شرح متن الرحبية [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمةً للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد: فكان من خطة مركز تكوين العلماء أن تكون له دورات مفتوحة يشارك فيها طلابه وبعض أساتذته، وتكون مفتوحةً للمجتمع كذلك؛ للانتفاع العام في مختلف العلوم، وقد سبق أن ابتدأ دورتين تامتين، وجزءاً من دورة، وهو اليوم ينفذ دورته الرابعة على بركة الله، وهي في علم الفرائض، أي: علم التركات.

أما طريقتنا في هذه الدورة فهي أننا نفضل دائماً في الدورات العلمية الارتباط بكتاب من الكتب يحفظه الطلاب، ويتنافسون في حفظه؛ ليكون أصلاً لديهم في هذا الفن، ويكون ما يسمعونه من خارجه شرحاً له وبياناً، فإذا طالعوا أي كتاب يتعلق بهذا العلم، كان بمثابة الشرح والتوسع في هذا الفن الذي يدرسونه، والكتاب الذي اختارته إدارة المركز هو منظومة الرحبية للشيخ: محمد بن علي بن محمد بن الحسن الرحبي الشافعي، وهو من فقهاء الشافعية، وهو نظم على مقتضى المذهب الشافعي؛ ولذلك لم يأت بفرائض الإقرار والإنكار، وهي مختصة بالمذهب المالكي تقريباً، ولم يأت أيضاً بميراث ذوي الأرحام، وترك مسائل من هذا الفن، لعلنا نعرج عليها ونكمل بها إن شاء الله تعالى، وطريقة الشرح لا تختص بالكتاب، بل ربما نعرج على غيره؛ لأننا ملزمون بالتحدث في المذاهب الأربعة كلها، وبيان ما نراه راجحاً مع الدليل، أو ذكر الدليل ولو لم نرجح.

وهذا العلم هو من العلوم المهمة، فإن الله سبحانه وتعالى تولى تفصيله في كتابه، وأنتم تعرفون أن أهم فرائض الله سبحانه وتعالى وعباداته بعد التوحيد الصلاة، ولا تجدون أركانها مفصلةً في القرآن، كما لا تجدون أسماء الصلوات الخمس في القرآن، ومع ذلك تجدون تفاصيل أنصباء أهل الفرائض في كتاب الله مفصلة، وهذا يدل على أهمية هذا العلم، والعناية به، فقد أورد الله فيه -في كتابه- أربع آيات:

الآية الأولى: جاءت في التقعيد له، وبيان أن الرجال والنساء فيه سواء، وهذا هو نظام الإرث الاجتماعي، وهو رد لنظام الجاهلية الذي كان يحرم النساء من الإرث، فقد قال الله في هذه الآية: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا [النساء:7]، وهذه الآية تقعيد لهذا النظام، وبيان لأهميته، وإلغاء لحكم الجاهلية بالكلية، فأهل الجاهلية إنما كان الترابط بينهم على أساس المنافع والمصالح المشتركة؛ ولذلك يتقاتل فريقان من الأقارب لمدة طويلة تصل إلى أربعين سنة بسبب أن فرساً سبقت أخرى، كما هو الحال في حرب داحس والغبراء، كانت بين قبيلتين من غطفان -وهما: عبس وذُبيان- بسبب أن فرساً سبقت أخرى، ويقتتل الحيان أيضاً ثلاثين سنة بسبب أن ناقةً كسرت بيضةً، كما هو الحال في حرب البسوس التي دارت بين بني بكر بن وائل وتغلب لمدة ثلاثين سنة، وبكر بن وائل وتغلب بن وائل أخوان من بني ربيعة، وكان الأقارب تُقطع أرحامُهم وتُشج بسبب الاختلاف في المصالح، ومن أشهر ما حصل من ذلك في العصر السابق للتشريع، ما حصل لـعنبسة بن أمية بن عبد شمس بن عبد مناف، فقد جاء يقود ولده الوحيد إلى إخوته العشرة في مجالسهم، وكل واحد منهم له عشرة من الولد، فعرض عليهم أن يكفلوا ولده هذا، ويترك لهم بطن مكة، فلم يجبه أحد منهم، فهام به على وجهه حتى مات، فكانت الأرحام تقطع، والصلات تنقطع بمجرد الاختلاف في المصالح، ولذلك قال الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ [محمد:22-23]، ومن هنا شرع الله سبحانه وتعالى نظام الإرث، وهو نظام اجتماعي يقتضي الترابط، والتكافل، والتعاون، واستمرار الرحم في الحياة، وبعد الممات، وقد كنت قبيل أحداث الحادي عشر من سبتمبر زرت مدينة نيويورك، ودخلت في وقت العمل إلى برج التجارة العالمي، فرأيت كثرة الداخلين والخارجين، فاستغربت لما سمعت نتائج الحادث وعدد القتلى، فأخبرت أن الذين عرفت أعدادهم إنما هم الذين طالب بعض الناس بميراثهم، فليس لديهم نظام الإرث المعروف في الإسلام، وإنما يرث الزوج زوجته، والزوجة زوجها، ولا يرث الوالد ولده، ولا الأم ولدها، ولا الأخ أخاه، ولا الأخت أخاها، فليست بينهم تلك الصلات، فمن ليس له زوجة، أو من ليس لها زوج، فإنه لا يسأل عنه؛ لأن ماله يرثه بيت المال، فهذا هو النظام السائد لديهم؛ فلذلك لم يذكر في القتلى إلا من كان له مطالب بميراثه، كالمرأة إذا ماتت ولها زوج، أو الزوج إذا مات وله زوجة، فعرفت حكمة التشريع العظيمة، فما من أحد على وجه الدنيا من البشر إلا له وارث شرعاً، سواءً كان قريباً أو بعيداً، ولذلك يتوارث الناس بالقعدد على أساس القبائل التي جعلها الله أساساً للتعارف كما قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، وقد ذكر أهل التفسير وجهين في هذه الآية؛ أحدهما: لتعارفوا؛ أي: ليعرف بعضكم بعضاً بالانتساب، فيقال: فلان القرشي، أو فلان التميمي، حتى يعرف نسبه بذلك، أو لتعارفوا؛ أي: ليبذل بعضكم إلى بعض العرف، وهو العطاء والصلة، فذلك من أسباب إقامة النظام القبلي، وإقامة نظام التوارث، فلهذا قرر الله في هذه الآية أصل هذا النظام، فقال: لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:7]، وترون عموم الوارثين، وعموم الموروثين، فإنه قال: (للرجال) وهذا جمع معرف محلًى بـ(أل) الجنسية، فهو يشمل جميع الرجال، وكذلك النساء، فهو اسم جمع محلًى بـ(أل) الجنسية، فهو يشمل جميع النساء، لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ [النساء:7]، فالموروث أيضاً عام؛ لأنه قال: (والأقربون) زيادةً على الوالدين، وهذه القرابة نسبية تختلف باختلاف حال الإنسان الوارث والموروث، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر )، لأولى، أي: لأقربه ولايةً.

