مصادر علم الفقه [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:

فأسأل الله عز وجل أن يجعل اجتماعنا اجتماعاً مرحوماً، وأن يجعل تفرقنا بعده تفرقاً مرحوماً، ولا يجعل فينا شقياً ولا مطروداً يا رب العالمين.

فقد توقفنا في مصادر الفقه المالكي على أهم مصادر المذهب المالكي، ونحن نشرع الآن مستعينين بالله سبحانه وتعالى استكمالاً لهذا الباب.

كتاب الموطأ للإمام مالك

أول هذه المصادر كما لا يخفى هو مؤسس هذا المذهب، أعني به: مالك بن أنس وقد ألف كتاب الموطأ، وهو من تأليفه، والموطأ قيل: إن أبا جعفر المنصور أمر الإمام مالكاً أن يكتب له كتاباً في معرفة السنن والأحكام حتى يعرفه القاصي والداني في شرق بلاد العالم الإسلامي وغربه، وقال له: ضع كتاباً للناس أحملهم عليه وسهل في بيانه وصياغته، فألف الإمام مالك هذا الكتاب، الذي يقول فيه الإمام الشافعي رحمه الله: ما تحت أديم السماء كتاب أكثر صواباً بعد كتاب الله من موطأ مالك .

والذي حدا بالإمام الشافعي أن يقول هذا هو أنه لم يكن أهل العلم قد ألفوا كتباً مستقلة في صحيح الأحاديث كصحيح البخاري وصحيح مسلم وغيرهما ممن استن بسنتهما، وإلا فإن أهل العلم أجمعوا على أن أصح كتاب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى هو صحيح الإمام البخاري ثم بعد ذلك الإمام مسلم , إلا أن الإمام مالكاً رحمه الله ألف هذا الكتاب قبل ذلك, والسبب في قول الشافعي هذا -كما قلنا في السابق- أن من مميزات مالك أنه كان ينتقي شيوخه فلا يكتفي بكثرة علمه، بل لا بد أن يجمع بين ثلاث: سعة علمه، وحسن معتقده، وضبطه في الحفظ والرواية، فألف هذا الكتاب.

أقسام الأحاديث المذكورة في الموطأ

وكتاب الموطأ ينقسم إلى سبعة أقسام:

القسم الأول: الأحاديث المروية المسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه كلها صحيحة، وقد رواها البخاري و مسلم من طريق مالك رحمه الله، وغيرهما من أصحاب السنن، فكل هذه الأحاديث صحيحة ولا إشكال فيها.

القسم الثاني: أحاديث مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيد مرسلة، وهي التي يقول فيها التابعي: إن النبي صلى الله عليه وسلم صنع كذا، أو فعل كذا، أو قال كذا، ولم يصرح بذكر الصحابي، وهذه يسميها العلماء: المرسل؛ وهو ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس بكثير.

القسم الثالث: أحاديث رواها الإمام مالك رحمه الله، وقد أسقط فيها شيخاً أو شيخين، وهذا يسميه العلماء: المنقطع، والإمام مالك رحمه الله إنما رواه وليس يقصد بذلك أن الحديث ضعيف، ولكن الإمام مالك أحياناً ينشط في ذكر الحديث مسنداً، وأحياناً يرسله، ولهذا نجد أن في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم من طريق مالك بن أنس أحاديث رواها مالك مرسلة منقطعة، ورواها البخاري و مسلم من طريق مالك موصولة، قال أهل العلم: ليس هذا دليلاً على ضعف هذا الحديث، ولكن من عادة الرواة أنهم ينشطون أحياناً فيذكرون الحديث موصولاً، وأحياناً لا ينشطون فيذكرونه مرسلاً.

الرابع: أحاديث رواها الإمام مالك رحمه الله بأسانيد موقوفة إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أكثر مالك رحمه الله من روايته عن عمر وابنه عبد الله بن عمر ، وهذا يسميه العلماء: الموقوف على الصحابي، وسبب كثرة الرواية عن ابن عمر أن ابن عمر كان مدنياً، و مالك يرى أن عمل أهل المدينة حجة، بخلاف ابن عباس وغيرهم من القرون المفضلة من صغار الصحابة فإنهم تفرقوا في الأمصار، أما ابن عمر فقد بقي في المدينة، وهذا من أسباب كثرة رواية مالك عن ابن عمر .

و مالك رحمه الله بالمناسبة يروي عن ابن عمر من طريقين: من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر ، وهذا يسميه البخاري : السلسلة الذهبية، وهناك سلسلة ذهبية أخرى رواها مالك عن الزهري عن سالم عن ابن عمر ، وهناك سلسلة أخرى وهي من طريق مالك عن الأعرج عن أبي هريرة، والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز وهو من شيوخ مالك الذي أخذ مالك عنهم الفقه والحديث، وكان مالك يعظمه هو و ربيعة بن عبد الرحمن ، وهذا القسم المسند الموقوف أيضاً صحيح.

القسم الخامس: البلاغات، وهي التي يقول فيها مالك : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، وبالمناسبة غالب البلاغات التي رواها مالك بلاغاً عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها قد جاءت بأسانيد موصولة من غير كتاب الموطأ إلا حديثاً واحداً ذكره مالك بلاغاً لا يعلم له إسناد متصل, وقيل: بل اثنان، والأقرب أنه واحد، وليس بالضرورة أن يكون البلاغ صحيحاً أو ضعيفاً، لكنني أقول: كل الأحاديث التي ذكرها مالك رحمه الله في موطئه بلاغاً جاءت من طريق آخر بإسناد موصول بغض النظر هل هو صحيح أم ضعيف، إلا حديثاً واحداً ذكره مالك بلاغاً ولا يصح ولا يعرف له إسناد كما ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر؛ وهو حديث: (إني لأَنْسى أو أُنسّى لأسُن)، وهذا لا يعلم له إسناد متصل، وأصح شيء في الباب ما روى البخاري و مسلم من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا صلى أحدكم فلم يدر كم صلى فليبن عليه، ثم ليتحر الصواب وليبن عليه، ثم ليسجد للسهو بعد السلام )، والحديث -كما قلت- متفق عليه.

السادس: أقوال الصحابة والتابعين التي يذكرها مالك أحياناً من غير إسناد، وقد أكثر رحمه الله في أقوال التابعين عن اثنين هما: سعيد بن المسيب و عمر بن عبد العزيز ذكرناه فيما مضى عندما قلنا في قول أبي عمر بن عبد البر : (ولا أعلم دليلاً لـمالك ) قلنا: وقد رواه مالك وأخذه عن عمر بن عبد العزيز في مسألة المتربص في الزكاة.

السابع: ما استنبطه الإمام مالك رحمه الله من الفقه المستند إلى عمل أهل المدينة، أو إلى القياس أو إلى قواعد الشريعة.

هذه سبعة أقسام في موطأ مالك رحمه الله.

أفضل طبعات الموطأ

وأفضل طبعة لهذا الكتاب هي الطبعة التي حققها الأستاذ: محمد فؤاد عبد الباقي ، وهي من طريق يحيى بن يحيى الليثي ، وهناك طبعة أخرى من طريق أبي مصعب الزهري وفيها اختلاف بينها وبين رواية يحيى بن يحيى الليثي ، والمعول عليه عند غالب أهل العلم المتأخرين على رواية يحيى بن يحيى ، وهناك طبعة جديدة طبعت لموطأ مالك مع تعليقات لـمحمد بن الحسن الحنفي، وهي طبعة لطيفة لا ينبغي أن يستغني طالب العلم عنها؛ لأنك أحياناً تحتاج لمعرفة ما مذهب الحنفية في إيرادهم لهذا الحديث، وأحياناً تستدل ضد الأحناف على حديث، وتحتاج أن تجد كتاباً يتحدث عن تأويل أو تضعيف هذا الحديث، وقد عني بذلك (المبسوط) و(بدائع الصنائع) و(شرح إعلاء السنن)، و(البناية على الهداية) من كتب الأحناف التي اهتمت بهذا الباب، وخامسها هو تعليقات محمد بن الحسن على موطأ مالك.

