عرض كتاب الإتقان (67) - النوع الخامس والستون في العلوم المستنبطة من القرآن


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين.

أما بعد:

الاستدراك على السيوطي في ترجمة العلوم المستنبطة من القرآن

لو أردنا أن نجعل موازنة بين عنوان الكتاب وعنوان العلوم المستنبطة من القرآن؛ لأنه عنوان الكتاب "الإتقان في علوم القرآن"، فالعلوم هذه منسوبة إلى القرآن، وهذا العنوان العلوم المستنبطة من القرآن، فهل هناك فرق بين العلوم المستنبطة من القرآن وبين علوم القرآن من خلال ما استعرضناه من كلام السيوطي رحمه الله تعالى؟ فمن قرأ سيجد أن السيوطي رحمه الله تعالى في هذا الموضوع يمكن يقال عنه: إنه باب من أبواب الاستنباط، وهو في الحقيقة الاستنباط، أي: الاستنباط من القرآن على كونه علم مستقل، أي: لو قلنا: لو سمي هذا النوع الاستنباط من القرآن لكان وصفاً دقيقاً، وكونه نسبه إلى العلوم يعني جملة العلوم المستنبطة من القرآن، فهو رحمه الله تعالى سار على هذه التسمية بناءً على ما سُبق إليه من ذكر بعض العلماء لهذه المسألة وهذه الفكرة، وهي أن القرآن يمكن أن تستنبط منه علوماً متعددة.

أنواع العلوم في القرآن

فلو تأملنا ما ذكره مثلاً في قوله: [واعتنى النحاة بالمعرب منه والمبني من الأسماء والأفعال]. إلى آخر كلامه، [ واعتنى المفسرون بألفاظه، واعتنى الأصوليون وتأملت طائفة منه معاني خطابه، وتلمحت طائفة منه ما فيه من قصص القرون، وأخذ قوم مما فيه آية المواريث من ذكر السهام، ونظر الكتاب والشعراء إلى ما فيه من معجزات اللفظ، واستنبط قوم ما فيه من أصول التعبير]، فبدأ يذكر جملة من العلوم التي حواها القرآن، يعني: جملة من العلوم التي حواها القرآن.

فإذاً حقيقة هذا النوع هو لمحات يستنبطها العلماء فيما يتعلق بالعلوم التي تضمنها القرآن، وقد تكون بعض هذه العلوم مما صار له مسائل وصار يُعرف بمصطلح معين، مثلما نقول: علم النحو، علم البلاغة، علم أصول الفقه.. وهكذا، فهو يريد هذا النوع من العلوم.

الدليل على اشتمال القرآن على سائر العلوم ووجه الحق فيه

أصل المسألة فيما ذكره بدأوا بقوله: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، وهذه الآية يستشهد بها من يذهب إلى أن في القرآن كل شيء وسيأتي تفصيل كيف يكون فيه كل شيء، لكن هذا الاستدلال بهذه الآية فيه نظر؛ لأن الآية ليست في القرآن وإنما هي في أم الكتاب، وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللهِ رِزْقُهَا [هود:6]، إلى أن قال: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، إشارة إلى أن الله سبحانه وتعالى قد قدر المقادير، وقد كتبه في اللوح المحفوظ، وليس في اللوح المحفوظ أي شيءٍ يمكن أن ينقص مقدراه، فينزله الله سبحانه وتعالى على حسب ما كتب في اللوح المحفوظ، فالاستدلال بها فيه نظر من هذه الجهة، وإن كان شاع عند بعض العلماء الاستدلال بها على هذه المسألة.

أما قوله: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، فهي أصل هذه المسألة، فإذا نظرنا الآن إلى هذه الآية: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، والحديث الذي ذكره أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ستكون فتن قيل: وما المخرج منها؟ قال: كتاب الله، فيه نبأ ما قبلكم ...) الحديث، وكذلك بعض الآثار التي ذكرها عن الأئمة من التابعين ومن جاء بعدهم، فإذاً هذا هو أصل المسألة وترجع إلى هذا.