وبعد ذلك جاءت الآية الثانية، وقد سمعتموها، وهي في ميراث الفروع والأصول، أي: في ميراث الأولاد والآباء والأمهات، فقد قال الله فيها: يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ [النساء:11]، انتهى ما يتعلق بالفروع، وبدأ في الأصول، فقال: وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا [النساء:11].

والآية الثالثة ذكر الله فيها ميراث كل واحد من الزوجين من الآخر، وميراث الإخوة والأخوات لأم، فقال فيها: وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ [النساء:12]، وهذا ما يتعلق بميراث كل واحد من الزوجين من الآخر، ثم ذكر ميراث الإخوة والأخوات لأم، فقال: وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّه [النساء:12]، فهذا ميراث الإخوة والأخوات لأم.

ثم في الآية الرابعة ذكر ميراث الإخوة الأشقاء أو لأب سواءً كانوا ذكوراً أو إناثاً، فقال: يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنْ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [النساء:176].

فاحتوت هذه الآيات الأربع على هذا النظام إجمالاً وتفصيلاً، ولم يبق من أحكامه إلا بعض الجزئيات التي تناولها بعض الآيات الأخر، أو بعض الأحاديث، فمن الآيات المكملات لهذه الآيات الأربع في تفصيل بعض الأحكام قوله تعالى: وَأُوْلُوا الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا [الأحزاب:6]، فقد كان المهاجري يرث الأنصاري، والأنصاري يرث المهاجري بأخوة الإسلام، حتى نزلت هذه الآية، فجعل الله حق الإسلام محصوراً في الوصية، وليس في الإرث، فجعل ذلك مختصاً.

وكذلك من الآيات المكملة ما يتعلق بالولاء، فقد قال الله فيه: وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ [النساء:33]، (والذين عقدت أيمانكم)، في قراءة أخرى: (عاقدت أيمانكم) (فآتوهم نصيبهم)، فهم العتقاء من يعتقون إجماعاً، فالمولى الأعلى وارث من لا وارث له من الرحم، والمعتقون أيضاً على قول سنتعرض له إن شاء الله عند بعض الفقهاء أن العتيق، أي: المولى الأسفل يرث من معتقه إذا لم يكن له وارث سواه، والآية بأصل دلالتها تتناول الجميع، وَالَّذِينَ عَاقدت أَيْمانكُمْ [النساء:33]، هذا يشمل المعتِق، والمعتَق.

أما الأحاديث فمنها الحديث السابق الذي أخرجاه في الصحيحين، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر )، فالفرائض فصلت في القرآن، ولم يبق منها غير ما نص عليه في القرآن إلا ثلث الباقي، وسنذكره إن شاء الله وحده.

