خطب ومحاضرات
مصادر علم الفقه [1]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.
اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل، وبعد:
فحديثنا عن علم مصادر الفقه، وقد اهتم أئمة الدين وعلماء كل منهج بمذهبهم تصنيفاً وتأليفاً وبياناً للمصطلحات، وتنويهاً على غوامض اللغة وأدلة الأحكام، ففرعوا وأصلوا وبينوا حتى لاقت هذه المذاهب قبولاً وعناية لدى العالم الإسلامي كافة. وكلما حظي العالم بطلبة علم يبينون أقواله، وينشرون مذهبه كلما كان لهذا المذهب انتشار واسع، ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله فيما يذكره بعض علماء السير: كان الليث بن سعد عالم أهل مصر أفقه من مالك إلا أن الليث لم يكن له طلاب ينشرون علمه ومذهبه، فهذا يدل على أن الله سبحانه وتعالى من نعمته لعبده أن يهيئ له طلاب علم ينشرون مذهبه وأقواله واختياراته، ولهذا كان أبو حنيفة رحمه الله والإمام الشافعي ، وكذا مالك، وكذا أحمد ممن أنعم الله عليهم بعلماء ينقلون مذهبهم ويبينون أصولهم، ويفرعون ويخرجون على أقوالهم، فنالوا قصب السبق في ذلك حتى إنه ربما لو سألت بعض صغار طلبة العلم عن زيد بن ثابت أو معاذ بن جبل الذي يأتي يوم القيامة وقد سبق العلماء برتوة فإنه لا يعرفه، ولربما علم مذهب أبي حنيفة أو مالك أو الشافعي أو أحمد ، ولهذا في زماننا هذا ما من العلماء ممن وفقهم الله سبحانه وتعالى بطلاب ينشرون أقوالهم ويصنفون ترجيحاتهم وينشرونها إلا كان لهذا الإمام ظهوراً وانتشاراً لأقواله، وإن كان ربما يكون من العلماء من هو أعلم منه بالسنة، وأقعد منه في الأصول والفقه والبيان إلا أنه لم يحظ بطلاب علم ينشرون مذهبه.
وبين يدينا مذهب من مذاهب أئمة الإسلام نال تصنيفاً عريضاً، ونال انتشاراً واسعاً كبيراً، ذاك المذهب هو المذهب المالكي.
التعريف بالإمام مالك
و مالك بن أنس أجمعت طوائف العلماء على إمامته وعلى جلالته وعظم سيادته، وتبجيله وتوقيره، والإذعان له في الحفظ والتثبت، وتعظيم حديثه، وتعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده، حتى قال الإمام الشافعي رحمه الله: لولا مالك و سفيان -يعني ابن عيينة - لذهب إلى الحجاز، وكان مالك من شدة تثبته -كما سوف نبين ذلك- إذا شك في حديث تركه كله؛ تبجيلاً وتعظيماً وتثبتاً في أحاديث محمد صلى الله عليه وسلم، وكان متثبتاً في خبر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يكاد يروي حديثاً إلا حينما يعلم حسن معتقد وعبادة الراوي وتثبتاً في حفظه ودرايته، ولهذا جاء أيوب بن أبي تميمة السختياني إلى الحج، وكان الناس إذا جاءوا إلى الحج يفدون إلى المدينة، وكان مالك رحمه الله كثر شيوخه بسبب ذلك حتى قيل: إنه أخذ العلم عن تسعمائة شيخ؛ ثلاثمائة من كبار التابعين، وستمائة من أتباع التابعين، فلما حضر أيوب السختياني إلى المدينة وكان أيوب معظماً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول مالك : حج أيوب مرتين و أيوب السختياني من أوثق الناس، ولم يسمع منه مالك إلا في السنة الثانية، أما السنة الأولى فجلس مالك يراقب أيوب ويترقب فعله وعبادته وحسن تثبته، يقول مالك : فكنت أرمقه -يعني: بذلك: أيوب- فكان حسن العبادة، وكان إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده بكى حتى نرحمه، فكتبت عنه، وكان رحمه الله يعلم عن أناس بالمدينة يقول عنهم مالك: إن