اصطلاحات الإمام مالك

و مالك رحمه الله له مصطلح, أحياناً يقول: الأمر المجتمع عليه عندنا، أو ببلدنا، وأحياناً يقول: والأمر الذي أدركت عليه أهل العلم، أو سمعت أهل العلم، أو يقول: فهذا ما عليه بعض أهل العلم، وأحياناً يقول: فهذا الذي اجتهدت الله فيه، ونحو ذلك من العبارات، روى إسماعيل بن أبي أويس قال: قيل لـمالك بن أنس: قولك: الأمر المجتمع عليه عندنا أو ببلدنا، أو الأمر الذي أدركت عليه أهل العلم، والأئمة المقتدى بهم، فقال مالك في تفسير هذا المصطلح: هو سماع غير واحد من أهل العلم والأئمة المقتدى بهم الذين أخذت عنهم، وهم الذين كانوا يتقون الله، ورأيهم ذلك مثل رأي الصحابة أدركوهم عليه، وأدركتهم أنا على ذلك.

فهذه وراثة توارثوها قرناً عن قرن إلى زماننا، وما كان فيه من الأمر المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه من قول أهل الفقه والعلم، وجرت به الأحكام، فهذا مصطلح مالك، إذا قال: الأمر المجتمع عليه عندنا فهو الذي رأى عليه أهل المدينة وعلماء المدينة، وتبعه على ذلك تابعيهم إلى الصحابة رضي الله عنهم، فيكون هذا عند مالك حجة لا يجوز مخالفتها، وقد ذكرنا المراتب الأربع في مذهب أهل المدينة، فلا حاجة لذكرها هنا.

غير أن قول مالك: وما قلت: الأمر عندنا فهو ما عمل الناس به عندنا، وجرت به الأحكام عرفه الجاهل والعالم، وكذلك ما قلت فيه: ببلدنا، يعد في مراتب مذهب أهل المدينة هو المرتبة الثالثة، وقلنا في المرتبة الثالثة هي: إذا تعارض دليلان كحديثين أو آيتين وعمل أهل المدينة بأحدهما هل عمل المدينة يرجح أحد الدليلين أم لا؟ قلنا: مذهب مالك و الشافعي نعم، ومذهب أبي حنيفة لا، ولأصحاب أحمد وجهين: الوجه الأول: قول أبي يعلى و ابن عقيل أنه لا يرجح، والقول الثاني: قول محفوظ الكلوذاني أنه يرجح، وقال: هو المنصوص عن أحمد الذي قال فيه: إذا رأيت أهل المدينة على رأي فهو الغاية كما سبق أن ذكرنا ذلك.

قال الإمام مالك رحمه الله: وكذلك ما قلت فيه: ببلدنا، وما قلت فيه: هو ما عليه بعض أهل العلم، فهو شيء استحسنته من قول العلماء، هذا القسم الثاني.

القسم الثالث: وأما ما لم أسمعه منهم فاجتهدت ونظرت على مذهب من لقيته حتى وقع ذلك موقع الحق أو قريباً منه حتى لا يخرج عن مذهب أهل المدينة وآرائهم، يعني: أن مالكاً في القسم الثالث يقول: أحياناً لم أسمع عن أهل المدينة، ولم أر المجتمع عليه عندنا، ولكني اجتهدت الله فيه، ونظرت في أصول عمل أهل المدينة والقواعد التي مشوا عليها في الفتوى فقسته فعرفت أنه لا يخرج عن الحق، ومعنى: لا يخرج عن الحق، عندما قال: (حتى وقع الحق) أي: وقع في نفس مالك أنه الحق.

وأحياناً يطلق مالك الاستحسان على القياس, فيقول مثلاً فيما لا نص فيه كما في كتاب الديات في المدونة: إنه لشيء استحسناه وما سمعت فيه شيئاً من أهل العلم، هذا هو الأقرب في رواية إسماعيل بن أبي أويس عن مالك ، وقد ذكر القاضي عياض في ترتيب المدارك أن مالكاً رحمه الله إذا قال: أدركت أهل العلم ببلدنا فإنما يقصد ما أخذه من ربيعة بن عبد الرحمن ، و عبد الرحمن بن هرمز ، وما قال: الأمر المجتمع عليه عندنا فهو أخذه من قضاء سليمان بن بلال عندما كان سليمان بن بلال قاضياً في المدينة، هكذا قال عياض، والأقرب ما رواه إسماعيل بن أبي أويس القرني، وهذا كتاب الموطأ، والكلام في الموطأ كثير جداً، لكن لعلنا نذكر قليلاً مما ذكرناه، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

أول هذه المصادر كما لا يخفى هو مؤسس هذا المذهب، أعني به: مالك بن أنس وقد ألف كتاب الموطأ، وهو من تأليفه، والموطأ قيل: إن أبا جعفر المنصور أمر الإمام مالكاً أن يكتب له كتاباً في معرفة السنن والأحكام حتى يعرفه القاصي والداني في شرق بلاد العالم الإسلامي وغربه، وقال له: ضع كتاباً للناس أحملهم عليه وسهل في بيانه وصياغته، فألف الإمام مالك هذا الكتاب، الذي يقول فيه الإمام الشافعي رحمه الله: ما تحت أديم السماء كتاب أكثر صواباً بعد كتاب الله من موطأ مالك .

والذي حدا بالإمام الشافعي أن يقول هذا هو أنه لم يكن أهل العلم قد ألفوا كتباً مستقلة في صحيح الأحاديث كصحيح البخاري وصحيح مسلم وغيرهما ممن استن بسنتهما، وإلا فإن أهل العلم أجمعوا على أن أصح كتاب بعد كتاب الله سبحانه وتعالى هو صحيح الإمام البخاري ثم بعد ذلك الإمام مسلم , إلا أن الإمام مالكاً رحمه الله ألف هذا الكتاب قبل ذلك, والسبب في قول الشافعي هذا -كما قلنا في السابق- أن من مميزات مالك أنه كان ينتقي شيوخه فلا يكتفي بكثرة علمه، بل لا بد أن يجمع بين ثلاث: سعة علمه، وحسن معتقده، وضبطه في الحفظ والرواية، فألف هذا الكتاب.

وكتاب الموطأ ينقسم إلى سبعة أقسام:

القسم الأول: الأحاديث المروية المسندة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه كلها صحيحة، وقد رواها البخاري و مسلم من طريق مالك رحمه الله، وغيرهما من أصحاب السنن، فكل هذه الأحاديث صحيحة ولا إشكال فيها.

القسم الثاني: أحاديث مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأسانيد مرسلة، وهي التي يقول فيها التابعي: إن النبي صلى الله عليه وسلم صنع كذا، أو فعل كذا، أو قال كذا، ولم يصرح بذكر الصحابي، وهذه يسميها العلماء: المرسل؛ وهو ما رواه التابعي عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا ليس بكثير.

