مصادر علم الفقه [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.

وبعد:

فحديثنا في بيان مصطلحات ومزايا المذهب الشافعي. ‏

ترجمة الإمام الشافعي ومولده

والمذهب الشافعي مؤسسه كما لا يخفى هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف فهو يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف ، وذلك أن عبد مناف له خمسة أولاد: هاشم وهو جد محمد صلى الله عليه وسلم، و المطلب وهو جد الشافعي و عبد شمس و نوفل و أبو عمرو ، فـالشافعي هو المطلبي؛ ولذا جاء في بعض الروايات كما رواه ابن عساكر و أبو يعلى من حديث ابن مسعود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه سوف يأتي عالم من قريش يملأ الناس علماً وفقهاً)، والحديث روي من طريقين: من طريق ابن مسعود ومن طريق علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عن الجميع، ولا يصح في الباب شيء، إلا أن أكثر أهل العلم ذكروا حديث الإمام أحمد و أبي داود وغيرهما من أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه يأتي على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها )، وذكروا أن الإمام الشافعي محمد بن إدريس المطلبي من جدد لهذا الدين ما اندثر ودرس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أخال منصفاً يشك في أن الإمام الشافعي رحمه الله مجدد لما اندرس من آثار النبوة وفقه الصحابة رضي الله تعالى عنهم جميعاً.

ولا غرو إذاً أن يقول الإمام أحمد رحمه الله في هذا الجهبذ حينما سأله ابنه: يا أبتاه! أي شيء يكون الشافعي فإني كثير ما أسمعك تقول: اللهم اغفر للشافعي وتدعو له كثيراً؟ قال: يا بني! الشافعي كالصحة لأهل العافية، وكالشمس لأهل الدنيا، فانظر هل ترى فيهما خلفاً؟ فهذا يدل على أن الإمام الشافعي رحمه الله بين ووضح وقعد، ولذا سماه الناس حينما جاء إلى بغداد في الرحلة الثانية سموه: ناصر السنة كما سوف يأتي بيانه إن شاء الله.

ولد الإمام محمد بن إدريس الشافعي في غزة في فلسطين سنة خمسين ومائة، وكان أبوه إدريس يعمل هناك، فتوفي والده وله من العمر سنتان، فأخذته أمه وكانت أمه قرشية واسمها فاطمة بنت الحسين وتنتسب إلى علي بن أبي طالب ، كذا ذكرها غير واحد من أهل العلم، وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في توالي التأسيس في مناقب محمد بن إدريس أن أمه لم تكن قرشية، إنما كانت أزدية، والعلم عند الله سبحانه وتعالى، غير أن أمه رحلت به من غزة إلى مكة.

الإمام الشافعي وطلبه للعلم حال صغره

فيذكر الإمام الشافعي رحمه الله أنه حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، حفظه على شيخ أهل زمانه في مكة، وهو إسماعيل بن الصمتي ، فأقبل على القرآن وحفظه، ثم ذهب إلى هذيل وكانت من أفصح العرب فأخذ شعرها ونثرها وأيام العرب، وقد ذكر مصعب بن عبد الله الزبيري أن الشافعي يقول: كان أول طلب الشافعي إنما هو للأدب وأيام العرب، ثم ذهب إلى الفقه بعد، فـالشافعي رحمه الله حفظ أشعار العرب، يقول الشافعي عن نفسه كما ذكر البيهقي في مناقبه، يقول: كنت أطلب النحو والأدب فأذهب إلى هذيل فأرحل معهم وأنزل معهم، فحفظت أشعارهم، فكان حجة في ذلك. وذكر رحمه الله عن نفسه كما ذكر ذلك الربيع بن سليمان قال: كان الشافعي يطلب النحو والأدب عشرين سنة، وهذا إنما كان على فترات، وإن كان رحمه الله قد حفظ شعر هذيل وأيام العرب وهو أقل من ثلاث عشرة سنة، كما يظهر ذلك في تراجمه وكلام أهل العلم فيه، إلا أنه كان يذهب بين الفينة والأخرى ليطلب أيام العرب والنحو والأدب، حتى قال الإمام الشافعي رحمه الله: ما أخذت النحو والأدب إلا لأستعين به على الفقه، ولهذا من رأى علم الشافعي في معان القرآن وفي اللغة، وفي فهم اختلاف العلماء علم علماً يقيناً أثر اللغة لدى طالب العلم، وحق للإمام الشافعي أن يصفه إمام جهبذ كـأحمد بن محمد بن حنبل حينما قال: الشافعي فيلسوف في أربع: في اللغة، واختلاف الناس، والمعاني، والفقه، والفيلسوف يسميه العلماء رجل الحكمة، فـالشافعي بلغ الحكمة والصواب في هذه الأربع وحسبك بها، حينما طلب الشافعي علم هذيل يقول الشافعي عن نفسه: كنت أطلب النحو والأدب في هذيل، فلقيني أحد الزبيريين فقال لي بعدما كنت أذهب إلى مكة فأذكر أشعارها، وهو ابن ثلاث عشرة سنة، فمر علي وأنا أحدث الناس بشعر هذيل، فقال لي: يا فتى! لو كانت هذه البلاغة وهذا الذكاء والعربية في الفقه والحديث، قال: فسألت الناس عن أعلم أهل الزمان في ذلك فأخبروني أنه مالك بن أنس ، قال: فذهبت أطلب كتابه الموطأ، فوجدته عند والي مكة فأخذته فحفظته وأنا ابن عشر سنين، ثم ذهبت إلى سفيان بن عيينة وطلبت الحديث على سفيان بن عيينة .

