المعروف والمنكر بين التشريع والتطبيع


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أما بعد:

فإن الله جل وعلا حينما بيّن لهذه الأمة الشرائع بجميع أنواعها فيما يدور في دائرة التكليف، سواء كان من المتأكدات وعلى سبيل العزم في أبواب الوجوب وأبواب التحريم، قد حمى الله جل وعلا هذه الشريعة وهذه الشرائع بوسائل متعددة تبقيها، وتكون محفوظة إلى أن يأذن الله جل وعلا بقبض العلماء.

وقد جعل الله سبحانه وتعالى دينه محفوظاً بوسائل متنوعة، ومن أظهر هذه الوسائل هي شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي جعلها الله سبحانه وتعالى مع كونها وسيلة لحفظ الدين جعلها ركناً ودعيمة من دعائم الإسلام، وقد جاء هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في خبر حذيفة عند البزار في مسنده، وعند أبي يعلى، ويأتي الكلام عليه بإذن الله.

والمراد من ذلك أن الله جل وعلا ما يرشد إلى عمل من الأعمال إلا ويحوط ذلك العمل بعدة أمور: أولها وآكدها مسألة البيان والتوضيح حتى يكون الناس على بينة ومحجة بيضاء، فلا يكونوا حينئذٍ في ريبة وشك، حتى إذا تبع ذلك ما يتبعه من عمل ودعوة إليه، وكذلك إنكار في حال المخالف يكون الناس حينئذٍ على بينة وهدى.

ويجعل العلماء عليهم رحمة الله مما ينبغي للإنسان أن يسلكه في أبواب المعروف والنهي عن المنكر أن يكون الإنسان عارفاً بذات المعروف وذات المنكر، عارفاً بحقيقة كونه منكراً وبحقيقة كونه معروفاً، وكذلك أن يكون من العارفين في قدر ذلك المعروف، هل هو من المتحتمات الواجبات، أم هي مما حث الشارع عليه من غير إلزام وتأكيد؟ كذلك إذا كان في دائرة المحظور هل هو مما أكد الشارع عليه على سبيل الإلزام والتأكيد؟ أو كان ذلك على سبيل الأدب والتنزيه؟

فإن هذه مراتب يكون الإنسان عارفاً بها إذا تحقق ذلك الوصف في أصل التشريع وهو الأصل، وذلك أن الله سبحانه وتعالى لا يأمر بأمر إلا والناس على بينة منه، من جهة معرفة حدوده بحيث لا يدخل عليه شيء من بقية الشرائع، فيمتزج بغيره، فيكون حينئذٍ قد خلط عملاً صالحاً بآخر سيئاً، فيكون حينئذٍ العامل والداعي إلى ذلك على محجة بيضاء، ولهذا كانت سائر الشريعة بأنواع التكاليف هي على هذا النوع.

وشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يحوطها كثير من المسائل المتعددة التي لا تخلو من بيان ووضوح وجلاء في كلام الله سبحانه وتعالى، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ربما يجهل كثير من القائمين بأمر الله فضلاً عن عامة الناس وسوادهم ودهمائهم يجهلون كثيراً من مسائل الدين المتعلقة بهذا الباب، فيقع حينئذٍ قصور فيه حتى عند من ينتسب إلى الدعوة والعلم أو مسائل الإصلاح.

وجعل الله سبحانه وتعالى ثلث القرآن في بيان حال أنبياء الله جل وعلا في هذه الشعيرة في بيان الخير وتمييزها عن الشر وطرائق الدعوة إليه، وكذلك طرائق الأنبياء في مواجهة القائمين والداعين إلى المنكر المنابذين والمحذرين من المعروف؛ وذلك لكي يكون إسوة واقتداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتسلية له، وكذلك من كان بعده ممن يقتفي أثره، كما قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي [يوسف:108]، ومن اتبع النبي عليه الصلاة والسلام هم أصحابه ومن كان معهم على ذلك المسلك من أتباعهم وإن تقادم العهد وطال الزمن، فإن هؤلاء من الاتباع وهم أولى الناس بالنبي عليه الصلاة والسلام.

ولما قطع الله جل وعلا الصلة بمن يريد الانتساب إلى إبراهيم الخليل ممن كان من ذريته ممن حاد عن الصراط المستقيم من بني إسرائيل، فنفى الله جل وعلا عنهم أحقية الولاية والتبعية، إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ[آل عمران:68]، وهو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم.

وكان التابعون أولى بالولاية، وكذلك بالنسبة لأسلافهم ممن حاد عن ذلك النهج وذلك الصراط المستقيم، ولهذا بيّن الله سبحانه وتعالى هذه الطريقة بأوضح حجة وأيسر عبارة، فجعل الناس على صراط مستقيم ليس بمعوج؛ حتى يصلوا إلى الغاية المنشودة بأخصر طريق، وأوضح سبيل.