بالمدينة أقواماً ممن يتنجد بهم المطر -يعني: أتوسل إلى الله بدعائهم- لا أقبل منهم حديث واحداً. فكان لأجل هذا التثبت من مالك قال كثير من أهل العلم: كل راوٍ روى عنه مالك فهو ثقة، والأمر كما قالوا إلا في شيخين اغتر بهما مالك كما ذكر ذلك أئمة علم الجرح والتعديل منهم: عبد الكريم بن أبي المخارق وهو ضعيف، وقد روى له مالك ، وقد ذكر كثير من أهل العلم أنه ضعيف، ولكن مالكاً احتج به، ولأجل تعظيم مالك لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبجيله كان الناس يأخذون عنه، يقول وهب بن خالد: ما بين المشرق والمغرب رجل آمن على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من مالك ، حتى قيل للإمام أحمد رحمه الله: الرجل يحب أن يحفظ حديث رجل من الرواة، فما ترى؟ قال: عليك بحديث مالك ، قيل له: فالرأي؟ قال: رأيي رأي مالك .
وتميز الإمام مالك رحمه الله بمزايا:
تعظيم الإمام مالك للحديث
قال ابن سلمة الخزاعي : كان مالك إذا أراد أن يخرج ليحدث -يعني: يُسمِع الحديث- توضأ وضوءه للصلاة، ولبس أحسن ثيابه، ومشط لحيته، فقيل له في ذلك، فقال: أوقد به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر القاضي عياض في ترجمته لـمالك رحمه الله شدة تعظيم مالك للنبي صلى الله عليه وسلم وحديثه، حتى إن مالك بن أنس كان إذا أراد أن يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتعد واقشعر جنبه وطأطأ رأسه وبكى حتى يرحمه الحاضرون، وربما خرجوا منه وهو ما زال يبكي شوقاً ولهفاً إلى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له، فقيل له: يا أبا عبد الله نراك إذا حدثت يوماً ما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبكي حتى لا نسمع حديثك؟
قال: أتستكثرون هذا مني؟! فإني رأيت أيوب السختياني -وحج أيوب مرتين- كان إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده بكى ثم بكى حتى نرحمه، وهذا عامر بن عبد الله بن الزبير ، وكان من العباد إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم اصفر لونه حتى نرحمه، وهذا صفوان بن سليم وكان من العباد حقاً، كان إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم اصفر لونه, ثم بكى حتى يقوم الناس عنه، وهذا محمد بن شهاب الزهري -والكلام لـمالك - وإنه لمن أهنأ الناس -يعني: من أحب الناس إلي- كان إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده بكى حتى لا نسمع حديثه. فهذه سلسلة مشى عليها مالك بن أنس ، وينبغي أن يتحلى بها طالب العلم، نعم ينبغي أن يعرف طالب العلم أثر العلم الذي يحمله، وكلما عظمت سنة محمد صلى الله عليه وسلم في قلب العبد ازداد هيبة وخوفاً ووجلاً من الحبيب عليه الصلاة والسلام.
ولأجل مهابة مالك لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم قذف الله في قلوب خلقه مهابة وإجلالاً لـمالك رحمه الله, حتى يقول أبو مصعب الزهري وهو من تلاميذ مالك : كانوا يزدحمون على باب مالك بن أنس ، فيقتتلون على الباب من الزحام، وكنا نكون عند مالك فلا يكلم هذا هذا، ولا يلتفت هذا إلى ذاك، والناس قائمون برءوسهم هكذا -يعني: يطأطئون رءوسهم هيبة لـمالك- وكانت السلاطين تهابه، وهم قائمون ومستمعون، -والكلام لـأبي مصعب الزهري - وكان يقول في المسألة: لا، أو نعم، فلا يقال له: من أين؟ ولم؟ كل ذلك إجلال من الناس لـمالك رحمه الله.