وقد علم الشافعي فضل الإمام مالك حينما كان سفيان بن عيينة يذكر مالكاً ، ويقول: من نحن عند مالك ؟ إنما نذكر أقوال مالك لنتأسى بها، وقد قال الإمام الشافعي رحمه الله: ما رأت عيني أحداً عنده من آلة العلم مثلما عند سفيان يعني: ابن عيينة ، وما رأت عيني أحداً أخوف عليه من ترك الفتيا مثل سفيان ، وما رأيت أحداً أحسن تفسيراً للحديث من سفيان .

هذا سفيان هو الذي قال فيه الشافعي رحمه الله: لولا مالك و سفيان لذهب علم الحجاز.

فمن مزايا الإمام الشافعي رحمه الله أنه طلب العلم وأخذه عن مشاهيرهم، فأخذ اللغة عن فصحاء العرب وهم هذيل، حتى صار بارعاً فيه لدرجة أن الأصمعي يقول: ما أخذت شعر هذيل إلا على فتى من قريش يقال له: محمد بن إدريس الشافعي ، ويقول الأصمعي : ما أخذت شعر الصعاليك إلا على فتى يقال له: محمد بن إدريس الشافعي .

ومن شعراء الصعاليك الشنفرى و تأبط شراً ، هؤلاء إنما حفظ الناس أشعارهم بالرواية، فحفظ الشافعي رحمه الله ذلك، فكان بارعاً في العربية لدرجة أن ابن هشام صاحب المغازي يقول: الإمام الشافعي يؤخذ عنه اللغة، ويقول ابن هشام أيضاً: لقد جالست الشافعي وسمعت كلامه، فما والله لحن قط، وما قال كلمة قلت: لو أنه قال غيرها لكان أفصح.

انظر البراعة والبيان، وهذه هي التي جعلت الشافعي رحمه الله يفوق غيره في ذلك، حتى إن الربيع بن سليمان يقول: لو رأيت الشافعي وفصاحته وحسن بيانه لرأيت عجباً، وإنه ليتكلم معنا بالكلام فما تعرف ما يقول، وإنه لو كتب كتبه هذه على لغة ما نسمعه ما قرأها أحد، وأنت تعلم إذا أردت أن تعرفه فاقرأ كتاب الأم.

كتاب الأم الشافعي رحمه الله أملاه على طلابه إملاءً في آخر السنين، وهو ابن واحد وأربعين سنة تقريباً أو اثنين وأربعين سنة، فإن الشافعي توفي وهو ابن ثماني وأربعين سنة أو سبع وأربعين سنة؛ لأن الشافعي انتقل إلى مصر سنة مائة وتسع وتسعين تقريباً، وتوفي فيها بعد أربع سنين ونصف، سنة أربع ومائتين للهجرة، والكلام في علم الشافعي في العربية كلام يطول، إلا أن لي وقفة في ذلك.

الإمام الشافعي رحمه الله استطاع أن يبين معان القرآن بلغة العرب، وقوة فهم الصحابة رضي الله عنهم على من جاء بعدهم، ولذا ذكر في كتاب الرسالة أنهم فوقنا في العلوم، وبين لم فاق الصحابة غيرهم بذلك بما منح الله هذا الإمام من أسلوب أدبي وبراعة لغوية، ومنهج في الفهم بارع، وقوة في الحجة، فبين أن الصحابة رضي الله عنهم يفوقون غيرهم ولذا قعد أن قول الصحابي إذا لم يخالف حجة كما في كتاب الرسالة.