والكلام على مسائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي لا تخرج عن نصوص القرآن الكريم من كلام الله، وكذلك ما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما جاء عن من أمر الله جل وعلا بالاقتداء بهم ممن سلف من الأمم السالفة الغابرة من أتباع أنبياء الله جل وعلا، وقبل ذلك أنبياء الله جل وعلا، وكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أمرنا بالاتباع لهم في العمل والقول، وخاصة الخلفاء الراشدين، وقد جاء في ذلك جملة من الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما جاء في المسند والسنن من حديث العرباض بن سارية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور ).

وفي قوله عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي )، يقول الأصوليون وكذلك أهل الكلام: إن من صيغ الوجوب (على)، فحينما أمر الله جل وعلا بالتمسك بسنته لم يجعل ذلك منفرداً؛ لأنه قد يند عن هذه القاعدة مما يند مما يكون الإنسان مأموراً به على الاتباع على غير إلزام، مما أمر الله جل وعلا به كمسألة صلاة الضحى، فإنها جاءت على قول الإنسان: (على) كما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسند والسنن: (يصبح على كل سلامى منكم صدقة)، والمراد بالسلامة هي مفاصل الإنسان، وذكر بآخر الخبر: (ويجزئ عن ذلك ركعتان يصليهما الإنسان من الضحى)، وقد تكلم غير واحد من العلماء في هذا الخبر، ولكن في هذا إشارة إلى أن كلمة (على) ليست على الإطلاق أنها تفيد الوجوب، فأكد الله جل وعلا ذلك بجملة من المتأكدات مما لا يمكن أن يصرف بأي نوع من أنواع الصوارف، من ذلك أن النبي عليه الصلاة والسلام حذر من ضده، وهذا غاية البيان أن يأمر الله جل وعلا بشيء، وينهى عن ضده في سياق واحد، وهذا أعلى درجات البيان.

ومعلوم أن البيان على مراتب متنوعة، وهي ثلاثة:

المرتبة الأولى: أن يؤمر بالشيء، وينهى عن ضده في سياق ونص واحد.

المرتبة الثانية: أن يؤمر بالشيء بذاته من غير بيان ضده.

المرتبة الثالثة: أن يبين ضد الشيء، ومعلوم كما يقال: وبضدها تتبين الأشياء، فالله جل وعلا قد بيّن توحيده ببيان التوحيد بذاته، والنهي عن الشرك في كثير من مواضع القرآن لأهميته، وكذلك بين الله جل وعلا التوحيد من غير بيان ضده في بعض المواضع، وبين جل وعلا الشرك من غير بيان للتوحيد في نفس السياق، وهذه المرتبة الثالثة، وهذا التنوع يدل على أهمية المأمور به.

وهذه المراتب قد ظهرت في هذا الموضع حينما أمر النبي عليه الصلاة والسلام بالتمسك بسنته بقوله عليه الصلاة والسلام: ( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور )، وأكد الأمر بقوله: (علا) وبعدة مؤكدات منها: (تمسكوا بها)، وهذا أمر مستقل يستوجب الأمر على الإلزام، (تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ)، وهذا تأكيد يتبع تأكيدات ماضية مما يدل على أن المراد بذلك الوجوب.

وكذلك كلما دل الدليل على التأكيد على أمر بعينه، فإن الدليل ذاته يدل على النهي عن ضده بنفس المقدار، وهذا مطرد في كل ما أمر الله جل وعلا به، فحينما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بسنته في هذه الأنواع المتأكدة، وأمر بالاقتداء بهدي أصحابه عليهم رضوان الله تعالى، وخص بذلك الخلفاء الراشدين على هذه الأنواع والصيغ من التأكيدات دل على أنه يقابلها التحذير من الاقتداء بغيرهم ممن يسلك غير مسلكهم، ممن يدعو إلى الضلال والغواية والشر والفساد والإبداع والإحداث في دين الله سبحانه وتعالى، ويلحق في حكمهم من كان تابعاً لهم، ولو كان في الأزمنة المتأخرة، فإن الإنسان يقوم مقام من دعا على أثره.

وقال غير واحد من العلماء في قوله جل وعلا: لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ [الحجرات:2]، قالوا: إن هذا ليس بخاص في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تكلم بشيء من الوحي، بل هو على سبيل العموم، ولو تكلم بكلامه غيره ممن اهتدى بهديه، فرفع صوته عنده، كان ذلك إيذان بإحباط عمله، وهذا المعنى إذا قصد الرفع عند ذات المعاني وتلك الألفاظ التي كانت من جهة الأصل من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هي مشابهة للكلام في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

إن أصل التشريع الذي أمر الله سبحانه وتعالى بتفحصه واستخراج مكامن ومواضع المعروف، وكذلك المنكر من كلام الله سبحانه وتعالى، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم هو ما أمرت بالتحاكم إليه الأمة في سائر العصور والأمكنة، مهما تغير الحال، وتبدل الزمان، أمرت الأمة بالرجوع إلى هذا المصدر من الوحي؛ لأن الأمة إذا كانت تدعي أنها على الإسلام وجب عليها أن تأخذ من المصدر الأصلي، ووجب عليها حينئذٍ أن تعرف المعروف على هذا المعنى، وأن تعرف المنكر على هذا المعنى، وأن تحذر من أي مصطلحات أخرى تقلب المعروف إلى المنكر، وتقلب المنكر إلى المعروف.