ثم بعد ذلك قال: ( فما بقي فلأولى رجل ذكر )، وهذه الولاية تتسلسل حتى تصل إلى أقرب من هو حد من الأولياء ولو بَعُد، فقد وُرث بعض البطون من قريش، ومن الأنصار بالقعدد على أساس النسب، فآخر من مات من بني وبر ورث في القعدد في أيام عبد الملك بن مروان، وكذلك ما قيل في ذرية خالد بن الوليد فقد ورثوا بالقعدد، أي: ورثهم بنو عمهم بالقعدد حين انتفوا ولم يبق منهم أحد، فهذا الميراث بالقعدد، وقد حصل ذلك في ذرية صيفي بن هاشم، وهو أخو عبد المطلب، فقد انتفت ذريته فورثوا في القعدد، أي: يرثهم أكبر رجال بني هاشم الأحياء.

وهذا العلم من العلوم المهمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم حض على تعلمه، فقد أخرج ابن ماجه في سننه، و البيهقي و الدارقطني، وغيرهم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( تعلموا الفرائض وعلموها، فإنها نصف العلم، وهو ينسى )، وهذا الحديث صححه السيوطي، وأشار له بالصحة في الجامع الصغير، وهو يدل على أن هذا العلم نصف العلم، ولأهل العلم أوجه في ذلك، فمنهم من قال: إنما كان نصف العلم؛ لأن العلم منه ما يتعلق بحال الحياة، ومنه ما يتعلق بحال الممات، فما يتعلق بحال الحياة نصف ولو كان أكثر، والنصف الثاني ما يتعلق بحال الممات، ومعنى النصف هنا: بعض، أو جزء من النصف الذي هو حجمه محدد؛ لأن النصف يقتضي المساواة، بخلاف البعض، فالبعض يطلق على الأقل والأكثر، ومن ذلك قول الشاعر:

داينت سلمى والديون تقضى فمطلت بعضاً وأدت بعضاً

فإما أن يكون الممطول مساوياً للمقضي، وإما أن يكون زائداً عليه، فإن كان مساوياً له كان البعض هنا نصفاً، وإن كان الممطول أقلَّ كان المدفوع أكثر، وإن كان الممطول أكثر كان المدفوع أقلَّ، فلا بد حينئذ من حصول إطلاق البعض على الأقل والأكثر، فمطلت بعضاً وأدت بعضاً.

وقوله: ( وهو ينسى )، أي: أن هذا العلم سينسى، فيقل أهله، والعارفون به، والعلم كله سيرفع، كما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن الله لا يقبض هذا العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبضه بموت أهله، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالاً -أو رءوساً جهالاً- فاستفتوا، فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا ).

وكذلك أخرج أيضاً في الصحيحين من حديث أنس، وأبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن بين يدي الساعة أياماً يظهر فيها الجهل، ويرفع فيها العلم )، فالعلم سيرفع، فيقل في الناس، ونحن نشاهد ذلك بموت العلماء، وعدم خلافتهم في الأرض، وهذا حض من النبي صلى الله عليه وسلم على تعلم على هذا العلم؛ لأنه بمثابة المهدد بالانقراض، وترون في العالم اليوم أن الحيوان المهدد بالانقراض يوضع في عناية خاصة، ويعتنى به عالمياً، فكذلك هذا العلم مهدد بالانقراض؛ لأنه قال: ( إنه ينسى )، فهو أول علم ينسى من العلوم، وذلك من حكمة الله جل جلاله، فالله سيرفع هذا القرآن، فيسرى عليه، فيمحى من القلوب والمصاحف، كما قال الله تعالى: وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ [الإسراء:86]، وذلك من أشراط الساعة الكبرى، والعلوم المتعلقة به تابعة له، فإذا محي القرآن من الصدور والمصاحف لم يبق لها وجود على الأرض، فلذلك لا بد من التشبث بهذا العلم قبل ذهابه، وكثير منكم يعرف ما قال محمد بن يعقوب الفيروزآبادي في مقدمة القاموس، في ذكر لسان العرب، فقال: إنه قد وقف بثنية الوداع، وهم قبليُّ مزنه بالإقلاع، وهذا حض على تعلمه قبل فواته، ومزايدته، ومغادرته.

وجاء في أحاديث أخرى فضل هذا العلم، فقد جاء في سنن أبي داود، وابن ماجه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( العلم ثلاثة، وما سوى ذلك فضل: آية محكمة، وسنة قائمة، وفريضة عادلة )، وهذا الحديث رمز له السيوطي أيضاً بالصحة في الجامع الصغير، وقد حصر فيه النبي صلى الله عليه وسلم العلم في ثلاثة، أي: في ثلاثة علوم، هي أساس العلم وأصله، وما سواها فضل، والمقصود بالفضل: النافلة، الفضل يطلق على النافلة، ومنه الفضلة لدى النحويين، وهي ما يسوء حظه من الكلام لغير دليل، فهي زائدة على أصل الجملة، وهذه الثلاثة: آية محكمة، والآية أصلاً في اللغة معناها: العلامة، والمقصود بها: وحدة من وحدات القرآن، فهي حجة على ما هي حجة عليه مطلقاً، وهي أيضاً آية على وحدانية الله جل جلاله، وانفراده بالملك، وإطلاق الآية على العلامة مشهور في استعمال العرب، ومنه قول الشاعر:

ألكني إلى قومي السلام رسالة بآية ما كانوا ضعافاً ولا عزلا

وكما قال عمر بن أبي ربيعة المخزومي:

بآية ما قالت غَداة لقيتُها بمدفع أكنان أهذا المشهر

والآية المحكمة موصوفة بالإحكام، والإحكام يطلق على معنيين: فيطلق على اتضاح الدلالة، فيقال: محكم، بمعنى: واضح الدلالة، ومقابله المتشابه، أي: خفي الدلالة، كما يطلق المحكم على المثبت، ومقابله المنسوخ، فيقال: هذا حكم محكم، أي: مثبت غير منسوخ، باق على تشريعه، ومقابله المنسوخ، أي: الذي قد نسخ، والآية المحكمة، تشمل: محكمة المعنى، ومحكمة اللفظ، فالمحكم في مقابل المنسوخ منه ما يكون محكم اللفظ منسوخ المعنى، كما تقرءون في سورة البقرة قول الله تعالى: وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ [البقرة:240]، فهذه الآية محكمة اللفظ، منسوخة المعنى، فالحكم منسوخ بالآية السابقة عليها في ترتيب المصحف، وهي لاحقة لها بالنزول؛ لأن الناسخ لا بد أن يكون متأخراً عن المنسوخ متراخياً عنه، فهذه الآية محكمة اللفظ، منسوخة المعنى، ومثلها قوله تعالى في سورة البقرة: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:180]، فالجزء المتعلق بالوالدين من الآية منسوخ، وهو محكم اللفظ منسوخ الحكم، ومثل ذلك في سورة النساء قول الله تعالى: وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا * وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا [النساء:15-16]، فهاتان الآيتان منسوختان، وفي حديث عبادة بن الصامت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( خذوا عني، خذوا عني، فقد جعل الله لهن سبيلاً: البكر بالكبر جلد مائة، وتغريب عام، والثيب بالثيب جلد مائة، والرجم )، وهذا مما تكرر فيه النسخ، فنسخت الآية، وقد كانت العقوبة فيها دون ما ذكر في الحديث، ثم جاءت العقوبة في الحديث فيما يتعلق بالثيب جامعةً بين الجلد والرجم، وقد نسخ ذلك بآية الرجم، فأقرت الرجم ولم يأت فيها جلدٌ، فدل ذلك على أنه لا جمع بين عقوبتين، فإذا زنى المحصن فإنه يرجم، ولا يجلد، فتكرر النسخ، وهذا هو مذهب الجمهور خلافاً لـعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقد جلد شراحة يوم الجمعة، ورجمها يوم السبت، وقال: جلدتها بكتاب الله ورجمتها بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا مذهب له هو، ولكن لعله جلدها في البداية عندما كان يرى عليها رقاً، ثم ظهرت له حريتها، فأقام عليها الحد الذي هو الرجم؛ وذلك للفصل بين اليومين، فقد جلدها في يوم الجمعة، ورجمها في يوم السبت، وهذا من تكرر النسخ في المسألة الواحدة، وهو في مسائل متعددة، وقد نظم الحافظ ابن حجر رحمه الله أربعاً منها في قوله:

النسخ ذو تكرر في أربع جاءت به الكتْب والأخبار

في قبلة ومـتعة وحمـر كـذا الوضو مـما تمس النـار

وهو يقصد هنا النسخ في الحديث، فذكر التكرر في هذه الأربعة، وهي القبلة، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يصلي إلى البيت الحرام، فلما هاجر من مكة صلى سبعة عشر شهراً إلى بيت المقدس، ثم نسخ ذلك بالآية، فأمر في الصلاة بالتوجه إلى البيت الحرام، فتكرر النسخ، والمتعة: نكاح المتعة، حرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول الهجرة، ثم أذن فيه في سفر من أسفاره، ثم حرمه إلى الأبد، فتكرر فيه النسخ، والحمر الأهلية حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ثم أذن بأكل لحومها في سفر من الأسفار، ثم حرمها بعد ذلك، فاستمر تحريمها.

كذا الوضوء مما تمس الناس، فقد كان آخر الأمرين منه ترك الوضوء مما مست النار، فالمطبوخ، أو المشوي من الطعام، وبالأخص إذا كان لحماً، فقد تكرر فيه النسخ، فجاء الوضوء منه، ثم جاء ترك الوضوء منه، فأول ذلك ترك الوضوء منه، ثم الوضوء منه، ثم ترك الوضوء منه، واختلف: هل النسخ الأخير شامل لكل ما مسته النار، أو يختص بغير لحوم الإبل أو فَتيّ الإبل بخصوص؟ ومذهب الحنابلة أن أكل لحوم الإبل ناقض، فيعدون أكل لحم الجزور من النواقض، وبعض أهل العلم يرون اختصاص ذلك بالفتي من الإبل وحده، والحديث الذي يستدل به الحنابلة شامل للفتي وغيره، وهو ( أن النبي صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال: أنتوضأ من لحوم الغنم؟ قال: إن شئت، قال: أفأتوضأ من لحوم الإبل؟ قال: نعم )، ولكن الحديث بالمقتضى الأصولي لا يقتضي الوجوب وإن كان السؤال مقدراً في الجواب؛ لأن الفعل في الأصل لا يقتضي الوجوب، وهو قال: (أنتوضأ)، هذا يقتضي أن يتوضأ، لكن لا يقتضي ذلك وجوباً؛ لأنه يشمل المسنون والمندوب والواجب، فكل ذلك يتناوله الفعل، فلهذا قال: كذا الوضو مما تمس النار.