وكان أبو مصعب يقول:
يدع الجواب فلا يناقش هيبة فالسائلون نواكس الأذقان
نور الوقار وعز سلطان التقى ذاك التقي وليس ذا سلطان
والباب في هذا عريض لـمالك بن أنس.
تعظيم الإمام مالك لشيوخه
هكذا ينبغي أن يكون طالب العلم، وقد كان مالك رحمه الله هكذا، حتى إنه من عظم تبجيله لشيوخه كان إذا سئل يقول: سلوا أهل العلم، سلوا فلان سلوا فلان، فقال مالك مرة: لا ينبغي للطالب أن يفتي حتى يسأل شيوخه هل يصلح لذلك أم لا؟ فقد سألت فلاناً وفلاناً و يحيى بن سعيد ، و ربيعة بن عبد الرحمن هل يروني صالحاً لذلك؟ فكلهم قالوا لي: أنت تصلح لذلك، قال الراوي: يا أبا عبد الله أرأيت لو منعوك أكنت تنتهي؟ قال: نعم، لا ينبغي للمرء أن يفتي حتى يراه أهل العلم صالحاً لذلك، الله أكبر! لو طبق طلاب العلم هذا الأمر لسقط الخلاف كما يقول الغزالي .
ولأجل هذا الأمر وكثرة شيوخ مالك رحمه الله صار يتميز بمعرفته للسنن ومعرفته لآثار الصحابة أكثر من غيره ممن كان في وقته, حتى ضربت أكباد الإبل لأجل سماع حديث مالك ، ولأجل هذا كان رحمه الله لا يجتهد مع أنه أهل لذلك إلا أن يسمع في المسألة قولاً سبقه إلى ذلك، وهكذا صار أئمة الدين، قال أحمد : لا تقل بمسألة إلا وقد سبقك بها إمام.
جاء رجل من بلاد بعيدة إلى مالك بن أنس يقول الراوي: وكنا عند مالك ، فقال: يا أبا عبد الله ! جئت إليك من بلاد بعيدة قد حملني أهل بلدي مسائل جئت أسألك عنها، قال مالك: ادن, أي: اقترب, قال: فجثى على ركبته وكان معه كتاب فقرأه، قال مالك: لا أحسن، قال: فسكت الرجل.. كيف؟ قال مالك: لا أحسن يعني: لا أعرفها، وكانت من المسائل المستجدة العصرية، قال: أنت مالك بن أنس وتقول: لا أحسن، فسكت مالك ، قال: يا أبا عبد الله ماذا أقول للناس؟ الناس الآن خلفي ماذا أقول لهم؟ قال: قل لهم: يقول مالك بن أنس: لا أحسن، الله أكبر كلمة سهلة ميسورة, ولهذا قال أهل العلم: إذا ترك العالم قول: (لا أدري) أصيبت مقاتله.
كثرة شيوخ الإمام مالك
وقد ذُكر أن الإمام الشافعي رحمه الله بعدما جلس مع محمد بن الحسن الحنفي ، فكان محمد بن الحسن يقول للشافعي: صاحبنا أعلم من صاحبكم بالقياس، فكان الشافعي يسكت، وكان إذا تحدث في مسألة من القياس قال: صاحبنا -يعني بذلك أبا حنيفة - أعلم من صاحبكم، يقول الشافعي : فلما أكثر محمد قلت له: سألتك بالله -وقد كان الشافعي رحمه الله تتلمذ على مالك بن أنس حتى قال: مالك بن أنس معلمي ومنه أخذنا العلم- يا محمد ! صاحبكم أعلم بكتاب الله أو صاحبنا؟ قال: فسكت محمد فقال: صاحبكم، ثم قال: فقلت له: سألتك بالله! أصاحبكم أعلم بسنة محمد صلى الله عليه وسلم أم صاحبنا؟ قال: فسكت، ثم قال: صاحبكم، ثم سألته -يقول الشافعي -: سألتك بالله أصاحبكم أعلم من صاحبنا بآثار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فطأطأ رأسه قال: صاحبكم، قال الشافعي : ولم يبق إلا القياس، وكل من قاس على فهم القرآن والسنة وأقوال صحابة محمد فهو أولى من غيره، والسلام.