ولهذا من نظر إلى أحوال الأمم السابقة من بني إسرائيل، ومن سبقهم وجد أن التنازع بين الطوائف طوائف الحق، وبين طوائف الباطل هو تنازع مصطلحات وحقائق، فإن الإنسان إذا أراد أن ينظر إلى دعوة فرعون حينما دعا قومه من بني إسرائيل وجد أنه يستعمل ذات العبارات التي يستعملها موسى عليه السلام من الدعوة إلى الحق والرشاد، وكذلك موسى عليه السلام استعمل هذه العبارات، فينخدع من عامة الناس ودهمائهم بالانسياق خلف هذه المصطلحات إذا كان الإنسان لا ينظر إلى معاني تلك المصطلحات، ويتفحص تلك المعاني، ويزنها بميزان الشرع، فإنه إن وزنها بميزان الشرع تبين له الخير من الشر، وتبين له المعروف من المنكر، وعلم أن هذه المصطلحات وإن استعملها الإنسان لا تقتضي عذراً لمن وصل إليه ذلك المصطلح أن هذا هو الحق، وذاك هو الباطل، ولو كان منكوساً، فإن الإنسان لا يعذر بذلك، ولهذا عذب الله جل وعلا الأمم السابقة، وإن كانت تدعي أنها دعيت إلى الحق.

وبيّن الله سبحانه وتعالى حال الضعفاء الذين يأتون يوم القيامة وبرزوا لله جميعاً، ((فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا)) الضعفاء قالوا: للذين استكبروا ماذا قالوا: إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا [إبراهيم:21] يعني: في الدنيا، بتلك المصطلحات وتلك الدعوات التي دعوتمونا إليها، ولكن من جهة الحقيقة عاقبهم الله سبحانه وتعالى بهذا العقاب الذي توعدهم الله جل وعلا به في النار يوم القيامة، فزحزحوا عن الجنة، وأدخلوا النار، وما نفعهم حينما برزوا على السواء الضعفاء، والذين استكبروا، فكانوا حينئذٍ في موضع واحد، ولم يعذرهم الله جل وعلا بذلك العذر.

ومن الأمور المهمة قبل الولوج في جملة من المسائل المراد الكلام عليها في أمر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التقدم بين يدي هذا الموضوع بمقدمة مهمة تتعلق بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأهميته، وجملة من الأصول التي يتفق عليها أهل العقل، وهي ظاهرة في جملة من نصوص النقل لمن كان له أدنى نظر في كلام الله جل وعلا، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن المهمات في ذلك أن يعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركن من أركان الإسلام، وقد دل الدليل في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم في إثبات الركنية للإسلام، وأنه كالبناء، وشبهه بذلك كما جاء في حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين وغيرهما، قال عليه الصلاة والسلام: ( بني الإسلام على خمس)، وذكرها عليه الصلاة والسلام، فقوله هنا: (بني) دليل على أن الإسلام شبيه بالبناء، فله أركان، فإذا اختل شيء من هذه الأركان اختل ذلك البناء وربما سقط.

ومن هذه الأركان ما جاء في حديث عبد الله بن عمر على سبيل الاختصار، وقد جاء مفصلاً في حديث حذيفة بن اليمان كما عند البزار وعند أبي يعلى من حديث أبي إسحاق عن صلة عن حذيفة بن اليمان قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ( الإسلام ثمانية أسهم )، وجاء في بعض الألفاظ: ( ثمانية أركان )، ( الصلاة سهم والصيام سهم، والزكاة سهم والحج سهم، والأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم، والجهاد في سبيل الله سهم )، وجاء في بعض الروايات: ( وشهادة أن لا إله إلا الله سهم، وقد خاب من لا سهم له ). وجاء الخبر مرفوعاً وموقوفاً، وصوب غير واحد من العلماء الوقف، وله حكم الرفع كما نص على ذلك الحافظ ابن رجب عليه رحمة الله تعالى وغيره، بقوله هنا عليه الصلاة والسلام: ( ثمانية أسهم ).

