ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الله جل وعلا قد أنزل كتابه العظيم تبياناً لكل شيء، محكماً بيناً وجعله الحبل المتين، من استمسك به نجا، ومن اعتصم به هدي ووفق لمرضاة الله سبحانه وتعالى، وسماه الله جل وعلا الصراط المستقيم، ولهذا قال الله جل وعلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، وهو المراد في قوله عليه الصلاة والسلام حينما خط لأصحابه خطاً وخط عن يمينه وشماله خطوطاً، وقال: ( هذا الصراط المستقيم، وهذه سبل على كل سبيلٍ منها شيطان يدعو إليها ).

والصراط المستقيم هو طريق واحد منبعه ومعينه ومشربه من الكتاب والسنة، والسنة وحي كالقرآن نزلت على نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، كما أنزل الله جل وعلا على نبيه القرآن، ولهذا لا يمكن أن يأتي أحد بشيء في هذا الدين إلا ومرده من جهة الأصل إلى الوحي؛ إلى كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو إلا مُبلِّغ عن رب العالمين، قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى [النجم:3-4].

وأعظم إسناد نتلقاه من جهة التعبد لله سبحانه وتعالى لا يقف عند أحد إلا عند رب العالمين، ولهذا يقول أحمد بن زيد بن هارون كما رواه الخطيب البغدادي في كتابه الكفاية: إنما هي -يعني: شريعة الله جل وعلا- صالح عن صالح، وصالح عن تابع، وتابع عن صاحب، وصاحب عن رسول الله، ورسول الله عن جبريل، وجبريل عن الله، وهذا هو مرد الدين الذي نتعبد به الله سبحانه وتعالى، لا نأخذه من أحد دون الله جل وعلا، ولا يمكن لأحد أن يفتئت بتشريع شيء من دون الله، ولهذا من قال: إن أحداً ممن كان في دائرة العبودية، أنه ينفرد في شيء بالتعبد للناس أمراً ونهياً، فيحلل الشيء فيكون حلالاً ويحرم الشيء فيكون حراماً من دون الله سبحانه وتعالى، إلا وكان هذا الرجل زنديقاً طاغوتاً، سواءً كان الرجل الذي يزعم ذلك، أو من رضي له هذا؛ لأنه ينازع الله جل وعلا في حقه.

والله سبحانه وتعالى جعل الحكم له جل وعلا خاصاً لا يشاركه في ذلك أحد: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57] ، لا ينازعه في ذلك أحد، ولا يمكن لأحد أن يأتي بشيء من التشريع أصولاً وفروعاً، فإن ذلك لله سبحانه وتعالى، ولهذا قال الله جل وعلا مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام، وآمراً له أن يبين نهجه عند أمته: قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الأنعام:162] ، أي: ملكاً له وإليه، منه من جهة التلقي والأخذ، وكذلك إليه نرد تلك العبادة.

فهذا خصيصة دين الإسلام وشريعة الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة.

وقد امتازت هذه الأمة بأن جعلها الله سبحانه وتعالى أمةً مرحومة، ودين الإسلام هو دين الفطرة جاء موافقاً لما فطر الله جل وعلا عليه البشرية: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] ، لهذا قد روى البخاري و مسلم من حديث أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ).

ومعنى الفطرة: هي الغريزة التي في نفس الإنسان التي توجهه على إدراك الحقائق والتمييز بين الخير والشر منها، وهذا تدل عليه الفطرة، فجاء ذلك الوازع المتأكد الذي يبين التأكيد على تلك الدلالة، بهذا يدفع وساوس الشيطان وخواطر النفس الأمارة بالسوء التي تأمر الإنسان بالشر وتدفعه عن الخير بإشباع تلك النزوات، ولهذا المتقرر في نصوص الشريعة وكذلك المتقرر من جهة النظر أن الإنسان فيه شيئان:

الأمر الأول: النفس، والأمر الثاني: العقل، والعقل من جهة الأصل هو أصل الفطرة ومنبتها، وأما النفس فهي ميالة، ولهذا كثير من الناس حينما يريد أن يرتكب فعلاً من الأفعال التي يتشوف الإنسان إلى الوقوع فيها مع كونها من الشر المحض، لو سأل نفسه عن هذا الفعل أو هذا القول: هل هو من المحرم أو الجائز؟ لقال: إنه من المحرمات، فالذي أجاب أنه من المحرم تلك الفطرة والغريزة التي في عقل الإنسان، والذي دفع الإنسان إلى ارتكاب ذلك المحرم تلك النزوة التي تسمى: نفس الإنسان التي أطلق الله جل وعلا: إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي [يوسف:53].

فأصل النفس تدل الإنسان على الشر، وأصل العقل إذا اقترن بشيء من نور الهداية أنه يدله على الخير والنور والهدى، وهو موافق لما أخبر الله جل وعلا به، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لهذا نجد أن كثيراً من الناس حينما يقع في شيء من المحرمات: في قتل النفس وإزهاقها أو الغيبة أو النميمة أو الفجور بالزنا وغير ذلك، حينما يسأل نفسه أو يسأله سائل عن هذا الفعل: هل هو من الحرام أو من الحلال؟ يقول: إنه من الحرام، إذاً: لماذا يقدم على ذلك؟ الذي دفعه إلى ذلك نفسه، والذي قرره أن هذا في حيز المحرم والجرم تلك الفطرة وذلك العقل التي تحتاج إلى تأكيد أو شيء يؤازرها حتى تغلب النفس، ولهذا جاء ما يسمى بوازع الشرع، وهو الأدلة من كلام الله عز وجل وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى تعين ذلك العقل وتلك الفطرة حتى تأطر تلك النفس، فيتغلب الإنسان على نفسه الأمارة بالسوء.

ولهذا قد اجتمع في أهل الإيمان وازعان: الوازع الأول: وازع الشرع، وهي النصوص الشرعية التي حثت على كثير من الأفعال واجتناب كثير من الأقوال، ورتب الله جل وعلا على ذلك الوازع أموراً متعددة، من هذه الأمور التي رتب الله جل وعلا عليها الثواب بالنسبة للحسنات، كذلك العقاب الذي يجعله الله جل وعلا لمن خالف أمره، وهو تحت مشيئة الله جل وعلا، ما لم تكن المخالفة من الكفر المخرج من الملة، فإن الله جل وعلا لا يغفر لمن أشرك معه شيئاً إلا أن يبادر بالتوبة. والوازع الثاني: وازع العقل والفطرة.

فإذا اجتمع الوازعان على الإنسان أو على نفسه وتأكد ذلك، فإنه يغلب حينئذ النفس، وتبقى الفطرة وكذلك النفس في صراع بين غالب ومغلوب، والغلبة في ذلك للأقوى؛ لهذا الإنسان بحاجة إلى أن يقرن عقله وفطرته بنصوص الشرع، وأن يستضيء بذلك، فإن الإنسان إذا انفرد بعقله بتمييز الطريق، فهذا كحال الإنسان الذي يريد أن يبصر في الظلام الدامس، لأن البصر الذي رزقه الله جل وعلا الإنسان لا يمكن أن يستفيد منه، ما لم تكن الدنيا قد أضيئت بشيء من أنواع الإضاءات التي يسر الله جل وعلا أمرها للناس، سواءً بالنيرين: الشمس والقمر، أو شيء من المصابيح أو الوقود ونحو ذلك، الذي يميز الإنسان بها الطرق في حال ضربه في الأرض.