بلغ الشافعي ثلاث عشرة سنة، وقد أخذ الفقه في مكة على يدي مسلم بن خالد الزنجي ، وهو فقيه مكة وقد سمي بـالزنجي لشدة بياضه وحمرته، وقد كانت العرب في الغالب تقلب هذه المعاني، وكان مسلم بن خالد الزنجي قد أمر الشافعي أيضاً أن ينتقل إلى دراسة الفقه.

إذاً: أخذ الشافعي الفقه عن مسلم بن خالد فقيه أهل مكة، وأخذه عن سفيان وعن مشاهير المحدثين في أهل مكة كـسفيان بن عيينة ، و عبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي ، و سعيد بن سالم القداح ، وغيرهم من مشاهير أهل الحديث.

رحلة الشافعي إلى مالك لطلب العلم

فلما بلغ الشافعي ثلاث عشرة سنة أحب أن يذهب ليستمع من مالك ، وقد حفظ موطأ مالك من ثلاث سنين خلت، قال الشافعي : فذهبت إلى والي مكة أطلب منه أن يكتب كتاباً إلى والي المدينة يذكرني عند مالك -هذه التي يسمونها واسطات أو تزكيات أو شفاعات لها سلف ولها أصل -وكان الشافعي ذا شرف لأنه مطلبي، فكتب والي مكة إلى والي المدينة يذكر فيه فضل الشافعي وشرفه، وأنه سوف يكون له شأن، قال الشافعي : فذهبت إلى والي المدينة فسلمت عليه، فأعطيته الكتاب فقرأه، فإذا فيه أن هذا رجل ذو شرف ومكانة، وهو يطلب العلم، ويريد أن يسمع موطأ مالك من مالك نفسه، فلما قرأ والي المدينة وكان مالك -كما سبق أن ذكرنا- مهاباً كما قال عنه بعضهم:

يدع الجواب فلا يناقش هيبة فالسائلون نواكص الأذقان

نور الوقار وعز سلطان التقى ذاك التقي وليس ذا سلطان

قال: فلما قرأ والي المدينة هذا الكتاب قال: يا بني! والله لأن أمشي حافياً من جوف المدينة إلى جوف مكة أهون علي من أن أقف على باب مالك لما أناله من الذل، قال الشافعي : لو كتبت في ذلك كتاباً؟ قال: وما يسمع مالك ، والله لو نعلم أن أرجلنا تغبر بالعقيق فنحصل منه على شيء لذهبنا، قال الشافعي : فما زلت به حتى ذهبت أنا وهو مع رسول معنا معه الكتاب، يقول الشافعي : فطرق رجل منا باب مالك ، فخرجت جارية سوداء فسلمت علينا، فقلنا: هلم مالك فدخلت، فأخبرت أن والي المدينة عند الباب، فخرجت إليهم وقالت: إن مالكاً يقول: إن كان عندك سؤال فاكتبه لنا برقعة حتى يأتيك الجواب، وإن كنت تريد غير ذلك فقد علمت مجلسنا فانصرف، قال: أخبري مالكاً أن عندي كتاب من والي مكة، وأنه مهم، قال: فدخلت الجارية, ثم خرجت وجاءتنا بكرسي قال الشافعي : فخرج مالك وإذا هو رجل عظيم طويل ذا مهابة، قال: فسلم عليه الوالي فأعطاه الكتاب، فقرأه مالك فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من فلان ابن فلان إلى فلان بن فلان، فهذا رجل ذو شرف ومكانة فاذهب به إلى مالك ومره أن يعلمه، وأن يفقهه وأن يحفظه الحديث، قال: فلما قرأه مالك ألقى الكتاب، وقال: سبحان الله! سبحان الله! سبحان الله! قد صار علم رسول الله صلى الله عليه وسلم يؤخذ بالوسائل -يعني: يؤخذ بالواسطات- فألقى الكتاب، فقال الشافعي: فعجز هذا الوالي أن يكلمه، قال: فتقدمت -وهو ابن ثلاث عشرة سنة- فتقدمت، فقلت: أصلحك الله يا شيخ! أنا رجل قرشي فذكرت له مسألتي وقصتي، قال: فابتدأت كلامي، ثم التفت إلي ونظر إلي -يقول الشافعي : وكان مالك ذا فراسة- وقال: ما اسمك؟ قلت: محمد ، فقال لي بتوِّه: يا محمد ! اتق الله! واجتنب المعاصي، فإنه سوف يكون لك شأن من الشأن -ابن ثلاث عشرة سنة التفت إليه مالك وعلم بفراسته من يكون الشافعي قال الشافعي : فقلت: نعم وكرامة -انظر للأدب فقال: إذا جاء الغد فأتنا في مجلسنا وأتي بمن يقرأ عليك، -يظن أنه لا يحسن أن يقرأ- قال: فقلت: أصلح الله الشيخ قد حفظته عن ظهر قلب، قال: فلما جئت الغد قرأت عليه فأعجب مالك بحسن صوتي وفصاحتي فكنت أتهيبه، فأردت أن أقف، فقال: زد زد زد فأزيد، حتى قرأت موطأه في أيام يسيرة، وكان مالك يعجب ببراعة وفصاحة هذا الإمام الصغير، فجلس الإمام الشافعي مع مالك بن أنس منذ سنة ثلاث وستين ومائة إلى سنة تسع وسبعين ومائة، يعني: إلى أن توفي مالك رحمه الله، يعني: جلس عنده ست عشرة سنة، والإمام الشافعي جالس يأخذ علم مالك رحمه الله، وكان هذه السنين يتخللها ذهاب الإمام الشافعي إلى أمه في مكة، وذهابه إلى هذيل لأخذ العربية منهم كما سبق أن ذكرنا عن الربيع بن سليمان أن الشافعي أخذ شعر هذيل في عشرين سنة.