اشتمال القرآن على أصول المسائل

قوله سبحانه وتعالى: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، ليس المراد تبيان لكل مسألة ولكل فرع، وإنما هو تبيان لأصول الأمور التي يحتاجها المسلمون في حياتهم ومعاشهم وفي دينهم، فقد بينه الله سبحانه وتعالى إما من خلال كتابه وإما من خلال سنة نبيه وهي الحكمة التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على نبيه، فإذاً قوله: تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، لا يُفهم منه أن القرآن فيه تفصيل كل شيء، وإنما المراد أن أصول المسائل موجودة في القرآن، وهذا الذي قرره أحبار الإسلام مثل الإمام الشاطبي وكذلك ابن تيمية و ابن القيم و ابن كثير و الطبري قبلهم، فهؤلاء مجموعة من العلماء ذكروا هذه المسألة، ونبهوا على أن المراد في تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]، لتبيان أصول العلم التي يندرج تحتها أمثلة وفروع ومسائل كثيرة جداً.

انقسام حياة الناس إلى قسمين

وبناءً على هذا فإن هذه الآية من الوضوح بمكان، لكن يبقى السؤال هل معنى ذلك أنه ما من شاردة ولا واردة في حياة الناس وفي ما يحدث من أحداث عند الناس أنها تكون موجودة في الكتاب؟ يعني موجودة بتفصيلها في الكتاب؟ نقول يجب أن ننتبه إلى أن مثل هذه الأمور تنقسم إلى قسمين: هناك أمور حياتية عادية لا يحتاج فيه الناس إلى أن يبحثوا عن وجودها في الكتاب، وهناك أمور ترتبط بدينهم ومعاشهم معاً، يعني مرتبطة بالدين والمعاش معاً، فهذه تحتاج إلى أن يعودوا فيها إلى الكتاب، ولهذا اشتهر عند العلماء خاصة علماء المالكية ما يسمى بفقه النوازل، وفقه النوازل يرجع إلى معنى قوله سبحانه وتعالى: وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ [النحل:89]؛ لأنه ما من نازلة إلا وفي كتاب الله سبحانه وتعالى أو في سنة النبي صلى الله عليه وسلم ما يرشد المسلمين إلى حلها من الجهة الدينية.

والمقصود من ذلك ألا يُفهم أننا نتوسع في جعل هذا الكتاب يحوي كل شيء، حتى إننا نسمع أن بعض علماء مصر قال له أحد المستشرقين: أنتم تزعمون أن في كتابكم كل شيء وتلا هذه الآية، قال: وأنا اسمي كوك فأين تجدوا هذا في كتابكم؟ وهذه تذكر من باب الطرفة الأدبية، وإن كان لا يستحسن مثل هذا فيما يتعلق بكتاب الله؛ لأنه جد ليس بالهزل، فيقولون -وأنا لا أريد أن أذكر اسم هذا العالم-: إنه موجود في كتابنا في قوله تعالى: وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة:11]، وهو بهذه الطريقة أفسد النظم؛ لأن وَتَرَكُوكَ قَائِمًا [الجمعة:11]، غير (تر) جعلها فعلاً، و(كوك) جعله فاعلاً، فمثل هذا لا يجوز في كتاب الله، فهذا لو صح فإنه يطمر ولا يُذكر ويغتفر مثل هذا، لكن المقصد من ذلك أنّا لا نفهم مثلما فهم هذا المستشرق أن فيه تفاصيل كل شيء، وإنما المراد أصول العلم.

وقد ذكر أمثلة كثيرة عن العلماء وفي هذا نصوص مثل كلام الشافعي رحمه الله تعالى، وله أمثلة في هذا وهي واضحة ومعروفة، ومنها مثلاً أنه قال: مرة بمكة سلوني عن ما شئتم أخبركم عنه من كتاب الله، فقيل: ما تقول في المحرم يقتل الزنبور؟ الآن مسألة فقهية، وليس في القرآن هذه المسألة، فقال: بسم الله الرحمن الرحيم وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، ثم ذكر حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم: ( اقتدوا بالذين من بعدي )، ثم ذكر حكم عمر بن الخطاب أنه أمر بقتل المحرم الزنبور، فمثل هذا من تركيب الأدلة بعضها على بعض في النهاية ترجع إلى أصلٍ موجود في الكتاب، وهو مشهور من حديث ابن مسعود : ( لعن الله الواشمات والمتوشمات والمتنمصات )، فلما أنكر عليه قال: (وما لي لا ألعن من لعن الله وهو في كتاب الله) فقالت امرأة: إني قرأت ما بين دفتي الكتاب فلم أجد فيه، فقال: ( لئن كنتِ قرأته لقد وجدته )، وذكر لها الآية: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا [الحشر:7]، فإذا كنا ننظر بهذا النظر فنقول: نعم، الكتاب فيه تفصيل وبيان لكل ما يحتاجه المسلم في حياته وفي معاده.