القسم الثالث: أحاديث رواها الإمام مالك رحمه الله، وقد أسقط فيها شيخاً أو شيخين، وهذا يسميه العلماء: المنقطع، والإمام مالك رحمه الله إنما رواه وليس يقصد بذلك أن الحديث ضعيف، ولكن الإمام مالك أحياناً ينشط في ذكر الحديث مسنداً، وأحياناً يرسله، ولهذا نجد أن في صحيح البخاري وفي صحيح مسلم من طريق مالك بن أنس أحاديث رواها مالك مرسلة منقطعة، ورواها البخاري و مسلم من طريق مالك موصولة، قال أهل العلم: ليس هذا دليلاً على ضعف هذا الحديث، ولكن من عادة الرواة أنهم ينشطون أحياناً فيذكرون الحديث موصولاً، وأحياناً لا ينشطون فيذكرونه مرسلاً.

الرابع: أحاديث رواها الإمام مالك رحمه الله بأسانيد موقوفة إلى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أكثر مالك رحمه الله من روايته عن عمر وابنه عبد الله بن عمر ، وهذا يسميه العلماء: الموقوف على الصحابي، وسبب كثرة الرواية عن ابن عمر أن ابن عمر كان مدنياً، و مالك يرى أن عمل أهل المدينة حجة، بخلاف ابن عباس وغيرهم من القرون المفضلة من صغار الصحابة فإنهم تفرقوا في الأمصار، أما ابن عمر فقد بقي في المدينة، وهذا من أسباب كثرة رواية مالك عن ابن عمر .

و مالك رحمه الله بالمناسبة يروي عن ابن عمر من طريقين: من طريق مالك عن نافع عن ابن عمر ، وهذا يسميه البخاري : السلسلة الذهبية، وهناك سلسلة ذهبية أخرى رواها مالك عن الزهري عن سالم عن ابن عمر ، وهناك سلسلة أخرى وهي من طريق مالك عن الأعرج عن أبي هريرة، والأعرج هو عبد الرحمن بن هرمز وهو من شيوخ مالك الذي أخذ مالك عنهم الفقه والحديث، وكان مالك يعظمه هو و ربيعة بن عبد الرحمن ، وهذا القسم المسند الموقوف أيضاً صحيح.

القسم الخامس: البلاغات، وهي التي يقول فيها مالك : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال كذا، وبالمناسبة غالب البلاغات التي رواها مالك بلاغاً عن النبي صلى الله عليه وسلم كلها قد جاءت بأسانيد موصولة من غير كتاب الموطأ إلا حديثاً واحداً ذكره مالك بلاغاً لا يعلم له إسناد متصل, وقيل: بل اثنان، والأقرب أنه واحد، وليس بالضرورة أن يكون البلاغ صحيحاً أو ضعيفاً، لكنني أقول: كل الأحاديث التي ذكرها مالك رحمه الله في موطئه بلاغاً جاءت من طريق آخر بإسناد موصول بغض النظر هل هو صحيح أم ضعيف، إلا حديثاً واحداً ذكره مالك بلاغاً ولا يصح ولا يعرف له إسناد كما ذكر ذلك أبو عمر بن عبد البر؛ وهو حديث: (إني لأَنْسى أو أُنسّى لأسُن)، وهذا لا يعلم له إسناد متصل، وأصح شيء في الباب ما روى البخاري و مسلم من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون، فإذا نسيت فذكروني، وإذا صلى أحدكم فلم يدر كم صلى فليبن عليه، ثم ليتحر الصواب وليبن عليه، ثم ليسجد للسهو بعد السلام )، والحديث -كما قلت- متفق عليه.

السادس: أقوال الصحابة والتابعين التي يذكرها مالك أحياناً من غير إسناد، وقد أكثر رحمه الله في أقوال التابعين عن اثنين هما: سعيد بن المسيب و عمر بن عبد العزيز ذكرناه فيما مضى عندما قلنا في قول أبي عمر بن عبد البر : (ولا أعلم دليلاً لـمالك ) قلنا: وقد رواه مالك وأخذه عن عمر بن عبد العزيز في مسألة المتربص في الزكاة.

السابع: ما استنبطه الإمام مالك رحمه الله من الفقه المستند إلى عمل أهل المدينة، أو إلى القياس أو إلى قواعد الشريعة.

هذه سبعة أقسام في موطأ مالك رحمه الله.

وأفضل طبعة لهذا الكتاب هي الطبعة التي حققها الأستاذ: محمد فؤاد عبد الباقي ، وهي من طريق يحيى بن يحيى الليثي ، وهناك طبعة أخرى من طريق أبي مصعب الزهري وفيها اختلاف بينها وبين رواية يحيى بن يحيى الليثي ، والمعول عليه عند غالب أهل العلم المتأخرين على رواية يحيى بن يحيى ، وهناك طبعة جديدة طبعت لموطأ مالك مع تعليقات لـمحمد بن الحسن الحنفي، وهي طبعة لطيفة لا ينبغي أن يستغني طالب العلم عنها؛ لأنك أحياناً تحتاج لمعرفة ما مذهب الحنفية في إيرادهم لهذا الحديث، وأحياناً تستدل ضد الأحناف على حديث، وتحتاج أن تجد كتاباً يتحدث عن تأويل أو تضعيف هذا الحديث، وقد عني بذلك (المبسوط) و(بدائع الصنائع) و(شرح إعلاء السنن)، و(البناية على الهداية) من كتب الأحناف التي اهتمت بهذا الباب، وخامسها هو تعليقات محمد بن الحسن على موطأ مالك.

و مالك رحمه الله له مصطلح, أحياناً يقول: الأمر المجتمع عليه عندنا، أو ببلدنا، وأحياناً يقول: والأمر الذي أدركت عليه أهل العلم، أو سمعت أهل العلم، أو يقول: فهذا ما عليه بعض أهل العلم، وأحياناً يقول: فهذا الذي اجتهدت الله فيه، ونحو ذلك من العبارات، روى إسماعيل بن أبي أويس قال: قيل لـمالك بن أنس: قولك: الأمر المجتمع عليه عندنا أو ببلدنا، أو الأمر الذي أدركت عليه أهل العلم، والأئمة المقتدى بهم، فقال مالك في تفسير هذا المصطلح: هو سماع غير واحد من أهل العلم والأئمة المقتدى بهم الذين أخذت عنهم، وهم الذين كانوا يتقون الله، ورأيهم ذلك مثل رأي الصحابة أدركوهم عليه، وأدركتهم أنا على ذلك.

فهذه وراثة توارثوها قرناً عن قرن إلى زماننا، وما كان فيه من الأمر المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه من قول أهل الفقه والعلم، وجرت به الأحكام، فهذا مصطلح مالك، إذا قال: الأمر المجتمع عليه عندنا فهو الذي رأى عليه أهل المدينة وعلماء المدينة، وتبعه على ذلك تابعيهم إلى الصحابة رضي الله عنهم، فيكون هذا عند مالك حجة لا يجوز مخالفتها، وقد ذكرنا المراتب الأربع في مذهب أهل المدينة، فلا حاجة لذكرها هنا.

