خطب ومحاضرات
رمضان فضائل وأحكام
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فالله سبحانه وتعالى شرع شرائع وفرض فرائض وحد حدوداً، وبين هذه الفرائض وهذه الشرائع وهذه الحدود للأمة وفصلها في كتابه وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ودلل عليها وبينها وأحكمها وجلاها وأوضحها حتى تقوم الحجة على الناس كافة.
ومن هذه الشرائع والفرائض التي شرعها الله سبحانه وتعالى للناس: أركان الإسلام الخمسة، ومن هذه الأركان: الصيام، إذ جعله الله سبحانه وتعالى ركناً رابعاً من أركان الإسلام كما جاء في حديث عبد الله بن عمر في الصحيحين وغيرهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً )، فهذه هي أركان الإسلام، والأركان: هي الدعائم التي يبنى عليها أو يقوم عليها بناء الإسلام، وذلك أنها إذا زالت هذه الأركان مجتمعة لا قيمة لهذا البناء.
تنوع الشرائع من جهة الصفة والهيئة والعدد
والله سبحانه وتعالى ينوع الشرائع ويعددها من جهة صفتها وهيئتها، ومن جهة زمانها ومكانها، ذلك لجملة من الحكم: من هذه الحكم: لما فطر الله عز وجل الإنسان عليه من جبلة الملل والسآمة؛ فإن الإنسان يسأم حتى من العمل الصالح التعبدي، وليست العلة في العمل الصالح، ولكن العلة فطرية قائمة فيه؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في الصحيح: ( مه! عليكم من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا ).
فقوله: (من العمل ما تطيقون) يعني: ما يطيقه الإنسان من العمل؛ حتى لا يكثر على نفسه بالاستدامة على عمل معين ولا ينوع في ذلك، أو يستكثر إكثاراً يفقد النفس من ذلك شهوتها ورغبتها وإقبالها على العلم، فرغبة الإنسان في هذا هي على التنويع، فجاءت العبادات منوعة؛ فجاءت الصلاة العبادة البدنية، وجاء الصيام وهو ما يتعلق بالأكل والشرب، وجاء ما يتعلق بالزكاة في الأمور البدنية، وجاء أيضاً ما يتعلق بالأمور الاجتماعية من صلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجار، وإكرام الضيف، وغير ذلك مما يتعلق من منظومة العبادة.
تنوع الشرائع من جهة الزمان والحكم
وكذلك اختلفت من جهة الزمان، فمنها ما يكون ليلاً، ومنها ما يكون نهاراً، ومنها ما هو أسبوعي، ومنها ما هو شهري، ومنها ما هو حولي، ومنها ما هو فصلي؛ ولهذا نوعها الله سبحانه وتعالى فجاء ثمة شرائع يومية، وشرائع يومية منها ما هو واجب ومتأكد، ومنها ما هو ليس بواجب وليس بمتأكد فيدخل في دائرة الاستحباب، والاستحباب جعله الله عز وجل على مراتب: منه ما هو من الأمور المتأكدة، ومنه ما هو من الأمور غير المؤكدة، مثل السنن والمستحبات في ذلك؛ ولهذا جاءت الشريعة بهذا التنوع، فلا يوجد عبادة من العبادات إلا وفيها تنوع في زمانها، فنجد مثلاً ما يتعلق بالصلاة، جعل الله سبحانه وتعالى الصلاة في أوقات أو ساعات الليل والنهار، وجعل الله سبحانه وتعالى أيضاً هذه الشعيرة العظيمة، جعل منها فرائض، وجعل منها نوافل، وجعل منها ما يكون في بيت الإنسان، ومنها ما يكون في المسجد، وذلك كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح: ( أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة ).
وجاءت أيضاً هذه الشرائع منها ما هي مطلقة وغير محددة بوقت معين ولا بمكان، وذلك من النوافل العامة التي يتعبد بها الإنسان في صلاته، ومنها ما هي مقيدة بمناسبة معينة، المناسبة إما أن تكون مكانية كدخول الإنسان للمسجد، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد وغيره: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) ، ومنها ما هو مقيد بعمل يفعله الإنسان، وذلك كصلاة ركعتين بعد الوضوء، وغير ذلك من الأعمال التي يجعلها الله سبحانه وتعالى متنوعةً تدور مع الإنسان، لماذا؟ حتى توافق رغبة من الإنسان حتى يستكثر، فتكثر المناسبات حتى يقبل الإنسان على العمل.
وكذلك الحج جعل الله عز وجل فيه فريضة، وجعل فيه نافلة، وجعل من جنسه ما زمانه متسع، فيستطيع الإنسان أن يؤدي العمرة وهي من جنس الحج وأعماله يفعلها الإنسان متى شاء من أيام السنة.
من حكم تنوع العبادات
والله سبحانه وتعالى يعدد هذه المناسبات وينوعها رحمةً بالعباد، لماذا؟ حتى يستكثروا من العمل الصالح إذا لم تناسبه هذه تناسبه التي تليها، وإذا لم تناسبه التي تليها تناسبه الأخرى وهكذا، فيجد الإنسان أنه قد حصل عملاً صالحاً وفيراً.
وكذلك اختلاف أحوال الناس من جهة الإقبال على العمل، فمن الناس من يستروح إلى شيء من الأعمال ويقبل عليه، ويجد من ذلك كلفة في بعض الأعمال، والله سبحانه وتعالى جعل أعمال البر متعددة متنوعة بما يتناسب مع فطرة الإنسان وكذلك إمكانيته وقدرته التي آتاه الله عز وجل إياها، فجعل الله سبحانه وتعالى العبادات تتناسب مع قدرة الإنسان وإمكانه.
