مصادر علم الفقه [4]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

وبعد:

فقد وصلنا إلى علم مصادر المذهب الشافعي ، وذكرنا سيرة عطرة للإمام محمد بن إدريس الشافعي رحمة الله تعالى عليه، وبينا أن الشافعي رحمه الله مر بست مراحل، كل مرحلة لها محطة في حياة هذا الإمام, ولأجل كثرة رحلته رحمه الله زانت وازدانت أقواله وفتاويه؛ خاصةً لأن هذا الإمام الجهبذ قد منحه الله شيئاً لم يمنحه أحداً ممن عاصره أو أتى بعده.

وقد كان أئمة الإسلام لا يستجيزون للمفتي أن يفتي إلا أن يكون قد رحل في طلب العلم، وذاك أن الإنسان أحياناً يأسره مجتمعه الذي هو فيه وعاداته، فلربما أفتى بنحو ما يصلح لمجتمعه، والأصل في المفتي أن تكون فتواه على نهج الأصول والقواعد لا ينخرم منها شيء، ولهذا أخطأ من أخطأ ممن يفتي الناس ببعض المسائل التي تكون من باب سد الذرائع، فتجد أنه يفتي بالحل أو الحرمة دون نظر إلى الضوابط والقواعد، ولعلي أذكر مثالاً بسيطاً في ذلك:

مسألة النقاب، النقاب كان موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أدل على وجوده وتعامل النساء به مما جاء في صحيح البخاري من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ولا تنتقب المحرمة، ولا تلبس القفازين )، ولما رواه سعيد بن منصور بسند صحيح عن عطاء قال: (رأيت عائشة بين الرجال منتقبةً، فقالت لها جاريتها: يا أم المؤمنين! هلم نستقبل أو نمس الحجر، فقالت: إليك عني، إليك عني)، فكون عائشة رضي الله عنها أم المؤمنين تنتقب دليل على جوازه، ولكن أحياناً يكون النقاب عند بعض النساء ملفت للنظر وفيه نوع من التبرج والسفور، إذ ليس هو النقاب الذي كان موجوداً على عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

فتجد أن المفتي أحياناً أو العالم الذي يستفتى في هذه المسألة حينما يسأل: ما حكم النقاب؟ تجد أنه يستحضر حالةً في مجتمعه الذي هو فيه، فتجده يطلق الحرمة، فيقول: حرام، وفتواه بهذا الإطلاق ليست جيدة، مع العلم أن فيها شيئاً من الصواب، وتجد من يريد أن يطبق الذي كان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم يجد تثاقلاً في تطبيقها، خاصةً أن بعض البلاد الإسلامية، أو بعض البلاد الغربية التي يعيش فيها المسلمون ربما يكون أحسن أحوالهم أن تكون المرأة منتقبة.

ولهذا كان الأولى بالمفتي حينما يفتي ألا يستحضر زمانه، لكن يذكر الضوابط الفقهية الشرعية التي تصلح لكل زمان ومكان.

فيقول: النقاب لم يزل ولا يزال موجوداً في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، والنقاب كما رواه ابن جرير الطبري عن أم سلمة : أن المرأة لا تخرج إلا عينيها، فإذا لم يكن ثمة تبرج ولا سفور إنما قصد به إخراج العينين؛ فلا حرج.

بهذه الضوابط يسهل أن تكون الفتوى صالحة لكل زمان ومكان، بحيث لا يأتينا أناس بعد زمن يحتملون النقاب فيقولون: إحدى السنوات قلتم بتحريم النقاب، والآن نساؤكم تلبس النقاب, واليوم يقولون لنا: الاختلاط حرام، وبعد سنوات يقولون: الاختلاط حلال، ثم تجده تدرج معك في تدرجات متعددة، وكان الأولى بمن استفتي في مثل هذا أن يذكر الضابط الفقهي ليهلك من هلك عن بينة، ويحيا من حي عن بينة.

أعود فأقول: كان الإمام الشافعي رحمه الله قد حاز قصب السبق حينما درس على مدرستين، وأي دراسة إنما هي دراسة في العمق، من مالك مؤسس مذهب، ومن فرع المؤسس محمد بن الحسن رحمة الله على الجميع رحمة واسعة.