غير أن قول مالك: وما قلت: الأمر عندنا فهو ما عمل الناس به عندنا، وجرت به الأحكام عرفه الجاهل والعالم، وكذلك ما قلت فيه: ببلدنا، يعد في مراتب مذهب أهل المدينة هو المرتبة الثالثة، وقلنا في المرتبة الثالثة هي: إذا تعارض دليلان كحديثين أو آيتين وعمل أهل المدينة بأحدهما هل عمل المدينة يرجح أحد الدليلين أم لا؟ قلنا: مذهب مالك و الشافعي نعم، ومذهب أبي حنيفة لا، ولأصحاب أحمد وجهين: الوجه الأول: قول أبي يعلى و ابن عقيل أنه لا يرجح، والقول الثاني: قول محفوظ الكلوذاني أنه يرجح، وقال: هو المنصوص عن أحمد الذي قال فيه: إذا رأيت أهل المدينة على رأي فهو الغاية كما سبق أن ذكرنا ذلك.

قال الإمام مالك رحمه الله: وكذلك ما قلت فيه: ببلدنا، وما قلت فيه: هو ما عليه بعض أهل العلم، فهو شيء استحسنته من قول العلماء، هذا القسم الثاني.

القسم الثالث: وأما ما لم أسمعه منهم فاجتهدت ونظرت على مذهب من لقيته حتى وقع ذلك موقع الحق أو قريباً منه حتى لا يخرج عن مذهب أهل المدينة وآرائهم، يعني: أن مالكاً في القسم الثالث يقول: أحياناً لم أسمع عن أهل المدينة، ولم أر المجتمع عليه عندنا، ولكني اجتهدت الله فيه، ونظرت في أصول عمل أهل المدينة والقواعد التي مشوا عليها في الفتوى فقسته فعرفت أنه لا يخرج عن الحق، ومعنى: لا يخرج عن الحق، عندما قال: (حتى وقع الحق) أي: وقع في نفس مالك أنه الحق.

وأحياناً يطلق مالك الاستحسان على القياس, فيقول مثلاً فيما لا نص فيه كما في كتاب الديات في المدونة: إنه لشيء استحسناه وما سمعت فيه شيئاً من أهل العلم، هذا هو الأقرب في رواية إسماعيل بن أبي أويس عن مالك ، وقد ذكر القاضي عياض في ترتيب المدارك أن مالكاً رحمه الله إذا قال: أدركت أهل العلم ببلدنا فإنما يقصد ما أخذه من ربيعة بن عبد الرحمن ، و عبد الرحمن بن هرمز ، وما قال: الأمر المجتمع عليه عندنا فهو أخذه من قضاء سليمان بن بلال عندما كان سليمان بن بلال قاضياً في المدينة، هكذا قال عياض، والأقرب ما رواه إسماعيل بن أبي أويس القرني، وهذا كتاب الموطأ، والكلام في الموطأ كثير جداً، لكن لعلنا نذكر قليلاً مما ذكرناه، ويكفي من القلادة ما أحاط بالعنق.

أمهات كتب المالكية في الفقه

هناك أمهات يسميها المالكية: الأمهات الأربع من كتب فقهاء المالكية، لم نر اهتماماً بها في هذا العصر إلا في كتاب واحد، وأما الكتب الثلاثة فبعضها مطبوع ضمن كتاب كما سوف يأتي بيانه، وكتابان ما زالا مخطوطين، أما أهم الكتب في الأربع هو: كتاب (المختلطة)، أو كتاب (الأم)، أو كتاب (المدونة)، أو (الكتاب)، فهذه أربعة أسماء للمدونة: (المدونة والمختلطة والأم والكتاب)، هذا اسمه عند المالكية.

أما تسميته بالمدونة فهذا ما سماه به أسد بن الفرات حينما ألف وجمع هذا الكتاب من عبد الرحمن بن القاسم حينما سأله عن بعض مسائل أهل العراق، فألف هذا الكتاب ثم ذهب به إلى المغرب، وسمي في المغرب: المدونة والأسدية، ثم جاء سحنون -كما ذكر ذلك القاضي عياض- فذهب إلى أسد بن الفرات فطلب منه هذا الكتاب، فأبى عليه، فما زال يلاطفه حتى أخذ الكتاب, ثم ذهب سحنون -وهو عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي- إلى عبد الرحمن بن القاسم، فعرض عليه كتاب أسد بن الفرات الذي جمعه منه، فرجع عبد الرحمن بن القاسم في بعض المسائل التي سمعها منه أسد بن الفرات ، وزاد سحنون بعض المسائل وهذبه ورتبه وجمع أي: ذكر بعض الأدلة والأحاديث التي سمعها من عبد الله بن وهب عن مالك ، فجاء هذا الكتاب بهذه الحلة القشيبة وهي (المدونة)، ثم كتب عبد الرحمن بن القاسم إلى أسد بن الفرات يأمره أن يترك هذا الكتاب الذي أخذه منه وأن يروي عنه هذا الكتاب الذي هو كتاب سحنون .

سميت (المدونة) بذلك لأجل أن أسد بن الفرات دونها عن عبد الرحمن بن القاسم، و عبد الرحمن بن القاسم إذا سئل فما سمعه من مالك قال فيه: سمعت مالكاً، وما لم يسمعه من مالك يقول: لم أسمعه ولكن كذا، فيذكر القول الذي لا يخرج عن أصول مذهب مالك رحمه الله، فسمي المدونة.

وسميت (المدونة) بالمختلطة؛ لأن مرويات سحنون عن ابن القاسم اختلطت مع مرويات أسد بن الفرات عن ابن القاسم فسمي بالمختلطة.

وسمي (الأم)؛ لأنه أمٌ، جمع فأوعى في مسائل مالك رحمه الله.

وسمي (الكتاب) لأن مرجع المالكية رحمهم الله رحمة واسعة إليه، ولهذا يقول ابن يونس المالكي: ما بعد كتاب الله أصلح من موطأ مالك وبعده مدونة سحنون ، يقول: وذلك لأنه تداولها من المجتهدين أربعة منهم: مالك و ابن القاسم و أسد بن الفرات و سحنون .

الكتاب الثاني من أمهات الكتب عند المالكية -وهو مخطوط وتم تحقيق جزء منه لنيل درجة الدكتوراه- هو: (الواضحة في السنن والفقه)، تأليف: عبد الملك بن حبيب بن سليمان ، وكان هذا الكتاب مصدراً من مصادر المالكية في القرن الثاني، أو القرن الثالث وأوائل الرابع، وسمي (الواضحة) لأن مؤلفه يذكر بعد كل باب: باب ما وضح من الصلاة، باب ما وضح من الحج وغير ذلك.

الثالث: (المستخرجة) وهي التي تسمى: (العتبية على الموطأ) أو (المستخرج على الموطأ) تأليف: محمد العتبي وهي مطبوعة مع شرحها (البيان والتحصيل) لـابن رشد أحمد بن محمد بن رشد رحمه الله المتوفى سنة عشرين وخمسمائة، (البيان والتحصيل شرح المستخرجة)، وهو كتاب جامع للروايات والمسائل الفقهية الشاذة، وكل مسألة غريبة يذكرها محمد العتبي رحمه الله.

الرابع من كتب الأمهات في أوائل انتشار المذهب المالكي: (الموازية) تأليف: محمد بن إبراهيم الإسكندري المعروف بـابن المواز، وهذه مخطوطة ولا أعلم أنها مكتملة، إنما فيها بعض الأوراق في القيروان، فهذه الكتب الأربعة.

جاء ابن أبي زيد القيرواني فألف كتاباً اسمه: (النوادر والزيادات)، فجمع هذه الكتب وهو قد طبع كاملاً، وأنصح طلاب العلم باقتنائه.

