سلسلة تفسير سورة النور [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وصحابته والتابعين، ومن سار على نهجهم إلى يوم الدين.

أما بعد:

فقد تقدم في المجلس الماضي بيان ما اشتملت عليه هذه الآية الكريمة من حد الزنا، وذكرنا فيه جملة من المسائل الشرعية التي ذكرها العلماء، والتي تتفرع على دلالة هذه الآية الكريمة.

يقول الله تبارك وتعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا [النور:2]

(اجْلِدُوا): فعل أمر، وأصل الجلد سُمي بذلك لمكان إيلامه للجلد، فسمي جلداً من هذا الوجه.

من يتولى الجلد

وقوله تعالى: (فَاجْلِدُوا) ظاهر هذه الآية الكريمة: أن جميع المسلمين يقومون بجلد الزاني والزانية، وليس المراد أن يقوم كل شخص بجلد الزاني، أو جلد الزانية؛ ولكن المراد أن يقوم به المعني بذلك الأمر، كما قرر ذلك المفسرون رحمهم الله، فقالوا: إن الآية أمرت بالنص العام، والمراد بها طائفة مخصوصة، وهم الحكام وولاة الأمر.

فقوله: (فَاجْلِدُوا) المخاطب به ولي الأمر، ومن يقوم مقامه كالقاضي ونحو ذلك ممن يفوض في إقامة الحدود والقيام عليها. ويتفرع على هذا المعنى -استنباط أن الأمر متوجه إلى الولي الذي هو معني بإقامة الحدود- أنه لو قام إنسان فجلد زانياً أمام جماعة من الناس دون سلطة شرعية لم يسقط الحد؛ لأنه ينبغي أن يكون ذلك بالحكم الشرعي المترتب على ثبوت زناه، ثم بعد ذلك يُحكم بجلده.

وقوله تعالى: (فَاجْلِدُوا) قد تقدم بيان أن الجلد إنما يكون بالسوط، والمراد ما كان من السوط وسطاً، فليس بالسوط الطري، ولا بالسوط اليابس الذي يتهشم عند الضرب به، فالمراد به كما يقول العلماء: السوط بين السوطين، أي: الذي هو وسط بين الطري واليابس الذي يتهشم عند الضرب به، وقد حُفِظَت في ذلك آثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الخلفاء الراشدين وغيرهم أنهم اعتبروا الوسط في السوط.

والأصل في إقامة الحد أن يحضره من كان من أهل الفضل ونحو ذلك ممن يكون على بصيرة بأحكامه، حتى يقام الحد على وجهه الشرعي.

ما يجلد من الزاني

وقوله: (فَاجْلِدُوا) يكون الجلد -كما قلنا- بالسوط. والسؤال: ما الذي ينبغي جلده من الزاني والزانية؟

للعلماء في هذا وجهان:

الوجه الأول: أنه يُجلد ظهر الزاني وحده، وهذا هو قول الإمام مالك رحمه الله.

والقول الثاني: أنه يجلد سائر الأعضاء إلا الوجه والفَرْج فإنهما يُتَّقيان لمكان الضرر المترتب على ضربهما، فيفرق الضرب في سائر الظهر ونحوه من الأعضاء: كالساقين، وأسفلهما، وما علا من الظهر.

وهذا الوجه هو قول جمهور العلماء، وممن نص على ذلك فقهاء الحنفية والشافعية والحنابلة رحمة الله على الجميع، واحتج الإمام مالك رحمه الله بقصر الضرب على الظهر بحديث ابن عباس رضي الله عنهما وفيه أنه قال: (إن هلال بن أمية قذف امرأته بـشريك بن سحماء عند النبي صلى الله عليه وسلم فلما قذفها قال له النبي صلى الله عليه وسلم: البينة أو حد في ظهرك).

وجه الدلالة من هذا الحديث الصحيح:

يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم خيَّره بين أمرين: فقال: إما أن تقيم البينة على أنك صادق في أن زوجتك زانية، وإلا أقيم عليك الحد في ظهرك.

فقَصَر الحد في ظهره.