المذهب الشافعي استقل ونضج بعدما دخل الشافعي بغداد في الرحلة الثانية، وبدأ يؤصل مذهبه، وقلنا: إن خروجه من بغداد كان في الرحلة الثانية سنة مائة وتسع وتسعين.

وكان الشافعي قد توفي سنة مائتين وأربع، وكان في سنة خمس وتسعين ومائة قد دخل بغداد وبدأ يؤسس له حلقة يؤصل فيها أصله، وقد كان الجامع الغربي الأموي فيه عشرون حلقة من حلق أهل الرأي، فلما كانت الجمعة الثانية لم يبق فيها إلا ثلاث حلق، والباقي انصرفوا إلى الإمام الشافعي رحمه الله، وهنا أصول اهتم بها الشافعي:

اتباع الكتاب والسنة

الأول: اعتمد الشافعي في مذهبه اتباع الكتاب والسنة، ولا شك في شدة اتباع الإمام الشافعي رحمه الله للكتاب والسنة، حتى إن بعض أصحاب المذاهب -ولا أحب تسميته- قال: ما من آية في كتاب الله، أو سنة من سنة رسول الله خالفت رأي إمامنا فهي إما منسوخة أو مؤولة، وهذا تعصب، وإن كان بعض الأحناف حاول أن يبرر مثل هذا بدعوى أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله لم يكن ليخالف الكتاب أو السنة نصاً؛ فلأجل هذا أولها، وإن كان الأولى اتباع الكتاب والسنة وتعظيمهما على سائر المذاهب، حتى قال الإمام الشافعي رحمه الله حينما ناقش وناظر الحسين الكرابيسي في إحدى مناظراته: متى وجدتم الدليل من الكتاب والسنة مطروحاً في الطريق، يعني: في طريق العلم وطريق المناظرة فقولوا: هذا قولي، فلما رأوا الإمام الشافعي يعظم الكتاب والسنة، ولا يعظم مذهبه ولا أصله، انصاع الناس إلى الإمام الشافعي .

والآن هذا أمر موجود معلوم، تجد أن طالب العلم إذا استدل قال: قال الله، قال رسول الله، رواه البخاري ، رواه مسلم ، تجد أن القلوب تشرأب إلى سماعه، ولأجل هذا قال محمد صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه ).

فهذا يدل على أن طالب العلم ينبغي له أن يبين للمستفتي أنه ما خرجت فتواه إلا بنص من الكتاب والسنة، حتى لو كان العامي لا يعلم، فإذا جاءك عامي وقال لك: يا شيخ! ما حكم كذا؟ فقل له: الحكم كذا وكذا؛ لأن الله يقول كذا، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كذا، والحديث رواه كذا.

حتى لو لم يعقل؛ لأن العامي يعلم أنه ما خرجت هذه الفتوى إلا من مشكاة النبوة، فتجده يعظم النص، ويعظم اتباع الكتاب والسنة.

اتباع الحق والدليل

الثاني: اتباع الحق والدليل، حينما جاء الإمام الشافعي رحمه الله إلى أهل بغداد وعنده أصول مالك رحمه الله، حينما كان محمد بن الحسن يناقشه في بعض أصول مالك وكان الشافعي يرجع عن هذه الأصول، ولا يرى عمل أهل المدينة إذا خالف حديث الآحاد, ويرى قول الأحناف في قبول خبر الآحاد لكنه أيضاً عارضهم في شروطهم التي اشترطوها، وأيضاً ناقش الأحناف في أخذهم القياس وتركهم لخبر الآحاد إذا عارض القياس، ورد عليهم رحمهم الله رحمة واسعة, فلأجل هذا كان الشافعي متبعاً للدليل، تاركاً أصول شيوخه إذا عارضت كلام الله وكلام رسوله.

حتى إن الإمام الشافعي رحمه الله كان خبيراً برجال أهل الحجاز، أما رجال غير أهل الحجاز فلم يكن رضي الله عنه عنده من الوقت والسعة بأن يسبر أخبارهم وأحوالهم, فكان يقول للإمام أحمد رحمه الله: يا أبا عبد الله ! أنتم أعلم بالحديث والرجال منا، فإذا كان الحديث صحيحاً فأعلموني كوفياً كان، أم بصرياً، أم شامياً حتى أذهب إليه إن كان صحيحاً.