الرد على بعض من توسع فجعل القرآن شاملاً لكل شيء

لكن المشكلة أن بعض العلماء توسعوا وقد اعترض عليهم الإمام الشاطبي في الموافقات، في أنهم جعلوا ما من علم من العلوم إلا وله أصل في كتاب الله مثل علم الطب، وعلم الهندسة، وعلم الجبر والمقابلة، وأصول الصنائع، وأسماء الآلات والحدادة والنجارة والغزل والنسج والفلاحة والصيد والغوص والصياغة والزِجاجة، والفخارة والملاحة والكتابة والخبز والطبخ، والغسل والقصارة، والجزارة، والبيع والشراء، والصبغ، فهذه كلها موجودة فيما يذكره السيوطي ويذكر لها أدلة، فالتوسع هذا يُجزم قطعاً أنه غير مراد وليس من مرادات هذا الكتاب ولا من هدايته، وهذا النوع من التوسع عندي من المذموم الذي لا داعي له؛ لأننا لا نحتاج أن ندعي لهذا الكتاب ما ليس مرشداً له في الأصل؛ لأن وجود آية موافقة لقضية الطب، فلا يعني ذلك أن الكتاب في النهاية سيكون كتاباً قد أرشد إلى جميع مسائل الطب، أو كانت فيه مسألة من مسائل الهندسة يكون أرشد إلى مسائل الهندسة كلها، فوجود مسألة أو وجود إشارة حتى بالتأول، يعني حتى بيد التأول لا يعني أننا نجعل الكتاب بهذه المثابة، ولهذا في عصرنا هذا من ذهب هذه المذاهب وتوسع في هذه الأمور وقع في أمرٍ خطير، وهو أنه جعل القرآن مجالاً رياضياً منطقياً، وليس أن المقصود برياضياً أنه الرياضيات، وإنما فكر رياضي منطقي عقلي، أكثر من أن يكون في مادته الروحانية المؤثرة في النفوس، بمعنى: أنه جعل هذا الكتاب شيئاً يدرك بالعقل المجرد، كما يقال: واحد زايد واحد يساوي اثنان مباشرة، وكأنه أراد أن يقول: إننا حينما ندل بهذه القضية المعينة على صدق القرآن، فإننا ندل بها على ما يمكن أن تدركه عقول الناس اليوم من الغربيين أو غيرهم، وهم لا يدركون إلا العلوم المجردة، فنجتهد في إبراز وجوه جديدة من إعجاز القرآن مرتبطة بهذه العلوم التي تدرك بالعقل المجردة لنثبت أن القرآن حق من عند الله، ومن هنا نشأ ما يسمى بالإعجاز العلمي وما يسمى بالإعجاز العددي، وليس من الإعجاز بسبيل؛ لأن المسألة في مثل هذا يجب أن ننتبه لها لأن فيها إشكالات ومقامات تحتاج إلى توضيح ليس هذا مقامها.

لكن من نظر إلى ما يقوله السيوطي في مثل هذا، ونظر إلى ما يقوم به بعض من اجتهد وهو مشكور في حرصه وفي حماسه، وإن كان الحماس لا يعني أننا نقبل كل ما يقال في مثل هذا المجال، بل المسألة عندنا علمية بحتة، تناقش وينظر فيها في مجالها دون النظر إلى الأشخاص أو إلى من يقول بهذا القول من الناس، وإنما النظر إلى المسألة العلمية مجردة، وهذا مع الأسف خلت منه بعض المناقشات أحياناً حينما تكون مناقشات في هذه الأمور، إما أن يقع فيها تحيزات لأشخاص، بغض النظر عن ماذا قالوا، أو هل فهمنا قوله أم لم نفهم، وإما أن يكون هناك من يكون منحرفاً عليهم، فيزعم عليهم مزاعم قد يكونون هم منها براء، أو قد يكون لهم مما قيل نصيب ونوع، ولكنه مما يباح عمله، كمن يأخذ على بعض مقالاته أو بعض لقاءاته التلفزيونية أجراً، فبعضهم يشن عليه، والأمر في هذا يسير جداً، وحتى هذا الذي يكتب وينتقد في هذا المجال لا أظنه لو ذهب إلى قناة وقدم فيها برنامجاً لن يطلب مالاً، فلماذا يكون حراماً على فلان ويكون حلالاً لآخر، فمثل هذا النقد لا يقوم وليس لها وجه، لكن المقصد أن ننظر لمثل هذا بالنظر العلمي.