يعني: وقد أشار إلى جملة من الأركان التي جاءت في حديث عبد الله بن عمر وهي الصلاة والزكاة والصيام والحج، وهي من أركان الإسلام.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا تأمله الإنسان وجد أنه من أركان الدين؛ إذ أنه لا يقوم شيء من أمور الدين إلا بهذه الشعيرة، ولكن تأخر، فكان ركناً سادساً من أركان الإسلام؛ لأن الأصل في معرفة فضل الأعمال بمعرفة حقيقة العمل، ومعرفة فضل العلم بمعرفة المعلوم وشرفه، فأعظم معلوم هو ما يتعلق بتوحيد الله سبحانه وتعالى، ما يتعلق بتوحيد الله جل وعلا بأسمائه وصفاته وألوهيته، وربوبيته، فكان التوحيد من جهة الذات ومن جهة الحقيقة أعظم معلوم على الإطلاق، وتبعه بعد ذلك ما يلحق فيه من جهة المعاني، ويدل عليه من ثمار العمل من بقية الأركان العملية من الصلاة والزكاة والصيام والحج، وتبع ذلك ما كان داعماً لهذه الأركان، وما كان دليلاً لها، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وفي قوله: (الأمر بالمعروف سهم، والنهي عن المنكر سهم) إشارة إلى أن هذه الشعيرة يمكن أن تتجزأ بخلاف بقية الشرائع التي أشار إليها في أول الخبر في قوله: (الإسلام سهم، والصلاة سهم، والزكاة سهم، والصيام سهم، والحج سهم)، فهي من جهة الأصل هي سهام ينبغي أن يأتي بها الإنسان بتمامها.

أما الأمر بالمعروف فإنه يأتي به الإنسان ولو لم يكن مستطيعاً بالإتيان بالنهي عن المنكر، فإذا أتى بالمعروف، ولم يكن قادراً على النهي عن المنكر كان ممن أقام العذر، وعذر حينئذٍ، وإذا كان قادراً على النهي عن المنكر في موضع، ولم يكن ثمة حينئذٍ دلالة على الأمر بالمعروف كان حينئذٍ ممن أسقط عن كاهله التكليف وأقام الحجة.

ومن المعاني أن الفصل بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن الأمر بالمعروف هو متضمن من جهة الحقيقة النهي عن المنكر، فإذا أمر الإنسان بالمعروف صراحة كان دليلاً على النهي عن المنكر، فالأمر بالتوحيد هو دليل عن النهي عن المنكر، والنهي عن الزنا هو دليل وإرشاد إلى النكاح والإحصان بالطرق المشروعة، والنهي عن الربا دليل أيضاً على البيع الحلال، والأمر بالبيع الحلال والمطعم الحلال دليل على تجنب سبل وصور البيع الحرام من بيع الغرر والربا بجميع أنواعه وصنوفه، فهذا يدل على أن بينها تناوباً بخلاف بقية الأركان.

والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يمكن أن يقوم المعروف إلا عليه، فإذا نقص وقل في أمة من الأمم، أو في زمن من الأزمنة، أو في بلد من البلدان ظهر الشر وفشا في الناس؛ ولهذا كان بيان هذه الشعيرة في كلام الله جل وعلا، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم من أظهر البيان، والحث عليها من أظهر الحث.

وقد أناط الله جل وعلا الخيرية بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما روى الإمام مسلم من حديث طارق بن شهاب عن أبي سعيد الخدري: ( من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وما وراء ذلك من الإيمان حبة خردل ).

وهذه المراتب دليل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا بد أن يوجد في الأمة، فإذا خليت الأمة من هذه الشعيرة ولو بأدنى مراتبها، فإنه قد انتفت منها الخيرية، وبه نعلم أن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتمسك بهدي السلف الصالح وخاصة الخلفاء الراشدين الأربعة هو ذات المعنى الذي قال فيه النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث عمران وعائشة وغيرهما: ( خير الناس قرني ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ).

وهذه الخيرية إشارة إلى قيام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [آل عمران:110]، أي: كنتم خير أمة أخرجت للناس على الإطلاق، فلم يكن ثمة أمة بقيت بها هذه الشعيرة يؤمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، فتكون ثمة أمة قائمة ظاهرة على أمر الله، لا يضرها من خذلها، ولا من كذبها إلى أن تقوم الساعة إلا هذه الأمة، وهذه من خصائص هذه الأمة أن يبقى الدين ظاهراً لا يضره الخذلان، والإشارة إلى معنى الخذلان إلى وجود من يظن فيه الخير، فبدر منه الخذلان من أهل الإسلام ممن يكون من أهل الجلدة، ممن يتكلم باللسان ممن يكون من الدعاة على أبواب جهنم الذين حذر منهم النبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح من حديث حذيفة بن اليمان، ويأتي سياقه بإذن الله.

ومن المهمات في هذا الباب أن يكون الإنسان حريصاً على معرفة فضائل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ لأنه من أعظم الدوافع، وقد جعل النبي عليه الصلاة والسلام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من سبل التوفيق للإنسان، ومن أعظم الطاعات، بل أنه من المكفرات للمحرمات والفتن التي تلحق الإنسان، فهو عاصم للفتنة وإن قل عمل الإنسان الآخر، والنبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث حذيفة بن اليمان قال: ( فتنة الرجل في أهله وماله وولده وجاره يكفرها الصلاة والزكاة والصدقة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر )، فجعل النبي عليه الصلاة والسلام من قرائن عظيم الأعمال ما يكفر تلك السيئات وتلك الفتنة التي تلحق الإنسان في أهله وماله وولده جملة من عظيم المكفرات التي هي من أركان الإسلام، وذكر منها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

وهذا مما يشير إلى دلالة الاقتران التي يشير إليها جماعة من العلماء من الأصوليين وغيرهم مما يدل على التشابه في هذا، أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لما اقترن بأركان الإسلام وهي الصلاة والصيام والصدقة، وذكرت في حديث حذيفة، مما يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو من أركان الإسلام، كما جاء مفصلاً في حديث حذيفة بن اليمان عليه رضوان الله، كما جاء عند البزار وأبي يعلى وغيرهما.