فدل هذا دلالة واضحة على أن الحد إنما يكون في الظهر، واحتج الجمهور بما ورد في حديث علي -يُروَى مرفوعاً وموقوفاً- رضي الله عنه وأرضاه أنه أمر بجلد الزاني فقال رضي الله عنه: (اضربه وأعط كل عضو حقه واتقِ الفرج والفخذين، واتقِ رأسه ومذاكيره). قالوا: فهذا يدل على أنه ينبغي تفريق الضرب.

ثم قالوا أيضاً: وهذا الحديث رواه عبد الرزاق في مصنفه، وكذلك ابن أبي شيبة والبيهقي والصحيح أنه موقوف على علي رضي الله عنه وأرضاه، ويقول أصحاب هذا القول: إنه إذا تفرق الضرب في الظهر فإن ذلك أدعى إلى الإيلام، وأبعد عن أذية العضو؛ لأنه يُخشى إذا ضُرِب في مكان واحد، أن يحصل الضرر للعضو الذي يضرب، وهذان القولان مشهوران عند أهل العلم رحمهم الله، والسنة تقوي المنزع الأول إلا أن يقال: إن قوله عليه الصلاة والسلام: (البينة أو حد في ظهرك) المراد به ذكر أشهر المواضع؛ لأن أكثر المواضع التي تضرب عند ضرب الإنسان في حد الخمر وحد الزنا وحد القذف إنما هو الظهر؛ فلذلك ذكره النبي صلى الله عليه وسلم لا لبيان الاقتصار وإنما لتهديده وتخويفه وبيان الحكم المترتب على قذفه بدون بينة.

هل يجلد قائماً أم قاعداً

المسألة الثانية في الجلد: هل يُضرب الزاني قائماً أو قاعداً؟

قولان للعلماء رحمهم الله:

- فمنهم من قال: إنه يضرب قاعداً على ظهره، وهو مذهب الإمام مالك رحمه الله.

- والقول الثاني: أنه يضرب وهو قائم واقف، وهذا هو مذهب بعض الفقهاء من الشافعية والحنفية رحمة الله على الجميع.

ولكلا القولين وجهه؛ لكن إذا قلنا: إنه يشرع تفريق الضرب في سائر البدن فإنه في هذه الحالة يشرع إقامته، وهذا أبلغ في تفريق الضرب على سائر بدن المجلود والمحدود.

التجريد من الثياب حال الجلْد

المسألة الثالثة: إذا جُلد الزاني أو جُلدت الزانية هل يجردان من الثياب أم تبقى عليهما ثيابهما؟

أما الزانية فاتفق العلماء رحمهم الله على أنها يبقى عليها من ثيابها ما يسترها؛ لأنه إنما يطلب إيلامها، وإيلامها يتأتى مع وجود الثوب عليها، ولأنه من المطلوب شرعاً حفظ عورة المرأة، فكشفها أمام الناس فضيحة وأذية لها وفتنة للناظر، وكل ذلك مخالف لمقصود الشرع الذي يراعي سد أبواب الفتنة، بل إن حد الزنا إنما شرعه الله لقفل باب الفتنة، فالقول بتجريدها موجب لذلك؛ فلذلك أجمع العلماء على عدم تجريدها، ولذلك ثبت في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما اعترفت المرأة بزناها قال الصحابي رضي الله عنه: (فأَمَر بها فشُكَّت عليها ثيابها، وفي رواية: فشُدَّت عليها ثيابها).

فقوله: (فشُكَّت): أي: وُضِع الشوك في داخل العباءة حتى يكون بمثابة الخيط، حتى لا تتكشف إذا تحركت من شدة ضربها ورجمها. وفي الرواية الثانية: (فشُدَّت عليها ثيابها) أي: أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن تُشَدَّ ثيابها عليها على وجه إذا تحركت لم يبد شيء من عورتها وأعضائها.

فهذه السنة تدل دلالة واضحة على أنه ينبغي ستر المرأة إذا أقيم عليها الحد.

أما بالنسبة للرجل فللعلماء في تجريده أقوال:

القول الأول: أنه يجرد أثناء إقامة الحد عليه، وهذا هو مذهب الشافعية والمالكية، يقولون: إنه يجرد من ثوبه.

والقول الثاني: يقول بأنه لا يجرد من ثوبه، وهذا مأثور عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وأرضاه، وقال بعض السلف: إنه لا يشرع تجريد الزاني من ثوبه.