ولهذا نجد أنه في أعمال البر والصدقات والإحسان، لم يجعل الله عز وجل الثواب للإنسان على ما يقدم من عطاء، وإنما يؤجر الإنسان على ما يبقى لديه؛ والنبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في حديث عمر بن الخطاب عند الترمذي وغيره، قال عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى: ( لأسبقن أبا بكر إن سبقته يوماً ) ، يعني: يريد أن ينافس عمر بن الخطاب أبا بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى في عمل من الأعمال، وذلك لمنزلة أبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقدامه عليه، وهذا نوع من المنافسة بالخير، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يستنفق الصحابة وأن يطلب منهم الإكثار من الصدقة، وذلك في مناسبة من المناسبات في غزوة من الغزوات، فجاء أبو بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى بماله كله وجاء عمر بن الخطاب بشطر ماله.
انظروا إلى سؤال النبي عليه الصلاة والسلام لـعمر بن الخطاب ولـأبي بكر ! لما جاء أبو بكر عليه رضوان الله تعالى بالمال، قال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما أبقيت لأهلك؟ ) ، ما قال له النبي عليه الصلاة والسلام: كم أنفقت، قال: كم أبقيت؟ ( فقال أبو بكر الصديق: أبقيت لهم الله ورسوله، فسأل النبي عليه الصلاة والسلام عمر بن الخطاب فقال له: كم أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم شطر مالي )، النبي عليه الصلاة والسلام سأل: كم أبقى وما سأل: كم أنفق؟ لأن الله سبحانه وتعالى يجعل المال من جهة نفاسته بإمكان الإنسان، من الناس من يملك ألفاً ومن الناس من يملك مائة ألف، النفاسة المالية لدى الإنسان صاحب الألف توازي النفاسة المالية عند الإنسان إذا كان لديه مائة ألف، فإذا أنفق شطر الألف قد يوازي عند الله عز وجل الذي ينفق شطر المائة ألف؛ وذلك لنفاسته عنده؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى يأجر الإنسان بما يتركه من حاجة وفاقة بعد إنفاقه؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام جاء عنه في الخبر أنه قال: ( درهم سبق ألف دينار ) ، يعني: أن الإنسان الذي ينفق درهماً لا يملك إلا إياه يسبق من أنفق ألف دينار وهو يملك ألوفاً مؤلفة من الدنانير.
وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده: أن نوع العبادة من جهة الزمان، ونوعها من جهة المكان، ونوعها من جهة المناسبة، ونوعها من جهة قدرة الإنسان، فمن الناس من هو أشل لا يستطيع أن يؤدي الصلاة قائماً، فلو كانت العبادة مجردة للصلاة فقط ولا يوجد غير هذه الصلاة يؤديها لوجد بعض الناس في نفسه حسرة وانكساراً أن الناس تتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ولا يوجد لديه شيء يقربه إلى الله سبحانه وتعالى كما يفعل الناس، فجعل أبواباً من ذلك متعددة منها الصيام، ومنها الصدقة، ومنها ذكر الله عز وجل، ومنها قراءة القرآن.
فكان هذا التنوع من أمور العبادة يناسب قدرة الإنسان وعجزه، فكان في منظومة المدافعة التي أوجد الله عز وجل الإنسان عليها، السنة الموجودة في الخلق سنة قدرة مالية، سنة قدرة بدنية، وقدرة ذهنبة، وقدرة مكانية، ويختلف الناس في طبائعهم: فمن الناس من هو في بلد فقر ومن الناس من هو في بلد غنى، ومن الناس من هم في بلد بسطة في الجسم، ومن الناس من هو بلد فتن ومنهم من هم في بلد أمن وغير ذلك، فهذا التنوع من العبادات تشبع حالة الإنسان أن يتقرب لله سبحانه وتعالى وأن يكثر من رصيده عند الله جل وعلا، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى ولطفه في ذلك؛ لهذا تنوعت العبادات وكان من أنواعها ما يتعلق بالصيام.
التنوع في عبادة الصيام
ونجد أن الصيام الذي شرعه الله سبحانه وتعالى شرعه متعدداً ومتنوعاً وليس على زمن معين، فجعله الله سبحانه وتعالى على مراتب: منها ما هو حولي وهو صيام شهر رمضان، منها ما هو أيام حولية كصيام عرفة وكصيام يوم عاشوراء، ومنها ما هو أسبوعي كصيام الاثنين والخميس، ومنها ما هو شهري كصيام ثلاثة أيام من كل شهر، أو الأيام البيض، ومنها ما هو يوم وراء يوم كصيام داود: أن يصوم يوماً وأن يفطر يوماً، ومنها أن يصوم الإنسان شهراً بعينه من غير استيعاب له بكامله كصيام شهر الله المحرم وصيام شعبان؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكثر من صيامهما.
ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى نوع هذه العبادة حتى تتناسب مع الإنسان، فربما يكون الإنسان مسافراً في هذا الشهر أو مريضاً فتفوته، فلا يستدرك العبادة إلا في العام القادم في تلك المناسبة، فجعل الله عز وجل هذه الشريعة تبقى مع الإنسان على سبيل الدوام، إن فاته هذا الفضل في هذا اليوم فثمة يوم يليه، وإن فاتته المناسبة الأسبوعية أو الشهرية فإن هناك ما يليها، فكان فضلاً من الله سبحانه وتعالى ومنة على العباد أن يستكثروا من أعمال الطاعات، وذلك رحمةً بالعباد ولطفاً بهم.