مناظرة بسيطة بينت فضل كل عالم من العلماء وانتهت القضية، وطويت صفحة جديدة في مناظرة أخرى، والواقع أن مناظراتنا أحياناً تختلف كثيراً عن مناظرات سلف هذه الأئمة؛ لأن مناظرات أئمة الدين وعلماء الملة كان مقصودها إعذار الآخرين بوجود الخلاف، بمعنى: أن كل واحد يبين وجهة دليله ومنطق دليله حتى يعذره الآخر، والآخر يبين له حجته وتنبيه العلل التي اختارها حتى يعذره الآخر، أما اليوم فتجد أننا أحياناً في وقت مناظراتنا نقول: تعال يا فلان اجلس، أنا سوف أقنعك، ويقول الآخر: لا، بل أنا سوف أقنعك، فتجد أن كل واحد قد جمع رباط جأشه، واستجمع أدلته ليرد به على صاحبه، بغض النظر عن دليل صاحبه هل هو قوي أم لا؛ ولذا أصبحت ترى مع الأسف أن أحياناً أدلة الخصوم -كما يسميها علماء المناظرة- عندهم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير، ولكن المخالف يقول: وأما هذا الحديث فإنه قد تكلم فيه فلان وهو ضعيف، وفي اعتقادي أنه ربما يكون ليس ضعيفاً، ثم يقول: ويحتمل أن فيه كذا، ويحتمل أن فيه كذا، ويحتمل أن فيه كذا، ثم يقول: والحديث إذا تطرق إليه احتمال بطل به الاستدلال، وهذه قاعدة مغلوطة عند كثير من مصدقيها، ويقول أبو العباس بن تيمية رحمه الله في المجلد السابع: وينبغي أن يحمل كلام الله وكلام رسوله على ما أراده الله وأراده رسوله لا على ما أراده المجتهد في نفس الأمر، فإن كثيراً من أصحاب المذاهب -والكلام لـابن تيمية - ربما ترك الحديث؛ لأنه لا يوافق مذهب شيخه، وربما أول له التأويلات مع مخالفتها لظاهر كلام الله وكلام رسوله، أما الأئمة فإنهم رحمهم الله يقصدون بالمناظرة الإعذار عن كل واحد من الآخر.
ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله في القواعد النورانية: إن أصول مذهب مالك في المعاملات المالية أحسن الأصول؛ لأن مالك بن أنس أخذ المعاملات المالية من سعيد بن المسيب يقول: وكان لـأحمد رحمه الله الفوز في ذلك، فإنه أخذ في المعاملات المالية أصول سعيد ، وأخذ في الحج أصول عطاء ، وكان عطاء أفقه الناس في المناسك، ويقول ابن تيمية رحمه الله: وإذا تبين أن إجماع المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة علم بذلك أن قولهم أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأياً, ولذا صار ما يسمى: بحجية عمل أهل المدينة، يقول ابن تيمية : ولم يذكر في مصر من الأمصار أن قوله حجة، وما ينقل عن أبي حنيفة أن إجماع أهل الكوفة حجة كذب عليه.
ومؤسس هذا المذهب هو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن غيمان بن خثيل الأصبحي، إمام دار الهجرة الذي جاء في الحديث وإن كان في سنده ضعف: ( يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل فلا يجدون عالماً إلا عالم أهل المدينة )، وإذا هو مالك بن أنس رحمه الله.
