إن الحكم إلا لله


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى خلق الخلق، ودبر هذا الكون وسيره، وجعل حكمه سبحانه وتعالى إليه ليس لأحد من خلقه، فالله جل وعلا يدبر الأمور، ويصيرها، لا يشاركه في ذلك أحد من مخلوقاته، وإن نازعه أحد بقوله أو بفعله، فإن ذلك من أمور المنازعة الصورية، يمهل الله جل وعلا بها المنازع إلى أجل معلوم، ثم يؤاخذه الله سبحانه وتعالى بجريرته ومنازعته تلك، والله سبحانه وتعالى متصرف في ملكه، وكل ما عدا الله جل وعلا هو الكون المخلوق، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى أن جعل العباد في هذه الأرض مختلفين، متباينين من جهة الإدراك والنظر، والتمييز بين الخطأ والصواب.

وهذه الحكمة البالغة هي أصل الصراع والامتحان والاختبار الذي جعل الله جل وعلا الناس عليه، فكانوا يتقلبون بين خطأ وصواب، وبين حق وباطل، ويغلب الحق الباطل تارة، ويغلب الباطل الحق تارة أخرى، وذلك لاعتبارات دقيقة وحكم عظيمة تخفى على كثير من الخلق؛ وذلك أن الإنسان ربما يكون معه شيء من الباطل الذي يأخذه بحسن قصد، فيقابله صاحب حق أخذه بسوء نية وطوية، فتغلب نية الباطل الحقة نية الحق الفاسدة؛ ولهذا يكون الإنسان في مصارعة بين باطنه وظاهره، فالحق كما أن له ظاهراً كذلك فإن له باطناً أيضاً؛ ولهذا فإن الله جل وعلا في تصرفه في الكون له اعتبارات وحكم تخفى على الخلق بمجموعها، وإن علموا شيئاً منها؛ ولهذا تظهر كثير من معاني صفات الله جل وعلا وأسمائه لمن تأمل سنن الله جل وعلا في الكون.

والله سبحانه وتعالى حينما خلق الخلق وسير الخليقة على نظام معلوم، جعل الإنسان بعقله يخالف مراد الله سبحانه وتعالى فيما حدده له من جهة المعمول الشرعي، ولكنه يسير وفق نظام محدود بما يقدره الله جل وعلا له؛ ولهذا من انحرف عن أمر الله سبحانه وتعالى ومراده، وخرج عن قضاء الله الشرعي وتكليفه سبحانه وتعالى لعبده المكلف كان ذلك الخارج أقل مرتبة من الجماد، وذلك أن الجماد لا يوجه إليه الخطاب الشرعي، وإنما يوجه إليه الأمر القدري، فإذا وجه إليه الأمر القدري من الله سبحانه وتعالى ولم يخرج عنه كان متفوقاً على من وجه إليه الخطاب القدري ووجه إليه الخطاب الشرعي فخالف الشرع، وصار على القدر الذي شارك معه الجماد، فامتاز عنه حينئذٍ الجماد وفاق؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى جعل البهائم خيراً من الكفار، وجعل الله سبحانه وتعالى الكفار أضل سبيلاً من الأنعام.

إن الله سبحانه وتعالى إذا علمنا أن الكون هو خلق الله جل وعلا، فخالق الكون هو أولى بالتصرف والتدبير، فإذا كان الإنسان يملك أرضاً، او يملك داراً أو بستاناً فهو أولى الناس بالتصرف، والذي يدخل على تلك الأرض أو ذلك البستان أو تلك الدار هو ظالم متعدٍّ إلا بإذن صاحبه وتشريعه له، فإذا تعدى من غير رخصة من صاحبه فإنه ظالم لنفسه وظالم لغيره، والله جل وعلا له المثل الأعلى في ذلك، وتصريف الله سبحانه وتعالى للناس.

والخليقة في هذه الأرض يدورون بين حكمين لله جل وعلا وبين ذينك الأمرين في نصوص كثيرة، وأجملها في قوله جل وعلا: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57]، فالله سبحانه وتعالى جعل الحكم له وحده وليس لأحد من عباده.

النوع الأول: الحكم القدري

النوع الأول من أنواع الأحكام: هو الحكم القدري الذي جعله الله جل وعلا طريقاً تسير به المخلوقات من الأفلاك والكواكب والبهائم، وكذلك البشر، يسيرون وفق نظام مرسوم لهم لا يخرجون عنه، ينساقون لطاعة الله سبحانه وتعالى سواء كان طواعية أو على كره، وعلى هذا حمل غير واحد قول الله جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، قالوا: العبودية هنا على نوعين: عبودية على كره، وهي القدرية، وتعني الخضوع لأمر الله سبحانه وتعالى، والعبودية على طوع، وهو امتثال أمر الله سبحانه وتعالى بالتعبد لله جل وعلا بما شرع من التكاليف الشرعية الظاهرة من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لهذا في هذا النوع الله جل وعلا يسير هذه المخلوقات، ولا تحيد عنه، ويشترك في ذلك العاقل وغير العاقل، يسيرون على حكم الله سبحانه وتعالى لا يخرجون عنه، وإنما الصراع هو في النوع الثاني الذي ربما يزعم فيه الإنسان زوراً أنه ينازع الله جل وعلا في الحكم الأول، وهو أبعد ما يكون عن ذلك.

النوع الثاني: الحكم الشرعي

والنوع الثاني: هو حكم الله سبحانه وتعالى لعباده بما شرعه لهم من التعبد؛ وقد جعل الله جل وعلا الإقرار بالأول عقيدة، والتسليم بالثاني عملاً واعتقاداً هو العبادة الحقة لله جل وعلا؛ لهذا قال الله سبحانه وتعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40].