كذلك أيضاً بالنسبة للهداية: لا يمكن للإنسان أن ينفرد بعقله في معرفة طريق الخير من الشر، ما لم يقرن ذلك بالنصوص من كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا اجتمع هذان تأكد لدى الإنسان قوة الحجة والبصيرة، وكذلك أعطاه ذلك قوة إيمان بالإتيان بالعبادة، لهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقى الوحي من ربه مقترناً بالدلالتين: بدلالة العقل على كثير من استحقاق الله جل وعلا بعبودية من خلقه، كذلك بالأوامر الشرعية التي كان التعليل وكذلك الحكم من الأمور المضمرة التي لا يبينها الله سبحانه وتعالى لكثير من خلقه من باب الامتحان والاختبار، ويبين شطراً من العلل والأحكام، حتى يأخذ الإنسان من هذه إلى هذه فيكون حينئذ من أهل الإيمان الخلص والكمل.

ولهذا من نظر إلى أحوال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجد أنهم قد وضعوا زمامهم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا يسألون عن كثير من العلل والحكم؛ وذلك أنهم قد قطعوا بإيمان رسول الله صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة:

من هذه الوجوه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دل الدليل من جهة الحس على صدق إخباره في بعض المواضع، فلما دل على بعض المواضع وجب الإيمان بالمتبقي مما خفيت فيه العلة.

كذلك بموافقة الفطرة بأمثال هذه الأمور، فإنه ما من أمر قد أمر الله جل وعلا به عباده إلا وهذا الأمر فيه مصلحة للإنسان في حاله, وكذلك في آجل أمره، ولا يمكن أن الله جل وعلا يأمر عباده بأمر ثم يكون فيه مفسدة عليهم في دينهم أو في دنياهم، كذلك لا يمكن أن ينهى الله جل وعلا عباده عن فعل من الأفعال إلا وفي فعل ذلك المنهي عنه ضرر للإنسان في حاله أو في آجله، أو قد يكون الضرر متعدياً، فيكون حينئذ من جملة الأمور المحرمة المغلظة التي يشدد الله جل وعلا فيها، فالشريعة تشدد في الأمور المحرمة المتعدية ما لم تشدد في الأمور اللازمة التي لا تتعدى إلى الغير، ويستثنى من ذلك ما يتعلق بأبواب الشرك فإن الله جل وعلا عظمها؛ لأنها تتعلق بحق الله سبحانه وتعالى المحض، وحق الله جل وعلا المحض في هذا الباب مبني على المشاحة، ولا يمكن أن يعفو الله جل وعلا عن عبد قد أشرك معه شيئاً، لهذا يقول الله جل وعلا في كتابه العظيم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

وهذا يدل على أن الله سبحانه وتعالى قد جعل الظلم على مراتب من جهة أفعال العباد، وأفعال العباد على مراتب متنوعة ليس الكلام في هذا الموضع يليق بها، فإن الخوض فيها يدخلنا في أبواب متنوعة، ولكن المراد فيها أن يشار إلى أن طريق الهداية الذي أمر الله جل وعلا العباد بسلوكه هو طريق مستقيم، وهو طريق واحد لا طرق متعددة.

لهذا من نظر إلى طريق الهداية والرشاد الذي ينص الله جل وعلا عليه في كتابه العظيم، يجد أن الله جل وعلا يسميه بالإفراد ولا يسميه بالتعدد، لهذا يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257] ، فسمى الباطل ظلمات وهي متعددة، وسمى الحق النور وهو واحد، كذلك أيضاً في قول الله جل وعلا: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153]، فسمى هذه طرق: سبل متعددة، أما سبيل الرحمن فهو سبيل واحد: (فتفرق بكم عن سبيله)؛ لأن طريق الله جل وعلا واحد، لهذا قد جاء في حديث عبد الله بن مسعود عليه رضوان الله تعالى: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خط خطاً وقال: هذا الصراط المستقيم، وخط عن يمينه وشماله خطوطاً وقال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليها ).

والحكمة من تنوع سبل الشيطان وطرقه، وكون الحق واحداً؛ وأن الأصل في الحق أنه واحد لا يتعدد على اختلاف اجتهاد المجتهدين فيه، وهذا موضع معلوم، أما بالنسبة لتعدد طرق الشيطان وسبله؛ فإن الشيطان يعلم أن نزوات الناس تختلف وتتباين، فمن الناس من يميل إلى شهوة البصر، ومن الناس من يميل إلى شهوة السمع، ومن الناس من لا يجذبه نوع من أنواع المنكرات والفسوق والفجور، ويميل إلى نوع آخر، فهو بحاجة إلى تنوع السبل حتى تتوافق مع أهواء الناس فيسلكون هذه الطرق، ولهذا يقول الله سبحانه وتعالى: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153].

الناس حينما ينفضون من المساجد ونحو ذلك يتفرقون، كل يسلك طريقاً من هذه الطرق لينحرف ذاك شمالاً وذاك جنوباً ونحو ذلك، يقال: إنهم تفرقوا، وكأن الذي تفرقوا عنه هو من المواضع المنفردة، كانفراد الإنسان مثلاً من نقطة واحدة ونحو ذلك، فالله جل وعلا حينما ذكر سبيله وهو الصراط المستقيم، قال: (( وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ))، أي: ينتشر الناس عن هذا الطريق مختلفين، هذا يضرب جهة اليمين, وذاك يضرب جهة الشمال, وذاك يضرب جهة الأمام، وذلك يضرب جهة الخلف، بحسب أهوائهم.

وبه يعلم أن الله جل وعلا حينما امتن على عباده وعلى خلقه بهذا الصراط وجعله واحداً، أراد بذلك تأليف القلوب على الحبل المتين، والحرص على الجماعة وإن قلت، فإن الجماعة وإن قلت أعظم عند الله جل وعلا وأشد تمسكاً وهيبةً في أعين أعدائها وإن كثر الأعداء؛ لأن الأصل في الأعداء أنهم مختلفون، فالذي يجمعهم الشهوة والشهوة متنوعة، والذي يجمعهم المال والمال وقتي، والذي يجمعهم حظ من حظوظ الدنيا من الجاه وغير ذلك فهو من الأمور الوقتية، لهذا الله سبحانه وتعالى أمر عباده بأن يؤمنوا ويستمسكوا بحبله المتين، كما قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].

حينما أمر الله جل وعلا بالاعتصام بحبله المتين، وحبل الله جل وعلا المتين هو القرآن الكريم كما جاء تفسير ذلك عن غير واحد من المفسرين كـالحسن البصري و مجاهد بن جبر وغيرهم، ففي قوله سبحانه وتعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا [آل عمران:103] ، الأصل في الخطاب أنه إذا وجه إلى جماعة، أنه يجب عليهم أن يجتمعوا على هذا، فأكد الله جل وعلا هذا الأمر مع ظهور الدلالة فيه على الجماعة، أكده بلفظ الجماعة في قوله: جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103] ، يعني: أنه ينبغي لكم أن تكونوا مجتمعين لا متفرقين، وأكد هذا الجمع بالنهي عن ضده في قوله سبحانه وتعالى: (( وَلا تَفَرَّقُوا ))، ومعلوم أن الإنسان إذا أمر بشيء من الأوامر وأكد ذلك بالنهي عن ضده، ففي هذا دلالة على أهمية المعمول به، وهو الاعتصام بحبل الله جل وعلا جميعاً.