وبعد ذلك قال: ( أو سنة قائمة )، والسنة في اللغة -كما تعلمون- هي الطريقة، والصميم من كل شيء، فالطريقة منها قول الله تعالى: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ [آل عمران:137]، أي: طرائق، أي: الملل السابقة خيرها وشرها داخلان في ذلك، والصميم من كل شيء، ومن ذلك قول غيلان:

تريك سنة وجهٍ غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندَبُ

(تريك سنة وجه)، أي: صميمه، فما عدا ذلك يجب ستره، تريك سنة وجه غير مقرفة، أي: لا يظهر عليها هجانة في النسب، ولا ضخم في الجينات، فالنسب إذا كان فيه طعن، فإنه يظهر الطرف فيه على الوجه، فلذلك قال: تريك سنة وجه غير مقرفة ملساء ليس بها خال ولا ندب

والخال: هو الشام المرتفع عن ظاهر الجسد، والندَب: هو الحفر التي تكون مكان البثور، أو الحبوب، أو الجروح في داخل الجسد، والسنة هنا المقصود بها: ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأحكام، فإنه متمم لما جاء في القرآن؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: ( ألا إني أوتيت القرآن ومثله معه )، فلهذا عد السنة القائمة مع الآية المحكمة، ومعنى القائمة: أي: التي صح إسنادها ولم تعلل، فالقائم هذا الوصف يوصف به القوي من كل شيء، فإن قال: جذع قائم، أي: قوي، وإن قال: طريق قائم، أي: مستقيم ليس فيه عوج، والسنة إذا حصل ضعف في إسنادها، أو انقطاع، فإنها ليست قائمةً، أي: ليست مستقيمةً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل حصل الاعوجاج فيما دون ذلك.

( سنة قائمة أو فريضة عادلة )، هذا القسم الثالث من أقسام العلم ( فريضة عادلة )، والفريضة معناها: التركة، أو المسألة من مسائل التركة.

عادلة، غير عائدة، غير جائرة، والمقصود بها: التي فيها عدل في توزيعها، وليس فيها ظلم ولا حيْف، ولا يقصد بها نفي العول في اصطلاح أهل الفرائض، فالعول في اصطلاح أهل الفرائض وإن كان عولاً في اللفظ هو عدل في المعنى؛ لأن القدر المأخوذ والمنقوص من كل سهم من السهام متساو، فكان عدلاً لا جوراً، فهو يسمى عولاً، فهو عول في اللفظ، ولكنه عدل في الحكم، فهذا الوصف، وهو قوله: ( فريضة عادلة )،غير مخرج له.

وبعض أهل العلم يتوسع في شرح هذا الحديث، فيرى أن قوله: ( فريضة عادلة )،لا يختص بعلم الفرائض، بل هو يشمل كل ما عرف حكمه، وأن معنى عادلة: أنها قائمة الدليل من الكتاب والسنة، ولكن هذا المعنى غريب، فالمعنى الأول -وهو اختصاص هذه الجملة بعلم التركة- هو الواضح من دلالة اللفظ.

وهذا العلم اعتنى به رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلمه أصحابه، واشتهر منهم زيد بن ثابت الأنصاري به، وقد أخرج الترمذي في سننه والحاكم في المستدرك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( أقضاكم علي، وأقرؤكم أبي، وأفرضكم زيد، وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل )، وهذا الحديث فيه بيان فضل هؤلاء الأربعة في العلم، ومزيتهم فيه، فهم من المجتهدين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين كان يُرجع إليهم في الفتوى في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والذين بلغوا مرتبة الاجتهاد من الصحابة، اختلف الناس في عدهم، فعد ابن حزم منهم ثمانية عشر، وقال: لم يزد المجتهدون من الصحابة على ثمانية عشر، وعدهم النسائي فأوصلهم إلى اثنين وعشرين، ولكن لم يزد أحد بعد النسائي، فلا يتجاوزون اثنين وعشرين من الذين روي عنهم الاجتهاد، ومنهم هؤلاء الأربعة، فـأبي بن كعب أقرأ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأدراهم بحروف القرآن التي أنزل عليها، و علي بن أبي طالب أدراهم بالقضاء، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما أرسله إلى اليمن والياً قال: ( رجعت إليه فقلت: يا رسول الله، بعثتني على اليمن، وأنا شاب حدث، وهم يرفعون إلي القضاء، وما أدري ما القضاء، فضرب في صدري -أو دفع في صدري- ودعا له، فما شك في قضية بعد ذلك )، ما عرضت عليه مسألة فشك فيها، أي: يستبين له وجه الصواب فيها بدعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم.