وفي هذا إشارة إلى أن التكفير الذي يلحق السيئات لا يكون إلا من عظائم الأعمال التي تأتي على الذنوب، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: وَأَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفِيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، فلما كانت الصلاة في هذا المقام تكفر سيئات الليل والنهار، واقترنت في حديث حذيفة بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دل على الاشتراك في هذا التكفير، مما ينبغي للإنسان أن يكون آمراً بالمعروف ناهياً عن المنكر.

ومن الأمور المهمة في هذا أن يعلم أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو مما يتعلق فيه التعاضد بين أولياء الله من أهل الإيمان، وقد جعل الله سبحانه وتعالى المنافقات والمنافقين مقابلين للمؤمنين والمؤمنات، فقال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ [التوبة:71]، فقوله: (بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ) أي: أنهم يعتضدون على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى يصلوا إلى تحقيق المراد؛ مما ينبغي أن يلتفت إلى أهمية العمل الجماعي في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما يسمى في زمننا هذا بالعمل المؤسسي، وهذا ظاهر في كثير من الأحوال التي كان النبي عليه الصلاة والسلام يقصدها، وقصدها الخلفاء الراشدين في الدعوة إلى الله، وصد الشر بأنواعه سواء ما يتعلق في أمور الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وما يتعلق كذلك في أمور الجهاد.

وقد جعل الله سبحانه وتعالى المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض، لماذا؟ يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، فلما كانوا أولياء لبعض دل على أنهم اعتضدوا، فكانوا كاليد الواحدة، وهذا يظهر في قول الله سبحانه وتعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].

فالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يقتضي العمل جماعة من جهة الأصل لا عمل الأفراد، مع وجود أهمية عمل الأفراد؛ لأن الإنسان مكلف بنفسه وبذاته، وقد قال النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في حديث أبي سعيد الخدري: ( من رأى منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه )، فقوله عليه الصلاة والسلام: ( من رأى منكم منكراً ) هذه تفيد العموم، سواءً في سبيل المنكر، (من رأى منكم منكراً)، والنكرة في سياق الإثبات تفيد العموم، وكذلك في حال الرائي أياً كان ولو كان منفرداً، وإن كانوا كذلك جماعة فإن التكليف يلحق الأفراد، فإذا قام بذلك شخص سقط عن البقية، وهذا يدل على أهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر سواءً كان على سبيل الأفراد، أو كان على سبيل الجماعة.

وكذلك يتعلق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على الجماعة؛ لأن الشر الذي يلحق بالأمة إن عطلت هذه الشعيرة يلحقها بتمامها، وقد قال الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال:25]، فالفتنة والشر الذي يلحقه الله جل وعلا بالأمة تلحق الأمة بسائرها، بخلاف لو كان الإنسان مذنباً بنفسه فإن الإنسان تلحقه سيئة ذنبه بذاته، وأما إذا انتشر الشر وعطلت شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإن العقاب يعم الأمة بأسرها.

والنبي عليه الصلاة والسلام ممثلاً لحال الأمة والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، كما جاء في البخاري من حديث زكريا عن عامر الشعبي عن النعمان بن بشير قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( مثل القائم على حدود الله، والمعطل لها كمثل قوم ركبوا سفينة فاستهموا، فكان قوم في أسفلها، وقوم في أعلاها، فكان الذين في أسفلها إذا سقوا قالوا: لو ثقبنا ثقباً فاستقينا، فلا يضر من علانا )، قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( لو أخذوا على أيديهم نجا ونجوا، وإن تركوهم هلكوا وهلكوا معهم )، مما يدل على أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر متعلق بالمجتمع بأسره؛ ولهذا ينبغي للإنسان أن يستشعر أن الشر يلحقه، وكذلك يلحق المجتمع بأسره.

وقال النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في الصحيحين وغيرهما عن عروة عليه رضوان الله تعالى قال: ( سمعت أم سلمة تحدث عن أم حبيبة عن زينب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام في ليلة من الليالي وقال: ويل للعرب من شر قد اقترب، اليوم قد فتح من ردم أو سد يأجوج هكذا، وحلق بين أصبعه السبابة والإبهام، قالت: يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث ). وفي هذا الحديث المختصر من كلام النبي عليه الصلاة والسلام، وسؤال أم المؤمنين له: ( أنهلك وفينا الصالحون )، إشارة إلى أنه قد يكون الإنسان من أهل الخيرية والقرب من العلم والدعوة، ويجهل حقيقة عاقبة ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما جهلته هنا أم المؤمنين عليها رضوان الله تعالى، فقالت: (أنهلك وفينا الصالحون؟)، وهذا السؤال يقتضي عدم العلم السابق، مع العلم بأهمية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهذا من الأمور الدقيقة التي يعرضها العالمون، ولهذا نجد أن كثيراً من سواد الناس وعامتهم يقولون: إن الإنسان إذا وقع في المنكر لا شأن لك به، وهذا من الخطأ والوهم الذي يطرأ على الخاصة فضلاً عن العامة.