و مالك بن أنس أجمعت طوائف العلماء على إمامته وعلى جلالته وعظم سيادته، وتبجيله وتوقيره، والإذعان له في الحفظ والتثبت، وتعظيم حديثه، وتعظيم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده، حتى قال الإمام الشافعي رحمه الله: لولا مالك و سفيان -يعني ابن عيينة - لذهب إلى الحجاز، وكان مالك من شدة تثبته -كما سوف نبين ذلك- إذا شك في حديث تركه كله؛ تبجيلاً وتعظيماً وتثبتاً في أحاديث محمد صلى الله عليه وسلم، وكان متثبتاً في خبر الرسول صلى الله عليه وسلم حتى لا يكاد يروي حديثاً إلا حينما يعلم حسن معتقد وعبادة الراوي وتثبتاً في حفظه ودرايته، ولهذا جاء أيوب بن أبي تميمة السختياني إلى الحج، وكان الناس إذا جاءوا إلى الحج يفدون إلى المدينة، وكان مالك رحمه الله كثر شيوخه بسبب ذلك حتى قيل: إنه أخذ العلم عن تسعمائة شيخ؛ ثلاثمائة من كبار التابعين، وستمائة من أتباع التابعين، فلما حضر أيوب السختياني إلى المدينة وكان أيوب معظماً لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم - يقول مالك : حج أيوب مرتين و أيوب السختياني من أوثق الناس، ولم يسمع منه مالك إلا في السنة الثانية، أما السنة الأولى فجلس مالك يراقب أيوب ويترقب فعله وعبادته وحسن تثبته، يقول مالك : فكنت أرمقه -يعني: بذلك: أيوب- فكان حسن العبادة، وكان إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده بكى حتى نرحمه، فكتبت عنه، وكان رحمه الله يعلم عن أناس بالمدينة يقول عنهم مالك: إن بالمدينة أقواماً ممن يتنجد بهم المطر -يعني: أتوسل إلى الله بدعائهم- لا أقبل منهم حديث واحداً. فكان لأجل هذا التثبت من مالك قال كثير من أهل العلم: كل راوٍ روى عنه مالك فهو ثقة، والأمر كما قالوا إلا في شيخين اغتر بهما مالك كما ذكر ذلك أئمة علم الجرح والتعديل منهم: عبد الكريم بن أبي المخارق وهو ضعيف، وقد روى له مالك ، وقد ذكر كثير من أهل العلم أنه ضعيف، ولكن مالكاً احتج به، ولأجل تعظيم مالك لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبجيله كان الناس يأخذون عنه، يقول وهب بن خالد: ما بين المشرق والمغرب رجل آمن على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من مالك ، حتى قيل للإمام أحمد رحمه الله: الرجل يحب أن يحفظ حديث رجل من الرواة، فما ترى؟ قال: عليك بحديث مالك ، قيل له: فالرأي؟ قال: رأيي رأي مالك .
وتميز الإمام مالك رحمه الله بمزايا:
أولها: تعظيمه لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوقيره لسنة النبي صلى الله عليه وسلم حتى ذكر علماء السير أن مالك بن أنس رحمه الله لم يركب دابة في المدينة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم مدفون فيها، وهذا من اجتهادات العلماء، وإن كان سلف هذه الأمة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكروها، وطبيعة العالم أنه يقع وينقدح في ذهنه بعض النكت واللطائف العلمية فتجده يأخذ بها، وإن كان لا يرى أنها سنة، وعلى هذا سار كثير من أهل العلم حتى كان أحمد بن حنبل رحمه الله إذا رأى نصرانياً أغمض عينيه أو طأطأ رأسه، فقيل له في ذلك قال: لا أحب أن أرى رجلاً يقول: المسيح ابن الله يكفر بالله سبحانه وتعالى، مع العلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أفضل من مالك وأفضل من أحمد ، ومع ذلك لم يصنعوا مثلما فعلوا؛ ولكن كما أشار أبو العباس بن تيمية رحمه الله أن المرء يأتيه بعض الروحانية، وبعض اللفتات فيتأملها وربما فعلها ولا يرى أن تطبق على أنها سنة.
