عرض كتاب الإتقان (4) - النوع الأول في معرفة المكي والمدني [3]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه والتابعين، وبعد:

سورة الرعد

فقد وقفنا عند سورة الرعد.

ذكر رحمه الله تعالى في سورة الرعد الخلاف في كونها مكية أو مدنية، وهذه السورة فيها خلاف قوي، فبعضهم ذكر أنها مكية، وبعضهم ذكر أنها مدنية، وبعضهم ذكر أنها مكية مستثنى منها، وبعضهم ذكر أنها مدنية مستثنى منها، يعني: جماع الأقوال أربعة أقوال، والجمهور على أنها مكية، ومن قال: إنها مكية لا يمنع أن يستثني منها شيئاً.

وذكر أنه: [تقدم من طريق مجاهد عن ابن عباس وعن علي بن أبي طلحة أنها مكية، قال: وفي بقية الآثار أنها مدنية].

ثم ذكر عن سعيد بن جبير نص قال: [وقال سعيد بن منصور في سننه]، ثم أورد السند عن أبي بشر الراوي عن سعيد قال: [سألت سعيد بن جبير عن قوله: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [الرعد:43] أهو عبد الله بن سلام ؟ قال: كيف وهذه السورة مكية].

وهنا نقف وقفة عند هذا الأثر، فهذا الأثر كما ذكر الشيخ سعد الحميد في تحقيقه لسنن سعيد بن منصور: سنده صحيح.

ونريد أن نرجع مرة أخرى إلى قضية اعتبار الزمان والمكان عند مفسري السلف، فهذا الأثر الوارد عن ابن جبير :

أولاً: نلاحظ فيه عبارة (مكية) يعني: كمصطلح.

الثانية: أنه لما قال: (مكية) هل فيها اعتبار المكان فقط؟ أو اعتبار المكان والزمان؟

المكان والزمان؛ لأن شأن عبد الله بن سلام إنما كان في المدينة. وهناك أثر ورد لكنه ضعيف: أن عبد الله بن سلام أسلم في العهد المكي، لكن هذا غير صحيح، والصحيح وهو المشهور أن عبد الله بن سلام أسلم في العهد المدني، لما جاء الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أسلم وقصته مشهورة معروفة.

فإذاً: هذا الأثر من ابن جبير يفيد في اعتبار الزمان عند مفسري السلف مع إطلاقه عبارة (مكية).

قال: [ويؤيد القول بأنها مدنية: ما أخرجه الطبراني وغيره عن أنس أن قول الله: يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى [الرعد:8] إلى قوله: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:13] نزل في قصة أربد بن قيس و عامر بن الطفيل حين قدما المدينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم].

وقصة أربد و عامر أنهما جاءا وطلبا من الرسول صلى الله عليه وسلم طلباً، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم رفض طلبهما، ثم اتفقا أن عامراً يشغل الرسول صلى الله عليه وسلم بالكلام وأربد يقتله بحيث أنهم كما يقول عامر لن يكون هناك إلا أن يطلبوا بديته، ونديه ونكفي العرب من شره، فدعا عامر الرسول صلى الله عليه وسلم فذهب هو وإياه إلى حائط وكان أربد من خلفه، قالوا: لما أراد أن يحمل السيف التصق السيف بيده، فما استطاع أن يفعل شيئاً، ثم لما رجعا قال عامر لـأربد : لم لم تفعل؟ فأخبره بما حصل. وقيل: إن أربد نزلت عليه صاعقة لما افترقا فأصيب وتوفي، وكان في بيت امرأة سلولية.

والمقصد أن القصة معروفة ومشهورة في التفسير، وهذه القصة فيها ضعف.

وفيما لو صحت القصة، هل يمكن أن نجعل السورة مدنية بناءً على هذه الآية؟ فالسورة كما يقال عنها: جوها مكي، وهناك قول من قال بأنها مكية، أو من قال بأنها مكية واستثني منها، وكما قلنا: إن القول بأنها مكية سواء بهذا أو بهذا هو قول الجمهور؛ لأن قول الجمهور على أنها مكية، فلو ثبتت هذه القصة هل تخرج هذه السورة من أن تكون مكية؟ نقول: لا؛ لأن عندنا عدداً من الاحتمالات يمكن أن نحملها على هذه القصة.

الاحتمال الأول: أن تكون القصة والآيات معاً مدنية، فتكون أدخلت في سورة مكية.

الاحتمال الثاني: أن يكون الصحابي نزل هذه القصة على هذه الآية، يعني: كأنه استشهد بها على قصة أربد بن قيس ، فيكون من باب الاستنباط أو من باب التنزيل. مع أن في القصة عموماً ضعفاً.

