد بن أبي وقاص أنه احتجم وهو صائم، وروي عن غيرهم؛ أنهم لا يرون الفطر, وهذا الذي عليه عمل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى كما روى الطحاوي في شرح معاني الآثار من حديث الناجي عن أبي سعيد الخدري قال: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رخص بالحجامة للصائم ), وهذا إنما قاله بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم مما يدل على أن عمله عليه الصلاة والسلام أو آخر الأمرين منه على أن الحجامة لا تفطر الصائم, ويلحق في حكمها إخراج الدم بنحو طريق الحجامة كالفصد مثلاً أو بالتبرع بالدم أو التحليل ونحو ذلك, فإنه لا يفطر الصائم على الصحيح من أقوال العلماء.

وأما الجماع في نهار رمضان فالنص فيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الثابت أنه من المحرمات, ومن فعله كان آثماً ويجب عليه الكفارة, والكفارة هي أن يعتق رقبة, وإن لم يجد أن يصوم ستين يوماً متتالية، وإلا فيطعم ستين مسكيناً عن كل يوم مما أمر الله عز وجل بصيامه, وهذا فرض, وأما الأمر بالقضاء فغير محفوظ في الخبر, ولهذا وقع الخلاف, فذهب الأئمة الأربعة إلى أن الجماع يفطر الصائم, فيجب عليه مع الكفارة ومع وجوب التوبة عليه أن يقضي.

...كفارة من جامع في نهار رمضان, وكذلك أمره بالقضاء إن صححت ذلك, وعليه يلزمك أن تقول فيمن أنزل بمباشرة أو باستمناء في نهار رمضان أن يجب عليه الكفارة أيضاً، ما هو القضاء, وإلزامك بالقضاء من غير كفارة أخذ لجزء من المقيس عليه وترك جزء آخر, وهو المتفق عليه, وهو الكفارة, فإما أن يقال بالقضاء والكفارة لورود النص وهو المقيس عليه, وإما أن يقال: أن يترك, وعدم القضاء ولا الكفارة هو الأظهر؛ لأن هذا يفتقر إلى دليل.

كذلك أن الجماع وخروج المني يتباينان, فالجماع يترتب عليه أحكام شرعية في غير باب الصيام, الجماع في إتيان المرأة في المحلل ( أنه في رجل تزوج امرأة ودخل بها, النبي صلى الله عليه وسلم قال: حتى تذوق عسيلتها وتذوق عسيلتك ), ونحو ذلك, أن بهذا الجماع يكون ثمة فيصل, وأما غير ذلك لا, كذلك في الحدود, فثمة فارق كبير, وهذا الرجل جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ( يا رسول الله, إني أتيت امرأة فنلت منها ما ينال الرجل من زوجته إلا الجماع ), يعني: بحرام, فأنزل الله عز وجل: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114], لكن لما جاءه الرجل وقد وقع في الزنا، وما حدث من ذلك في قصة ماعز وغيره, والقصة مشهورة فالزنا يختلف عن غيره, كذلك الجماع يختلف عن غيره, وإن كان الرجل في امرأته وبحال نهار رمضان، فالقياس قياس مع الفارق, وقد يقول قائل: إن مثل هذا القول الأولى أن لا يورد, يقال: إن القول بعدم التفطير أو عدم الكفارة لا يعني الجواز, وفرق بينها, فإن الله سبحانه وتعالى حينما قال كما في الخبر القدسي: ( يضع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي ), يجب عليه أن يدع ذلك إلا ما دل عليه الدليل ورخص فيه من أن ينال الإنسان من شهوته وهو دنوه من زوجته أو مباشرته, ما عدا ذلك فالأصل فيه المنع, وأن يجتنبه الإنسان, وغاية من استدل بوجوب القضاء هو القياس, وإن قال بالقياس فليقل به من جميع الوجوه، وإلا لا يأخذ جزءاً من حكم المقيس عليه ويدع حكماً آخر.