والقول الثالث: أن القاضي أو الإمام مخير، فإن شاء جرده من ثيابه إذا أراد أن يزجر الناس، وكان ذلك أبلغَ في زجره وزجرهم فإنه يشرع له أن يجرده وإلا ضربه وثيابه عليه.

ولكن ينبغي أن يُعْلَم -والذي يظهر والعلم عند الله- أنه لا يُحكم بتجريده من ثيابه إلا بدليل يدل على ذلك، اللهم إلا أن يقال: إن أمر الله عز وجل بالجَلد يدل على طلب إيلام الجِلد، وذلك إنما يكون بالتجريد أكثر مما إذا كان عليه ثوبه؛ ولكن يُجاب بأنه وإن كان عليه ثوبه فإن الألم موجود، وإيلام الجِلد ممكن، فلا وجه لزيادة ذلك بطلب تجريده، ولأنه أبلغ كذلك في أذيته والإضرار به، فهو نوع عقوبة قد تكون زائدةً لعدم وجود النص الذي يدل على ذلك، فالقول بأنه يبقى عليه من الثياب ما يستره من القوة بمكان؛ لكن ينبغي أن يستثنى من ذلك الثياب الغليظة، ولذلك قال العلماء: إذا كان له ثوبان أحدهما غليظ والآخر رقيق فإنه يجرّد عن الثوب الغليظ ويطلب منه أن يلبس الثوب الذي هو أرق منه حتى لا يكون الثوب مانعاً من وصول الضرب؛ فلذلك يشرع إزالة ما يمنع من إقامة الحد على وجهه.

حد العبد والأمة

يقول الله تبارك وتعالى: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ [النور:2]: الأمر بضرب مائة جلدة هذا عام؛ ولكن يُخصَّص من عمومه الرقيق فيضربون خمسين جلدة، وهكذا الأمة الرقيقة فإنها تُجلد خمسين جلدة لقول الحق تبارك وتعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ [النساء:25] أي: عليهن نصف ما على الحرائر من العذاب، وهذا يدل على أن العبد يُجلد نصف ما يُجلده الحر، وكذلك بالنسبة للأمة تُجلد نصف ما تُجلده الحرة.

معنى الرأفة

يقول تبارك وتعالى: فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] الرأفة: هي الرقة والرحمة وللعلماء في هذا النهي الذي ورد في هذه الآية وجهان:

الوجه الأول: مِن العلماء مَن قال: إن الله تبارك وتعالى أراد بهذه الكلمة ألاَّ يمتنع الإنسان من إقامة الحد على الزاني، أو إقامة الحد على الزانية شفقةً عليهما، بل ينبغي ألاَّ تأخذه في الله لومة لائم، وينبغي عليه أن يعلم أن الله أرحم بعباده من عباده بأنفسهم، فهو الذي شرع ذلك، فلابد من مضي شرعه، ولذلك حذر الشرع أيُّما تحذير من تعطيل الحدود، ومن عطل الحد فإنه آثم شرعاً، ومرتكب لكبيرة من كبائر الذنوب، ولذلك ورد في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على عظم شأن الحد، وأنه يُشرع للإنسان أن يدفع الحد بشرط أن لا يبلغ السلطان، فإذا بلغت الحدود إلى السلطان فلعنة الله على الشافع والمشفِّع، وهذا يدل على أنه إذا ثبت الحد الشرعي فلا وجه لتعطيله، ولا وجه للمنع منه، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام لما شُفع في الحد عنده: (أتشفع في حد من حدود الله؟! -استفهام إنكار، أي: ويحك هل تشفع في حد من حدود الله؟!- ثم رقى المنبر وقال: والذي نفسي بيده! إنما أهلك من كان قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وإذا سرق فيهم القوي تركوه، والذي نفس محمد بيده! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها)وهذا يدل على عظم شأن الحدود، ولذلك قال أبو هريرة رضي الله عنه فيما أُثر عنه: (إقامة حد لله خير من أن يمطر الناس مائة عام). وهذا يدل على عظم الحد عند الله، وعظم منزلته عند الأخيار من عباد الله.

