خطب ومحاضرات
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [19]
الحلقة مفرغة
قال: باب: الإبراد بالظهر في شدة الحر.
عقد هذا الباب لمشروعية الإبراد بالظهر؛ أي: تأخيره عن أول الوقت إذا كان الوقت وقت حر في شدة الحر، وهذا الإبراد المقصود ندبه أو مشروعيته مطلقًا، وقد جاء فيه أحاديث متعارضة حملت على النسخ، فقد جاء في حديث البراء رضي الله عنه قال: ( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حر الرمضاء بجباهنا وأكفنا فلم يشكنا )، وحمل ذلك على أن هذا كان في شدة الحر حيث يبقى ذلك موجودًا ولو أبرد بالصلاة، أو على أن الإبراد هو الذي ثبت متأخرًا، فيكون ناسخًا لما سبق.
وهذا الإبراد إنما يكون بالظهر، أما الإبراد بالعصر فلم يرد؛ لأنها إذا كان قد صلي قبلها الظهر فمن باب أولى؛ فلذلك لا يبرد بالعصر، وقد قال بعض الفقهاء: يبرد بها أيضًا عند شدة الحر؛ رفقًا بالناس ولطفًا؛ لأن الظهر والعصر كلتاهما له وقت متسع، وقد سبق بيان ذلك في حديث أبي مسعود البدري، وذكرنا حديث ابن عباس أيضًا فيه.
الحديث واضح جدًّا، وهو حديث البراء بن عازب، واضح جدًّا أنهم شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يلقون من حر الرمضاء في جباههم وأكفهم؛ أي: في سجودهم في وقت صلاة الظهر، فلم يشكهم، فلم يزل شكايتهم فمعنى ذلك أنه لم يؤخر الصلاة حتى تبرد؛ لأنه لا يمكنه أن يشكيهم بوجود الفرش، يفرشه لهم جميعًا وهم الآلاف في الغزو ونحو ذلك، تصور مثلًا: سبعين ألفًا غزو معه في غزوة تبوك، أو عشرة آلاف غزو معه في فتح مكة ونحو ذلك، أو أربعة عشر ألفًا أو اثنا عشر ألفًا غزو معه في غزوة حنين أو الطائف مثلًا.
وذكرنا أنه قد يكون الإبراد الذي حصل لم يبرد الرمضاء فبقي فيها من الحر ما يؤذي، وهذا الإبراد قدره مختلف فيه، فالمقصود به التأخير عن أول الوقت، وقد كتب عمر إلى عماله أن يبردوا بالظهر حتى يكون الفيء ذراعًا، وهذا الإبراد ظاهره في كتاب عمر أنه مطلق في جميع الأزمنة، وبعد ذلك يزاد إبراد آخر لشدة الحر، فيزاد عن ربع القامة، فالذراع هو ربع القامة كما ذكرنا من قبل: أن قامة الإنسان أربعة أذرع بإبهامه إذا ذرع بالإبهام، وعمر قال: حتى يكون الفيء ذراعًا، وهذا هو ربع القامة.
قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إذا اشتد الحر فأبردوا بالصلاة، فإن شدة الحر من فيح جهنم، واشتكت النار إلى ربها فقالت: يا رب، أكل بعضي بعضي فأذن لي، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف، فهو أشد ما تجدون من الحر، وأشد ما تجدون من الزمهرير )، هذا الحديث بين فيه أبو هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال مخاطبًا أمته: ( إذا اشتد الحر )؛ أي: كان وقت شدته، والمقصود بذلك الأشهر التي يشتد فيها الحر في الصيف ( فأبردوا بالصلاة )؛ أي: أخروا صلاة الظهر حتى تنكسر الهاجرة، وتخف ذروة الحر وذروة شدته، ( فإن شدة الحر من فيح جهنم ) بين علة ذلك وهي الضرر الذي يخشى على الإنسان من شدة الحر؛ لأن شدة الحر قادم من فيح جهنم؛ أي: من شدة حرارتها- أعاذني الله وإياكم منها- وكل ضرر في الأرض سواء كان في أمراض الأبدان أو كان في الأقوات أو في الأمزجة أو نحو ذلك فهو قادم من جهنم- أعاذني الله وإياكم منها- فحرها الشديد يبدأ بالكواكب الحارة كالشمس مثلًا، ثم منها يصل إلى الأرض، فيأتي متدرجًا، ولو وصل إلى الأرض من جهنم مباشرة لمات أهلها من الحر، لكن الله سبحانه وتعالى ما أوصل إليهم من حرها إلا هذه الأشعة التي قد مرت بالشمس أولًا، وأيضًا جعل الشمس بعيدة عن الأرض بعدًا يقتضي أن يصل إليها من أشعتها ما فيه نفع، ويصل إليها أيضًا منها بعض ما فيه ضرر، فما كان من أشعة الشمس وحرها فيه ضرر فهو من فيح جهنم، ووصل إلى الشمس أولًا، ثم يصل إلينا نحن، وهو من تنفس جهنم الذي أذن الله لها بالتنفس فيه.