والله سبحانه وتعالى يمتن على عباده كثيراً في أمور التشريع فيقول: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:53] ، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:52] ، يعني: أمثال هذا التنوع من العبادات هو الذي يقرب العباد إلى الله سبحانه وتعالى حتى يستكثروا من الطاعات رحمةً منه، فلو كانت العبادة نوعاً واحداً أو زمناً واحداً أو مناسبةً واحدة، أو على صفة وحال واحدة، فإن الإنسان يفوته من الخير الكثير الذي لا يمكن له أن يستدرك ذلك، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى وسعة فضله.
والله سبحانه وتعالى ينوع الشرائع ويعددها من جهة صفتها وهيئتها، ومن جهة زمانها ومكانها، ذلك لجملة من الحكم: من هذه الحكم: لما فطر الله عز وجل الإنسان عليه من جبلة الملل والسآمة؛ فإن الإنسان يسأم حتى من العمل الصالح التعبدي، وليست العلة في العمل الصالح، ولكن العلة فطرية قائمة فيه؛ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول كما جاء في الصحيح: ( مه! عليكم من العمل ما تطيقون؛ فإن الله لا يمل حتى تملوا ).
فقوله: (من العمل ما تطيقون) يعني: ما يطيقه الإنسان من العمل؛ حتى لا يكثر على نفسه بالاستدامة على عمل معين ولا ينوع في ذلك، أو يستكثر إكثاراً يفقد النفس من ذلك شهوتها ورغبتها وإقبالها على العلم، فرغبة الإنسان في هذا هي على التنويع، فجاءت العبادات منوعة؛ فجاءت الصلاة العبادة البدنية، وجاء الصيام وهو ما يتعلق بالأكل والشرب، وجاء ما يتعلق بالزكاة في الأمور البدنية، وجاء أيضاً ما يتعلق بالأمور الاجتماعية من صلة الأرحام، وبر الوالدين، والإحسان إلى الجار، وإكرام الضيف، وغير ذلك مما يتعلق من منظومة العبادة.
وكذلك اختلفت من جهة الزمان، فمنها ما يكون ليلاً، ومنها ما يكون نهاراً، ومنها ما هو أسبوعي، ومنها ما هو شهري، ومنها ما هو حولي، ومنها ما هو فصلي؛ ولهذا نوعها الله سبحانه وتعالى فجاء ثمة شرائع يومية، وشرائع يومية منها ما هو واجب ومتأكد، ومنها ما هو ليس بواجب وليس بمتأكد فيدخل في دائرة الاستحباب، والاستحباب جعله الله عز وجل على مراتب: منه ما هو من الأمور المتأكدة، ومنه ما هو من الأمور غير المؤكدة، مثل السنن والمستحبات في ذلك؛ ولهذا جاءت الشريعة بهذا التنوع، فلا يوجد عبادة من العبادات إلا وفيها تنوع في زمانها، فنجد مثلاً ما يتعلق بالصلاة، جعل الله سبحانه وتعالى الصلاة في أوقات أو ساعات الليل والنهار، وجعل الله سبحانه وتعالى أيضاً هذه الشعيرة العظيمة، جعل منها فرائض، وجعل منها نوافل، وجعل منها ما يكون في بيت الإنسان، ومنها ما يكون في المسجد، وذلك كما جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في الصحيح: ( أفضل صلاة الرجل في بيته إلا المكتوبة ).
وجاءت أيضاً هذه الشرائع منها ما هي مطلقة وغير محددة بوقت معين ولا بمكان، وذلك من النوافل العامة التي يتعبد بها الإنسان في صلاته، ومنها ما هي مقيدة بمناسبة معينة، المناسبة إما أن تكون مكانية كدخول الإنسان للمسجد، وقد جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام في حديث أبي سعيد وغيره: ( إذا دخل أحدكم المسجد فلا يجلس حتى يصلي ركعتين ) ، ومنها ما هو مقيد بعمل يفعله الإنسان، وذلك كصلاة ركعتين بعد الوضوء، وغير ذلك من الأعمال التي يجعلها الله سبحانه وتعالى متنوعةً تدور مع الإنسان، لماذا؟ حتى توافق رغبة من الإنسان حتى يستكثر، فتكثر المناسبات حتى يقبل الإنسان على العمل.
وكذلك الحج جعل الله عز وجل فيه فريضة، وجعل فيه نافلة، وجعل من جنسه ما زمانه متسع، فيستطيع الإنسان أن يؤدي العمرة وهي من جنس الحج وأعماله يفعلها الإنسان متى شاء من أيام السنة.
والله سبحانه وتعالى يعدد هذه المناسبات وينوعها رحمةً بالعباد، لماذا؟ حتى يستكثروا من العمل الصالح إذا لم تناسبه هذه تناسبه التي تليها، وإذا لم تناسبه التي تليها تناسبه الأخرى وهكذا، فيجد الإنسان أنه قد حصل عملاً صالحاً وفيراً.