فالله جل وعلا جعل الحكم له، وجعل الامتثال لذلك الحكم عبادة له سبحانه وتعالى، مما يدل على أن إقرار الإنسان بقلبه بحق الله جل وعلا بتدبير هذا الكون، وتسييره، وكذلك قضاء الله جل وعلا وقدره على عباده فيما يأتيهم وإن دق أو جل أنه بحكم الله سبحانه وتعالى، فيجب عليهم حال نزول الضراء ألا يلحقوها بالأسباب، وإنما يلحقونها بمسبب الأسباب سبحانه وتعالى؛ لهذا من نزلت به مصيبة أو نازلة أو كارثة على أي نوع من أنواع النوازل والكوارث يجب عليه أن يكل ذلك الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا وكله إلى غيره نقص من النوع الأول بقدر ضعف إيمانه به، فيضعف إيمانه بالله جل وعلا، وكذلك يقل تعلقه بالله وثقته ويقينه به سبحانه وتعالى.

والإنسان في ذلك يتردد بين الأسباب ومسبب الأسباب، والقلوب تميل في ذلك بين الضعف والقوة، فإذا مال الإنسان إلى مسبب الأسباب، وترك الأسباب بالكلية فإنه متواكل، وإذا اعتمد على الله سبحانه وتعالى، وأخذ بالأسباب المقدرة لأنها تتضمن حكم الله جل وعلا فإنه متوكل، فمن أخذ بالسبب تضمن ذلك إقراره بأن الله جل وعلا دبر الكون على نحو ونظام أعلمه الإنسان، فإذا كان ذلك يتضمن وجود الأسباب وجب عليه أن يأخذ بالأسباب؛ لأنها داخلة في حكم الله سبحانه وتعالى؛ لهذا كملت شريعة الإسلام بإرجاع الإنسان إلى الله جل وعلا بالتعلق به باعتبار أنه مسبب الأسباب جل وعلا، وكذلك بالأسباب التي جعلها الله سبحانه وتعالى أسباباً مشروعة.

فيتقي الإنسان بلباس برداً وبلباسٍ حراً، ويتقي الإنسان بالسكن الهواء والشمس، وغير ذلك.

وهذا من الأخذ بالأسباب، وإن كانت في ذاتها من غير أمر الله سبحانه وتعالى وحكمه لا تقدم للإنسان شيئاً ولا تؤخر؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى ينزع من هذه الأسباب خاصيتها متى ما شاء؛ ولهذا لما وضع قوم إبراهيم إبراهيم عليه السلام في النار أمر الله جل وعلا النار أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم، فهذا السبب نزع منه أثره حينما اعتمد إبراهيم على الله وحده، حينما لم يستطع أن يدفع ذلك السبب بيده أو بشيء من الأسباب المشروعة فاعتمد على مسبب الأسباب، وهذا غاية توكل الإنسان على الله سبحانه وتعالى، واعتماده عليه.

وهذا الأمر الثاني: وهو الحكم الشرعي الذي أمر الله جل وعلا بأخذه هو ما قضاه جل وعلا لعباده من الأوامر والنواهي الشرعية التي يحصل بها التكليف، فالله سبحانه وتعالى جعل الامتثال في الأحكام الشرعية ملازماً الامتثال للحكم الأول وهو القدر؛ لأن الإنسان لا يملك أن يتصرف أو يختار في قضاء الله سبحانه وتعالى ما شاء، وأما حكم الله الشرعي -الذي هو موضع الامتحان والاختبار- فإن الإنسان يتردد في ذلك بحسب توفيق الله جل وعلا وإعانته له، وبحسب إيمانه بالله جل وعلا، وامتثاله لأمره ونهيه، ويظهر في ذلك الصالحون، ويظهر في ذلك من دونهم من المقصرين والعصاة والفسقة والمنافقين والكفار والظلمة وغير ذلك، حيث يظهر تعنتهم ومخالفتهم لأمر الله جل وعلا بحسب مخالفتهم لحكم الله سبحانه وتعالى الثاني، وهو أمر الله جل وعلا وقضائه الشرعي.

النوع الأول من أنواع الأحكام: هو الحكم القدري الذي جعله الله جل وعلا طريقاً تسير به المخلوقات من الأفلاك والكواكب والبهائم، وكذلك البشر، يسيرون وفق نظام مرسوم لهم لا يخرجون عنه، ينساقون لطاعة الله سبحانه وتعالى سواء كان طواعية أو على كره، وعلى هذا حمل غير واحد قول الله جل وعلا: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، قالوا: العبودية هنا على نوعين: عبودية على كره، وهي القدرية، وتعني الخضوع لأمر الله سبحانه وتعالى، والعبودية على طوع، وهو امتثال أمر الله سبحانه وتعالى بالتعبد لله جل وعلا بما شرع من التكاليف الشرعية الظاهرة من كلام الله وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لهذا في هذا النوع الله جل وعلا يسير هذه المخلوقات، ولا تحيد عنه، ويشترك في ذلك العاقل وغير العاقل، يسيرون على حكم الله سبحانه وتعالى لا يخرجون عنه، وإنما الصراع هو في النوع الثاني الذي ربما يزعم فيه الإنسان زوراً أنه ينازع الله جل وعلا في الحكم الأول، وهو أبعد ما يكون عن ذلك.

والنوع الثاني: هو حكم الله سبحانه وتعالى لعباده بما شرعه لهم من التعبد؛ وقد جعل الله جل وعلا الإقرار بالأول عقيدة، والتسليم بالثاني عملاً واعتقاداً هو العبادة الحقة لله جل وعلا؛ لهذا قال الله سبحانه وتعالى: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ [يوسف:40].