وبالعودة إلى الأثر الوارد عن سعيد بن جبير في هذه السورة فسنجد أنه لا يرى أن هذه السورة تنطبق عليها القاعدة، هذا إذا كان سعيد يذهب إلى وجود مستثنيات، وعموم المستثنيات في هذه السورة فيها نظر كالذي استثنى آية: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [الرعد:43] وآية: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:13] فهذه قيل: إنها نزلت أيضاً في اليهودي، وأنه سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه، قال: أمن ذهب هو أم فضة أم من لؤلؤ.. إلى آخره. قال: فنزلت صاعقة فقتلته. وهذه الرواية فيها ضعف أيضاً، فلا يعتمد عليها، وعندنا الآية الأخرى آية: وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ [الرعد:43]، وآية: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30]، فقد ذكر مجاهد قصة الحديبية، ثم أورد الآية، ثم قال: قال تعالى: وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ [الرعد:30] وأكمل الآية، فيمكن أن يحمل على أن هذا من باب الاستنباط، أو التنبيه على أنهم لما قال: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، أنهم لم يرضوا بهذا.

فالمقصد أنه لا يتبين من كلام مجاهد أنه يرى أنها مما استثني أو أنها نزلت بسبب الحديبية؛ لأن الحديبية المعروف أنها في العهد المدني.

وأنا أقول: لو ثبت خبر عبد الله بن سلام أنه هو المقصود، فكيف نتعامل مع هذا؟ فعندنا احتمالان: احتمال أن تكون الآية مدنية في سورة مكية، أو أن يكون عبد الله بن سلام مثال لمن عنده علم الكتاب، وتكون السورة مكية.

والدليل على ذلك -وهذه مفيدة في التفسير- نلاحظ في قوله سبحانه وتعالى أيضاً في هذه السورة: تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ [الرعد:31] فهذه استثنيت لكنهم فسروا القارعة أنها سرية من سرايا الرسول صلى الله عليه وسلم، والسرايا إنما كانت في العهد المدني، فنقول: إنه أيضاً من باب التمثيل لقارعة من القوارع التي تصيبهم، وليس أن الآية نزلت بشأن السرايا بذاتها، كما أنه لو كان أريد بها السرايا بذاتها وهي في سورة مكية فيحتمل أن يكون هذا من باب الإخبار بالغيب، مثلما قال الله سبحانه وتعالى: وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ [البلد:2] على من فسر أن المراد: (حل بهذا البلد) قال: حلال لك أن تفعل فيه ما تشاء. ومثله لما قال: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ [القمر:45]، والآية في سورة القمر والقمر مكية، فلما قال هذه الآية أو هذا الخبر لم يقع هذا إلا في غزوة بدر.

فالمقصد من هذا: أنه يكون من باب الإخبار عما سيقع، فلا يخل بقضية مكية السورة أو مدنيتها.

وفي هذا المثال الذي ذكره عن سعيد بن جبير نستفيد منه مما يتعلق بالمكي والمدني أن المكي والمدني يستفاد منه في رد أحد الأقوال الواردة في الآية؛ لأنه اعتمد هنا في رد أن يكون المراد به عبد الله بن سلام بعلم المكي والمدني.

وأيضاً مسألة أخرى أنه يستفاد من المكي والمدني في التفسير، ولا يحكم تفسير المفسر بتعيين المكي والمدني، فلا نحتكم إلى تفسير المفسر في الآية على أن السورة مدنية، ومثال ذلك في قوله تعالى: تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ [الرعد:31] فمن قال: إنه سرايا من السرايا، فهذا لا نقول: إنه بناءً على تفسير هؤلاء فإنهم يرون أن الآية مدنية؛ لأن التفسير أوسع من التاريخ؛ ولهذا قد يفسرون آية مكية بحدث مدني، وهذا واقع وظاهر، وبناءً عليه أننا لا نحكم من خلال تفسير المفسر على علم المكي والمدني.

ثم قال السيوطي : [والذي يجمع به بين الاختلاف أنها مكية إلا آيات منها] وهذا على رأي الجمهور أنها بالفعل مكية، ولو قيل باستثناء بعض الآيات فإنه لا يخرجها عن كونها مكية، وإن كان الأولى أنها كلها مكية بسبب أن الآثار الواردة بإخراج بعض الآيات أن تكون مدنية أنها ضعيفة من جهة الإسناد، وأنها يمكن أن تحمل على باب التفسير، فإذا حملت على باب التفسير يكتفى بذلك من أن يقال: إنها مرتبطة بالمكي والمدني.

سورة الحج

سورة الحج، يقول: [تقدم من طريق مجاهد عن ابن عباس : أنها مكية إلا الآيات التي استثناها، وفي الآثار الباقية أنها مدنية]، ولاشك أن الحكم عليها بأنها مكية فيه نظر ظاهر؛ لأن سورة الحج تحدثت عن مناسك الحج. فكونها مدنية هذا هو الأظهر، وهو قول الجمهور.