فإذاً القرآن ليس محلاً لمثل هذه الأمور على هذه الشاكلة التي نراها، وهي التي اشتد في نقدها الإمام الشاطبي ولما قاله وجه كبير، وإن كان هناك وجه آخر غفل عنه الشاطبي رحمه الله تعالى، لكن لا يعني أننا حينما نقول: إن مثل هذه الأمور قد يوجد أصولها أننا نفتح الباب على مصراعيه كما نلاحظ، أن بعضهم يقول: آيات الأحكام خمسمائة آية، وآيات الكون أكثر من ألف آية، وبناءً عليه يريد أن يوازن، فإذا كان ألف آية، وآية الأحكام خمسمائة آية، فمعنى ذلك أن الله سبحانه وتعالى قد اعتنى بكتابه بالآيات الكونية أكثر مما اعتنى بآيات الأحكام وهذا جهل. لماذا؟ لأن الآيات الكونية التي وردت في القرآن للاستدلال على مقام الربوبية المستلزم لمقام الألوهية، وأما في الأحكام فإنها أحكام تكليفية منصوص عليها في الكتاب وواضحة، فمعايشة الناس لها أكثر من معايشة هذه القضايا التي انسحبت إلى أن تكون قضايا منطقية، وليست قضايا مرتبطة بالاتعاظ والاعتبار.

تدوين العلماء في علوم القرآن

وهناك أشياء كثيرة ذكرها الإمام في هذا الباب لا نريد أن نطيل فيها، وقد فصل فيها تفصيلات، وكلها من هذا الباب، وقد ذكر مما ذكر في صفحة (1926)، قال وهو يتكلم عن أهم الأحكام في إشارة إلى مجموعة من الكتب التي تحدثت عن هذا فقال: [ وقد أفرد الناس كتباً في ما تضمنه القرآن من الأحكام ]، والأحكام هي غالباً ما تدور حوله العلوم المستنبطة، أو ما يسمى بعلم الاستنباط غالبه مرتبط بالأحكام، ذكر مجموعة من الكتب بعضها مطبوع وبعضها مفقود، مثل: كتاب "القاضي إسماعيل "، وجد منه قطعة صغيرة، و بكر بن العلاء لا أعرف هل هو موجود أو لا؟ و أبو بكر الرازي و الكيا الهراسي مطبوع، و أبو بكر بن العربي مطبوع، و عبد المنعم بن الفرس مطبوع، ابن خويز منداد أيضاً لا أعرف حال، الكتاب هل موجود أو غير موجود؟ ثم ذكر أيضاً بعض ممن أفرد في ما يتعلق بعلم الباطن أو ما يسمى التفسير الإشاري، وذكر منهم ابن برجان وكتابه في التفسير الإشاري، وكذلك أضاف إليه ما تضمنه من معاضدة الأحاديث، ولكنه قليل جداً، ويفوقه في هذا ابن كثير الدمشقي رحمه الله تعالى، ثم ذكر كتابه: "الإكليل في استنباط التنزيل"، وأيضاً لو ذكر كتاب: "المباحث الأصولية في الإشارات الإلهية" للطوفي لأنه في نفس الباب الذي يتكلم فيه، فـالطوفي ذكر كثيراً من استنباطات الناس التي يستنبطونها من القرآن، سواءً كانت استنباطات علمية أو عقدية أو فقهية ويذكر منازع الناس في استنباطاتهم.

آيات الأحكام في القرآن وطرق الاستنباط منها

الفصل الذي بعده ذكر ما قلنا من العبارة المشهورة التي قالها الغزالي وغيره: آيات الأحكام خمسمائة آية، وعندنا كتاب الخمسمائة آية لبعض العلماء يعني خصوها بخمسمائة آية، وشرحوا على أنها آيات الأحكام.

إذا كنا ننظر إلى المصرح به هل ننظر إلى عدد آيات أو عدد مسائل هذه تحتاج إلى مراجعة واستقراء، فإن كان عدد آيات فوصولها إلى الخمسمائة معترض عليه، ولهذا بعض العلماء قال: إنها لا تصل إلى هذا العدد الذي هو خمسمائة آية، ولكن إن كان المراد بها مسائل فنعم، قد تكون هكذا وأكثر من المصرح به، وإذا أردنا أن ندخل غير المصرح به مما يقع من الاستنباطات فهذا لا حصر له، ولذا فهذا مجال للبحث أي أن تكون فيه مقالة، أي فيما يتعلق بآيات الأحكام الصريحة، ومسائل الأحكام الصريحة، بحيث تكون عندنا آيات الأحكام الصريحة كم عددها؟ ومسائل الأحكام الصريحة كم عددها؟ لأن الآية أحياناً قد تتضمن أكثر من حكم صريح، فنحتاج إلى أن نعرف عدد هذه الآيات والمسائل.