والسؤال: لم لم يقل: حجازياً؟

السبب أن الشافعي كان يعلم رجال الحجاز، لكنه لم يكن عنده دراية مثل دراية أحمد في رجال الكوفة، ورجال البصرة، فقال للإمام أحمد هذا الأمر، وإن كان رحمه الله خبيراً بعلم الرجال، وقد أخذ ذلك من مدرسة مالك بن أنس رحمه الله.

الأخذ بقول الصحابي إن لم يخالف

الثالث الذي اهتم به الإمام الشافعي : أقوال الصحابة رضي الله عنهم، حيث ذكر في كتاب الرسالة القديمة أن من أصوله التي يرجع إليها: أن قول الصحابي إذا لم يخالفه أحد من الناس فإنه يأخذ به ويرد القياس الذي يخالفه.

ويرى رحمه الله أنه إذا انفرد الصحابي بقول ولم يوجد في المسألة نص من الكتاب أو السنة أن هذا القول أولى من الأخذ بالقياس، وقال: فإنهم حضروا التنزيل وعرفوه، وعندهم من الورع والعلم والدقة في النظر ما لم يكن عندنا، فالأخذ بأقوالهم أولى.

الأخذ بالقياس

الرابع: الأخذ بالقياس، فالإمام الشافعي رحمه الله لم يذهب مذهب مالك رحمه الله في تركه للقياس إذا خالف عمل أهل المدينة، ولم يتوسع كتوسع أبي حنيفة رحمه الله في العمل بالقياس وترك أحاديث أخبار الآحاد، وهو رضي الله عنه حينما قعد القواعد في مسألة الأصول ذكر أن ما خالف ظاهر القرآن من أحاديث الآحاد يعمل به وإن كانت تخالف ظاهر القرآن، ويرد ما يقول به أهل الرأي الذين قالوا: كل حديث من أحاديث الآحاد إذا خالفت ظاهر القرآن فلا يعمل بها؛ لأن القرآن متواتر والمتواتر لا ينسخه الآحاد، ويقولون: إن الزيادة على النص نسخ، فرد الشافعي ذلك رحمه الله.

الاستصحاب

اهتم الإمام الشافعي باعتبار أصل الأشياء، فذكر أن الأصل في ميتة البحر الحل، وذكر أن الأصل براءة الذمة، وذكر أن الأصل في المنافع الإباحة، وغير ذلك من الأصول التي قعدها الشافعي واستدل لها بما قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة:29]، وقال: الأصل في المضار التحريم.

إذاً: من أصول الإمام الشافعي : الاستصحاب، فقد ذكر الشافعي رحمه الله تعالى هذا الأمر، وقال: الأصل بقاء ما كان على ما كان إلا أن يأتينا ما يخرج عن هذا الأصل، وهو ما يسمى عند الأصوليين: قاعدة الاستصحاب.

فبينه رحمه الله بياناً شافياً، وذكر أن الأصل في المرء براءة ذمته حتى يأتي الدليل على شغل هذه الذمة.

الاستقراء

أيضاً اهتم الإمام الشافعي رحمه الله بالاستقراء، وهو عبارة عن تتبع أمور جزئية ليحكم وليحكم بحكم عام على مثل هذه الجزئيات.

ومن أمثلة ذلك: ذكر الإمام الشافعي رداً على الأحناف أن الأصل في الوتر أنه ليس بواجب، قال: لأنا رأينا محمداً صلى الله عليه وسلم يوتر على الراحلة ولم يكن يصنعها في المكتوبة، قال: فدل ذلك على أن الوتر ليس بواجب.

الأخذ بأقل ما قيل

وأيضاً رحمه الله كان من مذهبه الأخذ بأقل ما قيل، فكان العلماء إذا اختلفوا في مسألة يأخذ الإمام الشافعي بأقل ما قيل؛ قال: لأنهم لو اختلفوا بالثلث أو النصف أو الكل فالذي أجمعوا عليه هو الثلث، قال: فنأخذ به؛ لأنه أقل ما قيل، فكأنه إجماع منهم، كما ذكر ذلك في دية الذمي، فإن الذمي اختلف العلماء في ديته، فقائل يقول: إنها ثلث دية المسلم، وهو مذهب الشافعي ، وقائل يقول: هي نصف دية المسلم، وهو مذهب المالكية، وقائلٌ يقول: إن دية الذمي كدية المسلم، وهو مذهب أبي حنيفة ، فأخذ الشافعي بأقل ما قيل؛ لأن الثلث قد أجمع العلماء عليه ممن يقول بالنصف وبالكل, والأمثلة في هذا كثيرة.