ولهذا حث الإسلام حثاً عظيماً على اجتماع الأمة الإسلامية على الحق، وأن اختلاف الأمة لا يمكن أن يكون رحمة في أبواب الإيمان ومسائل الاعتقاد، اختلاف الأمة رحمة في مسائل فروع الدين، ولهذا قد روى أبو نعيم في كتابه الحلية من حديث أبي يزيد البسطامي قال: لو لم تختلف الأمة لخشيت العنت، لخشيت المشقة، والاختلاف رحمة إلا في تحقيق التوحيد، فإن توحيد الله سبحانه وتعالى إذا اختلفت عليه الأمة، ورأوا أن الخلاف في مسائل توحيد الله جل وعلا وأمور الإخلاص له سبحانه وتعالى، وكذلك اختيار أنواع العبادة: أن الإنسان يسوغ له الاجتهاد فيها، أو تقليد غيره من خلق الله جل وعلا ممن يزعم أنه قد ملك الحكم كحكم الله جل وعلا، فهذا ضرب من ضروب الضلال والفرقة في الأمة.

الأمة الإسلامية أنعم الله جل وعلا عليها بهذا الإسلام وهذا الدين العظيم، ولم يعطها الله سبحانه وتعالى مكاناً في هذه الأرض وبسطةً وقوةً وهيبةً في عين أعدائها إلا بإقامة الإسلام، ولهذا العرب حينما جاءهم الإسلام كانوا من الأقوام المتخلفين، من المستضعفين في هذه الأرض الذين يستضعفهم من حولهم ولم يكونوا يلتفتون إليهم كـكسرى وقيصر وغيرهم من سادات ذلك العصر، فأعطاهم الله جل وعلا ذلك الإسلام فأعزهم ومكن لهم وأعطاهم القوة والنصرة بهذا الإسلام والإيمان، فإن أقاموا الإسلام والإيمان واعتصموا بحبل الله جل وعلا جميعاً، جعل الله جل وعلا لهم القوة بين البشر.

وهذا شبيه بالعهد والميثاق الذي أخذه الله سبحانه وتعالى على عباده، فإذا قاموا بحقيقة هذا الميثاق كان الله جل وعلا لهم معيناً ونصيراً، وإذا أعطاهم الله جل وعلا هذا الميثاق فتخلفوا عنه حينما وصلوا إلى سادة الناس، ورفعهم الله جل وعلا وأعلاهم، فالتفتوا يمنةً إلى أمور الدنيا، والتفتوا يسرةً إلى حظ من حظوظها وتركوا الإسلام بعد أن أوصلهم الله جل وعلا إلى عظيم المراتب، تخلى الله سبحانه وتعالى عنهم، ولم يمنع الله جل وعلا أن تتحلى الأمة بشيء من سبل المكنة من أمور الدنيا، فإن الله سبحانه وتعالى أمر الأمة بأن تأخذ بأسباب القوة من الأمور المادية والمعنوية وغير ذلك، ولكن أن تجعل الإسلام هو الأصل، والتمسك بدين الله جل وعلا وبكتابه العظيم، والعناية بصلاح الباطن هو الأساس، فإذا اعتنت الأمة الإسلامية بهذا الأمر نصرها الله جل وعلا، وإذا التفتت إلى ما يسمى ببنيات الطريق والتفتت إلى السبل وكذلك إلى المظاهر الجوفاء، وما التفتوا إلى إصلاح القلوب، ما جعل الله سبحانه وتعالى لهم من ذلك قوةً.

ولهذا قد روى الحاكم في كتابه المستدرك من حديث أبي عبيدة بن عامر بن الجراح : أنه كان مع عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى حينما ذهب إلى فتح بيت المقدس وأخذ المفاتيح، كان يقول: إننا نمشي أنا وأمير المؤمنين عمر بن الخطاب في طريق فمررنا بغدير، قال: فنزل عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى وكنت أركب مرةً وأنزل ويركب هو ساعة، قال: فنزل عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى وعليه خفاف، فنزعها ثم وضعها على كتفه الأيمن ثم خاض الماء بقدميه، هذه الفعل من عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى فعل فعله ولم يكن مستحضراً أن القوة التي آتاه الله جل وعلا إياها والعزة والتمكين الذي قواه الله جل وعلا به كان بمثل هذا أو بانتفائه منه، وإنما كان بقوة الإسلام، قال له أبو عبيدة : أواه يا أمير المؤمنين! كيف لو رآك الناس وأنت تفعل هذا؟! لأنه سيد المؤمنين في ذلك الوقت، ويحكم جزيرة العرب والشام والعراق وبلاد فارس، ويحكم مصر ومناطق شاسعة من آسيا وكذلك أيضاً من بلاد أفريقيا، كيف لو رآك الناس وأنت تفعل هذا؟!

فقال عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى: لو غيرك يا أبا عبيدة قال هذا، نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله، وذلك أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى من الأئمة المهديين الذين رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بتربيته، بالتعلق بالله جل وعلا والنظر لعمل القلب قبل النظر إلى الأمور الظاهرة، فإن من تعلق بالأمور الظاهرة وأهمل عمل القلب وهو عمل الباطن، فإنه يضعف من نظر الله جل وعلا إليه وتوفيقه وتسديده، بقدر ضعف الباطن، ولهذا كلما تقرب الإنسان لله جل وعلا بصلاح باطنه، كلما أعانه الله جل وعلا وسدده في عمل الظاهر.

وهذا متلازم ومطرد، ولهذا قد روى البخاري من حديث أبي هريرة : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( قال الله جل وعلا: من عادى لي ولياً فقد بارزني بالمحاربة، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها )، هذه الولاية من الله سبحانه وتعالى حينما تكون للإنسان ويكون من أهل الإيمان، يوفقه الله عز وجل ويسدده ويعينه حتى ينظر بنور الله ويهتدي بهديه، فلا ينظر إلا في حلال ويسدد، ولا يسمع إلا حلالاً ويسدد في ذلك، ويعصم من الشرور والفتن والخطأ، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بين حال أصحابه بعنايتهم بأمر الباطن أكثر من العناية بأمر الظاهر، لهذا كان القبول لهم بالعمل القليل أكثر من غيرهم ممن جاء بعدهم.

أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان النبي عليه الصلاة والسلام يربيهم بالنظر إلى عمل الباطن وليس إلى كثرة عمل الظاهر، وقد روى الترمذي من حديث عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى قال: ( دعانا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الصدقة، فقلت: لأسبقن أبا بكر إن سبقته يوماً، قال: فأتيت بشطر مالي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعته فوجدت عنده أبا بكر ، فقال لي النبي عليه الصلاة والسلام: يا عمر ! كم أبقيت لأهلك؟ فقال عمر بن الخطاب : أبقيت لهم شطر مالي، فالتفت النبي عليه الصلاة والسلام فقال: يا أبا بكر ! كم أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله ) ، حينما سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر لم يقل له: كم أتيت به؟ ولكن قال: كم أبقيت؟ فإنه قد يكون نصف عمر أكثر من كل أبي بكر ، وذلك أن ظاهر العمل ليس المطلوب، بل المطلوب بشيء منوط بباطن الإنسان، كم الذي أبقيت في الخلف؟ فإن العبرة ليست بذلك العمل، وذلك أن إبقاء شيء خلف الإنسان دليل على شدة توكل الإنسان وامتثاله لأمر النبي عليه الصلاة والسلام، فإذا كان الإنسان متمحضاً بالامتثال لله جل وعلا، فإنه يقبل إقبالاً من غير النظر إلى العلل والحكم، كما كان أبو بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى فإنه قد أقبل واستحق وصف الصديقية خصيصةً من رسول الله صلى الله عليه وسلم من دون أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سألهما عما أبقيا وما سألهما عما قدما، وقد بين رسول الله صلى الله عليه وسلم دائرة الفضل التي قد سبق فيها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سائر الخلق ممن يأتي بعدهم، فقال عليه الصلاة والسلام: ( لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه )، المد: هو ملء الكفين المعتدلتين، قال غير واحد من العلماء: إن المراد بذلك أن إنفاق أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لشيء قليل من الطعام، أكثر من وزنه من الذهب مما ينفقه غيرهم، لماذا؟ لأن إنفاق هؤلاء يختلف من جهة الدافع عن إنفاق غيرهم، ولهذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( رب درهم سبق ألف دينار ) ، وذلك أن الإنسان حينما ينفق إنفاقاً مع الترقب المحض لله جل وعلا والامتثال، ولو كان العمل قليلاً جعل الله جل وعلا ذلك العمل كثيراً.