فجلس الإمام الشافعي ست عشرة سنة يطلب العلم ويأخذ قواعد وأصول مذهب مالك رحمه الله، وهذه تسمى المرحلة الثانية.

والإمام الشافعي مع جلوسه مع مالك والعلماء يأتون إلى مالك فيستمعون منه، فعلم محمد بن الحسن -حينما جلس عند مالك ثلاث سنين في آخر عمره قبل وفاته عن الشافعي وفضله.

رحلة الشافعي إلى اليمن لطلب العلم

فلما توفي مالك رحمه الله انتقل الشافعي إلى مكة، وجلس فيها أياماً وشهوراً ثم انتقل إلى اليمن، وسبب انتقاله إلى اليمن أنه جاء والي اليمن زائراً لوالي المدينة، فطلب الإمام الشافعي أن يرحل معه، وقيل: إن سبب ذهاب الإمام الشافعي أنه توسط له بعض أشراف قريش أن يذهب مع والي اليمن، وذلك لأن الشافعي احتاج إلى المال ليشتري به الكتب، وينفق على نفسه، فذهب إلى اليمن وجلس بها إلى سنة أربع وثمانين ومائة، وجاءت فتنة العلويين، وأنهم يريدون قلب نظام الحكم على العباسيين، وكان أمير المؤمنين إذ ذاك هارون الرشيد ، فجاء الشافعي مع بعض طلاب العلم وبعض وجهاء اليمن وغيرهم إلى هارون الرشيد ، وكان هارون الرشيد يريد أن يسمع منه شيئاً -وكان العراق وقضاة العالم الإسلامي أكثرهم من الأحناف، والسبب في هذا كما ذكر غير واحد ممن كتب في التاريخ أن علماء الحديث لم يكونوا يهتمون بالقضاء، هذا واحد، ثم إن أكثر مسائل القضاء تحتاج إلى استنباط وتحقيق مناط للعلل، ولم يكن أهل الحديث يهتمون لمثل ذلك، وإنما كان هذا لأهل الرأي الذين كانوا يهتمون بالقضاء لدرجة أن أبا يوسف و محمد بن الحسن و زفر وهم من أصحاب المذهب الحنفي مع شيخهم أبي حنيفة كلهم قضاة -فدخل الشافعي عند هارون الرشيد وتكلم، فقال محمد بن الحسن : ما ترى فيه؟ فذكر الشافعي رحمه الله أنه لم يكن مع هؤلاء، فأثنى عليه محمد بن الحسن ، وقال: يا أمير المؤمنين! والله من تكلم فيه لا يصل إلى شأنه وشأوه، وأرى أنه صاحب علم، فلو تركته لكان له شأن، قال: فخذه يا محمد! فجلس الإمام الشافعي يطلب العلم على محمد بن الحسن ، وذكرنا في أول درس أن أهل العلم كانوا يهتمون بشيوخهم، قال الإمام الشافعي رحمه الله: إذا ذكر العلماء فـمالك النجم، وما أحد له علي منة إلا مالك بن أنس ، وفي رواية: ما أحد له علي فضل إلا مالك بن أنس و محمد بن الحسن .