قال ابن سلمة الخزاعي : كان مالك إذا أراد أن يخرج ليحدث -يعني: يُسمِع الحديث- توضأ وضوءه للصلاة، ولبس أحسن ثيابه، ومشط لحيته، فقيل له في ذلك، فقال: أوقد به حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقد ذكر القاضي عياض في ترجمته لـمالك رحمه الله شدة تعظيم مالك للنبي صلى الله عليه وسلم وحديثه، حتى إن مالك بن أنس كان إذا أراد أن يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتعد واقشعر جنبه وطأطأ رأسه وبكى حتى يرحمه الحاضرون، وربما خرجوا منه وهو ما زال يبكي شوقاً ولهفاً إلى رؤية النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيماً له، فقيل له: يا أبا عبد الله نراك إذا حدثت يوماً ما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تبكي حتى لا نسمع حديثك؟
قال: أتستكثرون هذا مني؟! فإني رأيت أيوب السختياني -وحج أيوب مرتين- كان إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده بكى ثم بكى حتى نرحمه، وهذا عامر بن عبد الله بن الزبير ، وكان من العباد إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم اصفر لونه حتى نرحمه، وهذا صفوان بن سليم وكان من العباد حقاً، كان إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم اصفر لونه, ثم بكى حتى يقوم الناس عنه، وهذا محمد بن شهاب الزهري -والكلام لـمالك - وإنه لمن أهنأ الناس -يعني: من أحب الناس إلي- كان إذا ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده بكى حتى لا نسمع حديثه. فهذه سلسلة مشى عليها مالك بن أنس ، وينبغي أن يتحلى بها طالب العلم، نعم ينبغي أن يعرف طالب العلم أثر العلم الذي يحمله، وكلما عظمت سنة محمد صلى الله عليه وسلم في قلب العبد ازداد هيبة وخوفاً ووجلاً من الحبيب عليه الصلاة والسلام.
ولأجل مهابة مالك لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم قذف الله في قلوب خلقه مهابة وإجلالاً لـمالك رحمه الله, حتى يقول أبو مصعب الزهري وهو من تلاميذ مالك : كانوا يزدحمون على باب مالك بن أنس ، فيقتتلون على الباب من الزحام، وكنا نكون عند مالك فلا يكلم هذا هذا، ولا يلتفت هذا إلى ذاك، والناس قائمون برءوسهم هكذا -يعني: يطأطئون رءوسهم هيبة لـمالك- وكانت السلاطين تهابه، وهم قائمون ومستمعون، -والكلام لـأبي مصعب الزهري - وكان يقول في المسألة: لا، أو نعم، فلا يقال له: من أين؟ ولم؟ كل ذلك إجلال من الناس لـمالك رحمه الله.
وكان أبو مصعب يقول:
يدع الجواب فلا يناقش هيبة فالسائلون نواكس الأذقان
نور الوقار وعز سلطان التقى ذاك التقي وليس ذا سلطان
والباب في هذا عريض لـمالك بن أنس.
الميزة الثانية التي امتاز به مالك رحمه الله: تعظيمه لشيوخه، وعدم الارتفاع عنهم، ومعرفة قدرهم وفضلهم، فلا يكاد يروي أو يحدث إلا أن يستأذن شيوخه في ذلك، وقد ذكر الشاطبي في الموافقات: أنه ينبغي لطالب العلم أن يكثر جثيه على الركب بين يدي علمائه حتى يعلم قدرهم ويعرف فضلهم، ويتميز بمزاياهم، ثم قال: ولذا كان الأئمة الأربعة على هذا المنوال، ولـمالك قصب السبق في ذلك -والكلام للشاطبي - ولذا عيب على أبي محمد بن حزم قلة جثيه على الركب بين يدي علمائه.