( وأفرضكم زيد )، أي: أعلمكم بعلم الفرائض، أي: التركات، وأعلمكم بالقسمة والحساب زيد بن ثابت.

( وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل )، فإنه أيضاً كان من قضاة النبي صلى الله عليه وسلم، ومن الذين وكل إليهم الإفتاء في مناطق، فهؤلاء اشتهروا بتخصصهم في هذه المسائل.

وهذا العلم داخل في البداية -في أصل التأليف- في علم الحديث، وفي علم التفسير، ثم أفرد علماً مستقلاً، وأدخل في الفقه، فأصل العلوم كلها علم السنة؛ لأن علم التفسير كان كتاباً من كتب علم السنة، والكتب الأولى المؤلفة في الحديث فيها كتب التفسير وهي كتاب صحيح البخاري، وصحيح مسلم، آخر كتاب في صحيح مسلم كتاب التفسير، في صحيح البخاري كتاب التفسير، كتاب فضائل القرآن، وفي السنن كذلك، فقد كان علم التفسير من علوم الحديث، ثم بعد ذلك انفصل علم التفسير علماً مستقلاً، وأول من فصله يزيد بن هارون، فهو أول من ألف فيه كتاباً مستقلاً، وفُصِل الفقه أيضاً عن السنة، فهو في الأصل من علوم السنة، ولذلك إذا قرأتم في صحيح البخاري تجدون نفس الأبواب الموجودة في كتب الفقه، كتاب البيوع، كتاب الأنكحة، كتاب الميراث، كتاب الرهن.. إلى آخره.

تجدون نفس الكتب تماماً؛ كتاب الوضوء، كتاب الصلاة، كتاب الزكاة، كتاب الحج، فهذه الكتب موجودة في كتب الحديث، ثم فصلت في كتب الفقه، وفصل معها علم الفرائض، فكان كتابًا من كتب الفقه، ثم بعد ذلك استقل، فألف فيه عدد من المؤلفين من مختلف المذاهب كتباً مستقلةً؛ وسبب ذلك الحاجة إلى التوسع فيه في مجال الحساب، فقد أصبح مجالاً لرياضة العقول، وزيادة الفهم، ولذلك توقعوا إن شاء الله في نهاية هذه الدورة أن تمتحنوا امتحاناً عقلياً، فيعرف منكم من زاد عقله من خلال هذه الدورة، فهو فعلاً يزيد العقل؛ ولذلك روي عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ( إذا تحدثتم فتحدثوا في الفرائض، وإذا لهوتهم فالهوا بالرمي ).

وهذا الأثر يدل على أن التحدث الذي يقصد به رياضة العقول أصله علم الفرائض، فينبغي أن يشتغل الناس بذلك، والرياضة الأخرى أهمها رياضة الرمي؛ لأنه قوة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( ألا إن القوة الرمي وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ [الأنفال:60]، فـعمر أمر إذا تحدثتم -أي: أردتم رياضة العقول بالحديث- فتحدثوا في الفرائض، وإذا لهوتم -أي: رياضة البدن- فالهوا بالرمي، ولذلك يحتاج فيه إلى جزء كبير من معرفة الحساب وقواعده.

ومن هنا أدخل علم الحساب العددي في علوم الشريعة؛ للحاجة إليه في علم التركات، قد ألف فيه عدد من المؤلفين، وكان له مصطلحات مثل المصطلحات الفقهية، وهذا العلم ينبغي قبل الشروع في مسائله أن نلم ببعض مقدماته.

تعريفه

فنبدأ أولاً بتعريفه، فأقول: أحسن تعريف لهذا العلم: أنه علم يعرف به الوارثون، ونصيب كل واحد منهم، أو ما لكل منهم، فهذا التعريف شامل لأمرين: للأحكام وللحساب، فمعرفة الوارثين هذا من الأحكام التي جاءت في القرآن والسنة، ومعرفة ما لكل واحد منهم هذا هو قسمة التركة، وهي في علم الحساب، فهذا أحسن تعاريف هذا العلم: علم يعرف به الوارثون، وما لكل واحد منهم.

موضوعه

وموضوعه: التصرف فيما للميت بعد موته، التصرف، أي: المطلوب شرعاً في مال الميت بعد موته، فالميت بعد موته يترتب في ماله خمسة حقوق، هي: مؤن تجهيزه بالمعروف، ثم حق تعلق بعين؛ كالمرهون أو عبد جنى، ثم الدَّين المطلق، ثم الوصية، ثم التركة، فهذه خمسة حقوق تتعلق بمال الميت، وهي عند المالكية على خلاف في هذا الترتيب، فعند المالكية يبدأ بحق تعلق بعين كما قال خليل: يخرج من تركة الميت حق تعلق بعين؛ كالمرهون وعبد جنى.

وعند الجمهور أنه يبدأ بمؤن تجهيزه بالمعروف قبلها، هذا الحق الثاني.

فإذاً الحقوق خمسة: مؤن تجهيزه بالمعروف، ثم ما تعلق بعين من التركة، ثم الدين المطلق الذي لا يتعلق بعين مخصوصة، ثم الوصية من الثلث، ثم التركة فيما بقي.