ومن نظر إلى بركة الفعل الذي مكن الله جل وعلا فيه ذلك القرن، وهم خير القرون، كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيحين وغيرهما من حديث عمران بن الحصين : قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) ، هذه الخيرية إذا أراد الإنسان أن ينظر إليها، هل هي خيرية مادية، هل بلغوا من جهة استقطاب ثروات الأرض وإخراج كنوزها حتى فاقوا غيرهم؟ لا، بل كانوا فقراء، هل المراد بتلك الخيرية هي كثرة السكان وكثرة العدد عمن جاء بعدهم؟ لا، بل إنهم عليهم رضوان الله تعالى من أقل الناس في ذلك الزمن، وهل المراد بذلك هو العتاد والعدة الذي يحملونه، فاستحقوا الخيرية عمن جاء بعدهم؟ لا، إذاً: ما هي هذه الخيرية؟ الخيرية هي بصلاح البواطن، فبارك الله جل وعلا لهم في العمل ففاقوا غيرهم بركةً.

ولهذا من نظر إلى الأمة الإسلامية في فتوحاتها، وما فتح الله جل وعلا لأولئك البشر من خلق الله سبحانه وتعالى الذين فضلهم الله جل وعلا على من جاء بعدهم، بل هم خير الخلق بعد أنبياء الله سبحانه وتعالى، لأن الخيرية التي جعلها الله جل وعلا في هذه الأرض أكثرها حظاً وأوفرها نصيباً متعلق بهذه الأمة، وأوفر نصيباً في هذه الأمة هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم؛ وذلك أنه سيد ولد آدم، فإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك واستحقت الأمة الخيرية، ناسب أن يكون أصحابه أفضل من أصحاب غيره من أنبياء الله سبحانه وتعالى عليهم رضوان الله تعالى.

لما كانوا كذلك كانوا من جهة العمل من أهل التسديد والتوفيق، فمن نظر إلى الفتوحات الإسلامية في زمن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى انقراض آخر واحد منهم، وجد أن الفتوحات التي فتحوها هي التي تعيش فيها الأمة الإسلامية في ثلاثة عشر قرناً إلى يومنا هذا، لم تفتح الأمة الإسلامية من بلدان الأرض مما لم يفتحه في القرن الأول ونصف الثاني أحد من الأمم ممن جاء بعدهم كما فتحوا أولئك الأوائل، بل إن كثيراً من الأمور التي فتحها من جاء بعدهم تقلصت بعد ذلك ورجعوا إلى ما كانت عليه تلك البركة والخيرية الأولى، مع قلة العدد وقلة العتاد.

مع وجود كثير من العباد والزهاد الذين أكثروا من العبادة والإنفاق، لو قورن بفعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعد عمل الصحابة عليهم رضوان الله تعالى قليلاً، والنبي عليه الصلاة والسلام حينما قال: ( لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه ) ، إشارة إلى أنه سيأتي أقوام يكثرون من العبادة والتعبد والإنفاق، فلا يغرنهم عمل الظاهر ولا يلتفتون إلى عمل الباطن، بل ينبغي أن ينظر إلى عمل الباطن ويحتسب أنه هو الأصل في الإتيان بالبركة والتسديد لعمل الإنسان، فإن الله جل وعلا يضاعف للإنسان عمل الظاهر إذا أخلص لله سبحانه وتعالى وراقبه في عمل الباطن.

في قوله جل وعلا كما في عنوان هذه المحاضرة كما تقدم الإشارة إليه، يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العظيم: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] : حذر الله جل وعلا من السبل التي تصد عن سبيل الله، وأشار إلى الجمع لاختلاف أهواء الناس وكثرة الداعين إليها.

في قول الله سبحانه وتعالى: (( وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ )): إشارة هنا إلى مسألة لطيفة: وهي أنه إذا كان الإنسان تابعاً فثمة متبوع، وهذا المتبوع ما هي حقيقته؟ ينبغي للإنسان إذا أراد أن يعلم حقيقة أمور الضلال، فليعلم حقيقة المنشئين لأمثال هذه الأقوال المضادة والمحادة لكلام الله، كذلك كما أنه يعرف الحق ويعرف الصراط المستقيم فليعرف ضده، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لأصحابه الخير وبين لأصحابه الشر كما جاء في الصحيحين وغيرهما من حديث حذيفة بن اليمان ، قال: ( كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني ) ، وذلك أن الإنسان ينبغي له إذا كان من أهل الحذق والعناية مع كثرة انفتاح أبواب الشر وسبله وكثرة الطرق والداعين إليه، وخاصةً في زمننا هذا، مع تشعب كثير من الأمور، وسهولة وصول كثير من الأفكار والأقوال والآراء الشاذة إلى أذهان كثير من الناس، مع هذا الانفتاح الذي تعيشه الأمة في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة، فأصبح كثير من الناس يستطيع أن يوصل قوله الشاذ إلى كثير من الناس وهو في قعر داره، وهذا مشاهد ملموس، وجب على الإنسان كما يعرف طريق الخير يجب عليه أن يعرف طرق أهل الغواية والشر في إغواء بني آدم.

فإذا كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من يسأل النبي عليه الصلاة والسلام عن طرق الشر مخافة أن يدركه، لأنه لم يكن ثمة طريق وسبيل للشر، ولكن يظن أنه سيأتي، فكيف وقد استحكم الشر في كثير من بلدان المسلمين، وخيم كثير من أنواع الضلال والشر والشرك والبدع والفجور والفسوق والانحلال في أبواب الأخلاق وغير ذلك على بلدان المسلمين؟! بل رأينا كثيراً من المسلمين من يقع في كثير من البدع والمحدثات والمحرمات ويظن أنه على خير، والإنسان ما يزال مرحوماً ما عرف الحق ولو قصر فيه فعلاً ما دام على أصله وهو متحقق فيه، وأما إذا كان يتعبد لله جل وعلا بشيء ويظن أنه على حق وهو على باطل، فهذا فيه شبه بحال المشركين في الصدر الأول، أنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

كثير من الناس يرجع إلى نيته وقلبه مع إمكان التحقق من ذلك العمل، ويظن أنه إذا فعل الفعل مع وجود النية الصادقة مع إمكان معرفة الحق أن هذا كفيل بتوفيقه وتسديده، يقال: كلا، ما أمكن الإنسان أن يعرف الحق وجب عليه أن يعرفه، ولا يعذر الإنسان بتقصيره؛ لهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره الله جل وعلا بأن يبلغ الناس الخطاب مجرداً بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم ونزول الحق إليه، وهذا كافٍ في إقامة الحجة على الناس ولو لم يفهموها، لأن الله جل وعلا ما خلق الخلق إلا لعبادته.