ثم أورد هنا ما ذكر: [عن ابن عباس من طريق ابن جريج و عثمان بن عطاء عن ابن عباس ، ومن طريق مجاهد عن ابن الزبير أنها مدنية.

قال ابن الغرس .. ].

والصواب أنه ابن الفرس عبد المنعم بن محمد بن عبد الرحيم الأنصاري الخزرجي المالكي، توفي سنة خمسمائة وتسعة وتسعين، وقيل: سبعة وتسعين. وله كتاب اسمه: أحكام القرآن، يثنون عليه كثيراً، وطبع منه سورة آل عمران والنساء. فكتابه مطبوع في ليبيا.

ثم قال: [وقيل: إنها مكية إلا هَذَانِ خَصْمَانِ [الحج:19] الآيات]. وهذا ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: إنها نزلت فيهم لما قاتلوا في أول قتال وقع في بدر.

والحقيقة أن هذه الآية فيها إشكال في قوله: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19] إلى آخره، لكن كونه يرد عن علي بن أبي طالب ويصح عنه أنه رأى أن هذه الآية نزلت فيهم، فالأولى حملها على أنها سبب النزول، وإن كان معنى الآية أو لفظها عاماً، ولو نحملها على هذا السبب فلا يعني تقييد هذه الآيات بهذا السبب، بل إنها تعم كل من يدخل في هذا الوصف.

وأيضاً لو قلنا: إنه من باب التفسير فهذا أيضاً جائز؛ لأنه يتمثل فيهم أنهم ممن يختصم عند الله سبحانه وتعالى؛ لأنه قال: هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ [الحج:19] الآيات.

فإما أن تكون نزلت بشأنهم، وهذا محتمل، وإما أن يكون علي رضي الله عنه حمل هذه الآية على ما وقع في غزوة بدر، لكن ما هو الضابط في الحكم على بعض الآثار في أن هذا الأثر تفسيري أو أنه تنزيلي؟

الجواب على ذلك: أولاً: أن عبارات النزول هي قرائن أكثر منها أحكام منتهية، فلما يقول الصحابي أو التابعي: كان كذا فنزلت كذا أو فأنزل الله كذا، فهذه في الغالب أنها تكون سبب نزول مباشر، لكن لما يقول: نزلت في كذا، فهذه في الغالب أنها تكون من باب التفسير، ثم عندنا النظر إلى السياق والنظر إلى التاريخ في الحديث المذكور، وأيضاً قرائن أخرى ممكن يستنبط منها أن هذه الآية سبب نزول أو أن هذا الحدث سبب نزول أو لا.

ومن المهم جداً من باب التفسير النظر إلى صدق المثال المذكور في سبب النزول، سواء كان سبب نزول مباشر أو لم يكن، فلا بد أن يكون متناسباً ومتناسقاً مع معنى الآية، ولا يكون نشازاً بينهما.

فلا بد من وجود علاقة تفسيرية، فإذا وجدت هذه العلاقة التفسيرية من باب التفسير يجوز التفسير به ولو لم يكن سبب النزول مباشراً؛ لأن باب التفسير أوسع من باب أسباب النزول المباشرة.

وعلى العموم فهذه السورة فيها إشكال من جهة اختلاط المكي بالمدني، والأظهر أنها كما قلنا: مدنية وإن حملت بعض الآيات منها على أنها مكية؛ لأنه قال: [وقيل: هي مختلطة، فيها مدني ومكي، وهو قول الجمهور]، نقول هذا وإن كان، لكن النظر إلى أول السورة فإنه يحمل عليه مكي السور أو مدنيها، فمن نظر إلى أن أول السورة مرتبط ببعد فكأنه حملها على المكي، ومن نظر إلى ما ذكر فيها من مدني فيما يتعلق بالحج وغيره كأنه حملها على المدني، والله أعلم.

ويستدل على أنها مدنية ما ورد في الأثر عن عمران بن حصين والذي رواه الترمذي وذكره ابن كثير وأفاد أن أول السورة نزل في سفرة من سفرات الرسول صلى الله عليه وسلم، ومشهور أن السفر إنما كان في المدني. فإذا كانت كذلك تكون السورة مدنية.

والرسول صلى الله عليه وسلم ما عهد عنه في المكي أنه كان في سفر إلا سفره في الطائف بعد البعثة، أما في المدينة فكان له سفرات، فتكون مدنية ويكون فيها مكي.

وسبحانك اللهم وبحمدك، نشهد أن لا إله إلا أنت نستغفرك ونتوب إليك.