وكذلك اختلاف أحوال الناس من جهة الإقبال على العمل، فمن الناس من يستروح إلى شيء من الأعمال ويقبل عليه، ويجد من ذلك كلفة في بعض الأعمال، والله سبحانه وتعالى جعل أعمال البر متعددة متنوعة بما يتناسب مع فطرة الإنسان وكذلك إمكانيته وقدرته التي آتاه الله عز وجل إياها، فجعل الله سبحانه وتعالى العبادات تتناسب مع قدرة الإنسان وإمكانه.
ولهذا نجد أنه في أعمال البر والصدقات والإحسان، لم يجعل الله عز وجل الثواب للإنسان على ما يقدم من عطاء، وإنما يؤجر الإنسان على ما يبقى لديه؛ والنبي عليه الصلاة والسلام كما جاء في حديث عمر بن الخطاب عند الترمذي وغيره، قال عمر بن الخطاب عليه رضوان الله تعالى: ( لأسبقن أبا بكر إن سبقته يوماً ) ، يعني: يريد أن ينافس عمر بن الخطاب أبا بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى في عمل من الأعمال، وذلك لمنزلة أبي بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وإقدامه عليه، وهذا نوع من المنافسة بالخير، فأراد النبي عليه الصلاة والسلام أن يستنفق الصحابة وأن يطلب منهم الإكثار من الصدقة، وذلك في مناسبة من المناسبات في غزوة من الغزوات، فجاء أبو بكر الصديق عليه رضوان الله تعالى بماله كله وجاء عمر بن الخطاب بشطر ماله.
انظروا إلى سؤال النبي عليه الصلاة والسلام لـعمر بن الخطاب ولـأبي بكر ! لما جاء أبو بكر عليه رضوان الله تعالى بالمال، قال له النبي عليه الصلاة والسلام: ( ما أبقيت لأهلك؟ ) ، ما قال له النبي عليه الصلاة والسلام: كم أنفقت، قال: كم أبقيت؟ ( فقال أبو بكر الصديق: أبقيت لهم الله ورسوله، فسأل النبي عليه الصلاة والسلام عمر بن الخطاب فقال له: كم أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم شطر مالي )، النبي عليه الصلاة والسلام سأل: كم أبقى وما سأل: كم أنفق؟ لأن الله سبحانه وتعالى يجعل المال من جهة نفاسته بإمكان الإنسان، من الناس من يملك ألفاً ومن الناس من يملك مائة ألف، النفاسة المالية لدى الإنسان صاحب الألف توازي النفاسة المالية عند الإنسان إذا كان لديه مائة ألف، فإذا أنفق شطر الألف قد يوازي عند الله عز وجل الذي ينفق شطر المائة ألف؛ وذلك لنفاسته عنده؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى يأجر الإنسان بما يتركه من حاجة وفاقة بعد إنفاقه؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام جاء عنه في الخبر أنه قال: ( درهم سبق ألف دينار ) ، يعني: أن الإنسان الذي ينفق درهماً لا يملك إلا إياه يسبق من أنفق ألف دينار وهو يملك ألوفاً مؤلفة من الدنانير.
وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى بعباده: أن نوع العبادة من جهة الزمان، ونوعها من جهة المكان، ونوعها من جهة المناسبة، ونوعها من جهة قدرة الإنسان، فمن الناس من هو أشل لا يستطيع أن يؤدي الصلاة قائماً، فلو كانت العبادة مجردة للصلاة فقط ولا يوجد غير هذه الصلاة يؤديها لوجد بعض الناس في نفسه حسرة وانكساراً أن الناس تتقرب إلى الله سبحانه وتعالى ولا يوجد لديه شيء يقربه إلى الله سبحانه وتعالى كما يفعل الناس، فجعل أبواباً من ذلك متعددة منها الصيام، ومنها الصدقة، ومنها ذكر الله عز وجل، ومنها قراءة القرآن.
فكان هذا التنوع من أمور العبادة يناسب قدرة الإنسان وعجزه، فكان في منظومة المدافعة التي أوجد الله عز وجل الإنسان عليها، السنة الموجودة في الخلق سنة قدرة مالية، سنة قدرة بدنية، وقدرة ذهنبة، وقدرة مكانية، ويختلف الناس في طبائعهم: فمن الناس من هو في بلد فقر ومن الناس من هو في بلد غنى، ومن الناس من هم في بلد بسطة في الجسم، ومن الناس من هو بلد فتن ومنهم من هم في بلد أمن وغير ذلك، فهذا التنوع من العبادات تشبع حالة الإنسان أن يتقرب لله سبحانه وتعالى وأن يكثر من رصيده عند الله جل وعلا، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى ولطفه في ذلك؛ لهذا تنوعت العبادات وكان من أنواعها ما يتعلق بالصيام.
ونجد أن الصيام الذي شرعه الله سبحانه وتعالى شرعه متعدداً ومتنوعاً وليس على زمن معين، فجعله الله سبحانه وتعالى على مراتب: منها ما هو حولي وهو صيام شهر رمضان، منها ما هو أيام حولية كصيام عرفة وكصيام يوم عاشوراء، ومنها ما هو أسبوعي كصيام الاثنين والخميس، ومنها ما هو شهري كصيام ثلاثة أيام من كل شهر، أو الأيام البيض، ومنها ما هو يوم وراء يوم كصيام داود: أن يصوم يوماً وأن يفطر يوماً، ومنها أن يصوم الإنسان شهراً بعينه من غير استيعاب له بكامله كصيام شهر الله المحرم وصيام شعبان؛ فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكثر من صيامهما.
ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى نوع هذه العبادة حتى تتناسب مع الإنسان، فربما يكون الإنسان مسافراً في هذا الشهر أو مريضاً فتفوته، فلا يستدرك العبادة إلا في العام القادم في تلك المناسبة، فجعل الله عز وجل هذه الشريعة تبقى مع الإنسان على سبيل الدوام، إن فاته هذا الفضل في هذا اليوم فثمة يوم يليه، وإن فاتته المناسبة الأسبوعية أو الشهرية فإن هناك ما يليها، فكان فضلاً من الله سبحانه وتعالى ومنة على العباد أن يستكثروا من أعمال الطاعات، وذلك رحمةً بالعباد ولطفاً بهم.
والله سبحانه وتعالى يمتن على عباده كثيراً في أمور التشريع فيقول: لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ [البقرة:53] ، لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [البقرة:21] ، لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة:52] ، يعني: أمثال هذا التنوع من العبادات هو الذي يقرب العباد إلى الله سبحانه وتعالى حتى يستكثروا من الطاعات رحمةً منه، فلو كانت العبادة نوعاً واحداً أو زمناً واحداً أو مناسبةً واحدة، أو على صفة وحال واحدة، فإن الإنسان يفوته من الخير الكثير الذي لا يمكن له أن يستدرك ذلك، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى وسعة فضله.
ونحن سنتكلم على ما يتعلق بأحكام الصيام:
أحكام الصيام منها ما يتعلق برمضان ومنها ما يتعلق بغيره، ونتكلم فيما يتعلق برمضان وهذه المناسبة وقربها ودنوها، وكذلك لجلالة فضلها باعتبار أنها ركن من أركان الإسلام، وقد بين الله سبحانه وتعالى فضلها ومزيتها وأثرها أيضاً على الإنسان.
مراحل تشريع صيام رمضان
الله جل وعلا شرع صيام رمضان بعدما كان الصيام قبل ذلك ليوم أو أيام معدودة، فقد جاء في حديث معاذ بن جبل وفي حديث عائشة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ثم وجد الناس يصومون يوم عاشوراء، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بصيام يوم عاشوراء )، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوجب ذلك ابتداءً كما في حديث سلمة بن الأكوع: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر منادياً أن ينادي في الناس وخارج المدينة وذلك في يوم عرفة: أن من كان ممسكاً فليتم صومه، ومن كان مفطراً فليمسك بقية يومه )، كان واجباً في ابتداء الأمر صيام يوم عاشوراء، ثم فرض الله سبحانه وتعالى بعد ذلك صيام رمضان وكان فرضه أيضاً على التخيير: بين الصيام والكفارة، وبقي عاشوراء على ما هو عليه واجباً؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العظيم: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ [البقرة:184]، يعني: على الذين يطيقون الصيام -يعني على القادر الذي لا يرغب في الصيام- فدية تكون بدلاً عن الصيام.
الحِكم من التدرج في فرض صيام رمضان
هذا في ابتداء الأمر، وهذا نوع من الرحمة والتوطين أيضاً للعباد أن يتوطنوا على شيء من العبادة فلا تفاجئهم بعدما كانوا على خلو منها ولم يجربوها قبل ذلك.
فليس من المناسب أن يأتي شهر كامل لا يأكل الإنسان فيه ولا يشرب من طلوع الشمس إلى غروبها على أقوام لم يكن لديهم عهد بذلك ولا بقية باقية من الشرائع السابقة بمثل هذا النوع إلا النزر اليسير، فكان من رحمة الله سبحانه وتعالى مجيء هذه الشريعة العظيمة من الله سبحانه وتعالى على سبيل التدرج؛ حتى يقبلها العباد قبولاً حسناً.
وهذا من الحكم الإلهية في التشريع: أن الله عز وجل لا يفاجئ الناس بوجوب فرضي، وإنما يقدم ذلك بشيء من النوافل؛ ولهذا تقول عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، ثم أقرت صلاة السفر وزيدت في صلاة الحضر )، وقبل ذلك كانت الصلاة من جهة أدائها غير مؤقتة بمواقيت، حتى جاء جبريل فصلى بالنبي عليه الصلاة والسلام عند البيت الحرام في أول الوقت وفي آخره، فقال: ( الوقت بين هذين )، ثم أصبح بعد ذلك شريعةً للناس، فهذا نوع من التوطين للناس حتى يترسخوا على العقيدة والعمل.
وهذا ظاهر من جهة أصل التشريع ومن جهة توطين غير من لم يتوطن على أداء العبادة؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما جاء في السنن من حديث عبد الله بن عمرو، قال: ( مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها لعشر )، هذا نوع من التوطين: أنك يجب عليك أن توطن ابنك بأمره بالصلاة وهو ابن سبع سنوات، سبع سنوات ليس بمكلف، يعني: بينه وبين التكليف أكثر من سبع سنوات أخرى، فأمره بذلك في حال السبع سنوات، لماذا؟ حتى يتوطن؛ لأن الصلاة هي من أشد العبادات كلفةً على الإنسان، وذلك أنها يومية، وأنها مختلفة في الوقت؛ إذا ليست في وقت واحد، فلا بد أن تتوافق مع غفلة أو نوم أو راحة أو مطعم أو ملهى أو غير ذلك من مصارف الإنسان ومتعه، فتحتاج إلى نوع من التجلد والصبر، فجاءت على سبيل التوطين حتى يتدرب عليها الإنسان، لماذا؟
لأن الصبي في ابتداء أمره ليس بصاحب لذة ولا بمتعة، وكذلك أيضاً ليس بصاحب مشاغل، فإذا توطن عليها قوي على المشاغل ولم تقو عليه المشاغل، فكان في ذلك أكثر توطيناً؛ ولهذا الذين يقصرون في جانب تربية أبنائهم في أمور الصلاة فيفرطون في هذا الأمر، فلا يأمرون أبناءهم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، تأتي عليهم مرحلة البلوغ فيجدون أن الابن يتمرد عليه في أداء الصلاة، والسبب في هذا هو التقصير في أنه ما أمره بالصلاة وهو ابن سبع سنوات.