هكذا ينبغي أن يكون طالب العلم، وقد كان مالك رحمه الله هكذا، حتى إنه من عظم تبجيله لشيوخه كان إذا سئل يقول: سلوا أهل العلم، سلوا فلان سلوا فلان، فقال مالك مرة: لا ينبغي للطالب أن يفتي حتى يسأل شيوخه هل يصلح لذلك أم لا؟ فقد سألت فلاناً وفلاناً و يحيى بن سعيد ، و ربيعة بن عبد الرحمن هل يروني صالحاً لذلك؟ فكلهم قالوا لي: أنت تصلح لذلك، قال الراوي: يا أبا عبد الله أرأيت لو منعوك أكنت تنتهي؟ قال: نعم، لا ينبغي للمرء أن يفتي حتى يراه أهل العلم صالحاً لذلك، الله أكبر! لو طبق طلاب العلم هذا الأمر لسقط الخلاف كما يقول الغزالي .
ولأجل هذا الأمر وكثرة شيوخ مالك رحمه الله صار يتميز بمعرفته للسنن ومعرفته لآثار الصحابة أكثر من غيره ممن كان في وقته, حتى ضربت أكباد الإبل لأجل سماع حديث مالك ، ولأجل هذا كان رحمه الله لا يجتهد مع أنه أهل لذلك إلا أن يسمع في المسألة قولاً سبقه إلى ذلك، وهكذا صار أئمة الدين، قال أحمد : لا تقل بمسألة إلا وقد سبقك بها إمام.
جاء رجل من بلاد بعيدة إلى مالك بن أنس يقول الراوي: وكنا عند مالك ، فقال: يا أبا عبد الله ! جئت إليك من بلاد بعيدة قد حملني أهل بلدي مسائل جئت أسألك عنها، قال مالك: ادن, أي: اقترب, قال: فجثى على ركبته وكان معه كتاب فقرأه، قال مالك: لا أحسن، قال: فسكت الرجل.. كيف؟ قال مالك: لا أحسن يعني: لا أعرفها، وكانت من المسائل المستجدة العصرية، قال: أنت مالك بن أنس وتقول: لا أحسن، فسكت مالك ، قال: يا أبا عبد الله ماذا أقول للناس؟ الناس الآن خلفي ماذا أقول لهم؟ قال: قل لهم: يقول مالك بن أنس: لا أحسن، الله أكبر كلمة سهلة ميسورة, ولهذا قال أهل العلم: إذا ترك العالم قول: (لا أدري) أصيبت مقاتله.
المزية الثالثة: كثرة شيوخ مالك رحمه الله كما سبق أن ذكرنا في أول كلامنا حتى إنه سمع وأخذ العلم عن تسعمائة شيخ, يقول مالك : ممن أرتضيهم علماً وورعا ًوتقى وعبادة وفقهاً، يعني: كان هناك علماء لم يأخذ عنهم مالك في زمانه؛ لأن مالكاً لم يرتضيهم، ولأجل هذا قال علي بن المديني رحمه الله: لم يكن في المدينة أعلم بمذهب تابعيهم من مالك بن أنس، وقد كان في عصر التابعين وأتباع التابعين أصح مذاهب المدائن الإسلامية -كما يقول أبو العباس بن تيمية- شرقاً وغرباً في الأصول والفروع هو مذهب أهل المدينة؛ ولذا فـمالك تعلم منهم ونال قصب السبق, ولهذا كانت أصول مذهب مالك أقعد وأضبط الأصول كما أشار إلى ذلك غير واحد من أهل العلم.
وقد ذُكر أن الإمام الشافعي رحمه الله بعدما جلس مع محمد بن الحسن الحنفي ، فكان محمد بن الحسن يقول للشافعي: صاحبنا أعلم من صاحبكم بالقياس، فكان الشافعي يسكت، وكان إذا تحدث في مسألة من القياس قال: صاحبنا -يعني بذلك أبا حنيفة - أعلم من صاحبكم، يقول الشافعي : فلما أكثر محمد قلت له: سألتك بالله -وقد كان الشافعي رحمه الله تتلمذ على مالك بن أنس حتى قال: مالك بن أنس معلمي ومنه أخذنا العلم- يا محمد ! صاحبكم أعلم بكتاب الله أو صاحبنا؟ قال: فسكت محمد فقال: صاحبكم، ثم قال: فقلت له: سألتك بالله! أصاحبكم أعلم بسنة محمد صلى الله عليه وسلم أم صاحبنا؟ قال: فسكت، ثم قال: صاحبكم، ثم سألته -يقول الشافعي -: سألتك بالله أصاحبكم أعلم من صاحبنا بآثار أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، قال: فطأطأ رأسه قال: صاحبكم، قال الشافعي : ولم يبق إلا القياس، وكل من قاس على فهم القرآن والسنة وأقوال صحابة محمد فهو أولى من غيره، والسلام.