وكذلك البرد الشديد فهو أيضًا من زمهرير جهنم، ففيه مضرة شديدة على الأبدان لذلك؛ ولذلك يبدأ أيضًا بالكواكب الباردة؛ فإنها يبدأ بها زمهرير جهنم، ما يصل إليها من زمهرير جهنم، ثم يصل إلى الأرض بعد أن وصل إلى تلك الكواكب ليكون ذلك أخف وأسهل، فالأرض جعلها الله بين نوعين من الكواكب: كواكب ساخنة، وكواكب باردة، وتلك الكواكب تشتد الحرارة على بعضها حتى لا يمكن أن يعاش عليه كالشمس؛ فدرجة الحرارة المتوقعة على سطحها تقريبًا أربع عشرة مليون درجة حرارية، وفي كل ثانية يقع عليها ستة آلاف انفجار نووي كل ثانية، تقدير أن يقع ستة آلاف انفجار نووي على الشمس من شدة الحر، وهذه الانفجارات هي من فيح جهنم الذي يصل إليها، وكذلك الزمهرير والبرد الشديد يصل إلى الكواكب الأخرى من جهنم أيضًا، فيصل إلى الأرض، فما كان فيه من الضرر فهو قادم من جهنم، لكنه خف بعد جهنم بمروره بتلك الكواكب؛ فلذلك بين أن شدة الحر من فيح جهنم؛ وذلك مقتض لعدم التعرض لها؛ لأننا نكره جهنم، ونخافها ونخاف الضرر الذي يلحق منها؛ فلذلك نكره شدة الحر، ونكره شدة البرد بما فيهما من الضرر، فإنهما قادمان من جهنم، أعاذنا الله منها.
(فإن شدة الحر من فيح جهنم) والفيح: من فاح يفوح إذا خرجت صهارته وصهده، فرائحة المسك يقال فيها: فاحت تفوح، وكذلك الصهارة؛ أي: الحر الناشئ من النار فإنه يسمى فيحًا أيضًا كما هنا.
واشتكت النار إلى ربها فقالت: ( يا رب، أكل بعضي بعضًا، فأذن لها بنفسين: نفس في الشتاء، ونفس في الصيف ) هذا أيضًا من تمام هذا الحديث هنا، وقد فصل فيمكن أن يكون أبو هريرة سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا متصلًا، ويمكن أن يكون سمع الأول وحده، وسمع الثاني وحده، ولتعلقهما في المعنى جمعهما، وهذا يرجع إلى الخلاف في مفرد الحديث ما هو؟ فمن المعلوم أن القرآن مفرده هو الآية، وآيات القرآن توقيفية، فلا يمكن أن تقسم أنت آية فتجعلها آيتين مثلًا أو ثلاثة؛ لأن ذلك توقيفي من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنتم تعرفون عدد آيات القرآن بالتوقيف.
أما الحديث فليس له وحدة للقلة محددة، ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم تفصيله، فاختلف أهل العلم في وحدة الحديث على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أن كل ما حدث به النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس واحد فهو حديث طال أو قصر، فإذا حدث بالحديث الطويل بخطبة طويلة جدًّا تكون حديثًا واحدًا، ولو تناولت موضوعات شتى.