الأول: اعتمد الشافعي في مذهبه اتباع الكتاب والسنة، ولا شك في شدة اتباع الإمام الشافعي رحمه الله للكتاب والسنة، حتى إن بعض أصحاب المذاهب -ولا أحب تسميته- قال: ما من آية في كتاب الله، أو سنة من سنة رسول الله خالفت رأي إمامنا فهي إما منسوخة أو مؤولة، وهذا تعصب، وإن كان بعض الأحناف حاول أن يبرر مثل هذا بدعوى أن الإمام أبا حنيفة رحمه الله لم يكن ليخالف الكتاب أو السنة نصاً؛ فلأجل هذا أولها، وإن كان الأولى اتباع الكتاب والسنة وتعظيمهما على سائر المذاهب، حتى قال الإمام الشافعي رحمه الله حينما ناقش وناظر الحسين الكرابيسي في إحدى مناظراته: متى وجدتم الدليل من الكتاب والسنة مطروحاً في الطريق، يعني: في طريق العلم وطريق المناظرة فقولوا: هذا قولي، فلما رأوا الإمام الشافعي يعظم الكتاب والسنة، ولا يعظم مذهبه ولا أصله، انصاع الناس إلى الإمام الشافعي .

والآن هذا أمر موجود معلوم، تجد أن طالب العلم إذا استدل قال: قال الله، قال رسول الله، رواه البخاري ، رواه مسلم ، تجد أن القلوب تشرأب إلى سماعه، ولأجل هذا قال محمد صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح: ( نضر الله امرأً سمع مقالتي فوعاها وأداها كما سمعها، فرب حامل فقه إلى من هو أفقه منه، ورب حامل فقه ليس بفقيه ).

فهذا يدل على أن طالب العلم ينبغي له أن يبين للمستفتي أنه ما خرجت فتواه إلا بنص من الكتاب والسنة، حتى لو كان العامي لا يعلم، فإذا جاءك عامي وقال لك: يا شيخ! ما حكم كذا؟ فقل له: الحكم كذا وكذا؛ لأن الله يقول كذا، ولأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول كذا، والحديث رواه كذا.

حتى لو لم يعقل؛ لأن العامي يعلم أنه ما خرجت هذه الفتوى إلا من مشكاة النبوة، فتجده يعظم النص، ويعظم اتباع الكتاب والسنة.

الثاني: اتباع الحق والدليل، حينما جاء الإمام الشافعي رحمه الله إلى أهل بغداد وعنده أصول مالك رحمه الله، حينما كان محمد بن الحسن يناقشه في بعض أصول مالك وكان الشافعي يرجع عن هذه الأصول، ولا يرى عمل أهل المدينة إذا خالف حديث الآحاد, ويرى قول الأحناف في قبول خبر الآحاد لكنه أيضاً عارضهم في شروطهم التي اشترطوها، وأيضاً ناقش الأحناف في أخذهم القياس وتركهم لخبر الآحاد إذا عارض القياس، ورد عليهم رحمهم الله رحمة واسعة, فلأجل هذا كان الشافعي متبعاً للدليل، تاركاً أصول شيوخه إذا عارضت كلام الله وكلام رسوله.

حتى إن الإمام الشافعي رحمه الله كان خبيراً برجال أهل الحجاز، أما رجال غير أهل الحجاز فلم يكن رضي الله عنه عنده من الوقت والسعة بأن يسبر أخبارهم وأحوالهم, فكان يقول للإمام أحمد رحمه الله: يا أبا عبد الله ! أنتم أعلم بالحديث والرجال منا، فإذا كان الحديث صحيحاً فأعلموني كوفياً كان، أم بصرياً، أم شامياً حتى أذهب إليه إن كان صحيحاً.