وفي سؤالها هنا: ( أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم، إذا كثر الخبث )، في قولها: (الصالحون) إشارة إلى أن الناس يتعلقون بالصالحين إن وجدوا، وإذا كانوا لا يأمرون بالمعروف ولا ينهون عن المنكر أن هذا من سبل الصد عن دين الله، فإن وجود الصالح بالمجتمع قد يكون وبالاً على الأمة إذا كان لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر، ولهذا أشارت إلى ذكر الصالحين، ولم تقل: وفينا الشيوخ، وفينا الأطفال، وفينا البهائم، لا، وإنما أشار في حال وجود الشر في الناس إلى الصالحين؛ لأن الصالح صلاحه لنفسه، والمصلح أمره متعدٍ إلى غيره، والأصل في المصلح أنه صالح في نفسه وقد أصلح غيره، ودرجة التمام في ذلك أن يكون الإنسان صالحاً في نفسه، وصالحاً في حق غيره من أهله.

والمرتبة الثانية: أن يكون الإنسان صالحاً في حق غيره، ومقصراً في حق نفسه.

والمرتبة الثالثة وهي أدنى المراتب: أن يكون الإنسان صالحاً في نفسه، وليس بصالح في حق غيره، ولا يلي ذلك إلا النفاق الخالص والكفر المخرج من الملة، وذلك بانتفاء الخيرية التي أخبر بها النبي عليه الصلاة والسلام في هذه الأمة، وذلك أن وجود الصالح فيه نوع أمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإظهار الشعائر والشرائع في دين الله جل وعلا، وإن لم يأمر بالمعروف، ولكن عد النبي عليه الصلاة والسلام هذا تقصيراً؛ لأنه ما تعمد تعدية ذلك إلى غيره، فقال: (نعم إذا كثر الخبث)، وفي قوله: ( إذا كثر الخبث ) إشارة إلى أن ما تركه ذلك هو نوع خبث وشر يجب أن يغير وينكر، وأنه ليس من الخير في شيء.

ومن المسائل المهمة في هذا الباب، والتي تتعلق بمسألة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: حقيقة المعروف وحقيقة المنكر، فالمعروف هو ما عرفه الشارع، ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ [آل عمران:104]، المعروف هنا (ال) للعهد هو ما عرفه الشارع وبين حاله، لا ما عرفه الأسلاف والآباء والأجداد، وما عرفته الأذواق معارضة في ذلك للنص الظاهر من كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ومن نظر إلى التنازع في تحقيق مصطلح المعروف بين أهل الحق وأهل الباطل وجد كما تقدم أن حرب الألفاظ وحرب المصطلحات وجدت في الصدر الأول من البشرية، فما من نبي بعثه الله سبحانه وتعالى إلى قومه إلا وقومه يدعون إلى الحق، والحق من جهة الاصطلاح، لكن من جهة المعاني يدعون إلى الباطل، وأنبياء الله جل وعلا يدعون إلى الحق المتمحض من جهة المعنى ومن جهة اللفظ؛ لأنه عن رب العالمين سبحانه وتعالى.

إذاً: مسألة المنازعة في تحقيق المعروف، وتحقيق المنكر، هي موجودة منذ أن خلق الله جل وعلا البشرية، ويتأكد ذلك مع تقادم العصور.

التحذير من تزييف الكبراء والطغاة

وإذا تعلق الناس في مصطلح من المصطلحات، ودعا إلى ذلك الكبراء، والكبراء يراد بهم في كلام الله سبحانه وتعالى القادة، كما جاء ذلك التفسير عن غير واحد كما جاء عند ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن جرير الطبري من حديث ابن جريج قال: الذين استكبروا هم القادة في الأرض، يعني: أن الحوار الذي يكون في الآخرة بين الذين استضعفوا والضعفاء، وكذلك الأصاغر من الناس ودهمائهم وبين الكبراء من الناس يكون بين القادة وبين شعوبهم؛ لأنهم دعوهم إلى الباطل بصورة الحق، ومن نظر إلى هذا الأمر وجد أنه ما من نبي من أنبياء الله سبحانه وتعالى قص الله حكايته إلا وأشار الله جل وعلا إلى هذا المعنى بقوله: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]، وفي قوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) الآباء المقصود بذلك الأسلاف وإن لم يكونوا من الأصلاب، ويكون هذا مما وجد مما يسمى من أعراف الناس وعاداتهم، وما استقر في المجتمعات، فحينئذٍ هذا من سبل استنباط المعروف عند أهل الضلال أن يعرفوا المعروف بما وجده الآباء والأجداد، ولا ينظروا إلى نصوص الشريعة، فيكون هذا من طرائق أهل الضلال.