القول الثاني: أنه كل جملة قائمة بمعناها؛ أي: كل معنى مستقل تناوله النبي صلى الله عليه وسلم في كلامه فهو حديث، ولو كان في الخطبة الواحدة تناول عشرين موضوعًا أو أكثر، فكل موضوع منها يعتبر حديثًا وحده.
القول الثالث: أن الحديث هو ما حدث به الراوي في سياق واحد، فلا تكون تجزئته توقيفية إلى النبي صلى الله عليه وسلم، بل تكون راجعة إلى المحدث، فالمحدث هو الذي يقطعه، وهذا القول الأخير- وهو أنه ما حدث به الراوي في سياق واحد- هو الذي أخذ به جمهور المحدثين، فتجدون أن البخاري من مذهبه اختصار الحديث أنه يُجيز اختصار الحديث بحذف بعض جمله ولو كان من الوسط، فأول حديث في الصحيح في صحيح البخاري يقول فيه: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى ).
فالقول الثالث يقتضي أن تجزئة الحديث هي إلى الراوي، فأول حديث في صحيح البخاري هو: ( إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه )، وهذا الحديث اختصره البخاري من الوسط، فحذف منه ( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ) حذف هذه الجملة، فدل ذلك على أن تجزئة الحديث في اعتبارهم الراجح راجعة إلى الراوي؛ أي: المحدث، فما ساقه من سياق واحد فهو حديث ولو تناول موضوعات شتى، كحديث جابر في حجة الوداع، فمن المعلوم أنه لم يكن في مجلس واحد من مجالس النبي صلى الله عليه وسلم، بل شمل شهرًا تقريبًا من سفر النبي صلى الله عليه وسلم إلى رجوعه؛ فلذلك هذا الحديث هنا يمكن أن يكون أبو هريرة سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في مجلس واحد، ويمكن أن يكون سمعه في مجلسين، فجمع هو بين طرفيه تارة يحدث بالأول فقط، وتارة يحدث بالآخر فقط، وتارة يجمعهما كما هنا.
فقال: ( واشتكت النار إلى ربها ) هذا إخبار عن أمر غيبي حصل في الماضي أن النار اشتكت إلى ربها جل جلاله، والله سبحانه وتعالى يعلم شكواها، ونحن لا نعلم ذلك، فهذا من الأمور التي نؤمن بها ولا نبحث عن كيفياتها، ( اشتكت النار إلى ربها ) ومعنى شكواها: طول ما أوقد عليها؛ فإنها أوقد عليها حتى احمرت، ثم أوقد عليها حتى اسودت فاشتد حرها حرًّا شديدًا، والمقصود بذلك الجانب الذي هو الجحيم منها، والنار عدة طبقات، وعدة جوانب، ففيها جانب هو الجحيم فيه الحر الشديد، وفيها جانب آخر الذي فيه الزمهرير، وهو البرد الشديد، وكل لأهله، نسأل الله السلامة والعافية.
فقالت: ( يا رب، أكل بعضي بعضي ) قالت النار ذلك، والله سبحانه وتعالى يعلم كيف تقوله، ونحن كما ذكرنا ليس من تكليفنا أن نفكر كيف تتكلم النار، فنحن نؤمن أن هذا حق ولكن لا نبحث عن كيفيته، ( يا رب، أكل بعضي بعضي )؛ أي: من شدة ذلك، فهي تريد أن يحشر إليها بعثها وتشتاق إليهم؛ لأنها تتوعدهم؛ ولذلك تفرح بهم يوم القيامة: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا [الفرقان:12-14].