فالله جل وعلا جعل الحكم له، وجعل الامتثال لذلك الحكم عبادة له سبحانه وتعالى، مما يدل على أن إقرار الإنسان بقلبه بحق الله جل وعلا بتدبير هذا الكون، وتسييره، وكذلك قضاء الله جل وعلا وقدره على عباده فيما يأتيهم وإن دق أو جل أنه بحكم الله سبحانه وتعالى، فيجب عليهم حال نزول الضراء ألا يلحقوها بالأسباب، وإنما يلحقونها بمسبب الأسباب سبحانه وتعالى؛ لهذا من نزلت به مصيبة أو نازلة أو كارثة على أي نوع من أنواع النوازل والكوارث يجب عليه أن يكل ذلك الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا وكله إلى غيره نقص من النوع الأول بقدر ضعف إيمانه به، فيضعف إيمانه بالله جل وعلا، وكذلك يقل تعلقه بالله وثقته ويقينه به سبحانه وتعالى.

والإنسان في ذلك يتردد بين الأسباب ومسبب الأسباب، والقلوب تميل في ذلك بين الضعف والقوة، فإذا مال الإنسان إلى مسبب الأسباب، وترك الأسباب بالكلية فإنه متواكل، وإذا اعتمد على الله سبحانه وتعالى، وأخذ بالأسباب المقدرة لأنها تتضمن حكم الله جل وعلا فإنه متوكل، فمن أخذ بالسبب تضمن ذلك إقراره بأن الله جل وعلا دبر الكون على نحو ونظام أعلمه الإنسان، فإذا كان ذلك يتضمن وجود الأسباب وجب عليه أن يأخذ بالأسباب؛ لأنها داخلة في حكم الله سبحانه وتعالى؛ لهذا كملت شريعة الإسلام بإرجاع الإنسان إلى الله جل وعلا بالتعلق به باعتبار أنه مسبب الأسباب جل وعلا، وكذلك بالأسباب التي جعلها الله سبحانه وتعالى أسباباً مشروعة.

فيتقي الإنسان بلباس برداً وبلباسٍ حراً، ويتقي الإنسان بالسكن الهواء والشمس، وغير ذلك.

وهذا من الأخذ بالأسباب، وإن كانت في ذاتها من غير أمر الله سبحانه وتعالى وحكمه لا تقدم للإنسان شيئاً ولا تؤخر؛ ولهذا الله سبحانه وتعالى ينزع من هذه الأسباب خاصيتها متى ما شاء؛ ولهذا لما وضع قوم إبراهيم إبراهيم عليه السلام في النار أمر الله جل وعلا النار أن تكون برداً وسلاماً على إبراهيم، فهذا السبب نزع منه أثره حينما اعتمد إبراهيم على الله وحده، حينما لم يستطع أن يدفع ذلك السبب بيده أو بشيء من الأسباب المشروعة فاعتمد على مسبب الأسباب، وهذا غاية توكل الإنسان على الله سبحانه وتعالى، واعتماده عليه.

وهذا الأمر الثاني: وهو الحكم الشرعي الذي أمر الله جل وعلا بأخذه هو ما قضاه جل وعلا لعباده من الأوامر والنواهي الشرعية التي يحصل بها التكليف، فالله سبحانه وتعالى جعل الامتثال في الأحكام الشرعية ملازماً الامتثال للحكم الأول وهو القدر؛ لأن الإنسان لا يملك أن يتصرف أو يختار في قضاء الله سبحانه وتعالى ما شاء، وأما حكم الله الشرعي -الذي هو موضع الامتحان والاختبار- فإن الإنسان يتردد في ذلك بحسب توفيق الله جل وعلا وإعانته له، وبحسب إيمانه بالله جل وعلا، وامتثاله لأمره ونهيه، ويظهر في ذلك الصالحون، ويظهر في ذلك من دونهم من المقصرين والعصاة والفسقة والمنافقين والكفار والظلمة وغير ذلك، حيث يظهر تعنتهم ومخالفتهم لأمر الله جل وعلا بحسب مخالفتهم لحكم الله سبحانه وتعالى الثاني، وهو أمر الله جل وعلا وقضائه الشرعي.

إن حكم الله سبحانه وتعالى الشرعي الذي ينبغي للإنسان أن يكون على بصيرة ومعرفة به، فهذا الحكم على نوعين: الأول: حكم لازم للإنسان لا يتعدى إلى غيره، وهو كثير من العبادات الذاتية اللازمة، كالتسبيح والتهليل والاستغفار وغير ذلك، وكذلك العبادات التي يفعلها الإنسان من الصلاة والصيام وغير ذلك.

الثاني: عبادات متعدية، وأحكام متعدية، وهي ما أمر الله جل وعلا بها أن تقام بين الناس على قدر مشترك، والاشتراك في ذلك بحسب تعدي القدر المشترك في ذلك بحسب أهمية الحكم، فكلما كان الحكم متعدياً إلى أكثر من شخص كان أهم وأعظم؛ لأن الله جل وعلا يدير الكون ويصيره من جهة ثباته واستقامة أمره بالنوعين السابقين: الحكم اللازم والحكم المتعدي.

ولهذا كانت المجتمعات التي تمتثل أمر الله سبحانه وتعالى راضية مرضية، وهي محل استقامة حال، ولامتثالها لأمر الله سبحانه وتعالى، وإذا قصرت في جنب الله، وخالفت أمر الله سبحانه وتعالى نزل بها من العقوبة ونزل بها من غضب الله سبحانه وتعالى وسخطه بحسب منازعة الله جل وعلا في أمره.