فإذا خلق الإنسان لأجل هذا المقصد وجب عليه أن يبحث عن أسباب السعادة وتحقيق رضا الله، الله جل وعلا يقول في كتابه العظيم: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] ، لهذا وجب على الإنسان أن يجعل الظن يقيناً في تحقيق رضا الله سبحانه وتعالى حتى يصل إلى اليقين بسلوك سبل المعرفة، لهذا قال الله سبحانه وتعالى موجهاً الخطاب لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التوبة:6] ، في قوله سبحانه وتعالى هنا في خطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: (وإن أحد من المشركين استجارك فأجره)، يعني: قد خالف ما كنت عليه، فجاء إليك مستجيراً يريد أن يسمع ما عندك فأسمعه كلام الله ثم أبلغه مأمنه، مجرد السماع كافٍ في بلوغ الحجة للناس، وكون الإنسان يقول: إنني لم أفهم ذلك الخطاب، لا يسوغ له أن يلقي الخطاب ويجعله وراء ظهره، فإنه حينئذ مكلف بمجرد السماع إذا وجه له الخطاب على نحو يفهمه لو أراد أن يفهم، فإنه يكون من أهل التكليف.

لهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في صحيح الإمام مسلم من حديث أبي هريرة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي، إلا أدخله الله النار ) ، وجاء في رواية: ( كائناً من كان ) ، في قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ) ، ما نوع هذا السماع الذي أخبر به النبي عليه الصلاة والسلام: لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني، يسمع بمجرد أن ثمة نبي وجب عليه أن يأتي، لماذا؟ لأن سبب وجود الإنسان بدلالة الفطرة ودلالة الشرع أنه لعبادة لله، فوجب عليك أن تؤمن بالخبر الذي يأتي إليك وتتثبت من صحته وأن تنظر في يقين، وهذا كحال الإنسان إذا كان مثلاً في فلاة أو كان في دار ونحو ذلك، وقد استحكم منه العطش، وجاءه شخص مجهول وقال له: إنه خلف هذا التل أو خلف هذا الوادي أو خلف هذا الحائط بئر، وفيها ماء معين فاذهب إليها واشرب، وكان صاحب الخبر لا يعرفه، فإذا لم يذهب ويتأكد من نفسه ومات عد مهلكاً لنفسه، لماذا؟ لأنه يجب عليه أن يتحقق من هذا الأمر، وإذا ذهب وتحقق من هذا الأمر فإنه قد عصم نفسه من ذلك، وذلك أن وجود الماء سبب لسلامة وصحة حياة الإنسان، فيجب عليه أن يعصمها.

كذلك الحياة التي أمر الله جل وعلا بإثباتها في الإنسان وإقامتها فيه، وهي حياة العبودية الحقيقة، فإذا بلغ إليه خبر من الأخبار أن الله جل وعلا بعث نبياً أو أتى بحكم من الأحكام التكليفية التي يجب على الإنسان أن يبادر إليها ويمتثلها، وجب عليه أن يسمع ولو كان الخبر ظنياً، ولا يلزم من ذلك أن يأتي الخبر اليقين للإنسان، لهذا الله سبحانه وتعالى عذر المشركين حتى يصل إليهم كلام الله، فإذا وصل إليهم كلام الله ولو لم يفهموه، أقام الله جل وعلا عليهم بذلك الحجة، وهذا ظاهر في قوله سبحانه وتعالى: ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ [التوبة:6] ، أي: اجعل بينك وبينه أماناً، ثم بعد ذلك يكون بينك وبينه السنان.

ولهذا أمر الله سبحانه وتعالى بترويض الناس على الحق، كما في قوله جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] ، قال عبد الله بن عباس عليه رضوان الله تعالى: إلا ليعبدوني طوعاً أو كرهاً، فالإنسان مأمور بعبادة الله سبحان وتعالى، والطواعية هنا بالطواعية القلبية أن يجد الإنسان في نفسه انشراحاً على الخير ونحو ذلك، أو يجد الإنسان في نفسه انقباضاً من اتباع الخير، وجب عليه أن يأطر النفس وأن يكرهها على ذلك الحق، فإن النفس أمارة بالسوء، وهذا ما يسمى بالإكراه المعنوي.

أما ما يسمى بالإكراه الحسي وهو أطر الناس بالقوة على الحق، والناس يتباينون في ذلك، وهو باب عظيم الدرجات في هذا، منه ما يتعلق بغير المكلفين، لهذا أمر الله جل وعلا ولي أمر الصبي أن يأمره بالصلاة وهو ابن سبع سنين، وأن يضربه عليها وهو ابن عشر، وهذا نوع من أنواع الإكراه؛ لأن من لم يمتثل ذلك لا يدرك تلك الحقيقة من جهة ثمرة ذلك الفعل ولا العاقبة في حال تفريطه، إما لضعف عقله أو لضعف أهليته، ولو كان الرجل يدخل في هذا الحكم لو كان الرجل كبيراً.

السبل التي حذر الله جل وعلا من سلوكها هي متنوعة ومتعددة، وقد جاء تفسير هذه السبل بهذا الموضع من كلام الله جل وعلا: وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ [الأنعام:153] ، قد روى ابن جرير الطبري عن مجاهد بن جبر قال: السبل: هي البدع والشبهات، والبدع والشبهات هي من أعظم ما يعصى الله جل وعلا به، وقد تقدم معنا أن الله سبحانه وتعالى انفرد بالحكم وأمر الناس بالتعبد له، فإذا شاركه في حكمه أحد فإنه قد أحدث في دين الله ما ليس منه، ونازع الله جل وعلا في حقه وخصوصيته، فالله سبحانه وتعالى قد أكمل لهذه الأمة الدين، لهذا قال الله سبحانه وتعالى: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا [المائدة:3] ، فالله جل وعلا قد أتم على هذه الأمة النعمة، وهذه النعمة التي سماها الله جل وعلا: نعمة، هي من جهة الحقيقة هي الإسلام، وقد فسر ذلك غير واحد من العلماء، وذلك أن الله جل وعلا قد أتم الدين فروعاً وأصولاً، فوجب على الأمة الاتباع وألا تحيد عنه.

الله جل وعلا أنزل الشريعة ولم يبق منها شيئاً، فمن أضاف من التشريع شيئاً ومن التعبد في دين الله جل وعلا شيئاً مما لم يشرعه الله، فقد نازع الله سبحانه وتعالى في حقه وخصوصيته، وكذلك فإن فعله ذلك متضمن لشيء من القدح في كمال الشريعة، فكأن الشريعة ناقصة تستلزم إتمامها بشيء من الأقوال والأفعال المحدثة التي ما أنزل الله جل وعلا بها من سلطان.