فقالت: ( يا رب، أكل بعضي بعضي، فأذن لها بنفسين ) أذن الله لها؛ أي: لجهنم بنفسين تتنفسهما، فتخرج بعض ما فيها من الحر؛ لأنه كان بعضها يأكل بعضًا فيتراجع، ما فيها من الحر يرجع إليها، وهذا شأن النار إذا لم تجد شيئًا تأكله فإنها تأكل نفسها، كما قال الحكيم:
اصبر على مضض الحسود فإن صبرك قاتله
كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله
فالحسود إذا حسدك فلم تجازه بحسده وتغافلت عنه كأنك لا تشعر به:
ولقد أمر على اللئيم يسبني فمضيت ثم أقول لا يعنيني
حيران ممتلئًا علي إهابه إني وربك سخطه يرضيني
فإذا تجاهلته كان ذلك مخزاة له ومندبة؛ لأنه كالنار تأكل بعضها إن لم تجد ما تأكله.
( أكل بعضي بعضًا )، و(بعض) بمعنى: جزء، وقد قال بعض أهل العلم: يختص ذلك باليسير دون الكثير مما دون النصف، ولكن الصحيح أنه يشمل النصف وما كان أكثر منه وما كان أقل، بدلالة قول الشاعر:
داينت سلمى والديون تقضى فمطلت بعضًا وأدت بعضا
فهذا البيت إذا حملت (مطلت بعضًا) على القليل فلابد أن تحمل (أدت بعضًا) إلى الكثير، وإذا حملت (مطلت بعضًا) على الكثير لا بد أن تحمل (وأدت بعضًا) على القليل، فإذًا بينهما تلازم، فلابد أن تحمله على المعنيين معًا ( أكل بعضي بعضًا ) فأذن لها بنفسين تتنفسهما لتخرج بعض حرارتها أو بعض حرها وبردها، فالنفس الأول نفس للحر، والنفس الثاني نفس للبرد، فالنفس الذي هو من حرها تخرجه في شدة الحر في الصيف، والنفس الذي هو من شدة بردها تخرجه في شدة البرد في الشتاء، فأذن لها بنفسين: (نفس في الشتاء) بدلًا من (نفسين)، فأبدل من (نفسين) قوله: ( نفس في الشتاء ونفس في الصيف ) فهما النفسان اللذان أذن الله بهما لجهنم، فأذن لها بأن تتنفس في الشتاء تنفسًا فتخرج به بعض ما فيها من البرد الشديد، وأذن لها بتنفس آخر تتنفسه في الصيف فتخرج بعض ما فيها من الحر الشديد، وقد ذكرنا أن وصول ذلك إلى الأرض لا يأتي إلا في أزمنة متطاولة، ويأتي عبر الكواكب الأخرى، فقد يكون صيف هذا العام مثلًا كان تنفسًا لجهنم قبل آلاف السنين، وليس بالضرورة من تنفسها في هذا العام مثلًا؛ لأنه سيمر بالكواكب الأخرى، وكذلك تنفسها في الشتاء ونحو ذلك؛ فلذلك قال: ( فهو أشد ما تجدون، من الحر وأشد ما تجدون من الزمهرير ) (فهو)؛ أي: تنفسها وذلك مفهوم من النفسين؛ لأن النفس اسم عين، والتنفس معناه: إخراجه، وهو اسم معنًى، واسم العين يدل على اسم المعنى هنا؛ فلذلك اعتبرت دلالة اسم العين على اسم المعنى لما قال: ( نفس في الشتاء ونفس في الصيف ) دل ذلك على أنها ستتنفسهما، والتنفس هو اسم المعنى؛ فلذلك قال: (فهو)؛ أي: التنفس الذي أشد ما تجدون من الحر، وهو أيضًا أشد ما تجدون من الزمهرير، الزمهرير: البرد الشديد، فهذان نفساها: نفس الحر يأتي في الصيف، ونفس الزمهرير يأتي في الشتاء.
عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه قال: ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبرد، ثم أراد أن يؤذن فقال له: أبرد، حتى رأينا فيء التلول )، هذا الحديث تحديد لسابقه، وبيان لقدر الإبراد المطلوب بالظهر، فقد رواه أبو ذر جندب بن جنادة الغفاري رضي الله عنه قال: ( كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر، فأراد المؤذن أن يؤذن للظهر )؛ أي: عند دخول وقتها ( فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أبرد ) فأمره أن يؤخر الظهر إلى البرد ( ثم أراد أن يؤذن )؛ أي: بعد مدة ( فقال له: أبرد )؛ أي: مرة أخرى ( حتى رأينا فيء التلول )؛ أي: حتى رأينا الظل الراجع من التلول، والتلول جمع (تل) وهو المكان المرتفع من الأرض، سواء كان من رمل أو من غيره، فالتلول ظلها يفيء إلى الشرق؛ أي: يرجع بعد الزوال، وإنما يرى عندما يطول، ولا يكون ذلك إلا بالإبراد الشديد، حيث يكون ظلها كالقامة على قدرها مثلًا أو قريبًا من ذلك.
من فوائد حديث أبي ذر
والحديث يدل على مشروعية الإبراد بالظهر، ولم يحدد أبو ذر هنا هل كان ذلك في وقت الصيف أو في وقت الشتاء، ولكن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أبرد ) مؤذن بأن ذلك في الحر، أنه كان في الحر.
وكذلك في الحديث دلالة على أن المسافر يرخص له ما لا يرخص لغيره؛ لأن هذا الإبراد كان في السفر، ( قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ) والمسافر روعيت ظروفه للمشقة اللاحقة به، وقد قال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، فنفى الله المشقة عن هذه الأمة؛ فلذلك للمسافر أن يجمع ظهرين في وقت الأولى، وله أن يجمعهما في وقت الثانية، وله أن يجمع العشاءين في وقت الأولى، وله أن يجمعهما في وقت الثانية، وقد قصرت عنه الرباعية، فيلزمه منها ركعتان فقط، وكل ذلك من لطف الله به ورفع المشقة عنه.
والمقصود بالمؤذن هنا بلال، فهو مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم المعهود، فـ(أل) فيه عهدية؛ أي: المؤذن المعهود وهو بلال.
ويدل هذا على أن الإبراد إذا حصل بالصلاة فإنه أيضًا يحصل بالأذان معها، فالإبراد إنما يكون بأداء الصلاة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم هنا أمر المؤذن أيضًا أن يؤخر الأذان، وذلك أن الأذان فيه دعاء للناس للحضور إلى الصلاة؛ لأن المؤذن يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، والناس يجيبونه، فإذا أجابوه وانتظروا الصلاة زادت المشقة بانتظارها؛ فلذلك يكون الرفق بهم أن لا يؤذن المؤذن أصلًا؛ لئلا يحرجوا بإجابته، حتى يكون الوقت متصلًا بوقت الصلاة، فيؤذن المؤذن لذلك، وتفهمون هذا من أن المؤذن أراد أن يؤذن مرتين، وكل ذلك يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإبراد فيقول: ( أبرد ) مما يدل على أن الإبراد يشمل الإبراد بالأذان أيضًا، وعلى هذا فإذا أراد المسافر أن يجمع جمع تأخير فليؤخر الأذان، وليجعله أذانًا واحدًا، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مزدلفة أن بلالاً كان يذكره بالصلاة فيقول: ( يا رسول الله، الصلاة، فيقول: إن الصلاة أمامك، فلما نزل بمزدلفة أذن بلال وأقام، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم أقام فصلى العشاء بأذان واحد وإقامتين )، فكذلك حال الجمع، يؤخر الأذان إلى وقت أداء الصلاة، حتى لو كانت في آخر وقت الأولى، أو في آخر وقت الثانية، فيبقى الأذان لها.
ويدل ذلك أيضًا على أن المسافرين الذين لا يطلبون من يزيد الجماعة يشرع لهم الأذان، ومن كان في فلاة من الأرض- ولو كان وحده- فإنه يشرع له الأذان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كنت في غنمك وباديتك فأذن؛ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له )، وأخبر: ( أن الشخص إذا كان بفلاة من الأرض، فتوضأ وأحسن الوضوء، ثم أذن وأقام، صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال )، فيحصل له فضل الجماعة- ولو كان منفردًا- بأذانه وإقامته، أما من كان في الحاضرة، وقد تخلف عن الصلاة لعذر كنوم وغيره فلا يشرع له الأذان؛ لأنه لا يطلب قدوم أحد وهو يقول: حي على الصلاة، وهذه معناها: تعالوا إلى الصلاة، فإذا كان لا يطلب أحدًا فلا يمكن أن يناديه بذلك.