وأحكام الله سبحانه وتعالى الشرعية كما تقدم، منها ما هو لازم ومنها ما هو متعدٍّ، اللازم على الإنسان يكون أهم من وجه، وأيسر من وجه، أهم من وجه باعتبار مسائل العقائد، ومسائل العقائد هي في الأغلب لازمة للإنسان لا تتعدى إلى غيره، فيوحد الإنسان ربه جل وعلا، ولو أشرك الناس من حوله، فهو موحد بقلبه وبقوله وكذلك أيضاً بجوارحه، وإن لم يشركه في ذلك غيره.

أما ما عدا التوحيد فإن الأمور المتعدية أعظم من الأمور اللازمة في الأحكام الشرعية، وكلما كان حكم الله جل وعلا متعدياً إلى الجماعة فإنه أولى بالأخذ والاعتبار من الحكم الذي لا يتعدى إلى الواحد، وهو شبيه بأمر الجماعة حينما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاة الرجل مع الرجلين أزكى من صلاته مع الرجل )، وهذا فيه إشارة إلى أن الحكم الشرعي كلما كان متعدياً إلى الناس كلهم، فإنه أوجب بالأخذ والاعتبار، لماذا؟ لأن الله جل وعلا يجل تعالى عن أن يحكم على عباده بحكم يعم الأخذ به فيكون ليس له أثر على المجتمع في صلاحهم واستقامة أمرهم، وكلما قصروا في الأمور المتعدية نزل بهم أثر ذلك عكساً بحسب مخالفتهم لأمر الله سبحانه وتعالى، ويظهر ذلك في أحكام الله جل وعلا بين العباد وأقضيته في إقامة الحدود، والتعزيرات.

والله جل وعلا قد بين الحدود، وبين الأحكام، وبين الفرائض، وحدها فمن جاء بها كما أمر الله سبحانه وتعالى، فقد امتثل حكم الله جل وعلا وأمره، ومن خالفها فقد خالف الله سبحانه وتعالى.

تحريم الظلم حتى على البهائم فيما بينها

والإنسان إذا أراد أن ينظر إلى المجتمعات التي تعان وتوفق في ظاهر أمرها يجد أن الله يحميها من نزول العقاب عليها حينما يظهر فيها تطبيق الأحكام المتعدية وإن قصرت في ذواتها؛ لأن الأحكام المتعدية التي تتعدى إلى الجماعات مقتضاها مصلحة الجماعة لا مصلحة الفرد بعينه، وهذا هو مقتضى عدل الله سبحانه وتعالى.

ولقد حرم الله جل وعلا المظالم بين البشر، وأمر بأداء الحقوق، ولحكمة الله سبحانه وتعالى وتمام عدله أمر البهائم بأن تعدل فيما بينها في هذا الأمر، ولم يأمرها سبحانه وتعالى بالعبادات اللازمة، وإنما أمرها بالأمور المتعدية لأهمية ذلك على البهائم من جهة استقامة أمرها، فالله سبحانه وتعالى أمر البهائم بالعدل فيما بينها، وحرم عليها الظلم، كما حرمه الله جل وعلا على أهل العقل من الجن والإنس، وذلك أن الحياة لا تستقيم إلا بذلك، فإذا نزع ذلك الامتثال منها نزل بها عقاب الله سبحانه وتعالى؛ لهذا فإن ظلم الناس لغيرهم أقرب لعقاب الله سبحانه وتعالى من ظلم الإنسان لنفسه، فالله جل وعلا يمهل الإنسان الفرد، ولكنه لا يمهل الجماعة؛ لأن الجماعة ربما تأتي من جهة السيئة والخطيئة التي تقع بها على الفرد، ولكن الفرد لا يأتي بالسيئة التي يقع بها على الجماعة، وهذا أمر معلوم بالنظر إلى سنن الله الكونية في الأمم السابقة، وكذلك في النصوص الشرعية من كلام الله سبحانه وتعالى، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر معلوم مسلم به.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة : ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها، وليقتصن الله من الشاة القرناء للشاة الجماء )، في هذا أن الله سبحانه وتعالى يبين أنه يقتص للشاة الجماء، ومقتضى هذا القصاص أن ثمة تكليفاً، وإلا فالله جل وعلا لا يعذب أحداً بأي نوع من أنواع العذاب إلا وقد سبقه بيان قبل ذلك؛ ولهذا قال الله جل وعلا على الإطلاق: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فالله سبحانه وتعالى قد كلف البهائم بنوع تكليف، بالإنصاف والعدل فيما بينها، وما أمرها بعبادة لازمة تقوم بها.

وأما الحكم الأول وهو السير على قضاء الله جل وعلا فهي تسير كغيرها من الجمادات، فامتازت على الجمادات بنوع تكليف هو العدل، اشتركت فيه مع بني آدم، فامتازت على الجماد في هذا الباب.

والله سبحانه وتعالى يعدل بين البهائم يوم القيامة، ويقتص من الشاة القرناء للشاة الجماء، إلا أن الله سبحانه وتعالى لا يحاسبها على عدم قيامها بعبادات بذاتها؛ لعدم ورود التكليف، ولعدم ورود آلته من جهة الأصل.

إذاً علمنا أن حكم الله سبحانه وتعالى الشرعي بنوعيه متلازم وله صلة بالحكم الأول.