وهذه المرحلة من حياة الشافعي الرابعة.

إذاً: المرحلة الأولى في مكة، المرحلة الثانية في المدينة، والمرحلة الثالثة في اليمن، والمرحلة الرابعة في بغداد.

الرحلة الأولى للشافعي إلى بغداد لطلب العلم

دخل الشافعي بغداد سنة أربع وثمانين ومائة، فلازم الإمام الشافعي رحمه الله محمد بن الحسن ، وكيف كانت هذه الملازمة؟ اسمع ما يقوله الإمام الشافعي؛ حتى تعلم أن هذا المنهج الذي تأسى به الشافعي وضبطه لم يأت عبثاً، بل كان بجد واجتهاد، فجلس الشافعي في بغداد، وكانت بغداد تسمى مدينة السلام، قيل: من أسباب تسميتها بذلك أن كل الطوائف فيها، وكل الأدباء فيها، ومع ذلك قد عاشوا بسلام، وفيها من الكتب ومن الشعر ومن الأدب ومن الفقه ما جعلت الإمام الشافعي رحمه الله يقول عن نفسه: حملت عن محمد بن الحسن من سماعي وقر بعير، يعني: حمل بعير، ليس فيها إلا سماعي منه، انظروا هذا السماع العظيم، الآن لو سألنا بعض طلاب العلم وقد جلس عند شيخ من شيوخه سنة أو سنتين أو ثلاثاً أو أربعاً، هل كتبت؟ هل تعرف أقوال شيخك؟ يقول: نعم، وإذا قلت: ما رأي شيخك بكذا؟ لم تجده يعلم، وقد كان السابقون إذا تتلمذوا على الشيخ يعلمون ما قوله في هذه المسألة وما دليله في هذه المسألة، وما تأصيله الشرعي لهذه المسألة، لدرجة أن قتادة بن دعامة السدوسي جلس عند سعيد بن المسيب ثلاث ليال، فقال سعيد : اذهب يا أفطس فقد أخذت كل علمي؛ لأن طالب العلم إذا كان فطناً ثقفاً لبيباً حريصاً على الطلب تجده يسأل الشيخ في مسائل الأصول التي يعلم أنه إذا أفتى بها فإنه يندرج تحتها مسائل كثيرة: وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ [فصلت:35]؛ ولهذا معرفة الكليات مطلب، فكثير هم طلاب العلم الذين يحفظون الجزئيات، لكنهم لا يهتمون بالكليات، والكليات فهمها أضبط وأقعد.

إذاً: علم الشافعي أصول مالك وقواعده وفروعه ثم ذهب إلى محمد بن الحسن فكتب عن محمد بن الحسن حمل بعير، وكلمة (حمل بعير) يعني: يصل تقريباً مكتبة في مجلس من المجالس التي ننتابها وتكون بين أيدينا.

يقول الشافعي : وأخذت كتب الأحناف -وهذه غير كتب محمد بن الحسن - فقرأتها وتأملتها وتدبرتها وتفقهت فيها، وجعلت تحت كل مسألة منها حديثاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، الآن هذه مرحلة جديدة للإمام الشافعي فهو يريد أن يؤصل قواعد الأحناف على الحديث، والأحناف طريقتهم أنهم يبنون الأصول على الفروع بخلاف الشافعية، ومتأخري أهل الكلام، فالشافعي خالفهم، فأراد أن يجعل مناط الحكم على: قال الله، قال رسول الله.

وأنتم تعلمون أن مالكاً له أصول كما مرت معنا، وهي أن عمل أهل المدينة حجة، وأن خبر الآحاد يترك لعمل أهل المدينة، وهذا أصل مالك رحمه الله، وأما القياس الجلي فيترك إذا خالف عمل أهل المدينة.

وأما الاستصلاح وهو المصالح المرسلة عند مالك ، فهذه اهتم بها مالك كثيراً.