ويشرع للإنسان أن يبتعد عن دواعي الشهوة في نهار رمضان, ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان أقل ما ينال من نسائه في نهار رمضان؛ بل ( كان عليه الصلاة والسلام إذا دخلت العشر شد مئزره ), والمراد بذلك أنه ترك قرب النساء والدنو منهن, أي: أنه شد مئزره، فلا يحله لجماع أو غير ذلك؛ لأن الشهر شهر عبادة ويجب على الإنسان أن يغتنم منه ما استطاع من أعمال البر والإنابة إلى الله سبحانه وتعالى والبعد عن الشهوات, فربما وقع فيها وحرم في ذلك خيراً كثيراً, وكما تقدم أن السيئات في نهار رمضان معظمة, وكذلك الحسنات, وكما أن الحسنات تكتب للإنسان أعظم منها في أيام العشر، كذلك السيئة تعظم؛ لأن الله سبحانه وتعالى كما عظم مواسم الخيرات بفعل الحسنات؛ أن الله عز وجل يضاعفها للإنسان كذلك بالنسبة للسيئات فإن الله عز وجل يعظمها عنده, فمن وقع في السيئات في شهر تصفد فيه الشياطين يدل على بعده عن الله سبحانه وتعالى.

وفي قوله عليه الصلاة والسلام كما في الصحيحين وغيرهما: ( إذا دخل رمضان فتحت أبواب السماء وأغلقت أبواب جهنم وصفدت الشياطين ), ما يحصل في نهار رمضان من ميل الإنسان لبعض المفطرات عمداً أو بعض المنكرات أو غيره، أو بعض الناس يصرع في نهار رمضان أو يدخله جن ونحو ذلك؛ هل يعارض ذلك في قوله عليه الصلاة والسلام: ( وصفدت الشياطين ), قد ذكر القاضي ابن أبي يعلى في كتاب الطبقات أن الإمام أحمد قد سئل عن ذلك، أنه سأله ابنه قال: ما لي أرى الرجل يصرع في نهار رمضان وقد تصفد الشياطين؟ قال: هكذا النص وأمسك, الذي يظهر لي والله أعلم, أن الشيطان حينما يوسوس للإنسان ويتمكن منه حتى يكون الإنسان من شياطين الإنس, بسبب تصوير الإنسان له, فما يلحق بالإنسان من حب المنكر وتتبع مواضع الشهوات والضلال والانحراف والفسق هو ما بقي فيه من تضليل وانحراف شياطين الجن, وهذا هو الظاهر, وتصوير الشياطين هو أنها لا يمكن أن تتمكن من المؤمن في نهار رمضان؛ إلا فيما بقي لديه من وسواس وتسويل أو ضعف ونحو ذلك، فإنه يبقى في الإنسان, فإن في الإنسان من الانحراف والضلال وكذلك من الشطن والخروج عن الطاعة حتى يكون الإنسان شيطاناً خالصاً أو يكون الإنسان من أهل الإيمان وفيه من الانحراف عن دين الله سبحانه وتعالى بقدر ما فيه, والله عز وجل يغفر لمن يشاء.

استحباب تعجيل الفطور للصائم

ويستحب للإنسان أن يبكر في فطره, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد عليه رضوان الله تعالى: ( لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر ), وتعجيل الفطر: هو المبادرة فيه, ليس أنه يأكل والشمس باقية أو قرص الشمس لم يسقط, فإن في هذا مخالفة, ويجب عليه القضاء, ولكن المراد بذلك أنه متى ما تيقن الفطر يستحب له أن يبادر؛ لأن هذا هو الامتثال, كما أن تأخير السحور مستحب؛ لأن بعده الإمساك مباشرة فهو ظاهر الامتثال, كذلك في الفطر التعجيل أولى؛ لأنه فيه الامتثال, وهذا نظير ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيد الفطر: ( أنه كان يطعم تمرات قبل أن يذهب إلى المصلى ), لأن فيه امتثالاً, لأنه عادة في الأيام الماضية لا يطعم شيئاً وإنما بادر، بخلافه كذلك عيد الأضحى, فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يطعم شيئاً حتى يأكل من أضحيته وكذلك الصحابة عليهم رضوان الله تعالى, وهذا فيه إظهار للمنة في ذلك اليوم من الله سبحانه وتعالى في الفطر وكذلك في الهدي وشعائر الله سبحانه وتعالى التي جعلها للناس في ذلك اليوم, كذلك في تعجيل الفطر وتأخير السحور.