منازعة الله في حكمه وقضائه

إذا أردنا أن نرتب أحكام الله سبحانه وتعالى للمخلوقات بحسب أهميتها، نرتب الحكم الأول، وهو قضاء الله سبحانه وتعالى وقدره جل وعلا على غيره، فيجب على الإنسان أن يؤمن أن الله جل وعلا خلق الخلق، وهذا له صلة بربوبية الله جل وعلا، والخالق يستحق العبادة، والمخلوق لا يستحقها، فالألوهية لازمة للربوبية، والربوبية لازمة للألوهية، وبينهما تلازم ووشائج قوية؛ لهذا كان الحكم الأول أولى بالصدارة من غيره، والسعي في مخالفة الحكم الأول -ولو صورة- أعظم من مخالفة الحكم الثاني بنوعيه، وذلك أن الذي يزعم أنه يتصرف في الكون من دون الله سبحانه وتعالى أعظم جرماً ممن خالف حكم الله سبحانه وتعالى في شرعه. فمن نازع الله جل وعلا في حكمه وقضائه في الكون كحال كثير من الظلمة والطغاة الذين مكن الله جل وعلا لهم في الأرض نوع تمكين كحال فرعون وقارون، وغيرهم من بني إسرائيل، ومن سبقهم أيضاً من الأمم الغابرة، ومن جاء بعدهم أيضاً من بني إسرائيل، فإنهم إن نازعوا الله جل وعلا في أصل حكمه فإنهم يستحقون العقوبة عاجلاً.

أقسام المخالفين لأمر الله

قال الله جل وعلا في كتابه العظيم: فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ [الحجر:94-95]، فجعل الله جل وعلا المعارضين لحكمه سبحانه وتعالى على نوعين: نوع كفروا في ذاتهم فلازموا الكفر من غير تمرد على سنن الله في الكون، ونوع قد استهزأوا فزادوا في المخالفة تمرداً، وخروجاً عن حكم الله القدري صورة، وإن انساقوا في أمر الباطل، فهؤلاء مكفيون يكفون أهل الإيمان، هؤلاء بأن الله سبحانه وتعالى لا يمكن لهم في الأرض؛ ومن نظر إلى سنن الله جل وعلا في الأمم يجد أن الله سبحانه وتعالى يمكن للأمة أو الجماعة وكذلك البلدان التي تمتثل أمر الله سبحانه وتعالى ولو ظاهراً، حتى وإن خالفت باطناً فيما بينها في الأمور المتعدية، فيجعل لها تمكيناً في الأرض بخلاف غيرها؛ ولهذا فإن الإنسان كلما نقص بامتثال حكم الله سبحانه وتعالى كان أقرب إلى لحوق العقاب به.

نزول العقوبة على مخالفة الأمر القدري

والناظر والمتأمل في سنن الله جل وعلا للأمم يجد أن الله سبحانه وتعالى لا يعاقب الأفراد في الدنيا عقوبة تامة إلا بمنازعة الله جل وعلا في حكمه في قضائه وقدره، ولا يعاقب الله جل وعلا الفرد بمخالفته لحكم الله جل وعلا في شرعه إذا كان ذلك لازماً له لا يتعدى إلى غيره؛ وذلك لعظم الأول وشدته، وكذلك لأن الأول يلزم منه التعدي بالمظالم، ولا يصدر بالأغلب إلا من تمكن في الأرض من أهل الترف والحكام والسلاطين، والذين يأمرون وينهون من المترفين وغير ذلك، فإنه يبدر منهم من البغي والظلم في حق الله جل وعلا وحكمه الأول ما لا يظهر في الثاني؛ فإن الثاني تابع للأول، والأول ليس بتابع للثاني كما لا يخفى؛ ولهذا ينزل الله جل وعلا عقابه على الأمم، ولو كان الظالم واحداً إذا كان الظلم قد استشرى.

فالظلم إذا استشرى في مجتمع من المجتمعات، أو في بيئة من البيئات أخذ الله سبحانه وتعالى المجتمع بكامله، والنجاة في ذلك هي في مقاومة تلك المخالفة وذلك العناد والاستكبار، وذلك بالإصلاح؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ [هود:117]، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح أنه إنما قام في ليلة من الليالي وقال: ( ويل للعرب من شر قد اقترب، فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج هكذا، وحلق بين أصبعيه السبابة والتي تليها، فقالت أم سلمة عليها رضوان الله تعالى: أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم. إذا كثر الخبث )، وذلك أن الصلاح لازم وليس بمتعدٍّ، والظلم متعدٍّ وليس بلازم، فغلب الظلم المتعدي على الصلاح اللازم.

وهذا هو سبب نزول العقوبة في المجتمعات، والله سبحانه وتعالى يمهل الظالم حتى تتعدى مظلمته إلى غيره، فإذا كانت المظلمة لازمة في نفسه فهو ظالم لنفسه بالتقصير فيها؛ فإن الله جل وعلا لا ينزل عليه عقوبة في الأغلب حتى يستشري ذلك الظلم فيتعدى إلى غيره، فإذا تعدى إلى غيره نزلت به العقوبة المقدرة المشابهة لذلك الظلم المتعدي.

نزول العقوبة على قدر الظلم

فإذا كان الظلم عظيماً كانت العقوبة في ذلك عظيمة، وإذا كانت المظالم يسيرة كان عقاب الله سبحانه وتعالى عليه في ذلك يسيراً، والله سبحانه وتعالى يأخذ الظلمة في مخالفتهم لأمر الله سبحانه وتعالى وحكمه بحسب المظالم التي يتعدون بها إلى غيرهم من العباد؛ لأن الله جل وعلا سير الكون بعدله قدراً، وأمر العباد أن يقيموا حكمه جل وعلا بين العباد؛ حتى يستقيم الأمر فيما بينهم، فجعل لهم شيئاً من التصرف يخيرون فيه، فبقدر تفريطهم يختل ذلك الأمر، فكأنما اختل نظام مخلوق من هذه المخلوقات لمخالفتها لشيء يسير من قضاء الله جل وعلا، لو كان ذلك وما هو بكائن، وإنما أراد الله سبحانه وتعالى أن يبين أن انتظام الكائنات الجامدة التي تنساق لحكم الله سبحانه وتعالى؛ لأنها ليست بمخاطبة بشيء من التكاليف الشرعية فتكون هي أشد انتظاماً وأظهر سلامة من الإنسان.