لهذا ينبغي للإنسان إذا أراد يتبصر بحقيقة هذه السبل التي حذر الله جل وعلا منها، أول ما يحذر من ذلك هو من الإحداث والابتداع في دينه سبحانه وتعالى، وأعظم الإحداث وأخطر هذه السبل على الإطلاق هو ما يتعلق بالإشراك مع الله جل وعلا غيره, والإشراك يغفل عن حقيقته وبيان قدره كثير من الناس ويتهاونون في ذلك، فكثير من المسلمين في أقطار العالم الإسلامي يهتمون بفروع الدين، يقيمون الصلاة، لكنهم عند الحاجات يلتفتون إلى قبور الأضرحة والأولياء، فيدعونهم من دون الله، ويبذلون لهم من العبادات مما هو من حق الله جل وعلا المحض، فيكفرون بذلك وإن أكثروا من العبادات تعبداً لله جل وعلا، لأنهم يعبدون من هنا وينقضون من هناك، وذلك أن الشرك يحبط عمل الإنسان بالكلية، لهذا قال الله جل وعلا مخاطباً نبيه عليه الصلاة والسلام: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ [الزمر:65] ، لئن أشركت: وقعت في شيء من الشرك فإن عملك كله حابط، وإن رجعت إلى الله على الصحيح فإنه يرجع ذلك العمل إن وحدت الله سبحانه وتعالى.

وهذا شامل للشرك الأكبر، وهل يشمل الشرك الأصغر؟ هو محل خلاف عند العلماء، ينبغي للمؤمن أن يحذر من الشرك بجميع أنواعه وأن يحذر من حوله، ولهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أمته إلى التوحيد وأكثر من العناية في هذا الباب، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم بقي في مكة أكثر من عقد يدعو الأمة إلى توحيد الله سبحانه وتعالى ونبذ الشرك، ولم يفرض عليهم شيئاً من أركان الإسلام، ولم يفرض عليهم شيئاً من الشرائع، وإنما كان النبي عليه الصلاة والسلام يقيم قوله وفعله ليتأسى به الناس، فيأخذوا قوله فيما يبلغه عن رب العالمين، فدعا إلى التوحيد وحذر من الإشراك مع الله جل وعلا غيره.

ويظهر خطر الابتداع في دين الله سبحانه وتعالى في أمور متنوعة ومتعددة، قد ظهرت في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حينما دعا المشركين وناقشهم، وحاول أن يبين لهم خطأ ما كانوا عليه ببيان حقيقة ما هم فيه، وأن الإنسان ينبغي أن يتحول ظاهراً وباطناً إلى رضا الله جل وعلا تعلقاً بما أمر الله سبحانه وتعالى.

والبدعة من جهة الأصل تتعلق بالباطن والظاهر، بخلاف المعصية فإنها تتعلق بظاهر الإنسان، المعصية يؤمن الإنسان بقلبه أن هذا ذنب، فيأكل الربا ويسرق ويزني ويشرب الخمر ويغتاب ويكذب ويشهد شهادة الزور، وفي قلبه أن هذا من الأمور المحرمة، إذاً: الأمر بالنسبة لهذا الفعل هو في الأمور الظاهرة، أما في الأمور الباطنة فيوقن إيقاناً تاماً أن هذا من الأمور المحرمة، البدعة تكمن خطورتها أنه يفعل هذه المخالفة في الظاهر وفي الباطن تأييداً لذلك الظاهر: أن هذه هي العبادة، ولهذا صاحب المعصية سهل انتزاعه وانتقاله من تلك المعصية، بخلاف المبتدع فإنه يشق عليه أن ينتقل.

ولهذا قد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام كما في المسند عند الإمام أحمد وغيره من حديث عبد الله بن عباس: قال النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما تقبل الله من صاحب بدعة توبة ) ، وهذا على سبيل الإخبار، ومعنى ذلك كما سئل الإمام أحمد عنه، قال: معناه أنه لا يوفق للتوبة؛ وذلك أن الإنسان إذا أشرب البدعة في قلبه، لا يمكن أن يتحول من البدعة لأنه يراها ديناً، بخلاف الإنسان الذي يفعل المحرم، فإن الإنسان إذا وعظه أطرق برأسه؛ لأنه يقر أنه قد فعل محرماً، بخلاف صاحب البدعة فإنه يجادل فيها ويرى أنها من الدين، كذلك فإن صاحب المعصية والفجور يستتر بفجوره ولا يدعو غيره، بل يميل إلى الستر، بخلاف صاحب البدعة فإنه يفعل البدعة، ويحب أن من حوله يفعل البدعة من أبناءه وكذلك أزواجه وجيرانه ويدعو من حوله، بخلاف صاحب المعصية فتجد الإنسان يفجر ويأكل الحرام ويربأ بابنه أن يفعل ويسلك طريقه، لماذا؟ لأنه في قرارة نفسه أن هذا الطريق طريق محرم، ولا يجوز للإنسان أن يسلكه ولو في أقل القليل من الأمور المحرمة، فإن الإنسان على سبيل المثال ربما يشرب الدخان ويبتلى فيه، لكن لا يحب أن يراه في ابنه؛ لأنه يعلم أن هذا الفعل من الأفعال الخاطئة في قرارة نفسه، فثمة انفصال بين الباطن والظاهر، بخلاف البدع التي يفعلها الإنسان وهو موقن بأنها عبادة، فإنه يحب ذلك من أبنائه وأزواجه وذريته.

لهذا انتقال المبتدع عن بدعته أعظم وأشد من انتقال صاحب المعصية، فإن صاحب المعصية وازعه في نفسه بخلاف صاحب البدعة فإن وازعه من خارج نفسه، والوازع في النفس إذا اعتضد بالوازع الذي من خارج النفس كان اندفاعاً للإنسان بالإقلاع عن ذلك الذنب، وأما إذا كان الوازع من خارج نفسه ولم يكن من ذاته فإن الإنسان يبقى على ما هو عليه.

لهذا النبي عليه الصلاة والسلام وجد معاندة من كفار قريش؛ لأنهم يفعلون ذلك عقيدة، فيسجدون للأصنام ويرون أنها رب، لا يمكن أن يتزحزحوا عن تلك العبادة، وهذا يلمس عند من يعتني بالدعوة إلى الله جل وعلا، فدعوة الملحد الذي لا يؤمن بأن ثمة رب أهون من دعوة الشخص الذي لديه عقيدة، الذي يعبد الأصنام والأوثان، بل لو كان يعبد أرذل المعبودين من الحجر أو البهائم وغير ذلك، من كان ملحداً أهون من هذا الذي يتدين بالعبادة ديناً، فإنه يفعل ذلك على سبيل الاعتقاد، فيصعب عليه أن ينتقل من عقيدته تلك إلى عقيدة أخرى، ولو كان يرى أن الفطرة تدل عليه، وكذلك ظواهر الوحي تدل وترشد إليه، والعقل من جهة النظر إذا رجع الإنسان إلى عقله أدرك بطلان ما هو عليه.

ولهذا إبراهيم الخليل لما كان يدعو قومه إلى عبادة الله سبحانه وتعالى كانوا يسفهوه، وما أحرقوه بالنار إلا بعد أن رجعوا إلى عقولهم، وذلك العقل لم يغلب تلك النفس وإشرابها الإشراك مع الله جل وعلا، فإبراهيم الخليل لما جاء إلى أصنامهم جعلهم جذاذاً إلا كبيراً لهم، فجاءوا يسألون: من الذي فعل هذا بآلهتنا؟ قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الأنبياء:60]: أتوا بإبراهيم، أراد أن يرجعهم بهذا الفعل إلى عقولهم، ماذا قال؟ قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ [الأنبياء:63] ، يعني: هو الذي فعل هذا فترك الكبير، وقيل: إنه ترك المعول على ظهر الصنم الكبير، فقال: كبير الأصنام هو الذي حطم صغار الأصنام، فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ [الأنبياء:64] : أن هذه الأصنام المعبودة نعبدها من دون الله سبحانه وتعالى لم تحم أنفسها ونحن نحميها، هل تستحق هذه العبودية؟ هم رجعوا وخاطبوا أنفسهم بذلك، ولكن مع ذلك لشدة تشرب البدعة في قلوبهم عاندوا وكابروا، وقاتلوا إبراهيم ووضعوه في النار بعد هذا الرجوع للعقل، لماذا؟ لأن البدعة إذا فعلها الإنسان على سبيل التدين وطال في ذلك زمناً صعب أن يعود عنها.