واضعه

أما واضع هذا العلم: فهو الله جل جلاله في كتابه، فهو الذي فصَّل أحكامه وبينه، والذين ألفوا فيه بعد ذلك إنما هم ناقلون؛ ولهذا تقل الخلافات المذهبية فيه، فأي كتاب درسته في علم الفرائض لأي مذهب من المذاهب لا تجد فيه اختلافاً إلا في مسائل يسيرة محصورة، وهي ما يتعلق بالعدد الذي يحجب الأم حجب نقصان من الثلث إلى السدس من الإخوة، أقل الجمع اثنان، أو ثلاثة، فهذا خلاف محصور جداً في هذه المسألة، وكذلك مسائل قليلة جداً من التفصيلات فيما يتعلق بالأحكام.

نسبته إلى سائر العلوم

أما نسبته إلى سائر العلوم: فهو جزء من علم الفقه، ونسبته إليه نسبة العموم إلى الخصوص المطلقين، ونسبته إلى علم الحساب، وعلم الحديث، وعلم التفسير، وعلم الأصول: هي نسبة العموم إلى الخصوص الوجهي، فيشترك مع هذه العلوم في بعض مسائلها، وينفرد هو بمسائل، وتنفرد تلك العلوم بمسائل أخرى.

استمداده

أما مستمده: فهو كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، واجتهاد المجتهدين من أهل العلم.

فضله

أما فضله: فقد بينه النبي صلى الله عليه وسلم حين جعله نصف العلم، وحين حض على تعلمه، وبينه عمر بن الخطاب حين أمر بالحديث فيه: ( إذا تحدثتم فتحدثوا في الفرائض ).

حكمه

وحكمه: أنه فرض كفاية، فإذا كان في البلد من يستطيع تقسيم التركات، وفض النزاع فيها، لم يأثموا، وإن لم يكن فيهم من يعرف ذلك أثموا جميعاً، ومحل هذا قبل أن ترد النوازل، فإذا حصلت النازلة فصاحبها يجب عليه تعلم حكمها بخصوصه، فيكون حينئذ فرض عين، فيكون من الفروض الكفائية التي تتعين في بعض الحالات.

اسمه

أما اسمه: فهو علم الفرائض، وعلم التركة، فالتركة معناها: ما تركه الإنسان وراءه من أهل ومال، كما في حديث إبراهيم: ( فآن لإبراهيم أن يراجع تركته )، (تركته) أي: ما تركه عند البيت الحرام، وهو: جاريته: هاجر، وابنه: إسماعيل، فهذه تركة إبراهيم، أي: ما ترك بواد غير ذي زرع، وتسمى أيضاً بالفرائض، وهي جمع فريضة، والفرض في اللغة معناه: التقدير، فيقال: فَرَضَ النازل في السهم، أي: قدر فيه مكاناً في نهايته، وهو الذي يسمى بالفُوق، وفُوق السهم معناه: آخره الذي يثبت في الخيط الذي يربط بين سيتي القوس، كما يطلق الفرض أيضاً على التقدير، بمعنى: الإثبات في الأحكام، فمن ذلك قول الله تعالى: وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً [البقرة:237]، (قد فرضتم) أي: قدرتم لهن فريضةً، أي: مهراً محدداً.

ويطلق الفرض على الإنزال، ومنه قول الله تعالى: إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ [القصص:85]، (( إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ )) معناه: أنزل عليك القرآن (( لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ ))،ومنه قول الله تعالى: سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا [النور:1]، قيل: هذا من عطف التفسير، عطف التفسير معناه: أن يعطف الأجلى على الأخفى، ولكن يستشكل ذلك بأن الأجلى هو الأول، وأن الأخفى هو المعطوف عليه، سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا [النور:1]، ولكن يجاب عن ذلك بأنه قد يكون أجلى في وقت من الأوقات كوقت النزول مثلاً لدى الصحابة، ولا يكون أجلى لدينا نحن؛ لأن الاستعمال يختلف باختلاف العصور.

ويطلق الفرض أيضاً على الضريبة التي تؤخذ في المال، وقد كان أهل الجاهلية يسمون المغارم التي يأخذها الملوك بالفرائض، ومن ذلك قول صاحب بني أسد:

فقولا لهذا المرء ذو جاء ساعياً هلم فإن المشرفيّ الفرائض

فإنك دون المال ذو جئت تبتغي ستلقاك بيض للنفوس قوابض

(فإن المشرفيّ الفرائض)؛ معناه: أن الضرائب التي تأخذها سيأتيك بدلها السيف.

وبما أن الأنصباء في التركة مقدرة شرعاً، ومنزلة من عند الله، وبما أنها جزء من المال حتمي لا يمكن أن يرده الإنسان؛ لأن المستحق منه قد مات فخربت ذمته فلا يملك، سمي هذا العلم بعلم الفرائض، فكان ذلك مأخوذاً من المعنى اللغوي، سواءً كان بالتقدير، أو الإنزال، أو الضرائب، فكل ذلك مرجع لعلم الفرائض، بمعنى علم التركات.