والإنسان حين ينظر إلى الكواكب والأفلاك في مسيرها، يجد أنها على طريقة منتظمة لا تزول ولا تحصل فيها الكوارث، ولا تحصل فيها الموبقات إلا لأمر متعدٍّ هو من مظالم بني آدم كالشهب التي ينزلها الله جل وعلا على مسترقي السمع، وكذلك على الظلمة، وكذلك ربما أنزل الله جل وعلا شيئاً من العقوبات بسبب ذنوب بني آدم في مخالفتهم لحكم الله سبحانه وتعالى شرعاً؛ لهذا أمر الله جل وعلا بامتثال أمره شرعاً، وجعل المخالف لأمره ناصباً نفسه حكماً من دون الله، ومنازعاً أيضاً لله جل وعلا في حكمه، فالله جل وعلا جعل الحكم ملكاً له ومستحقاً له جل وعلا، من نازعه في ذلك نازعه في ربوبيته، فالله جل وعلا حينما قال: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [الأنعام:57]، يعني: ليس لغيره، وليس لأحد في ذلك حق، فمن حكم بغير ما أنزل الله جل وعلا في مجتمع من المجتمعات، فقد نازع الله سبحانه وتعالى في أمره.

سبب العقوبة العامة والعقوبة الخاصة

وهذا الأمر في مسألة منازعة أمر الله جل وعلا في حكمه في المجتمعات هو على نوعين:

النوع الأول: حكم يقوم به إمام أو حاكم من الحكام، ولكن هذا على سبيل الإكراه، والمسلمون يريدون حكم الله جل وعلا، فعقوبة الله سبحانه وتعالى تنزل عليه بعينه لا تنزل على المجتمع بكامله، وإذا حكم بغير ما أنزل الله وبغير أمره فحلل وحرم، وأخذ الناس يشرعون أو يصوغون له التشريع من دون الله بأنه يملك التشريع وأن يجعل الحرام حلالاً، والحلال حراماً من دون الله سبحانه وتعالى نزلت العقوبة حينئذٍ على الجميع، وقد جعل الله جل وعلا ذلك منازعة لربوبيته؛ ولهذا كما جاء عند الترمذي ورواه ابن جرير الطبري من حديث عدي بن حاتم عليه رضوان الله تعالى أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ [التوبة:31]، قال: (يا رسول الله! وكان عدي عليه رضوان الله تعالى امرأً نصرانياً، قال: يا رسول الله! إنا لم نعبدهم؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أليسوا إذا حرموا ما أحل الله حرمتموه، وإذا أحلوا ما حرم الله أحللتموه؟ قال: نعم. قال: فتلك عبادتهم )، فإذا كانت العبادة تلك كما وصفها رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذا الخبر، وكذلك كما هو في ظاهر هذه الآية دل على أن هذه العبودية أريد أن تنتزع من حق الله سبحانه وتعالى كما في الآية السابقة في قول الله جل وعلا: إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ [يوسف:40]، فجعل الله جل وعلا الحكم له ثم بين أن هذا عبادة، أمر ألا تعبدوا إلا إياه، فجعل ذلك كله داخلاً في أمر الله جل وعلا، وهو العبودية التي يجب على الإنسان أن ينساق لها.

ومن سنن الله في إنزاله العقوبات أن كثيراً من الشعوب تكون شعوباً مسلمة مؤمنة متعلقة بالله، ولكن يسلط الله جل وعلا عليها جباراً يبغي عليها ويحكم بغير ما أراده الله سبحانه وتعالى، فيظلم ويزداد ظلمه، ويتعدى إلى غيره، فيقتل ويهتك الأعراض، ويكشف العورات، ويحل الحرام ويحرم الحلال، وغير ذلك على كره من عامة المسلمين، فالعقوبة حينئذٍ تنزل بأولئك الأفراد، بخلاف إذا كان أولئك قد انساقوا إليه تبعاً، فإن العقوبة تأتي تامة كحال فرعون وقومه؛ فإن الله جل وعلا دمر ما يصنع فرعون وقومه، وكذلك خسف الله جل وعلا بـقارون وبداره الأرض، فالعقوبة تكون متعدية للإنسان ومن معه؛ ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بيان هذا الأمر، وأن العبرة في ذلك في الأغلب في نزول العقاب، فإذا كان الأغلب من المجتمعات التي يسلط عليها البغي تؤيد الباغي في بغيه تعدى الأمر أيضاً إلى العام ويشمل معه الخاص؛ ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح: ( بينما جيش أراد أن يغزو الكعبة إذ كانوا ببيداء من الأرض، إذ أمر الله جل وعلا فخسف بهم، قالت عائشة : يا رسول الله! إن فيهم أسواقهم -يعني: الذين يبيعون ويشترون وكذلك أيضاً الرعاة- فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يبعثون على نياتهم )، يعني: أن هؤلاء الأسواق ليسوا هم السادة، وليسوا هم السواد، وليسوا هم الجمهور ولا الجماعة، وإنما هؤلاء أفراد فيشمل ذلك العقاب جميع الناس.