لهذا ينبغي للإنسان في أمور دينه أن يحتاط لمسائل البدع والمحدثات أن يفعلها، وأن يلتمس الحق والهداية والنور من المعين الصافي المنبع، منبع الإسلام وهو كلام الله جل وعلا وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا أراد الإنسان أن يفعل شيئاً فلينظر إلى دليله من الوحي لا لقول فلان وقول فلان، فإن الله سبحانه وتعالى يوم القيامة حينما يبعث الخلق بين يديه جل وعلا ماذا يسألهم؟ يسألهم: مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ [القصص:65] ، لا يقول: ماذا أجبتم فلاناً وفلاناً؟ بل ماذا أجبتم المرسلين الذين أرسلهم الله جل وعلا إليكم، وأنزل الله جل وعلا إليهم الوحي؟

حينئذ إذا علم الإنسان ذلك وجب عليه أن يتبع الوحي، وأن ينأى عن أقوال الرجال، فإن الإنسان ربما استفرغ وسعه في اجتهاد في مسألة معينة فكان معذوراً والتابع ليس بمعذور؛ لأن ذلك قد استفرغ وسعه في استنباط الدليل، فربما وقع في شيء من المخالفة لهذا، وخاصةً في انتشار العلم في أوساط كثير من الناس وإدراكهم لكثير من المعاني، وإمكانهم القراءة، فإن الأمية في الناس بدأت تضمحل بل لا تكاد توجد، ويمكن للإنسان أن يقرأ القرآن وأن ينظر في التفسير وأن ينظر كذلك في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأن يتأمل في معانيه، فثمة السنة وثمة الشروح وثمة القرآن وثمة التفاسير على أحكام وطرائق متنوعة، يمكن للإنسان أن يأخذ ما يناسبه في ذلك، فيلتمس الوحي ويلتمس كذلك الأمر والنهي من معينه على فهم يدرك الإنسان بذلك حظه من التعبد لله سبحانه وتعالى.

ثم بعد ذلك إذا احتاط في هذا الأمر من مسألة البدع والشبهات، وجب عليه أن يحترز من سبل الشيطان فيما يتعلق بالشهوات، تقدم معنا أن الإنسان قد غرس الله جل وعلا فيه فطرة من إدراك الخير والتمييز بين الخير والشر فطرةً، والله جل وعلا حينما أنزل الأوامر وحرم الربا وحرم الزنا وحرم أكل أموال الناس بالباطل وحرم السرقة وحرم هذه المحرمات ورتب العقاب عليها، ولو سئل الإنسان مهما كانت ديانته عن أمثال هذه الأفعال، لقال: إن هذه الأفعال محرمة، إذاً: فدلالة الفطرة، الفطرة موجودة، وإنما أكد الله جل وعلا تلك الفطرة بالنصوص حتى يكون ذلك أقوى ودافعاً للنفس كما تقدم الإشارة إليه.

والإنسان حينما يكون مجرداً بعقله وإدراكه بلا نفس، سيكون مطواعاً لأوامر الله سبحانه وتعالى، وغرست فيه النفس الأمارة بالسوء تحقيقاً لمعنى الاختبار والامتحان والامتثال لأمر الله سبحانه وتعالى، وذلك أن الله جل وعلا حينما جعل النفس تأمر الإنسان بالسوء، وبين له الدليل من الفطرة والدليل من النصوص ليبين حقيقة قوة الإنسان بامتثال أمر الله سبحانه وتعالى ومغالبة تلك النفس، لهذا وجب على المؤمن أن يسوس نفسه في هذا الباب وهو باب الشهوات.

لدينا من أبواب الذنوب والمعاصي أو مخالفة أمر الله جل وعلا بابان:

الباب الأول: وهو باب الشبهات، وباب الشبهات هو ما يتعلق في أمور البدع وأعظمها الإشراك مع الله جل وعلا غيره تقدم الكلام عليه.

الباب الثاني: ما يتعلق بأبواب الشهوات، وأبواب الشهوات النفس تدفع إليها، والفطرة والنص يدعو إلى الإحجام عنها، الشريعة تأمر بامتثال أمر الله سبحانه وتعالى واجتناب نهييه.

الإنسان يجب عليه أن يعلم أن في ذاته شيئين: الشيء الأول: هو النفس، والأمر الثاني: هو العقل، فإذا أدرك حقيقة ذلك استطاع حينئذ أن يغالب نفسه وأن يسايسها قدر الإمكان، وأن يأخذ من نفسه ويعطي، وتقدم الإشارة إلى أن كثيراً من الناس يقدم على كثير من الأفعال، ربما أقدم الإنسان على قتل أو أقدم الإنسان على سطو وسرقة ونحو ذلك، لو أتاه إنسان وهو في طريقه فسأله: أنت ذاهب إلى ماذا؟ قال: ذاهب إلى سرقة، أو ذاهب إلى سطو، هل هذا حق أم باطل؟ لقال: إن ذلك باطل، ما الذي يدفعه؟ يدفعه شهوة النفس، فهذا قد غلبت تلك الشهوة على تلك الفطرة؛ وذلك لضعف الوازع الآخر وهو وازع الشرع.

لهذا حث النبي عليه الصلاة والسلام على استثارة تلك الغريزة الفطرية في نفس الإنسان حتى يجتنب المحرم، لهذا يقول النبي عليه الصلاة والسلام كما في حديث النعمان بن بشير كما في الصحيحين وغيرهما، قال: ( فمن وقع في الشبهات فقد وقع في الحرام، ومن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ) ، في قول النبي عليه الصلاة والسلام: (فمن اتقى الشبهات)، وهي المترددة بين الحرام والحل، اتقاها واحترز منها الإنسان حتى لا يقع في الحرام فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومعنى الاستبراء للعرض: أي حتى لا يقع الناس في عرض الإنسان، وهذا من الأمور الشرعية: أن الإنسان يدفع عن عرضه.

كثير من الناس يظن أنه إذا ترك أكل الربا أو ترك السرقة ونحو ذلك لغير الله جل وعلا، وتركها تشيماً ونحو ذلك أنه يأثم ولا يؤجر حتى ينوي بذلك الإخلاص لله سبحانه وتعالى، يقال: لا، إنه يكفي في هذا أن يبتعد الإنسان عن المحرم، أبواب المحرمات تختلف عن أبواب الواجبات، أبواب المحرمات يكفي فيها وازع الطبع، وأما العبادات وهي الأوامر فلا بد فيها مع وازع الطبع من وازع الشرع، فلا بد أن يقترنان في أمور العبادة، أما في أبواب التروك فإنه بالإمكان أن يستغني الإنسان بوازع الطبع حتى لا يقع الناس في عرضه تشيماً، ولهذا لا حرج على الإنسان أن يقول: يا فلان! لماذا تقع في شرب الخمر وأنت من الحمولة الفلانية، وأنت من قبيلة كذا وابن فلان ومن البلدة الفلانية، مثلك يربأ به أن يقع في هذا، هذا جائز شرعاً، ولكن ليس للإنسان أن يقول: صل يا فلان؛ فإنك من قبيلة كذا، صل يا فلان؛ فإنك من الحمولة الفلانية، هذا أمر بالتعبد لغير الله، بل يقال: صل يا فلان لله، فإن الله جل وعلا أمرك بذلك وأنت من القبيلة الفلانية، الاقتران بهذا لا حرج فيه.