فإذا كان يوجه للطفل -وهو ابن سبع سنوات- كل يوم خمس مرات، فليحسب الإنسان في السنة كم؟ السنة الواحدة ثلاثمائة وأربعة وستون أمراً مضروبة في خمسة، ثم في العام الآخر كذلك، لا يمكن أن يصل إلى مرحلة البلوغ والأوامر تتكرر عليه إلا وهو منضبط انضباطاً تاماً، ولكن يقع الخلل في الأولياء، ثم إذا فرط الأبناء قال: فرط الأبناء وتمردوا، والسبب في ذلك هو الخلل الذي كان منه.
لهذا جاءت الشريعة بالتوطين على أمور العبادات على سبيل التدرج، ومن ذلك ما يتعلق بأمر الصيام فكان توطيناً، حتى كانوا يصومون أبناءهم كما جاء في حديث الربيع: ( كانوا يصومون أبناءهم ويلهونهم بالعهن من القطن حتى يأتي الطعام )، وذلك نوع من التوطين، وكذلك كانوا يصومونهم في يوم عاشوراء؛ حتى يعتادوا على ذلك، ثم لما جاء رمضان انتقل الحكم من ذلك من التخيير إلى فرض رمضان على سبيل التعيين من خير تخيير، وهذا في قول الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] ، حينئذ تحول الأمر من التخيير إلى الفرض العيني.
فنقول: إن ما يتعلق بمثل هذا الأمر والعبادة، نقول: إن الله سبحانه وتعالى لطف بعباده ورحمهم بأمثال هذه الشرائع وتنوعها، ومن ذلك ما يتعلق بعبادة الصيام وغيرها من العبادات.
فالله سبحانه وتعالى شرع الشريعة وأمر الإنسان بفعلها، وجعل لها أثراً في ذاته من جهة محو السيئات التي يرتكبها؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما )، إذاً: تقوم بعمل وتؤجر عليه، ثم يأتي ويرتد على السيئات الماضية فيما يكون من عمل الإنسان بالمحو، هذا فضل كبير، لكن هذا مشروط بكون الإنسان يصوم رمضان إيماناً واحتساباً، فإذا فعل ذلك فإن الله جل وعلا يغفر له ما تقدم من ذنبه فضلاً من الله سبحانه وتعالى ومنة؛ ولهذا الله جل وعلا يقول في كتابه العظيم: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] ، يعني: تمحو عمل الإنسان السيئ ويبدله الله عز وجل بذلك أجراً.
وهذا من بركة الطاعات، وهذا أيضاً من الحكم في تنوع العبادة، فالإنسان لا يخلو من ذنب، فقد يقع إما في غيبة وإما في نميمة وإما في أمر من الأمور المحرمة من الصغائر أو أمور الكبائر، وهذه المحرمات أيضاً تختلف: فمنها ما يقترفها الإنسان في يومه وليلته، ومنها ما هي أسبوعية ومنها ما هي أبعد من ذلك، هذه تتكاثر على الإنسان، فمن رحمة الله عز وجل أن تغالب بالحسنات؛ حتى تمُحى تلك السيئات التي يأتي بها الإنسان.
لهذا يجد الإنسان أنواع العبادة كثيرة في يومه وليلته: منها أذكار الصباح وأذكار المساء، التسبيح التهليل الصلوات بجميع أنواعها، بر الوالدين وصلة الأرحام، فيجد الإنسان تكاليف متعددة، وهذه التكاليف أراد الله سبحانه وتعالى بها أن تقاوم ما يصدر من الإنسان من محرمات حتى يتفاجأ بعد ذلك أن عمله في ذلك وفير وذنبه في ذلك قليل، وهذا أيضاً من رحمة الله عز وجل بتنوع هذه العبادات.
وهي أيضاً تختلف وتتباين من جهة قوتها على دفع السيئات، فالعمل العظيم يمحو الله سبحانه وتعالى به السيئة العظيمة.
كذلك ينبغي أن يعلم: أن السيئة العظيمة يمحو الله عز وجل بها الحسنة أيضاً، وهذه سنة المدافعة والمغالبة بين الحسنات والسيئات، الله عز وجل يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] ، هذه حسنة تذهب السيئة، لكن الإنسان إذا جاء بسيئة أيضاً قد تمحو تلك الحسنة التي يفعلها الإنسان، فهذه المغالبة والمدافعة بين الكبائر والكبائر والصغائر من جهة أمور الطاعات والمعاصي ينبغي للإنسان أن يتنبه لها، فهو في دائرة مغالبة ومكاثرة، وهو في حال متاجرة في أمر الدنيا، فيجب على الإنسان في ذلك أن يستكثر من العمل الصالح.