لهذا منازعة الله سبحانه وتعالى في أمره هي شاملة للأفراد وللجماعات، فربما تنزل بسلطان وباغٍ، ويسلم الله جل وعلا المجتمعات؛ وذلك لعلة علمها الله جل وعلا بأولئك الأفراد، وهذا له سنن وأمثلة كثيرة، ولا أظهر من ذلك كما ظهر في الأسابيع الماضية في تونس وفي مصر سلم الله جل وعلا مجتمعات المسلمين بإهلاك أفراد معينين.

ومن أراد أن ينظر إلى سنن الله جل وعلا في الكون يجد في زماننا أننا في حال ابتداع مقارنة بالعصور السابقة، وذلك بتسلط الأفراد على المجتمعات، بل على الأمم والشعوب المترامية الأطراف التي تعد بالملايين والآلاف المؤلفة ونحو ذلك، هذا من الأمور النادرة، وكذلك من إعجاز الله سبحانه وتعالى في تدبيره في هذا الكون أن يهلك الله جل وعلا طاغية بعينه من بين أمم وشعوب مترامية الأطراف.

الحكمة من إمهال الظالمين

ومن الحكم الجليلة التي يأخذ الله سبحانه وتعالى بها الظالم في ظلمه الذي يتعدى به الإنسان إلى غيره، أن كثيراً من الناس يسألون عن إمهال الله جل وعلا للظالم، وأنه سبحانه وتعالى يمكن للظالم سنين ومدداً وعقوداً، والله سبحانه وتعالى يراه ويعلم هذا الظلم، وأن الله جل وعلا مع ذلك حرم الظلم على نفسه وجعله بين العباد محرماً، وأمرهم بألا يتظالموا، وكذلك فإن الله جل وعلا قد حذر من دعوة المظلوم.

العلة والحكمة في إمهال الله جل وعلا للظالم: أن الله سبحانه وتعالى يمهل الظالم حتى يرتقي في ظلمه، وذلك أن الله سبحانه وتعالى حينما حرم الظلم على العباد جعل ذلك الظلم محرماً على العباد حتى تستقيم بهم الحياة، وهذا هو المقصد، فحرم الظلم في الأموال، وحرم الظلم في الأنفس، وحرم الظلم في الأعراض، وغير ذلك من أنواع الظلم من دقائق هذه الفروع، ومرد ذلك إلى مصلحة الناس في ذاتهم، فإذا عاقب الله جل وعلا الظالم لأول مظلمة تبدر منه يبتدئ بها فإن الإنسان لا يتعدى الاعتبار والتأديب به إلى غيره، كذلك فإن الإنسان إذا أنزل الله جل وعلا به العقوبة في أول مظلمة، فإن العقوبة ينبغي أن تناسب تلك المظلمة التي وقع الإنسان بها؛ فإن الإنسان يقع في مظلمة يسيرة في دينار ودرهم، أو سب أو لطم ونحو ذلك، وتكون تلك العقوبة مناسبة لتلك المظلمة، فلا يدري الإنسان هل هي من نوع التمحيص، أو من نوع المصائب، أو من نوع العقوبة، والإنسان يتبرأ من إنزال العقوبة؛ لأنه يتبرأ من الخطأ كثيراً ويلحق الخطأ بغيره، فلا يظهر أمر الاعتبار بإنزال العقوبة بالمظالم اليسيرة، وإنما يملي الله جل وعلا للظالم، حتى إذا علا وارتفع في الأرض فرآه الشرقي والغربي، فرآه الناس كافة أمر الله جل وعلا به أن ينزل إلى الأرض حتى يراه الناس كافة.

ولهذا كثير من الناس حينما يسألون عن إمهال الله جل وعلا للظالم، وهذا منصوص في كلام الله سبحانه وتعالى، وكذلك أيضاً في كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، ثم تلا قول الله جل وعلا: وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102] )، إن أخذ الله سبحانه وتعالى للظالم في الأغلب أنه يكون بعد إمهال، فلا يؤاخذ الإنسان بأول مظلمة؛ وذلك لأن المؤاخذة بأول مظلمة تنافي العفو والصفح والرحمة من الله سبحانه وتعالى؛ ولهذا يعفو الله جل وعلا عن عبده فلا يعاقبه بأول مظلمة.