مناظرة بسيطة بينت فضل كل عالم من العلماء وانتهت القضية، وطويت صفحة جديدة في مناظرة أخرى، والواقع أن مناظراتنا أحياناً تختلف كثيراً عن مناظرات سلف هذه الأئمة؛ لأن مناظرات أئمة الدين وعلماء الملة كان مقصودها إعذار الآخرين بوجود الخلاف، بمعنى: أن كل واحد يبين وجهة دليله ومنطق دليله حتى يعذره الآخر، والآخر يبين له حجته وتنبيه العلل التي اختارها حتى يعذره الآخر، أما اليوم فتجد أننا أحياناً في وقت مناظراتنا نقول: تعال يا فلان اجلس، أنا سوف أقنعك، ويقول الآخر: لا، بل أنا سوف أقنعك، فتجد أن كل واحد قد جمع رباط جأشه، واستجمع أدلته ليرد به على صاحبه، بغض النظر عن دليل صاحبه هل هو قوي أم لا؛ ولذا أصبحت ترى مع الأسف أن أحياناً أدلة الخصوم -كما يسميها علماء المناظرة- عندهم من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الشيء الكثير، ولكن المخالف يقول: وأما هذا الحديث فإنه قد تكلم فيه فلان وهو ضعيف، وفي اعتقادي أنه ربما يكون ليس ضعيفاً، ثم يقول: ويحتمل أن فيه كذا، ويحتمل أن فيه كذا، ويحتمل أن فيه كذا، ثم يقول: والحديث إذا تطرق إليه احتمال بطل به الاستدلال، وهذه قاعدة مغلوطة عند كثير من مصدقيها، ويقول أبو العباس بن تيمية رحمه الله في المجلد السابع: وينبغي أن يحمل كلام الله وكلام رسوله على ما أراده الله وأراده رسوله لا على ما أراده المجتهد في نفس الأمر، فإن كثيراً من أصحاب المذاهب -والكلام لـابن تيمية - ربما ترك الحديث؛ لأنه لا يوافق مذهب شيخه، وربما أول له التأويلات مع مخالفتها لظاهر كلام الله وكلام رسوله، أما الأئمة فإنهم رحمهم الله يقصدون بالمناظرة الإعذار عن كل واحد من الآخر.
ولهذا قال ابن تيمية رحمه الله في القواعد النورانية: إن أصول مذهب مالك في المعاملات المالية أحسن الأصول؛ لأن مالك بن أنس أخذ المعاملات المالية من سعيد بن المسيب يقول: وكان لـأحمد رحمه الله الفوز في ذلك، فإنه أخذ في المعاملات المالية أصول سعيد ، وأخذ في الحج أصول عطاء ، وكان عطاء أفقه الناس في المناسك، ويقول ابن تيمية رحمه الله: وإذا تبين أن إجماع المدينة تفاوت فيه مذاهب جمهور الأئمة علم بذلك أن قولهم أصح أقوال أهل الأمصار رواية ورأياً, ولذا صار ما يسمى: بحجية عمل أهل المدينة، يقول ابن تيمية : ولم يذكر في مصر من الأمصار أن قوله حجة، وما ينقل عن أبي حنيفة أن إجماع أهل الكوفة حجة كذب عليه.
استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
مصادر علم الفقه [3] | 1025 استماع |
مصادر علم الفقه [2] | 1003 استماع |
مصادر علم الفقه [4] | 474 استماع |