منة الله على هذه الأمة بصيام رمضان
لقد فرض الله سبحانه وتعالى الصيام على هذه الأمة، وأكرمها وامتن عليها بفرضيته، يقول الله سبحانه وتعالى: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة:183] ، فامتن الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة بأن شرع لها الصيام كما شرعه على الأمم السابقة، ولكن صيام رمضان هذا من خصائص هذه الأمة، فذكر الله عز وجل أن أصل شريعة الصيام موجودة، أما رمضان فهو خاص بهذه الأمة؛ ولهذا الله عز وجل يقول: شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة:185] ، فخص هذه الأمة بهذا الصيام، قال: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] ، فجعل الله سبحانه وتعالى اشتراك العبادة في الأمة مع الأمم السابقة هو في أصل وجنس العبادة لا في وصفها وكذلك عددها ومناسباتها، هذا في ظاهر السياق؛ ولهذا نقول: إن الله سبحانه وتعالى امتن على الأمة بتنوع عبادات وأوصافها، وامتن عليها بصيام رمضان.
الله جل وعلا شرع صيام رمضان بعدما كان الصيام قبل ذلك ليوم أو أيام معدودة، فقد جاء في حديث معاذ بن جبل وفي حديث عائشة: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أول ما قدم المدينة كان يصوم ثلاثة أيام من كل شهر، ثم وجد الناس يصومون يوم عاشوراء، ثم أمر النبي صلى الله عليه وسلم الناس بصيام يوم عاشوراء )، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوجب ذلك ابتداءً كما في حديث سلمة بن الأكوع: ( أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر منادياً أن ينادي في الناس وخارج المدينة وذلك في يوم عرفة: أن من كان ممسكاً فليتم صومه، ومن كان مفطراً فليمسك بقية يومه )، كان واجباً في ابتداء الأمر صيام يوم عاشوراء، ثم فرض الله سبحانه وتعالى بعد ذلك صيام رمضان وكان فرضه أيضاً على التخيير: بين الصيام والكفارة، وبقي عاشوراء على ما هو عليه واجباً؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى يقول في كتابه العظيم: وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ [البقرة:184]، يعني: على الذين يطيقون الصيام -يعني على القادر الذي لا يرغب في الصيام- فدية تكون بدلاً عن الصيام.
هذا في ابتداء الأمر، وهذا نوع من الرحمة والتوطين أيضاً للعباد أن يتوطنوا على شيء من العبادة فلا تفاجئهم بعدما كانوا على خلو منها ولم يجربوها قبل ذلك.
فليس من المناسب أن يأتي شهر كامل لا يأكل الإنسان فيه ولا يشرب من طلوع الشمس إلى غروبها على أقوام لم يكن لديهم عهد بذلك ولا بقية باقية من الشرائع السابقة بمثل هذا النوع إلا النزر اليسير، فكان من رحمة الله سبحانه وتعالى مجيء هذه الشريعة العظيمة من الله سبحانه وتعالى على سبيل التدرج؛ حتى يقبلها العباد قبولاً حسناً.
وهذا من الحكم الإلهية في التشريع: أن الله عز وجل لا يفاجئ الناس بوجوب فرضي، وإنما يقدم ذلك بشيء من النوافل؛ ولهذا تقول عائشة عليها رضوان الله تعالى: ( أول ما فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، ثم أقرت صلاة السفر وزيدت في صلاة الحضر )، وقبل ذلك كانت الصلاة من جهة أدائها غير مؤقتة بمواقيت، حتى جاء جبريل فصلى بالنبي عليه الصلاة والسلام عند البيت الحرام في أول الوقت وفي آخره، فقال: ( الوقت بين هذين )، ثم أصبح بعد ذلك شريعةً للناس، فهذا نوع من التوطين للناس حتى يترسخوا على العقيدة والعمل.
وهذا ظاهر من جهة أصل التشريع ومن جهة توطين غير من لم يتوطن على أداء العبادة؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول كما جاء في السنن من حديث عبد الله بن عمرو، قال: ( مروا أبناءكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها لعشر )، هذا نوع من التوطين: أنك يجب عليك أن توطن ابنك بأمره بالصلاة وهو ابن سبع سنوات، سبع سنوات ليس بمكلف، يعني: بينه وبين التكليف أكثر من سبع سنوات أخرى، فأمره بذلك في حال السبع سنوات، لماذا؟ حتى يتوطن؛ لأن الصلاة هي من أشد العبادات كلفةً على الإنسان، وذلك أنها يومية، وأنها مختلفة في الوقت؛ إذا ليست في وقت واحد، فلا بد أن تتوافق مع غفلة أو نوم أو راحة أو مطعم أو ملهى أو غير ذلك من مصارف الإنسان ومتعه، فتحتاج إلى نوع من التجلد والصبر، فجاءت على سبيل التوطين حتى يتدرب عليها الإنسان، لماذا؟
لأن الصبي في ابتداء أمره ليس بصاحب لذة ولا بمتعة، وكذلك أيضاً ليس بصاحب مشاغل، فإذا توطن عليها قوي على المشاغل ولم تقو عليه المشاغل، فكان في ذلك أكثر توطيناً؛ ولهذا الذين يقصرون في جانب تربية أبنائهم في أمور الصلاة فيفرطون في هذا الأمر، فلا يأمرون أبناءهم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، تأتي عليهم مرحلة البلوغ فيجدون أن الابن يتمرد عليه في أداء الصلاة، والسبب في هذا هو التقصير في أنه ما أمره بالصلاة وهو ابن سبع سنوات.