ولما كانت المظالم العقوبة عليها للاعتبار للناس جعل الله جل وعلا الظالم يمهل حتى يكون الأمر متعدياً، فيمهل الله جل وعلا الظالم فلا يعاقبه وهو في الأرض، فلا يراه إلا أهله وزوجته؛ لأنه لا يراه أحد، وإنما يرفعه الله عز وجل بالظلم شيئاً فشيئاً حتى يبلغ السماء، فإذا بلغ السماء ورآه الشرقي والغربي بظلمه أمر الله جل وعلا به فنزل، وكانت عقوبته للبشرية تامة، ويظهر في ذلك الاعتبار أظهر من عقوبة الله سبحانه وتعالى للأفراد؛ لأن الله جل وعلا لو عاقب فرداً ما علم به إلا من حوله، ولكن يعاقب فرداً بعد أن يرفعه ويستطير شراً، ولله جل وعلا في ذلك سنن وموازنات فيمن خالف حكم الله سبحانه وتعالى وأمره سبحانه وتعالى، والله جل وعلا حينما يسلط ظالماً على عباده فإنه يكون بعدل من الله سبحانه وتعالى، وهذا العدل من الله جل وعلا أن الله لا يسلط الظالم على المجتمعات إلا لحكم، منها ما يكون عقوبة لأفراد، ومنها ما يكون تمحيصاً وتكثيراً ورفعة وغير ذلك من أنواع الحكم، والله جل وعلا لا يسلط ظالماً على معافى من سائر الذنوب، وإنما لحكمة يوازنها الله جل وعلا، فالله سبحانه وتعالى قد جعل أيدي بعض الظالمين تطال أطهر الأجساد وهو جسد محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا نالته أيدي الظالمين، ونالته ألسن الظالمين بالبغي والتعدي عليه نزلت العقوبة، فقد أوذي رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنواع الأذى، فتعدي على جسده وعرضه، وكذلك دمه وماله، وأخرج من دياره عليه الصلاة والسلام، مما يدل على أن الله يطلق يد الظالم عليهم، فيتنوعون، فمنهم الفاسق بفسقه، ومنهم الظالم بظلمه، ومنهم الصالح لأجل تمحيصه وإعلائه ورفعته حتى تكون له العاقبة، وهذه حكم متنوعة، وإن كانت اليد في ذلك واحدة، وهذا وإن تأمل الإنسان في إمهال الله سبحانه وتعالى وإملائه للظالمين تظهر له الحكم السابقة، ويظهر له أيضاً جملة من الحكم أيضاً العكسية، أن الله جل وعلا يريد أن يظهر أهل الخير والإصلاح في هذا الإمهال، وهم مقابل ذلك الظلم، فالله سبحانه وتعالى حينما أملى للظالم، كما في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته )، هذه المرحلة في مسألة الإملاء لا بد أن تكون مرحلة صراع، وإصلاح وبيان الحق من الباطل، وتمييزه، وهذا يقوم به المصلحون الذين كانوا على بينة وبصيرة من دعوة الحق، ورسول الله صلى الله عليه وسلم سيدهم في ذلك وقدوتهم، فيجب عليهم أن يقتدوا به.

إذاً: هذه المسائل مسائل المظالم ومخالفة حكم الله سبحانه وتعالى، وإمهال الله للظالمين لها حكم متنوعة وآثار متعدية تكون خيراً لأقوام، وشراً لأقوام، وخيراً وشراً لأقوام، وهذا الخير والشر يتنوع بحسب الذوات الذين يقومون ويتلبسون بذلك الحق والخير، والشر كذلك فمستقل ومستكثر.

والإنسان إذا أراد أن ينظر إلى المجتمعات التي تعان وتوفق في ظاهر أمرها يجد أن الله يحميها من نزول العقاب عليها حينما يظهر فيها تطبيق الأحكام المتعدية وإن قصرت في ذواتها؛ لأن الأحكام المتعدية التي تتعدى إلى الجماعات مقتضاها مصلحة الجماعة لا مصلحة الفرد بعينه، وهذا هو مقتضى عدل الله سبحانه وتعالى.

ولقد حرم الله جل وعلا المظالم بين البشر، وأمر بأداء الحقوق، ولحكمة الله سبحانه وتعالى وتمام عدله أمر البهائم بأن تعدل فيما بينها في هذا الأمر، ولم يأمرها سبحانه وتعالى بالعبادات اللازمة، وإنما أمرها بالأمور المتعدية لأهمية ذلك على البهائم من جهة استقامة أمرها، فالله سبحانه وتعالى أمر البهائم بالعدل فيما بينها، وحرم عليها الظلم، كما حرمه الله جل وعلا على أهل العقل من الجن والإنس، وذلك أن الحياة لا تستقيم إلا بذلك، فإذا نزع ذلك الامتثال منها نزل بها عقاب الله سبحانه وتعالى؛ لهذا فإن ظلم الناس لغيرهم أقرب لعقاب الله سبحانه وتعالى من ظلم الإنسان لنفسه، فالله جل وعلا يمهل الإنسان الفرد، ولكنه لا يمهل الجماعة؛ لأن الجماعة ربما تأتي من جهة السيئة والخطيئة التي تقع بها على الفرد، ولكن الفرد لا يأتي بالسيئة التي يقع بها على الجماعة، وهذا أمر معلوم بالنظر إلى سنن الله الكونية في الأمم السابقة، وكذلك في النصوص الشرعية من كلام الله سبحانه وتعالى، وكلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر معلوم مسلم به.

يقول النبي صلى الله عليه وسلم كما جاء في الصحيح من حديث أبي هريرة : ( لتؤدن الحقوق إلى أهلها، وليقتصن الله من الشاة القرناء للشاة الجماء )، في هذا أن الله سبحانه وتعالى يبين أنه يقتص للشاة الجماء، ومقتضى هذا القصاص أن ثمة تكليفاً، وإلا فالله جل وعلا لا يعذب أحداً بأي نوع من أنواع العذاب إلا وقد سبقه بيان قبل ذلك؛ ولهذا قال الله جل وعلا على الإطلاق: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا [الإسراء:15]، فالله سبحانه وتعالى قد كلف البهائم بنوع تكليف، بالإنصاف والعدل فيما بينها، وما أمرها بعبادة لازمة تقوم بها.

وأما الحكم الأول وهو السير على قضاء الله جل وعلا فهي تسير كغيرها من الجمادات، فامتازت على الجمادات بنوع تكليف هو العدل، اشتركت فيه مع بني آدم، فامتازت على الجماد في هذا الباب.

والله سبحانه وتعالى يعدل بين البهائم يوم القيامة، ويقتص من الشاة القرناء للشاة الجماء، إلا أن الله سبحانه وتعالى لا يحاسبها على عدم قيامها بعبادات بذاتها؛ لعدم ورود التكليف، ولعدم ورود آلته من جهة الأصل.

إذاً علمنا أن حكم الله سبحانه وتعالى الشرعي بنوعيه متلازم وله صلة بالحكم الأول.