من كتب متوسطي المالكية في الفقه

الكتاب الآخر: (التفريع) لـعبيد الله بن الحسين الجلاب المتوفى سنة ثمان وسبعين وثلاثمائة، وهذا الكتاب طبع بدار الغرب الإسلامي، ودار الغرب الإسلامي اعتنى كثيراً بكتب المالكية، فجزاهم الله خيراً فإن كتبهم في الغالب إخراجها جيد، وطريقة تحقيقهم جيدة في الجملة، وإن كان يصعب على كثير من طلاب العلم اقتناء مثل هذه الكتب؛ لأن أسعارها ليست في متناول اليد بين كثير من طلاب العلم، هذا الكتاب (التفريع) قدم له المحقق دراسة واسعة جزاهم الله خيراً وهو ابن سالم الدحناني قدم دراسة وافية في كتابه هذا، وبين أن المالكية ثلاثة أقسام: متقدمون ومتوسطون ومتأخرون، ومتوسطو المالكية اهتموا بهذا الكتاب.

وكتاب (التفريع) كتاب جمع الأبواب الفقهية كلها، ويحتوي بالإضافة إلى الأحكام الفقهية القواعد الفقهية، ولهذا يسمى تفريع الفروع، وهو مطبوع، ويحسن بطالب العلم لمن أراد مذهب مالك أن يقرأ هذا الكتاب.

أكثر الذين يرجعون إلى كتب المالكية يرجعون إلى شراح كتاب (مختصر خليل)، وكتاب (مختصر خليل) كما سوف يأتي بيانه إنما هو اختصار لجامع الأمهات الذي يسمى بـ(مختصر ابن الحاجب)، فيا ليت من أراد أن يحيل إلى كتب المالكية ينظر هذا القول الذي سوف ينسبه هل وافق عليه متقدمو المالكية ومتوسطوهم ومتأخروهم؟ وأشهر كتب المتأخرة من المالكية وهو مختصر خليل، حتى كانوا يسمون متأخري المالكية: الخليليون؛ لأجل (مختصر خليل بن إسحاق)، فيا ليت من أراد أن يحيل من كتب المالكية أو من كتب المذاهب أن يذكر التطور في المذهب، فيذكر كتب المتقدمة وهي (المدونة)، ثم بعد ذلك (البيان والتحصيل على مستخرج محمد العتبي) وكذلك (النوادر)، ثم بعد ذلك يذكر كتاب (التفريع)، ثم بعد ذلك (الذخيرة)، ثم بعد (الذخيرة) للقرافي يمكن أن يذكر كتب المتأخرة.

والكتاب الآخر: هو كتاب (التلقين في الفقه المالكي) تأليف: القاضي عبد الوهاب البغدادي المالكي المتوفى سنة اثنين وعشرين وأربعمائة للهجرة، والكتاب قد خرج بتحقيق سعيد الغاني في رسالة علمية لنيل درجة الدكتوراه في جامعة أم القرى، ويعد هذا الكتاب أحد المتون التي اعتمدها المالكية المتوسطون في ذلك الوقت، وسوف ترون من أراد منكم أن يرجع إليه أن مذهب المالكية المتوسطين يختلف عن مذهب المتأخرين في بعض الترجيحات، فـعبد الوهاب المالكي له ثلاثة كتب كلها مطبوعة الآن، أولاً: (التلقين)، وشرح جزءاً منه المازري ، وطبع إلى كتاب الصلاة، كذلك له كتاب اسمه (المعونة على مذهب عالم أهل المدينة)، وهذا الكتاب الذي هو (التلقين) خال من الأدلة، فهو على شكل متن وظاهر القواعد الفقهية، أما (المعونة) فإنه يذكر الأقوال، ويذكر دليل مالك ويرجحه، فأحياناً تجد أنه ليس هو مذهب مالك عند المتأخرين، والسبب هو التطور الفقهي عند المالكية.

فــ(المعونة في مذهب عالم أهل المدينة)، هو الكتاب الذي بعد (التلقين) وهو كتاب جيد، ويستفيد منه طالب العلم في قوة وبراعة وسهولة بيان القاضي عبد الوهاب، والسبب في هذا أنك تجد أن من رزقه الله ومنحه بياناً وعبارة تجد أن كتبه في الغالب سهلة، والقاضي عبد الوهاب البغدادي أديب فحل، وله أبيات ما زال الناس يأخذونها كابراً عن كابر رحمهم الله رحمة واسعة، كما في (التلقين) و(المعونة) للقاضي عبد الوهاب، و(المعونة) طبع بثلاثة مجلدات طبعة دار الفكر.

الكتاب الآخر (البيان والتحصيل والشرح والتوجيه والتعليل في المسائل المستخرجة) لـأبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي المتوفى سنة عشرين وخمسمائة، وقد حققه جماعة من الباحثين بإشراف وعناية ومتابعة وبحث من محمد حجي ، وطبعته في بيروت في طبعة دار الغرب الإسلامي، وكتاب (البيان والتحصيل) -كما يقول المحققون- كتاب حافل من أمهات الفقه المالكي يطابق اسمه مسماه بياناً وتحصيلاً، وشرحاً وتوجيهاً وتعليلاً للمسائل المستخرجة لـمحمد العتبي، وقد ذكر ابن رشد في مقدمة كتابه منهجه في ذلك، وله تركيز يقول: بدأت بكتاب الوضوء من أول الديوان مسألة مسألة على الولاء، أذكر المسألة على نصها -الذي أخذها من المستخرجة- ثم أشرح من ألفاظها ما يفتقر إلى شرحه، وأبين من معانيها بالبسط لها ما يحتاج إلى بيانه وبسطه، وأحصل من أقاويل العلماء فيها ما يحتاج إلى تحصيله، إذ قد تتشعب كثير من المسائل وتفترق شعبها في مواضع، وتختلف الأجوبة في بعضها لافتراق معانيها.

فهو رحمه الله يذكر أصل نص المستخرجة ثم يذكر أهم المسائل، ثم ذكر في المقدمة أنه أحياناً يعيدها مرة ثانية لوجود بعض المسائل التي لم تذكر في الأول، فهو يحيل في الثاني على بعض المسائل التي قد شرحها في الأول، ويبقى بعض المسائل التي لم يشرحها في السابق فيذكرها هنا كما يقول: فإذا تكررت المسألة في موضع آخر دون زيادة عليها ذكرتها في موضعها على نصها، وأحلت على تكلمي عليها في الموضع الأول، وإن تكررت في موضع آخر بمعنى زائد يحتاج إلى بيان والتكلم عليه كتبتها أيضاً على نصها، وتكلمت على المعنى الزائد فيها، وأحلت في بقية القول فيها على الموضع الذي تكلمت عليه فيه من الرسم والسماع. انتهى كلامه رحمه الله.

وله كتاب من أنفس كتب المالكية وأدراها بالتعليل والمناقشة مع افتقاره وسهولته، وهو يدرسه محمد بن أحمد القرطبي وهو الذي يسمى (المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته أصول المدونة من الأحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات) هذا اسم هذا الكتاب، لكنه متداول عند الباحثين وطلاب العلم باسم (المقدمات) لـابن رشد ، أما اسمه فهو (المقدمات الممهدات لبيان ما اقتضته أصول المدونة من الأحكام الشرعيات والتحصيلات المحكمات لأمهات مسائلها المشكلات)، وهو اهتمام وعناية بالمدونة، وهذا الكتاب مختصر وهو جدير بطلاب العلم أن يجردوه.