ذكر من لطائف الاستنباط ما روي عن الشافعي رحمه الله تعالى أنه استنبط من قوله: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4]، صحة أنكحة الكفار، وهذه الآية: وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ [المسد:4]، لما تقرأها لا علاقة لها بالأحكام، وإنما هي خبر، ومع ذلك استطاع الشافعي أن يستنبط منها صحة أنكحة الكفار؛ لأن الله سبحانه وتعالى نسب هذه الكافرة إلى هذا الكافر على أنها زوجة، فدل على أن العقد الذي قام بينهما في النكاح صحيح، فهذا الاستنباط الدقيق ليس من آيات الأحكام، وإنما هو من خبر، فلو فتحنا هذا الباب سنجد أنه ما من مقطع من مقاطع القرآن أو جملة من جمله، إلا ويمكن الاستنباط منه في مثل هذا المجال.

أيضاً تركيب آية مع آية، وهذا وإن كان قليلاً إلا أنه يمكن أن يستنبط منه أحكام مثلما حصل من علي في وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]، وفي الآية الأخرى: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]، على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر، فإذاً مجالات كثيرة فيما يتعلق بقضية الاستنباط، ويمكن مراجعة كتاب الأخ فهد الوهبي الاستنباط في القرآن الكريم، فقد استوعب في هذا الموضوع.

هذا ما يتعلق بعلم الاستنباط، أو العلوم المستنبطة من القرآن.

ولو تأملنا ما يتعلق بالعلوم المستنبطة من القرآن نجد أنه موضوع عائم، وموضوع أيضاً شاسع لا يمكن حصره لو أخذناه على ما استخدمه السيوطي من إدخال كثير من العلوم فيما يتعلق بالعلوم المستنبطة من القرآن، لكن إذا فهمنا أن المراد ما يمكن أن يستنبط من معلومات من القرآن، فننظر هل الاستنباط هو من التفسير أو يأتي بعد التفسير؟

والجواب: أنه يأتي بعد التفسير.

إذاً ما دام يأتي بعد التفسير فهذا الموضوع من علوم القرآن وليس من علوم التفسير؛ لأن المفسر يبين المعاني، والمستنبط يأخذ بعد بيان المعاني استنباطاته، ولذا سبق أن ذكرنا: إذا صح المعنى صح الاستنباط في الغالب، أما إذا فُهم المعنى على غير وجهه فإن الاستنباط يكون خطأً، والقرآن لا يدل على خطأ ولا باطل.

فإذا كان من علوم القرآن فهل مقام هذا العلم أن يقال أنه من العلوم النقلية أو العقلية؟ أي: هل الاستنباط نقلي أو عقلي؟ والجواب: الذي لا شك فيه أنه عقلي، وعليه فإن هذا من علوم القرآن العقلية التي يُرجع فيها إلى النظر والاجتهاد.

لو أردنا أن نجعل موازنة بين عنوان الكتاب وعنوان العلوم المستنبطة من القرآن؛ لأنه عنوان الكتاب "الإتقان في علوم القرآن"، فالعلوم هذه منسوبة إلى القرآن، وهذا العنوان العلوم المستنبطة من القرآن، فهل هناك فرق بين العلوم المستنبطة من القرآن وبين علوم القرآن من خلال ما استعرضناه من كلام السيوطي رحمه الله تعالى؟ فمن قرأ سيجد أن السيوطي رحمه الله تعالى في هذا الموضوع يمكن يقال عنه: إنه باب من أبواب الاستنباط، وهو في الحقيقة الاستنباط، أي: الاستنباط من القرآن على كونه علم مستقل، أي: لو قلنا: لو سمي هذا النوع الاستنباط من القرآن لكان وصفاً دقيقاً، وكونه نسبه إلى العلوم يعني جملة العلوم المستنبطة من القرآن، فهو رحمه الله تعالى سار على هذه التسمية بناءً على ما سُبق إليه من ذكر بعض العلماء لهذه المسألة وهذه الفكرة، وهي أن القرآن يمكن أن تستنبط منه علوماً متعددة.