بل بيّن الله سبحانه وتعالى تلك الحال على أنها حال كل من أرسله الله جل وعلا إلى أمة في أي قرية من القرى، فتكون دعواهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]، فأعظم ما يؤثر على الإنسان مخالفة ما يقال على أنه المجتمع، أو مسايرة الناس أو مسايرة الغالب، أو الكبراء والأسياد ونحو هذا.

ولهذا أهل العلم والمعرفة الفيصل بين الحق والباطل هو الدليل المتمحض من النص، ومن نظر إلى معرفة عامة الناس، أو معرفة أهل الضلال والزيغ، أو تعريفهم للمعروف وكذلك المنكر، وجد أن أصل المعروف والمنكر لديهم هو التشبث بما كانت عليه المجتمعات، ونحن نجد في كثير من دعاوى المتكلمين الذين يدعون إلى بعض السلوكيات والأعمال حينما يقولون: إن المجتمع الفلاني فيه كذا، أو أن المجتمعات الإسلامية أكثرها على هذا النحو أو على هذا العمل، ولا ضير في ذلك، وهذا شبيه بتلك الدعوة، أي: أن الإنسان يريد أن يكون مع السواد الأعظم.

وقد روى الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه، وكذلك ابن عبد البر من حديث أبي عبد الله الجعفري عن عبد الله بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب أن عبد الله بن الحسن كان من جلساء ربيعة الرأي، فكانوا يتدارسون مسألة، فقال فيها عبد الله بن الحسن رأيه، وقال رجل من الجلساء: إن هذا ليس عليه عمل الناس، فقال عبد الله بن الحسن: أرأيت إذا كان الجهال على الناس، ثم كانوا حكاماً، فكانوا هم الذين يقضون في الناس، أهم الفيصل؟ فقال ربيعة: إن هذا كلام أبناء الأنبياء، والمراد من هذا أن أبناء الأنبياء وخص هنا الأنبياء؛ لأنهم ورثوا ذلك عن الأنبياء.

وطريقة الأنبياء أنهم لا ينظرون إلى مسألة الآباء، ولا ينظرون إلى مسألة سواد الناس.

نظرة سواد الناس للمعروف والمنكر

وسواد الناس في معرفتهم للمعروف والنهي عن المنكر ينظرون إليه من جانبين: ينظرون إليه بالنظر إلى الأسياد والكبراء.

والجانب الثاني: ينظرون إلى المعروف، وينظرون إلى المنكر بحسب الأهواء والرغبات والأقيسة، ولهذا لما حرم الله سبحانه وتعالى على كفار قريش الربا قالوا: إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا [البقرة:275]، فنظروا إلى القياس من غير نظر إلى النص الشرعي، ونظروا إلى التعليل، فيقولون: إن هذا شبيه بذلك العمل، وفي هذا صدم للنص بأقيسة عقلية.

ومن نظر إلى النبي عليه الصلاة والسلام حينما واجه أرباب الشر وأرباب المنكر من كفار قريش وغيرهم من أتباعهم وجد أن هذه الدعوة تختلف من جهة الأسلوب، ولكنها من جهة الأصل واحدة، ولهذا ينبغي للآمر بالمعروف والناهي عن المنكر أن يكون على بينة من هذا الأمر، وألا يغتر بمسألة سواد الناس وكثرتهم ما وجد الدليل.

حصول التغير في العمل من الصدر الأول

وإذا كان الصدر الأول من التابعين يتغير لديهم العمل حتى يضمحل فيهجرون السنة، وهم من التابعين، بل من متأخري أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل هذا يتباين من بلد إلى بلد، وقد روى البخاري عليه رحمة الله في كتابه الصحيح من حديث أنس بن مالك، يقول ابن شهاب الزهري: دخلت على أنس بن مالك وقد قدم الشام وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك؟ قال: لم أعهد شيئاً مما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أمركم إلا الصلاة، وضيعتم ما ضيعتم منها.

وأخرج البخاري عنه حديثاً آخر، وهو من أواخر من توفي من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( قدم النبي عليه الصلاة والسلام إلينا المدينة ) انظروا ذاك في الشام والعراق، وهذا في المدينة، ( قدم إلينا في المدينة فقلنا: هل تنكر من أمرنا مما كان عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء؟ قال: لا، إلا تسوية الصفوف )، وهذه إشارة إلى مسألة معينة، أما بالنسبة لأهل الشام والعراق، فقال: (لم أعهد شيئاً مما كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أمر الصلاة وضيعتم ما ضيعتم)، فأشار إلى مسألة أداء الصلاة وتضييع أوقاتها، لماذا؟ لأنه كان على العراق في تلك الولاية الحجاج بن يوسف الثقفي، فبدل من بدل، مع وجود هذا التغيير الذي بدل فيه وجد من كان يتبع الأسياد ممن كان في زمن الحجاج ممن أضله الله جل وعلا حتى من الصالحين، وقد ترجم ابن حبان في كتابه الثقات لأحد الرواة فقال: وكان حجاجياً، يقول: من كان مع الحجاج فهو على الإسلام، ومن لم يكن مع الحجاج فليس على الإسلام، مع ظهور بغيه وعدوانه وقتله للصالحين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وللصالحين أيضاً من التابعين، مما يدل على أن القلوب تتشوف، وتذوب مع ما حذر منه النبي عليه الصلاة والسلام، وحذر الله جل وعلا منه في كتابه العظيم، وجعله سبباً للطغيان.