فائدته

أما فائدة هذا العلم: فهي معرفة أحكام الله عز وجل فيما يتعلق بتفاصيل الحق في المال بعد موت صاحبه، فالله تعالى هو المالك للأموال كلها، ولم يملكها أحداً من خلقه، لكنه استخلفه فيها، فجعل الإنسان مستخلفاً فيما تحت يديه مدة حياته، فإذا مات ترك ما خوّله الله وراء ظهره، وحينئذ يستحقه غيره، وقد خلق الله أرزاق أهل الأرض فيها في الأيام الأربع الأول من خلق العالم، كما قال الله تعالى: قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ [فصلت:9-10]، والأيام الأربعة الأول من العالم قدر الله فيها أقوات الأرض، فما فيها من الأرزاق كان مقدراً منذ ذلك الوقت، والناس يجمعون منه، ويستخرجون، ويبحثون عن الخيرات، والمعادن، ويزرعون، وكل ذلك مما كان مقدراً في الأيام الأربع الأول، فينال الإنسان حظه من ذلك، فإذا مات تركه لمن يأتي وراءه.

مسائله

والمقدمة العاشرة من هذه المقدمات هي: مسائل هذا العلم، ومسائله أهمها: ذكر الوارثين وتعريفهم، وهم ينقسمون إلى قسمين: إلى الوارثين بالفرض، والوارثين بالتعصيب، وبيان أنواع الفرائض، ومن يستحق كل فريضة منها، فالفرائض ستة عن سبعة، فستة منها قرآنية، وواحد اجتهادي، فالستة هي: الثلثان ونصفهما ونصف نصفهما، أي: الثلثان والثلث والسدس، والنصف ونصفه ونصف نصفه، أي: النصف، والربع، والثمن.

فالثلثان ونصفهما ونصف نصفهما، والنصف ونصفه ونصف نصفه، فهذه الستة هي الفرائض، ويضاف إليها ثلث الباقي، سنذكره مستقلاً، لكن هو تابع للثلث في الواقع، لكن الفرائض كلها هي هذه: الثلثان ونصفهما ونصف نصفهما، والنصف ونصفه ونصف نصفه.

وكذلك من المسائل المهمة: ذكر الحجب، وهو ينقسم إلى قسمين: إلى حجب إسقاط، وحجب نقصان، وسيأتي تفصيلهما.

وكذلك ذكر التعصيب، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام؛ لأن العاصب إما أن يكون عاصباً بنفسه، وإما أن يكون عاصباً مع غيره، وإما أن يكون عاصباً بغيره، فالعاصب ثلاثة أقسام: عاصب بنفسه، وعاصب بغيره، وعاصب مع غيره.

وكذلك المسائل المسميات، أي: التركات التي سميت باسم مشتهر مخصوص، مثل: الأكدرية، ومثل: المالكية، وشبه المالكية، ومثل: الدينارية الكبرى، والدينارية الصغرى، ومثل اليمية، أو الحجرية، والمشتركة، هذه مسائل مسميات اشتهرت في علم التركة.

وكذلك من مسائل هذا العلم أيضاً المناسخات وهي عندما يموت ميت فلا تقسم تركته حتى يموت بعض وارثيه، وهذه لها حالات سنبينها إن شاء الله، وكذلك فرائض الإقرار، والإنكار، وهي: إذا أقر أحد الوارثين بوارث، وأنكره الباقون، وتأثير ذلك على التركة.

وكذلك من هذه المسائل: ما يتعلق بقسمة التركة في الجزئيات، فهي ينظر فيها بالأنظار المعروفة لدى أهل الفرائض، وهي التباين، والتوافق، والتداخل، والتماثل، وهذه تسمى الأنظار الأربعة، وسيأتي المكان الذي ينظر فيه بالأنظار الأربعة، والمكان الذي ينظر فيه بنظرين فقط، سيأتي تفصيل ذلك إن شاء الله.

فهذه أهم مسائل هذا العلم، ويضاف إليها مسائل ميراث ذوي الأرحام، والرد على ذوي القربى، ومسائل الهدمى والغرقى؛ الذين ماتوا في وقت واحد، لا يرث بعضهم بعضاً، ومسائل ميراث الخنثى المشكل، ومسائل ميراث الحمل، فكلها مسائل على الاحتمال والتردد، فكلها من مسائل هذا العلم المهمة التي ستروضون فيها عقولكم إن شاء الله تعالى.

وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علمنا، وأن يزيدنا إيماناً ويقيناً وصدقاً وإخلاصاً وعلماً، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.


استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح متن الرحبية [5] 3569 استماع
شرح متن الرحبية [7] 3108 استماع
شرح متن الرحبية [11] 3024 استماع
شرح متن الرحبية [2] 2796 استماع
شرح متن الرحبية [9] 2682 استماع
شرح متن الرحبية [13] 2631 استماع
شرح متن الرحبية [3] 2591 استماع
شرح متن الرحبية [12] 2402 استماع
شرح متن الرحبية [14] 2349 استماع
شرح متن الرحبية [10] 2331 استماع