أما الشافعي رحمه الله فقد علم أصول مالك وذهب إلى محمد بن الحسن وقرأ كتب الأحناف وتدبرها، والآن لو سألنا كثيراً من طلاب العلم ومن العلماء العصريين هل قرأ الواحد منا كتب الأئمة حتى يفقهها؟ فتجد أننا أحياناً بين كتابين أو ثلاثة أو أربعة وحولهما ندندن، وهذا فيه فائدة وفيها نعمة، إذا سئل أفتى، لكنه لن يكون جهبذاً إماماً ذا براعة في الأصول وفي الفروع، فإن ذلك لا يتأتى إلا لمن جثا وأقبل على كتب الأئمة وعلم أصولهم، وأمعن النظر في ذلك.

جلس الشافعي مع محمد بن الحسن أربع سنين يطلب العلم، وهذه هي الرحلة الأولى إلى بغداد، وقد أخذت بغداد لب الشافعي رحمه الله وأسرته، حتى إنه قال لـيونس بن عبد الأعلى الصدفي : هل رأيت بغداد، قال: لا، قال: ما رأيت الدنيا، ويقول الشافعي رحمه الله عن بغداد: ما دخلت مدينة إلا كنت مسافراً فيها، إلا بغداد فإني لما دخلتها جعلتها وطناً، يعني: كل مدينة أدخلها أعلم أني لن أبق فيها ولو جلست سنين، إلا جعلت أمري كأني مسافر إلا بغداد فإني ما دخلتها إلا جعلتها وطناً.

رجوع الشافعي إلى مكة وتدريسه فيها

جلس الشافعي أربع سنين من سنة أربع وثمانين ومائة إلى سنة تسع وثمانين ومائة، ثم انتقل الشافعي رحمه الله إلى مكة، وعمر الشافعي الآن تسع وثلاثون سنة، وكان قد طلب العلم على محمد بن الحسن حينما ذهب إلى بغداد عام أربع وثمانين ومائة وعمره أربع وثلاثون سنة.

كثيرون هم طلاب ا

والمذهب الشافعي مؤسسه كما لا يخفى هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف فهو يلتقي مع النبي صلى الله عليه وسلم في عبد مناف ، وذلك أن عبد مناف له خمسة أولاد: هاشم وهو جد محمد صلى الله عليه وسلم، و المطلب وهو جد الشافعي و عبد شمس و نوفل و أبو عمرو ، فـالشافعي هو المطلبي؛ ولذا جاء في بعض الروايات كما رواه ابن عساكر و أبو يعلى من حديث ابن مسعود: (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر أنه سوف يأتي عالم من قريش يملأ الناس علماً وفقهاً)، والحديث روي من طريقين: من طريق ابن مسعود ومن طريق علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عن الجميع، ولا يصح في الباب شيء، إلا أن أكثر أهل العلم ذكروا حديث الإمام أحمد و أبي داود وغيرهما من أهل السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنه يأتي على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر دينها )، وذكروا أن الإمام الشافعي محمد بن إدريس المطلبي من جدد لهذا الدين ما اندثر ودرس من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولا أخال منصفاً يشك في أن الإمام الشافعي رحمه الله مجدد لما اندرس من آثار النبوة وفقه الصحابة رضي الله تعالى عنهم جميعاً.

ولا غرو إذاً أن يقول الإمام أحمد رحمه الله في هذا الجهبذ حينما سأله ابنه: يا أبتاه! أي شيء يكون الشافعي فإني كثير ما أسمعك تقول: اللهم اغفر للشافعي وتدعو له كثيراً؟ قال: يا بني! الشافعي كالصحة لأهل العافية، وكالشمس لأهل الدنيا، فانظر هل ترى فيهما خلفاً؟ فهذا يدل على أن الإمام الشافعي رحمه الله بين ووضح وقعد، ولذا سماه الناس حينما جاء إلى بغداد في الرحلة الثانية سموه: ناصر السنة كما سوف يأتي بيانه إن شاء الله.

ولد الإمام محمد بن إدريس الشافعي في غزة في فلسطين سنة خمسين ومائة، وكان أبوه إدريس يعمل هناك، فتوفي والده وله من العمر سنتان، فأخذته أمه وكانت أمه قرشية واسمها فاطمة بنت الحسين وتنتسب إلى علي بن أبي طالب ، كذا ذكرها غير واحد من أهل العلم، وذكر الحافظ ابن حجر رحمه الله في توالي التأسيس في مناقب محمد بن إدريس أن أمه لم تكن قرشية، إنما كانت أزدية، والعلم عند الله سبحانه وتعالى، غير أن أمه رحلت به من غزة إلى مكة.