وإذا تعلق الناس في مصطلح من المصطلحات، ودعا إلى ذلك الكبراء، والكبراء يراد بهم في كلام الله سبحانه وتعالى القادة، كما جاء ذلك التفسير عن غير واحد كما جاء عند ابن المنذر وابن أبي حاتم وابن جرير الطبري من حديث ابن جريج قال: الذين استكبروا هم القادة في الأرض، يعني: أن الحوار الذي يكون في الآخرة بين الذين استضعفوا والضعفاء، وكذلك الأصاغر من الناس ودهمائهم وبين الكبراء من الناس يكون بين القادة وبين شعوبهم؛ لأنهم دعوهم إلى الباطل بصورة الحق، ومن نظر إلى هذا الأمر وجد أنه ما من نبي من أنبياء الله سبحانه وتعالى قص الله حكايته إلا وأشار الله جل وعلا إلى هذا المعنى بقوله: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]، وفي قوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) الآباء المقصود بذلك الأسلاف وإن لم يكونوا من الأصلاب، ويكون هذا مما وجد مما يسمى من أعراف الناس وعاداتهم، وما استقر في المجتمعات، فحينئذٍ هذا من سبل استنباط المعروف عند أهل الضلال أن يعرفوا المعروف بما وجده الآباء والأجداد، ولا ينظروا إلى نصوص الشريعة، فيكون هذا من طرائق أهل الضلال.

بل بيّن الله سبحانه وتعالى تلك الحال على أنها حال كل من أرسله الله جل وعلا إلى أمة في أي قرية من القرى، فتكون دعواهم: إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ [الزخرف:23]، فأعظم ما يؤثر على الإنسان مخالفة ما يقال على أنه المجتمع، أو مسايرة الناس أو مسايرة الغالب، أو الكبراء والأسياد ونحو هذا.

ولهذا أهل العلم والمعرفة الفيصل بين الحق والباطل هو الدليل المتمحض من النص، ومن نظر إلى معرفة عامة الناس، أو معرفة أهل الضلال والزيغ، أو تعريفهم للمعروف وكذلك المنكر، وجد أن أصل المعروف والمنكر لديهم هو التشبث بما كانت عليه المجتمعات، ونحن نجد في كثير من دعاوى المتكلمين الذين يدعون إلى بعض السلوكيات والأعمال حينما يقولون: إن المجتمع الفلاني فيه كذا، أو أن المجتمعات الإسلامية أكثرها على هذا النحو أو على هذا العمل، ولا ضير في ذلك، وهذا شبيه بتلك الدعوة، أي: أن الإنسان يريد أن يكون مع السواد الأعظم.

وقد روى الخطيب البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه، وكذلك ابن عبد البر من حديث أبي عبد الله الجعفري عن عبد الله بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب أن عبد الله بن الحسن كان من جلساء ربيعة الرأي، فكانوا يتدارسون مسألة، فقال فيها عبد الله بن الحسن رأيه، وقال رجل من الجلساء: إن هذا ليس عليه عمل الناس، فقال عبد الله بن الحسن: أرأيت إذا كان الجهال على الناس، ثم كانوا حكاماً، فكانوا هم الذين يقضون في الناس، أهم الفيصل؟ فقال ربيعة: إن هذا كلام أبناء الأنبياء، والمراد من هذا أن أبناء الأنبياء وخص هنا الأنبياء؛ لأنهم ورثوا ذلك عن الأنبياء.

وطريقة الأنبياء أنهم لا ينظرون إلى مسألة الآباء، ولا ينظرون إلى مسألة سواد الناس.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة اسٌتمع
الأحكام الفقهية المتعلقة بالصيام [2] 2709 استماع
إنما يخشى الله من عباده العلماء 2473 استماع
إن خير من استأجرت القوي الأمين 2314 استماع
العالِم والعالَم 2307 استماع
الذريعة بين السد والفتح [1] 2296 استماع
الإسلام وأهل الكتاب 2129 استماع
الذريعة بين السد والفتح [2] 2101 استماع
الحجاب بين الفقه الأصيل والفقه البديل [1] 2100 استماع
الردة .. مسائل وأحكام 2075 استماع
شرح حديث إن الحلال بين وإن الحرام بين [2] 2044 استماع