والحديث يدل على مشروعية الإبراد بالظهر، ولم يحدد أبو ذر هنا هل كان ذلك في وقت الصيف أو في وقت الشتاء، ولكن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( أبرد ) مؤذن بأن ذلك في الحر، أنه كان في الحر.
وكذلك في الحديث دلالة على أن المسافر يرخص له ما لا يرخص لغيره؛ لأن هذا الإبراد كان في السفر، ( قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ) والمسافر روعيت ظروفه للمشقة اللاحقة به، وقد قال الله تعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78]، فنفى الله المشقة عن هذه الأمة؛ فلذلك للمسافر أن يجمع ظهرين في وقت الأولى، وله أن يجمعهما في وقت الثانية، وله أن يجمع العشاءين في وقت الأولى، وله أن يجمعهما في وقت الثانية، وقد قصرت عنه الرباعية، فيلزمه منها ركعتان فقط، وكل ذلك من لطف الله به ورفع المشقة عنه.
والمقصود بالمؤذن هنا بلال، فهو مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم المعهود، فـ(أل) فيه عهدية؛ أي: المؤذن المعهود وهو بلال.
ويدل هذا على أن الإبراد إذا حصل بالصلاة فإنه أيضًا يحصل بالأذان معها، فالإبراد إنما يكون بأداء الصلاة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم هنا أمر المؤذن أيضًا أن يؤخر الأذان، وذلك أن الأذان فيه دعاء للناس للحضور إلى الصلاة؛ لأن المؤذن يقول: حي على الصلاة، حي على الفلاح، والناس يجيبونه، فإذا أجابوه وانتظروا الصلاة زادت المشقة بانتظارها؛ فلذلك يكون الرفق بهم أن لا يؤذن المؤذن أصلًا؛ لئلا يحرجوا بإجابته، حتى يكون الوقت متصلًا بوقت الصلاة، فيؤذن المؤذن لذلك، وتفهمون هذا من أن المؤذن أراد أن يؤذن مرتين، وكل ذلك يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بالإبراد فيقول: ( أبرد ) مما يدل على أن الإبراد يشمل الإبراد بالأذان أيضًا، وعلى هذا فإذا أراد المسافر أن يجمع جمع تأخير فليؤخر الأذان، وليجعله أذانًا واحدًا، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة مزدلفة أن بلالاً كان يذكره بالصلاة فيقول: ( يا رسول الله، الصلاة، فيقول: إن الصلاة أمامك، فلما نزل بمزدلفة أذن بلال وأقام، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المغرب، ثم أقام فصلى العشاء بأذان واحد وإقامتين )، فكذلك حال الجمع، يؤخر الأذان إلى وقت أداء الصلاة، حتى لو كانت في آخر وقت الأولى، أو في آخر وقت الثانية، فيبقى الأذان لها.
ويدل ذلك أيضًا على أن المسافرين الذين لا يطلبون من يزيد الجماعة يشرع لهم الأذان، ومن كان في فلاة من الأرض- ولو كان وحده- فإنه يشرع له الأذان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إذا كنت في غنمك وباديتك فأذن؛ فإنه لا يسمع مدى صوت المؤذن إنس ولا جن ولا شيء إلا شهد له )، وأخبر: ( أن الشخص إذا كان بفلاة من الأرض، فتوضأ وأحسن الوضوء، ثم أذن وأقام، صلى وراءه من الملائكة أمثال الجبال )، فيحصل له فضل الجماعة- ولو كان منفردًا- بأذانه وإقامته، أما من كان في الحاضرة، وقد تخلف عن الصلاة لعذر كنوم وغيره فلا يشرع له الأذان؛ لأنه لا يطلب قدوم أحد وهو يقول: حي على الصلاة، وهذه معناها: تعالوا إلى الصلاة، فإذا كان لا يطلب أحدًا فلا يمكن أن يناديه بذلك.