طريقة الجرد في الكتب التي مثل (المدونة) و(التفريع) وغيره: إذا ضبطت أقوال مذهب معين في باب مثلاً دعنا نفترض أنه باب الصلاة, فعرفت المذهب المالكي أو عرفت المذهب الحنبلي بأدلته، وتفصيلاته، إذا ارتفع كعبك وعلا شأنك في الفقه فتأخذ هذا الكتاب (المقدمات) من كتاب الصلاة، وتقرأه على عجل فأي مسألة وافق فيها المالكية الحنابلة مثلاً فإنه لا إشكال، وإذا خالفها تقرأ وتتأمل منزعهم في هذا.

ليست القضية في نسبة القول إلى المالكية؛ لأنك تلاحظ بعض الإخوة الذين يهتمون بالفقه المقارن تجده يقول: وهذا قول فلان وفلان وفلان، وأحياناً نسبة القول فيها نوع من الفضفاضية، يعني: عبارة كبيرة؛ لأن مالكاً أحياناً يخالف الحنابلة في بعض التقييدات، فيقال: مالك و أحمد؛ مع أن المالكية عندهم تقييدات، وهذه فائدة قراءة هذه الكتب.

كثير من الإخوة يقول: أمسك كتاباً واهتم به وحولها دندن، وليست القضية أن تعرف أقوال المالكية وغيرها، القضية هو إعطاء طالب العلم ملكة فقهية يستطيع بإذن الله أن يدرك كثيراً من المسائل التي لا تحتاج إلا إلى سعة أفق ومعرفة في القواعد الفقهية وملكة فقهية، وهذه إنما تتأتى بكثرة الدربة، وكثرة قراءة كتب الأئمة الذين عنوا بذكر القواعد والتعليلات والأدلة، وما أبو العباس بن تيمية عنا ببعيد، فإنه رحمه الله ضبط المذهب الحنبلي، ثم دخل على الكتب الأخرى فقعدها وضبطها، حتى إن المالكي إذا جاء يستمع إلى تفريعات أبي العباس عند المالكية ظن أنه متخصص في المذهب المالكي، والسبب في هذا هو معرفة أصول كل إمام؛ لأن طالب العلم إذا أعطاه الله هذه الملكة فإن أي مسألة تعتريه من المسائل المستجدة، والنوازل الفقهية العصرية في هذا الزمان فإنه يستطيع أن يبين أن هذا القول على أصول مذهب مالك ، ويمكن أن يستخرج منه كذا، وإذا كان أصل مالك رحمه الله سليماً فإنك تستطيع أن تجوز هذه المسألة بناءً على أصل مالك، لكن المشكلة أحياناً في بعض مسائلنا أنه تأتينا مسألة عصرية، فنقول: ما حكم هذا؟ فتجدنا نبحث في أقوال كتب المذاهب فنقول: وهذه على مذهب أبي حنيفة كذا، وهذه على مذهب الشافعي كذا، ثم نقول: وهذه جائزة وهي موجودة في كتب الفقهاء، مع أن كل ما وجد في كتب الفقهاء لا يدل على جوازه، فتجد أحياناً اهتمام بعض الباحثين العصريين في عزو هذه المسألة العصرية إلى كتب المتقدمين، وهذا لا شك جيد في قصد معرفة قواعد الأئمة، أما أن يحسم بحلها أو حرمتها بناءً على أنها موجودة في كتب المالكية وكتب الحنابلة وكتب الشافعية وكتب الحنفية فهذا يحتاج إلى بحث آخر لمعرفة قوة الدليل من عدمه.

الكتاب الآخر، وقد تقدم ذكره وهو (عقد الجواهر الثمينة في مذهب عالم المدينة)، تأليف: عبد الله بن محمد بن شاس المتوفى سنة عشر وستمائة للهجرة، ويعد هذا الكتاب أحد الكتب الفقهية الخمسة المعتمدة عند المالكية والتي عكف عليها المالكية، وأهم مصدر من مصادر كتاب (الذخيرة) للقرافي هو هذا الكتاب، وقد ألفه ابن شاس حينما رأى قصوراً وضعفاً في الجملة لدى طلاب العلم في عدم قراءتهم لكتب المطولات كالمدونة والواضحة والمستخرجة والموازية، وكتاب النوادر والزيادات لـابن أبي زيد القيرواني فألف هذا الكتاب وقد لاقى اختلافاً وخلافاً ومناقشة لسبب تأليفه لهذا الكتاب؛ لأنه يضعف همة طلاب العلم، وقد قلت لكم: إن هذا الكتاب مطبوع بإشراف المجمع الفقهي لمنظمة المؤتمر الإسلامي، وهو في ثلاثة مجلدات، وقد تكلم الشاطبي رحمه الله في زمانه على سبب تأليفه وأطنب وقال: إن مثل هذه الكتب تضعف همم طلاب العلم، كيف لو رأوا أن هناك مختصرات المختصرات المختصرات، ولكن مع سهولة تحصيل العلم في هذا الزمان وسهولة البحث في هذا الزمان قل طلاب العلم، وقل أصحاب الجلد، وقل أصحاب التنقيب والتنقيش للأئمة، يقال: إن أحد المالكية قرأ المدونة وهي في طبعة ستة مجلدات، وفي بعضها ثماني مجلدات، قرأ المدونة أكثر من مائة مرة، فنسأل الله علو الهمة في طلب العلم، ولكن كما قال القائل:

إذا كان يلهيك حر المصيف ولبس الخريف وبرد الشتاء

ويلهيك حسن زمان الربيع فأخذك للعلم قل لي متى؟

إذا جاء وقت الصيف قلت: والله حر الآن وقت ذهاب مع الأهل، وقت دعة وراحة، وإذا جاء الشتاء، والشتاء ربيع المؤمن كما يقول عامر بن عبد الله بن الزبير فيما رواه أبو داود ، وكما يقول الشافعي: فإذا جاء الشتاء قسمناه كما قسمه أبو هريرة، فيأتي الشتاء فتنظر إلى الرمال الحمراء وأثرها في ذلك فتقول: إن شاء الله فيما بعد أطلب العلم، فأقول: فأخذك للعلم قل لي متى؟

(عقد الجواهر الثمينة) ألفه مؤلفه على نحو كتاب الوجيز لـأبي حامد الغزالي فرتبه على ترتيب الوجيز؛ لأن الغزالي عبقري زمانه، وألف كتاب الوجيز ورتبه ترتيباً حسناً فاستفاد ابن شاس من هذا الكتاب، وقد تحدثنا عن هذا الكتاب وذكرنا فوائده.

من الكتب أيضاً كتاب (الذخيرة) لـأبي العباس شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي المتوفى سنة أربع وثمانين وستمائة، ويعد كتاب (الذخيرة) وهو مطبوع طبعة دار الغرب في أكثر من عشرين مجلداً تقريباً، هذا الكتاب يعد موسوعة فقهية عند المالكية وعند غيرهم، وذكر المؤلف أنه جمع هذا الكتاب من خمسة كتب عكف عليها المالكية في زمانهم شرقاً وغرباً، وذكر هذه الكتب وهي (المدونة) لـسحنون، و(عقد الجواهر الثمينة) لـابن شاس ، وهذا اهتم به كثيراً، و(التلقين) للقاضي عبد الوهاب المالكي ، و(التفريع) لـابن الجلاب عبيد الله بن حسين كما ذكرناه، والرابع (الرسالة) لـأبي زيد القيرواني فاستقصى ما في هذه الكتب، وزاد عليها كثيراً من أربعين كتاباً من كتب المالكية في زمانه، ويعتمد القرافي في الاستدلال على شرح البخاري و مسلم وموطأ مالك، ولا يهمل نصاً منها مع بعض الزيادات الواردة في الكتب، وقد ذكر في مقدمة كتابه مقدمتين: الأولى في فضل العلم وآدابه، والثانية في قواعد الفقه وأصوله، وقد أفردت في (شرح تنقيح الفصول في أصول الفقه) وهو مطبوع أيضاً، يقول ابن فرحون المالكي: والذخيرة من أجل كتب المالكية.