وقد ثبت عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى كما روى عنه مجاهد أن عبد الله بن عمر كان يُقدم له فطره وإني لأستره خشية أن يراه الناس, أي: أنه يبكر جداً في إفطاره, وليس في هذا أنه يفطر والشمس ظاهرة, وإنما يبادر بالفطر بخلاف من يتأخر, وقد ثبت عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى وعثمان بن عفان أنهما كانا يفطران بعد صلاة المغرب, وثبت عنهما ذلك بإسناد صحيح, لكن يظهر والله أعلم أن إفطارهما بعد صلاة المغرب هو جلوسهما للطعام, ولكن قد يتناولان شيئاً من التمر؛ تمرة أو نحو ذلك قبل الصلاة؛ لأنهما أشد الناس حرصاً باتباع ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

استحباب إطعام الصائمين عند الفطر والسحور

والسنة للإنسان أيضاً باتفاق العلماء أن يسعى لإطعام الطعام وتفطير الصائمين, وإن لم يثبت في ذلك خبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في تحقق المثلية لكل من أطعم صائماً في رمضان عند فطره, فإن الأجر باق؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعل من أعان على بر وأعان على خير فله مثل أجره, فإذا أعين الإنسان على فطره فإن من فطره يثاب عليه؛ لأنه يستعين به على صيامه من الغد ونحو ذلك, فيتحصل له من الأجر ما يتحصل, وأما ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من فطر صائماً فله مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء )، فلا يثبت, فقد رواه عطاء بن أبي رباح عن زيد بن خالد الجهني وهو منقطع كما نص على ذلك غير واحد من الحفاظ؛ كـعلي بن المديني، وما جاء في هذا الباب كذلك فهو معلول؛ كحديث سلمان الفارسي عليه رضوان الله تعالى وتقدم الإشارة إليه, وكذلك ما جاء من حديث عبد الله بن عباس وحديث أبي هريرة عليه رضوان الله تعالى فكلها منكرة, لكن يقال: إنه مستحب بالاتفاق, وتحقق المثلية مرجو لعظم فضل الله سبحانه وتعالى وسعة كرمه.

وكما أنه في الفطر فهو في السحور فيما أرى أنه من باب أولى؛ وذلك أن الإنسان يعين الإنسان على عمل البر, ودافع الإنسان لإتمام عمله البر هو ما يجده من إعانة قبل مباشرته لا بعد مباشرته, ولهذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في حديث زيد بن خالد الجهني كما في الصحيح: ( من جهز غازياً فقد غزا ), وعليه فيتحصل للإنسان بإذن الله من سحر صائماً له مثل أجره من غير أن ينقص من أجره شيء؛ لأن تحقق المنفعة في السحور أعظم من تحققها في الفطر من جهة الإعانة, ولهذا يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( تسحروا فإن في السحور بركة ), أي: أن هذه البركة تتحقق في قوة الإنسان ونشاطه في النهار، وما يكابده من مشقة الصيام والإكثار من العمل والصلاة والنوافل وصلة الرحم وقراءة القرآن وذكر الله سبحانه وتعالى, ومن احتسب فإن الله عز وجل يؤتيه بقدر احتسابه وفضل الله عز وجل واسع.