لهذا أثبت الله سبحانه وتعالى اتقاء الإنسان من الوقوع في المحرم استجابةً لوازع الفطرة الذي في نفس الإنسان، لأن الإنسان يحب أن يظهر بمظاهر الخير ومظاهر الحسن أمام الناس، وهذا من الأمور المحمودة اتباعاً لشيء قد أقره الشارع في نفسه، كما تقدم في قول الله جل وعلا: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا [الروم:30] ، وكذلك في حديث أبي هريرة في الصحيحين وغيرهما: ( ما من مولود إلا ويولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ).

في مسألة السياسية النفسية للإنسان ينبغي للإنسان أن يسلك طريق محمد صلى الله عليه وسلم حينما نزل إليه التشريع، الإنسان ينبغي أن يسوس نفسه كما ينبغي أن يسوس غيره، الإنسان في نفسه الشيطان يعرف مداخل النفس الأمارة بالسوء ويعرف حقيقة المغالبة بين عقل الإنسان والنفس، يعرف أن يجعل النفس تغلب العقل، وحينئذ يقع الإنسان وينفلت الزمام منها، كحال الإنسان حينما يسوس خيلاً، إذا ساسها بلين ورفق ولم يشد عليها في ابتداء أمرها فأعطاها وأخذ منها وأرخى لها، فإنه في رغبته من جهة الأصل يحب أن تتروض له من أول يوم، ولكنه يروضها شيئاً فشيئاً حتى تصل إلى النهاية، كذلك الإنسان في أمر التعبد لله سبحانه وتعالى، وكذلك في أمر بلاغ الدين، لا ينبغي للإنسان أن يأتي بالعمل جملة، ولا في الإمساك جملة.

الله سبحانه وتعالى أنزل شريعته على محمد صلى الله عليه وسلم شريعةً منجمةً حتى يتروض الناس، أنزل الله جل وعلا الشريعة بالتوحيد وبقي النبي عليه الصلاة والسلام على ذلك أكثر من عقد يدعو الناس إلى توحيده، ثم فرض الله جل وعلا عليه الشرائع بحسب الوقائع والأحداث.

من نظر إلى كثير من تعاملات الناس مما يتعلق بشأن مالهم مما يخالطونه في أكثر يومهم وليلتهم وجد أن الشريعة ما تعرضت له بالتحريم إلا في أواخر الأمور، فالنبي عليه الصلاة والسلام ما حرم الربا؛ لأنه يتعلق بشيء من صلب الحياة فهو من الأمور المادية إلا في آخر سنتين من حياة النبي عليه الصلاة والسلام مع عظمه، لماذا؟ لأن هذا مع كونه عظيماً في الشريعة له علاقة في حياة الناس وقوة؛ فإن الإنسان إذا سلب منه المال ربما تنكر لأمر الدين، فترك ذلك وأجله إلى أواخر العهد.

لهذا ينبغي للإنسان في حال سوسه لنفسه أن يتدرج معها شيئاً فشيئاً فإن الإنسان في حال إقباله على الطاعة أو إمساكه عن المعصية، ربما في بعض الأوقات يجد اندفاعاً بالإقبال على الخير، ينبغي أن يتدرج في ذلك؛ وذلك أن كثيراً ممن يقبل على الطاعة ويلمس الإنسان في نفس الشخص مثلاً بعد موعظة أو بعد خطبة أو بعدما قرأ كتاباً أو بعدما رجع إلى نفسه أو نزلت مصيبة أرجعته إلى الله سبحانه وتعالى، يريد أن يقبل على العبادة فيجد إقبالاً منقطع النظير، ثم يقوم بعبادة لم يقم بها محمد صلى الله عليه وسلم من الإكثار من العبادة، ويجد الإنسان أن النفس قد تركت له الحبل ليفعل ما يشاء، لماذا النفس وهي الأمارة بالسوء تدع المقاومة؟! لأن الإنسان إذا كان مقبلاً على العبادة لا يمكن حجزه فهو بين أمرين:

إما أن يقبل على العبادة إقبالاً تاماً ليلة وليلتين ثم يرجع إلى ما كان فينقطع، وهذا من مداخل إبليس على الإنسان، وإما أن يستمر قليلاً قليلاً بترويض النفس، والشيطان ومداخل الشيطان أن يحبسه من البداية، فيتدرج في تلك العبادة حتى يثبت، ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( أحب العمل إلى الله أدومه وإن قل ) ، لهذا ينبغي للإنسان في حال إقباله على العبادة أن يقتصد صوناً للنفس.

لهذا إذا أدرك الإنسان أن لديه نفساً ولديه فطرة وعقل، علم أن لديه شخصين: شخص ينزعه إلى الشر وشخص ينزعه إلى الخير، فينبغي أن يسوس ذلك، ولهذا للشيطان مداخل للمقبلين على الخير والمكثرين من الطاعات مدخلاً عظيماً، ولهذا إذا وجد الشيطان الإنسان قد أقبل على الخير إقبالاً عظيماً ترك له الزمام، لماذا؟ حتى يكثر من العبادة هذا الأسبوع فينقطع بعد ذلك، لأن هذا الرجل قد وجد همةً في نفسه لا يمكن أن يقاومها الشيطان، إما أن يقاومه فيقتصد فيستمر على الاقتصاد، أو يجعله يتعب هذه الليلة ويشق ثم بعد ذلك ينقطع والثانية هي أحب لإبليس، لهذا ينبغي للإنسان أن يعرف مكائد الشيطان ومداخله إلى النفس، وكذلك سياسة النبي عليه الصلاة والسلام مع أصحابه.

فكما أن الله جل وعلا أنزل الشريعة على المجتمعات على سبيل التدرج، فإن المجتمعات إنما هي أفراد يخاطب بها الفرد فلان زيد عمرو ونحو ذلك، حينما يخاطبون بأمثال هذه الخطابات على سبيل التدرج، لماذا؟ ترويضاً للنفس وخوفاً من سطوتها على الفطرة والعقل، فتكون النفس مسياسة ونحو ذلك، ولهذا يقول عمر بن عبد العزيز عليه رحمة الله، قال: لا تعلموا الإسلام جملة فيتركه الناس جملة، لهذا ينبغي للإنسان عند وقوفه على أوامر الله سبحانه وتعالى أن يأخذ منها ما يكون على سبيل التدرج، فإذا كان من أهل التقصير في أداء الصلوات ونحو ذلك، يأتي بالفرائض ثم يأتي بعد ذلك بفترة بالسنن الرواتب، ثم يأتي بعد ذلك بالنوافل المطلقة، وإذا كان ليس له نصيب من قيام الليل فليأت أول مرة بركعتين ثم بعد أسبوع أو شهر بأربع، ثم بعد ذلك بست ثم بعد ذلك بثمان ثم بعد ذلك حتى يستقر عند الحد الذي لزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجل أو كل من يقبل على العبادة إقبالاً تاماً بكمالها وكان قد أقبل من عدم لا بد أن يرجع إلى ما كان عليه، ومن أقبل على العبادة من عدم فتدرج فيها كما يتدرج الإنسان حينما يصعد سلماً فإنه يستمر ويستقر على تلك العبادة، كما كان الله جل وعلا يبلغ نبيه عليه الصلاة والسلام ذلك البلاغ على سبيل التدرج لا على سبيل الإجمال.