من كتب متأخري المالكية في الفقه

طيب! بعد الذخيرة ننتقل إلى الكتب المتأخرة من كتب المالكية المتأخرة، وأول هذه الكتب هو (المختصر في الفقه المالكي) تأليف العلامة: خليل بن إسحاق المالكي العسكري المتوفى سنة سبع وستين وسبعمائة، وهذا الكتاب هو أشهر مختصر في الفقه عند المالكية وعليه الاعتماد عليه عند المالكية حتى سمي المالكية بعده بالخليليين، وكتب عليه أكثر من ستين شرحاً.

وقد سمي بالمختصر لأن -كما ذكرنا فيما سبق- هذا الكتاب مختصر من كتاب آخر اسمه (مختصر ابن الحاجب ) الذي اسمه (جامع الأمهات)، فألف خليل هذا الكتاب وذكر في مقدمة كتابه بعض المصطلحات التي فيها, مشيراً فيها (للمدونة)، وإلى اختلاف شارحيها في فهمها وبـالاختيار للخمي ، لكن ما كان بصيغة الفعل (اختاره) فذلك لاختياره هو في نفسه، يقول: فإذا قلت: اختاره يعني: اللخمي الذي هو اختاره، وإذا قلت: اختيار فإنما هو لاختياره من الخلاف الذي ذكر وغيرها من المصطلحات التي ذكرها ولا نطيل في مثلها، وهي موجودة في أول مقدمة الكتاب.

الكتاب الآخر هو (المعيار المعرب والجامع المغرب عن فتاوى علماء أفريقية والأندلس والمغرب) لـأبي العباس أحمد بن يحيى الونشريسي المتوفى سنة أربعة عشر وتسعمائة للهجرة، ويعد الونشريسي من محققي المذهب المالكي، ومن أذكياء المذهب وغالب كتبه نفيسة في القواعد وفي الفقه، وقد خرج هذا الكتاب جماعة من الفقهاء بإشراف محمد حجي في طبعة دار الغرب الإسلامي سنة ألف وأربعمائة وواحد للهجرة، وقد رتبه على أبواب الفقه من مسائل الطهارة إلى مسائل الأقضية والشهادة والدعاوى والأيمان وختمه بكتاب الجامع، وبالمناسبة فإن غالب كتب المالكية يذكرون في آخرها كتاب الجامع تأسياً بالموطأ، يقال: إن أول من ذكر كلمة كتاب الجامع هو الإمام مالك رحمه الله، فتأسى المالكية به، أما بعض الكتب الأخرى فإنها لا تذكر هذا؛ لأنها تضع في كل مسألة أقربها شبهاً بها، ولو سألت طالب العلم مثلاً في مسألة من المسائل عند المالكية ربما لا يعرف مكانها، ويصعب عليه ذلك، أما اليوم فسهل ذلك بوجود الأجهزة الحاسوبية التي تسهل على طالب العلم الحصول عليها.

ومن الكتب أيضاً شراح (مختصر خليل)، وأهم كتاب لشرح (مختصر خليل) واعتنى به المالكية وقضاتهم هو كتاب (مواهب الجليل) لـأبي عبد الله محمد بن محمد المعروف بـالحطاب ، فقد اعتنى ابن الحطاب رحمه الله بالشروح التي ظهرت قبله كشرح الشيخ مهران و الحسن بن الفرات و الأقفهي و التلمساني و ابن غازي وغيرهم، وذكر الحطاب المالكي منهجه في ذلك في أول كتابه، وقد اهتم بفك عبارة (مختصر خليل) ورموزها وغوامضها، وذكر الاستدلال لها، وذكر الأدلة من الكتاب والسنة، وأحياناً يعزو الأقوال إلى أصحابها، وكما قلت: إن (مواهب الجليل) من الكتب المعتمدة في الفتوى والقضاء عند المالكية، ويحتل مكانة مرموقة، وقد طبع معه كتاب آخر وهو (التاج والإكليل مختصر خليل) لـمحمد بن يوسف العبدري الغرناطي المتوفى سنة سبع وتسعين وثمانمائة، والكتابان يعدان من أحسن شروح المختصر، ولا يقل الكتاب الآخر وهو كتاب (الشرح الكبير على متن خليل) للعلامة محمد بن عبد الله الخرشي المتوفى سنة ألف ومائة وواحد للهجرة، والمعروف باسم (شرح الخرشي على مختصر خليل)، وكان الخرشي شيخ المالكية في عصره، وهو أول من تولى مشيخة الأزهر، وقد شرح (مختصر خليل) بكتاب صغير، ثم شرحه بشرح مطول، وجاء الكتاب من أنفس كتب المالكية بعد أو مع (مواهب الجليل) و(التاج والإكليل)، بل أحياناً ثمة عبارات وتقييدات واستدلالات ومناقشات قل أن تجدها إلا في (شرح الخرشي على مختصر خليل)، وبهامش الكتاب تقييدات وحواشي زادها نوراً على نور من تعليقات علي الصعيدي العدوي على شرح الخرشي وهو مطبوع مع الشرح الكبير، وفيه تعليقات نفيسة لا يستغني طالب العلم عنها خاصة أن (مختصر خليل المالكي) من أصعب الكتب المختصرة، فعبارته أشبه بألغاز؛ والسبب في ذلك أنه رحمه الله أراد أن يجمع كثيراً من المسائل وبعض الإشارات في الخلاف، فجمع لأجل هذا بعض العبارات والألغاز التي تحتاج إلى معرفة سابقة في كتب المالكية المتقدمة والمتوسطة حتى يعرف ألغازهم، فأحياناً يختلف قول ابن القاسم عن قول مالك عن قول بعض كتب المتوسطين، فتحتاج إلى ترجيح فأحياناً (مختصر خليل) لا يذكر الترجيح، بل يكتفي بذكر الأقوال، فمن لم يعرف كتب المتقدمين وأثر الخلاف فيها ربما لا يستوعب هذا.

شروح مختصر خليل (شرح الزرقاني ) عبد الباقي بن يوسف الزرقاني المتوفى سنة تسع وتسعين وألف للهجرة، وهذا الكتاب جيد، وله حواش عليه كتبها محمد البناني . و التاوودي جعل حاشية على شرح الزرقاني ، فإن الزرقاني رحمه الله ربما لا يوافق الصواب عند المالكية فجاءت حاشية البناني و التاوودي مزيلة لبعض الإشكالات، وإن كان ذكره بالأدلة والمناقشات لا بأس بذلك.