الفطر على تمرات

ويشرع لمن أراد الفطر أن يفطر على تمرات كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم, والتمر هو: الرطب إذا يبس, والرطب: التمر قبل يبسه, وإذا يبس يسمى تمراً؛ أن يبتدئ بالتمر؛ كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من حديث سلمان بن عامر في السنن ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أفطر أفطر على تمر وإن لم يجد فعلى ماء فإنه طهور ), وهذا إسناده صحيح, وقد وقع فيه شيء من الاختلاف, فيرويه عاصم الأحول عن حفصة بنت سيرين عن الرباب عن سلمان بن عامر، ووقع فيه اختلاف على الأحول، فيرويه شعبة بن الحجاج ولا يذكر فيه الرباب، وقد اختلف فيه على شعبة فرواه محمد بن جعفر غندر وآدم ولم يذكروا فيه الرباب، ورواه الطيالسي عن شعبة بن الحجاج به وذكر الرباب، ورواه جماعة من الحفاظ؛ كـسفيان الثوري وسفيان بن عيينة وعبد العزيز بن المختار وشريك بن عبد الله النخعي وهشام بن حسان ومروان بن محمد وغيرهم, رووه عن الأحول عن حفصة عن الرباب عن سلمان ( أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفطر على تمر ), وهذا أمثل شيء جاء في هذا الباب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, والإفطار على التمر هو السنة, وأما تقديم الرطب عليه فجاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه خبر وفيه ضعف, جاء من حديث جعفر عن ثابت عن أنس بن مالك ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفطر على رطبات، فإن لم يجد فعلى تمرات، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء ), وفي إسناده ضعف, وعلى كل سواء أفطر على رطب أو على تمر فإنه داخل في الإفطار المشروع والمسنون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وإن لم يجد الإنسان تمراً واجتمعت مصلحتان، مصلحة التبكير بالفطر أو تأخير الفطر إلى أن يتناول التمر, فيقال: إن التبكير بالفطر ولو على غير التمر كماء أو عصير أو غير ذلك أولى من تأخيره ولو كان على تمر؛ لأن ما جاء في النص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من الفطر على التمر فعل, والتبكير جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم به قول, والحث عليه, بل قال عليه الصلاة والسلام: ( لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر ).

الذكر عند الإفطار

وأما ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذكر عند الفطر، فأمثل ما جاء عنه عليه الصلاة والسلام: ( اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت ), وجاء فيه زيادة يأتي الكلام عليها, فهذا الخبر غير محفوظ؛ بل هو خبر منكر, قد رواه الطبراني وكذلك الدارقطني من حديث داود بن الزبرقان عن شعبة، وداود منكر الحديث كما قال ذلك غير واحد, وقد روي من حديث عبد الملك بن عنترة عن أبيه عن جده عن عبد الله بن عباس ( اللهم لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا, اللهم تقبل منا إنك أنت السميع العليم ), ولا يصح أيضاً؛ فـعبد الملك بن عنترة منكر الحديث.

وقد جاء عند أبي داود في كتابه المراسيل وكذلك البيهقي من حديث حصين عن معاذ بن زهرة مرسل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا أمثل شيء جاء في هذا الباب كما نص عليه الإمام البيهقي، وجاء في سنن أبي داود من حديث الحسين بن واقد عن مروان المقفع عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى أنه كان يقول: ( ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله ), وذكر مرفوعاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا الحديث ظاهره أنه لا بأس بإسناده وقد حسنه الدارقطني عليه رحمة الله تعالى في سننه, فقال: تفرد به الحسين بن واقد عن مروان ولا بأس به إسناده حسن, وتفرد الحسين بن واقد بهذا الحديث يحتمل منه, وسواء قال هذا أو قال ذاك فإنه لا حرج فيه، أو قال غيره.

الدعاء عند الإفطار

وأما مسألة الدعاء عند الفطر, وهو: أن يتعمد الإنسان تحري الفطر ليدعو, فأقول: إني لا أعلم في ذلك خبراً يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما هو الذي عليه عمل السلف, فقد ثبت عن الربيع بن خثيم عند ابن فضيل في كتاب الدعاء أنه كان يدعو عند فطره, وأما خبر مرفوع أو موقوف على أحد من الصحابة أنه كان يدعو عند فطره فلا أعلمه يثبت عن أحد منهم عليهم رضوان الله تعالى, ولكن هو الذي عليه العمل.