والسؤال: لم لم يقل: حجازياً؟

السبب أن الشافعي كان يعلم رجال الحجاز، لكنه لم يكن عنده دراية مثل دراية أحمد في رجال الكوفة، ورجال البصرة، فقال للإمام أحمد هذا الأمر، وإن كان رحمه الله خبيراً بعلم الرجال، وقد أخذ ذلك من مدرسة مالك بن أنس رحمه الله.

الثالث الذي اهتم به الإمام الشافعي : أقوال الصحابة رضي الله عنهم، حيث ذكر في كتاب الرسالة القديمة أن من أصوله التي يرجع إليها: أن قول الصحابي إذا لم يخالفه أحد من الناس فإنه يأخذ به ويرد القياس الذي يخالفه.

ويرى رحمه الله أنه إذا انفرد الصحابي بقول ولم يوجد في المسألة نص من الكتاب أو السنة أن هذا القول أولى من الأخذ بالقياس، وقال: فإنهم حضروا التنزيل وعرفوه، وعندهم من الورع والعلم والدقة في النظر ما لم يكن عندنا، فالأخذ بأقوالهم أولى.

الرابع: الأخذ بالقياس، فالإمام الشافعي رحمه الله لم يذهب مذهب مالك رحمه الله في تركه للقياس إذا خالف عمل أهل المدينة، ولم يتوسع كتوسع أبي حنيفة رحمه الله في العمل بالقياس وترك أحاديث أخبار الآحاد، وهو رضي الله عنه حينما قعد القواعد في مسألة الأصول ذكر أن ما خالف ظاهر القرآن من أحاديث الآحاد يعمل به وإن كانت تخالف ظاهر القرآن، ويرد ما يقول به أهل الرأي الذين قالوا: كل حديث من أحاديث الآحاد إذا خالفت ظاهر القرآن فلا يعمل بها؛ لأن القرآن متواتر والمتواتر لا ينسخه الآحاد، ويقولون: إن الزيادة على النص نسخ، فرد الشافعي ذلك رحمه الله.

اهتم الإمام الشافعي باعتبار أصل الأشياء، فذكر أن الأصل في ميتة البحر الحل، وذكر أن الأصل براءة الذمة، وذكر أن الأصل في المنافع الإباحة، وغير ذلك من الأصول التي قعدها الشافعي واستدل لها بما قال الله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة:29]، وقال: الأصل في المضار التحريم.

إذاً: من أصول الإمام الشافعي : الاستصحاب، فقد ذكر الشافعي رحمه الله تعالى هذا الأمر، وقال: الأصل بقاء ما كان على ما كان إلا أن يأتينا ما يخرج عن هذا الأصل، وهو ما يسمى عند الأصوليين: قاعدة الاستصحاب.

فبينه رحمه الله بياناً شافياً، وذكر أن الأصل في المرء براءة ذمته حتى يأتي الدليل على شغل هذه الذمة.

أيضاً اهتم الإمام الشافعي رحمه الله بالاستقراء، وهو عبارة عن تتبع أمور جزئية ليحكم وليحكم بحكم عام على مثل هذه الجزئيات.

ومن أمثلة ذلك: ذكر الإمام الشافعي رداً على الأحناف أن الأصل في الوتر أنه ليس بواجب، قال: لأنا رأينا محمداً صلى الله عليه وسلم يوتر على الراحلة ولم يكن يصنعها في المكتوبة، قال: فدل ذلك على أن الوتر ليس بواجب.

وأيضاً رحمه الله كان من مذهبه الأخذ بأقل ما قيل، فكان العلماء إذا اختلفوا في مسألة يأخذ الإمام الشافعي بأقل ما قيل؛ قال: لأنهم لو اختلفوا بالثلث أو النصف أو الكل فالذي أجمعوا عليه هو الثلث، قال: فنأخذ به؛ لأنه أقل ما قيل، فكأنه إجماع منهم، كما ذكر ذلك في دية الذمي، فإن الذمي اختلف العلماء في ديته، فقائل يقول: إنها ثلث دية المسلم، وهو مذهب الشافعي ، وقائل يقول: هي نصف دية المسلم، وهو مذهب المالكية، وقائلٌ يقول: إن دية الذمي كدية المسلم، وهو مذهب أبي حنيفة ، فأخذ الشافعي بأقل ما قيل؛ لأن الثلث قد أجمع العلماء عليه ممن يقول بالنصف وبالكل, والأمثلة في هذا كثيرة.