من كتب المالكية أيضاً (حاشية الدسوقي ) محمد بن أحمد بن عرفة الدسوقي المتوفى سنة ثلاثين ومائتين وألف للهجرة، وقد ذكر الدسوقي عفا الله عنا وعنه أن هذا الكتاب أخذه واقتبس تعليقاته من كتب الأئمة الأعلام، وذكر أسماءهم في المقدمة، ووضع لكل منهم رمزاً، فهو مجموعة تعليقات من أئمة جمعها الدسوقي وحاشية الدسوقي كانت على (الشرح الكبير على مختصر خليل)، و(الشرح الكبير) لـأحمد الدردير على مختصر خليل، فجاءت حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لـأحمد الدردير وهذه التعليقات للدسوقي أكثرها بل عامتها إنما أخذها من الأئمة حيث يذكر حاشيته بعد كل عبارة من عبارات أحمد الدردير إذا أراد أن يتحدث عليها بعد أن يذكرها بين قوسين، ثم يذكر رمزاً لبيان أن هذه الزيادة من هذا العالم الذي ذكر رمزه في أول مقدمته.

وهناك كتب كبيرة، لكن أهمها هذه الكتب، وإذا قال لنا طالب العلم: ذكرت لنا كتباً كثيرة، ولو أردنا أن نجمعها لجمعنا مكتبة كبيرة، فهل من كتب ترشحها وتنتخبها تكون عوناً لنا لمعرفة المذهب المالكي، نستغني بها عن بعض الكتب الطويلة؟ أقول: إن كان ولا بد فخذها على عجل: (المدونة) و(مواهب الجليل)، و(شرح الخرشي)، والرابع لم نذكره وهو آخرها: (الكافي لـابن عبد البر ) وقد حققه بعض الباحثين الموريتانيين جزاهم الله خيراً، و(التفريع)، هذه أهم كتب المالكية، ولم أقل: (المقدمات الممهدات)؛ لأن ما فيها موجود في (المدونة).

أما (الاستذكار) و(التمهيد) فليست مهتمة بأقوال مالك ، وإن كان يذكر أقوال مالك ، لكن (الاستذكار) و(التمهيد) تهتم بأقوال السلف.

كتب الخلاف العالي عند المالكية

هناك كتب -وهي المرتبة الأخرى- تعتني بالخلاف العالي الذي يسميه الناس: الفقه المقارن، وأفضل كتب المالكية في الفقه المقارن هي: الكتاب الأول: (الاستذكار) لـأبي عمر بن عبد البر وهو مطبوع، وقد حققه محمد القلعجي ، الكتاب الآخر: (بداية المجتهد ونهاية المقتصد) لـابن رشد الحفيد الفيلسوف، وقد ذكر في نهاية كتاب العبادات أن غالب الأحاديث والآثار إنما أخذها من أبي عمر بن عبد البر في كتاب (الاستذكار).

الثالث من كتب الخلاف العالي: هو كتاب (الذخيرة) للقرافي.

والرابع: (الإشراف على مسائل الخلاف) للقاضي عبد الوهاب المالكي .

الخامس: (كتاب المعونة في مذهب عالم أهل المدينة).

هناك أمهات يسميها المالكية: الأمهات الأربع من كتب فقهاء المالكية، لم نر اهتماماً بها في هذا العصر إلا في كتاب واحد، وأما الكتب الثلاثة فبعضها مطبوع ضمن كتاب كما سوف يأتي بيانه، وكتابان ما زالا مخطوطين، أما أهم الكتب في الأربع هو: كتاب (المختلطة)، أو كتاب (الأم)، أو كتاب (المدونة)، أو (الكتاب)، فهذه أربعة أسماء للمدونة: (المدونة والمختلطة والأم والكتاب)، هذا اسمه عند المالكية.

أما تسميته بالمدونة فهذا ما سماه به أسد بن الفرات حينما ألف وجمع هذا الكتاب من عبد الرحمن بن القاسم حينما سأله عن بعض مسائل أهل العراق، فألف هذا الكتاب ثم ذهب به إلى المغرب، وسمي في المغرب: المدونة والأسدية، ثم جاء سحنون -كما ذكر ذلك القاضي عياض- فذهب إلى أسد بن الفرات فطلب منه هذا الكتاب، فأبى عليه، فما زال يلاطفه حتى أخذ الكتاب, ثم ذهب سحنون -وهو عبد السلام بن سعيد بن حبيب التنوخي- إلى عبد الرحمن بن القاسم، فعرض عليه كتاب أسد بن الفرات الذي جمعه منه، فرجع عبد الرحمن بن القاسم في بعض المسائل التي سمعها منه أسد بن الفرات ، وزاد سحنون بعض المسائل وهذبه ورتبه وجمع أي: ذكر بعض الأدلة والأحاديث التي سمعها من عبد الله بن وهب عن مالك ، فجاء هذا الكتاب بهذه الحلة القشيبة وهي (المدونة)، ثم كتب عبد الرحمن بن القاسم إلى أسد بن الفرات يأمره أن يترك هذا الكتاب الذي أخذه منه وأن يروي عنه هذا الكتاب الذي هو كتاب سحنون .

سميت (المدونة) بذلك لأجل أن أسد بن الفرات دونها عن عبد الرحمن بن القاسم، و عبد الرحمن بن القاسم إذا سئل فما سمعه من مالك قال فيه: سمعت مالكاً، وما لم يسمعه من مالك يقول: لم أسمعه ولكن كذا، فيذكر القول الذي لا يخرج عن أصول مذهب مالك رحمه الله، فسمي المدونة.

وسميت (المدونة) بالمختلطة؛ لأن مرويات سحنون عن ابن القاسم اختلطت مع مرويات أسد بن الفرات عن ابن القاسم فسمي بالمختلطة.

وسمي (الأم)؛ لأنه أمٌ، جمع فأوعى في مسائل مالك رحمه الله.

وسمي (الكتاب) لأن مرجع المالكية رحمهم الله رحمة واسعة إليه، ولهذا يقول ابن يونس المالكي: ما بعد كتاب الله أصلح من موطأ مالك وبعده مدونة سحنون ، يقول: وذلك لأنه تداولها من المجتهدين أربعة منهم: مالك و ابن القاسم و أسد بن الفرات و سحنون .

الكتاب الثاني من أمهات الكتب عند المالكية -وهو مخطوط وتم تحقيق جزء منه لنيل درجة الدكتوراه- هو: (الواضحة في السنن والفقه)، تأليف: عبد الملك بن حبيب بن سليمان ، وكان هذا الكتاب مصدراً من مصادر المالكية في القرن الثاني، أو القرن الثالث وأوائل الرابع، وسمي (الواضحة) لأن مؤلفه يذكر بعد كل باب: باب ما وضح من الصلاة، باب ما وضح من الحج وغير ذلك.

الثالث: (المستخرجة) وهي التي تسمى: (العتبية على الموطأ) أو (المستخرج على الموطأ) تأليف: محمد العتبي وهي مطبوعة مع شرحها (البيان والتحصيل) لـابن رشد أحمد بن محمد بن رشد رحمه الله المتوفى سنة عشرين وخمسمائة، (البيان والتحصيل شرح المستخرجة)، وهو كتاب جامع للروايات والمسائل الفقهية الشاذة، وكل مسألة غريبة يذكرها محمد العتبي رحمه الله.

الرابع من كتب الأمهات في أوائل انتشار المذهب المالكي: (الموازية) تأليف: محمد بن إبراهيم الإسكندري المعروف بـابن المواز، وهذه مخطوطة ولا أعلم أنها مكتملة، إنما فيها بعض الأوراق في القيروان، فهذه الكتب الأربعة.

جاء ابن أبي زيد القيرواني فألف كتاباً اسمه: (النوادر والزيادات)، فجمع هذه الكتب وهو قد طبع كاملاً، وأنصح طلاب العلم باقتنائه.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
مصادر علم الفقه [3] 1025 استماع
مصادر علم الفقه [1] 747 استماع
مصادر علم الفقه [4] 474 استماع