ومن اللطائف ما ذكره الحافظ ابن كثير في تفسيره عند قول الله جل وعلا: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186], يقول الحافظ ابن كثير عليه رحمة الله تعالى: إن في إيراد الله جل وعلا لهذه الآية بعد أن فرض الله عز وجل الصيام, وأراد بذلك الإمساك وهو الإمساك عن الطعام ثم قال: وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ [البقرة:186], يعني: عند الفطر, قال: فيه علامة على مشروعية الدعاء عند الفطر, وهذا استنباط حسن, وهي قرينة إلا أنها ليست بصريحة, وعموماً الدعاء مستحب، وأن يتحرى فيه الإنسان أوقات الإجابة والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى, وكلما كان الإنسان محتاجاً ومنصرفاً إلى الله جل وعلا كلما تقبل الله سبحانه وتعالى منه دعاءه, ولهذا ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي هريرة: ( الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء فيقول: يا رب, يا رب, ومطعمه حرام ومشربه حرام وغذي بالحرام، فأنى يستجاب له ), فما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ( أن الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء ), أي: أنه جمعت فيه أسباب إجابة الدعاء كلها مع ذلك مُنع.

فمن أسباب إجابة الدعاء: أن يكون الإنسان محتاجاً مضطراً جائعاً أشعث أغبر محتسباً لله سبحانه وتعالى, كلما كان كذلك واجتمعت فيه الحاجة كلما انصرف قلبه ومال, وليست الحاجة بذاتها هي التي تفرض الإنسان وإنما هي التي تميل القلب, ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضطَرَّ إِذَا دَعَاهُ [النمل:62], لماذا خص المضطر هنا؟ لأن صاحب اليسر يكون منصرف القلب لاه, يرفع يديه وهو منصرف وليس بمقبل تمام الإقبال على الله سبحانه وتعالى بخلاف من كان مضطراً أو كان محتاجاً, كذلك هو اللائق فيمن كان حال فطره، فإنه يكون جائعاً وقد كابد المشقة والجوع والعطش ووجد الطعام ولم يتناوله فيدعو الله سبحانه وتعالى فإنه لا شك أقرب من غيره, ولا يعني: اختصاصه بإجابة الدعاء عن غيره، فهو كغير من تحصل له المشقة.

الإكثار من الصلاة في نهار رمضان وليله

ويستحب للإنسان الإكثار من الصلاة في نهار رمضان, وآكدها في ليله وهو: القيام, وقد ( كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطيل قيام رمضان ), وللإنسان أن يصلي ما شاء من الليل؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: ( صلاة الليل مثنى مثنى، فإذا خشي أحدكم الصبح أوتر بواحدة ), كما جاء في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمر، وأما ذكر النهار فيه فقد تفرد به البارقي وهو لا يصح, خالفه سائر أصحاب عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى؛ كـسالم ونافع وغيرهم, فلم يذكروا النهار, وإن هو أراد أن يصلي أكثر من أربع لا حرج عليه.

صلاة الجماعة في المسجد

وصلاة الجماعة في المسجد جاء فيها الفضل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( من صلى مع إمامه حتى ينصرف كتب الله له قيام ليلة ), والمراد بقوله: (حتى ينصرف), حتى ينقضي من صلاته, وإن كان يتمها في آخر الليل, فالمراد به هذه الصلاة التي قد قامها, ولو صلى الإنسان في بيته وحده وعلم أنه أخشع لقلبه وأطول لصلاته فإنه كذلك أفضل من صلاته مع الجماعة إذا كان يغلب عليه عدم الخشوع أو انصراف القلب ونحو ذلك؛ لأن المراد الخشوع, وقد ذهب إلى هذا ومال إلى أفضلية الصلاة منفرداً مع خشوع؛ بل ذهب إلى ذلك بإطلاق غير واحد من السلف كـعبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى, وكذلك سعيد بن جبير وغيرهم, وهو قول الإمام مالك عليه رحمة الله, والذي عليه عمل السلف هو جمع الناس بالمساجد؛ ليستعينوا بذلك على أداء الصلاة, وأن يتكاثروا, فإن الإنسان يجد في نفسه حماساً واندفاعاً إلى الخير إذا وجد من يعينه ووجد من كان حوله فإنه يقبل, وإذا وجد من يقيده بقيام طويل وصلاة وطول ركوع وسجود ونحو ذلك أن يتقيد بهما, ولو صلى وحده لكانت صلاته خفيفة, فإن هذا صلاته مع إمامه أفضل, وإنما احتبس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه؛ لأنه خشي أن يفرض الله عز وجل عليهم صلاة الليل في رمضان, وهذا من رحمته عليه الصلاة والسلام بأمته.