فإذا كان يوجه للطفل -وهو ابن سبع سنوات- كل يوم خمس مرات، فليحسب الإنسان في السنة كم؟ السنة الواحدة ثلاثمائة وأربعة وستون أمراً مضروبة في خمسة، ثم في العام الآخر كذلك، لا يمكن أن يصل إلى مرحلة البلوغ والأوامر تتكرر عليه إلا وهو منضبط انضباطاً تاماً، ولكن يقع الخلل في الأولياء، ثم إذا فرط الأبناء قال: فرط الأبناء وتمردوا، والسبب في ذلك هو الخلل الذي كان منه.
لهذا جاءت الشريعة بالتوطين على أمور العبادات على سبيل التدرج، ومن ذلك ما يتعلق بأمر الصيام فكان توطيناً، حتى كانوا يصومون أبناءهم كما جاء في حديث الربيع: ( كانوا يصومون أبناءهم ويلهونهم بالعهن من القطن حتى يأتي الطعام )، وذلك نوع من التوطين، وكذلك كانوا يصومونهم في يوم عاشوراء؛ حتى يعتادوا على ذلك، ثم لما جاء رمضان انتقل الحكم من ذلك من التخيير إلى فرض رمضان على سبيل التعيين من خير تخيير، وهذا في قول الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ [البقرة:185] ، حينئذ تحول الأمر من التخيير إلى الفرض العيني.
فنقول: إن ما يتعلق بمثل هذا الأمر والعبادة، نقول: إن الله سبحانه وتعالى لطف بعباده ورحمهم بأمثال هذه الشرائع وتنوعها، ومن ذلك ما يتعلق بعبادة الصيام وغيرها من العبادات.
فالله سبحانه وتعالى شرع الشريعة وأمر الإنسان بفعلها، وجعل لها أثراً في ذاته من جهة محو السيئات التي يرتكبها؛ ولهذا النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( رمضان إلى رمضان كفارة لما بينهما )، إذاً: تقوم بعمل وتؤجر عليه، ثم يأتي ويرتد على السيئات الماضية فيما يكون من عمل الإنسان بالمحو، هذا فضل كبير، لكن هذا مشروط بكون الإنسان يصوم رمضان إيماناً واحتساباً، فإذا فعل ذلك فإن الله جل وعلا يغفر له ما تقدم من ذنبه فضلاً من الله سبحانه وتعالى ومنة؛ ولهذا الله جل وعلا يقول في كتابه العظيم: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] ، يعني: تمحو عمل الإنسان السيئ ويبدله الله عز وجل بذلك أجراً.
وهذا من بركة الطاعات، وهذا أيضاً من الحكم في تنوع العبادة، فالإنسان لا يخلو من ذنب، فقد يقع إما في غيبة وإما في نميمة وإما في أمر من الأمور المحرمة من الصغائر أو أمور الكبائر، وهذه المحرمات أيضاً تختلف: فمنها ما يقترفها الإنسان في يومه وليلته، ومنها ما هي أسبوعية ومنها ما هي أبعد من ذلك، هذه تتكاثر على الإنسان، فمن رحمة الله عز وجل أن تغالب بالحسنات؛ حتى تمُحى تلك السيئات التي يأتي بها الإنسان.
لهذا يجد الإنسان أنواع العبادة كثيرة في يومه وليلته: منها أذكار الصباح وأذكار المساء، التسبيح التهليل الصلوات بجميع أنواعها، بر الوالدين وصلة الأرحام، فيجد الإنسان تكاليف متعددة، وهذه التكاليف أراد الله سبحانه وتعالى بها أن تقاوم ما يصدر من الإنسان من محرمات حتى يتفاجأ بعد ذلك أن عمله في ذلك وفير وذنبه في ذلك قليل، وهذا أيضاً من رحمة الله عز وجل بتنوع هذه العبادات.
وهي أيضاً تختلف وتتباين من جهة قوتها على دفع السيئات، فالعمل العظيم يمحو الله سبحانه وتعالى به السيئة العظيمة.
كذلك ينبغي أن يعلم: أن السيئة العظيمة يمحو الله عز وجل بها الحسنة أيضاً، وهذه سنة المدافعة والمغالبة بين الحسنات والسيئات، الله عز وجل يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] ، هذه حسنة تذهب السيئة، لكن الإنسان إذا جاء بسيئة أيضاً قد تمحو تلك الحسنة التي يفعلها الإنسان، فهذه المغالبة والمدافعة بين الكبائر والكبائر والصغائر من جهة أمور الطاعات والمعاصي ينبغي للإنسان أن يتنبه لها، فهو في دائرة مغالبة ومكاثرة، وهو في حال متاجرة في أمر الدنيا، فيجب على الإنسان في ذلك أن يستكثر من العمل الصالح.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز الطَريفي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الأحكام الفقهية المتعلقة بالصيام [2] | 2709 استماع |
إنما يخشى الله من عباده العلماء | 2473 استماع |
إن خير من استأجرت القوي الأمين | 2314 استماع |
العالِم والعالَم | 2307 استماع |
الذريعة بين السد والفتح [1] | 2296 استماع |
الإسلام وأهل الكتاب | 2129 استماع |
الذريعة بين السد والفتح [2] | 2101 استماع |
الحجاب بين الفقه الأصيل والفقه البديل [1] | 2100 استماع |
الردة .. مسائل وأحكام | 2075 استماع |
شرح حديث إن الحلال بين وإن الحرام بين [2] | 2044 استماع |