الوجه الثاني: يقول بعض العلماء: المراد من هذه الآية التحذير من التساهل أثناء الضرب، فيضرب الجالد ضرباً رقيقاً رفيقاً من باب الرأفة، فأراد الله عز وجل بهذه الآية الكريمة أن يكون الإنسان حال إقامته للحد على الحال الذي ينبغي أن يكون عليه من إقامة الحد، فقوله: (وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) على هذا القول المراد به أن يضرب الضرب الوسط الذي لا رأفة فيه ولا شدة، ولذلك قال بعض العلماء: إنه إذا ضرب لا ينبغي له أن يُبْعِد العضد عن جنبه، وإنما يضرب ولا يتكاسل في ضربه، ويكون وسطاً بين الضربين، فيضرب ضربة بين الضربتين، وهي التي يسميها بعضهم الضربة بين الحانق وهو الرجل الغضبان، وبين المتماوت الذي يضرب ضرباً يسيراً أو رفيقاً، فالمراد بهذه الآية الكريمة على هذا القول أن يكون الإنسان أثناء جلده مراعياً لحد الله، فلا يتساهل ولا يرأف بالشخص المحدود سواءً كان رجلاً أو كان امرأة، ولذلك استشهد بهذه الآية الكريمة عبد الله بن عمر رضي الله عنه وأرضاه ليدلل بها على ما ينبغي أن يكون عليه الجالد.

يقول الله تبارك وتعالى: إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ [النور:2]: أي: يا معشر أهل الإيمان! إن كنتم من أهل الإيمان بالله واليوم الآخر فعظموا حدود الله، وأقيموا شرع الله، ولا تأخذكم في ذلك رأفة تحول بين إقامة الحد على وجهه، بل ينبغي أن تكون الحمية لله، وأن تكون العصبية لدين الله وشرعه وحكمه.

معنى قوله: (في دين الله)

وقوله: فِي دِينِ اللَّهِ [النور:2] أي: في حكمه وشرعه.

وقال بعض العلماء: (فِي دِينِ اللَّهِ) أي: في طاعة الله عز وجل، ولذلك قال الله عز وجل عن يوسف: مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ [يوسف:76] أي على نهجه وشريعته، فالمراد بقوله: (فِي دِينِ اللَّهِ) أي: في طاعته وحكمه سبحانه وتعالى.

وقوله تعالى: (فَاجْلِدُوا) ظاهر هذه الآية الكريمة: أن جميع المسلمين يقومون بجلد الزاني والزانية، وليس المراد أن يقوم كل شخص بجلد الزاني، أو جلد الزانية؛ ولكن المراد أن يقوم به المعني بذلك الأمر، كما قرر ذلك المفسرون رحمهم الله، فقالوا: إن الآية أمرت بالنص العام، والمراد بها طائفة مخصوصة، وهم الحكام وولاة الأمر.

فقوله: (فَاجْلِدُوا) المخاطب به ولي الأمر، ومن يقوم مقامه كالقاضي ونحو ذلك ممن يفوض في إقامة الحدود والقيام عليها. ويتفرع على هذا المعنى -استنباط أن الأمر متوجه إلى الولي الذي هو معني بإقامة الحدود- أنه لو قام إنسان فجلد زانياً أمام جماعة من الناس دون سلطة شرعية لم يسقط الحد؛ لأنه ينبغي أن يكون ذلك بالحكم الشرعي المترتب على ثبوت زناه، ثم بعد ذلك يُحكم بجلده.

وقوله تعالى: (فَاجْلِدُوا) قد تقدم بيان أن الجلد إنما يكون بالسوط، والمراد ما كان من السوط وسطاً، فليس بالسوط الطري، ولا بالسوط اليابس الذي يتهشم عند الضرب به، فالمراد به كما يقول العلماء: السوط بين السوطين، أي: الذي هو وسط بين الطري واليابس الذي يتهشم عند الضرب به، وقد حُفِظَت في ذلك آثار عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الخلفاء الراشدين وغيرهم أنهم اعتبروا الوسط في السوط.

والأصل في إقامة الحد أن يحضره من كان من أهل الفضل ونحو ذلك ممن يكون على بصيرة بأحكامه، حتى يقام الحد على وجهه الشرعي.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
سلسلة تفسير سورة النور [3] 2515 استماع
سلسلة تفسير سورة النور [6] 2488 استماع
سلسلة تفسير سورة النور [1] 2470 استماع
سلسلة تفسير سورة النور [4] 1930 استماع
سلسلة تفسير سورة النور [5] 990 استماع