وقام بذلك عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى وقد يسأل سائل ويقول: إن أبا بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى في خلافته - وخلافته سنتان - ومع ذلك ما جمع الناس, يقال: إن أبا بكر الصديق كان منشغلاً بقتال المرتدين, وما كان في رمضان متهيئاً لجمع الناس؛ بل كان خارج المدينة لقتال من ارتد من العرب, وما كان الصحابة عليهم رضوان الله تعالى في تلك السنتين مجتمعين, بل كانوا متفرقين يقاتلون من منع الزكاة ومن ارتد من العرب، حتى جمع الله سبحانه وتعالى كلمتهم على يد أبي بكر الصديق في آخر ولايته، ثم في خلافة عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى, فجمع الصحابة على صلاة التراويح، وقال: نعمت البدعة ابتدعها عمر، والمراد بذلك أنه أحياها بعدما تركها رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلة قد انتفت هذه العلة, ومعلوم أن الحكم يدور مع العلة وجوداً وعدماً.

ويستحب للإنسان أن يبكر في فطره, ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين وغيرهما من حديث سهل بن سعد عليه رضوان الله تعالى: ( لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الفطر ), وتعجيل الفطر: هو المبادرة فيه, ليس أنه يأكل والشمس باقية أو قرص الشمس لم يسقط, فإن في هذا مخالفة, ويجب عليه القضاء, ولكن المراد بذلك أنه متى ما تيقن الفطر يستحب له أن يبادر؛ لأن هذا هو الامتثال, كما أن تأخير السحور مستحب؛ لأن بعده الإمساك مباشرة فهو ظاهر الامتثال, كذلك في الفطر التعجيل أولى؛ لأنه فيه الامتثال, وهذا نظير ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيد الفطر: ( أنه كان يطعم تمرات قبل أن يذهب إلى المصلى ), لأن فيه امتثالاً, لأنه عادة في الأيام الماضية لا يطعم شيئاً وإنما بادر، بخلافه كذلك عيد الأضحى, فالنبي صلى الله عليه وسلم لا يطعم شيئاً حتى يأكل من أضحيته وكذلك الصحابة عليهم رضوان الله تعالى, وهذا فيه إظهار للمنة في ذلك اليوم من الله سبحانه وتعالى في الفطر وكذلك في الهدي وشعائر الله سبحانه وتعالى التي جعلها للناس في ذلك اليوم, كذلك في تعجيل الفطر وتأخير السحور.

وقد ثبت عن عبد الله بن عمر عليه رضوان الله تعالى كما روى عنه مجاهد أن عبد الله بن عمر كان يُقدم له فطره وإني لأستره خشية أن يراه الناس, أي: أنه يبكر جداً في إفطاره, وليس في هذا أنه يفطر والشمس ظاهرة, وإنما يبادر بالفطر بخلاف من يتأخر, وقد ثبت عن عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى وعثمان بن عفان أنهما كانا يفطران بعد صلاة المغرب, وثبت عنهما ذلك بإسناد صحيح, لكن يظهر والله أعلم أن إفطارهما بعد صلاة المغرب هو جلوسهما للطعام, ولكن قد يتناولان شيئاً من التمر؛ تمرة أو نحو ذلك قبل الصلاة؛ لأنهما أشد الناس حرصاً باتباع ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.