ثم قال: باب: وقت الظهر عند الزوال.
عقد هذا الباب لبيان أن وقت الظهر يبدأ من الزوال؛ أي: من زوال الشمس عن وسط السماء، فإذا زالت الشمس عن وسط السماء فذلك بداية وقت الظهر، ومعنى (عند): الحضور والقرب؛ أي: هذه البداية هي بداية وقت الظهر، وسميت الظهر ظهرًا إما من الظهيرة؛ لأن وقت وجوبها يبدأ في الظهيرة، أو من الظهور؛ لأنها أول صلاة ظهرت في الإسلام.
قال: عن أنس بن مالك رضي الله عنه: ( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس فصلى الظهر، فقام على المنبر فذكر الساعة، فذكر أن فيها أمورًا عظامًا، ثم قال: من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل، فلا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم ما دمت في مقامي هذا، فأكثر الناس في البكاء، وأكثر أن يقول: سلوني، فقام عبد الله بن حذافة السهمي فقال: من أبي؟ فقال: أبوك حذافة، ثم أكثر أن يقول: سلوني، فبرك عمر رضي الله عنه على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينا، وبمحمد نبيًّا، فسكت، ثم قال: عرضت علي الجنة والنار آنفًا في عرض هذا الحائط، فلم أر كالخير والشر )، وقد تقدم بعض هذا الحديث في كتاب العلم من رواية أبي موسى لكن في هذه الرواية زيادة ومغايرة ألفاظ.
أتى في هذا الباب- وهو وقت الظهر عند الزوال- بحديث أنس هذا، فإن أنس بن مالك رضي الله عنه يحدث: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج حين زاغت الشمس؛ أي: في أول وقت الزوال فصلى الظهر، وقد كان ذلك بالمدينة؛ ولذلك قال: ( فقام على المنبر )؛ أي: المنبر المعهود، وهو منبره في مسجده في المدينة، (فذكر الساعة)؛ أي: لما قام على المنبر ذكر للناس القيامة ومشاهدها، ووعظهم بما فيها من الأمور العظام؛ ولذلك قال: ( فذكر أن فيها أمورًا عظامًا ) وكل أمور القيامة عظام، فكل مشهد من مشاهدها ينسي ما قبله، فالقيامة تنقسم إلى قسمين: إلى قيامة صغرى، وقيامة كبرى، فالقيامة الصغرى هي: موت الإنسان، والقيامة الكبرى هي: قيامة الجميع: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ [المطففين:6].
مشاهد القيامة الصغرى
والقيامة الصغرى أول مشاهدها ومنازلها: القبر، فهو أول منازل الآخرة، وهو أعظم من كل ما قبله، وأعظم منه كل ما بعده؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( لما وضع ميت في قبره أشار بيده أن كفوا، ثم نظر إليه ساعة فقال: أي إخواني، أعدوا لمثل هذه الضجعة )، وبعد ذلك: ضمة القبر، التي تختلف منها الأضلاع، وتزول منها الحمائل، ثم بعد ذلك: سؤال الملكين: منكر، ونكير، ثم بعد ذلك: عرض العمل على الإنسان، إن كان محسنًا جاءه عمله في أحسن صورة وأحسن رائحة فيقول: أبشر بخير، فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بخير، فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك الصالح، وأنا أنيسك في غربتك، وإن كان مسيئًا جاءه في أقبح صورة وأنتن رائحة فيقول: أبشر بسوء، فيقول: وجهك الوجه الذي يبشر بسوء، فمن أنت؟ فيقول: أنا عملك السيئ، وأنا صاحبك في غربتك، ثم بعد ذلك: الليلة الأولى التي يبيتها الإنسان بين الموتى، ولم يبت معهم قبلها، وأمرها عظيم وجاء فيها: ( ليلتان لم تسمع الخلائق بمثلهما: ليلة يبيت مع الموتى، ولم يبت معهم قبلها، وليلة صبيحتها يوم القيامة )، فهي ليلة عظيمة جدًّا، يبدو فيها للإنسان من الله ما لم يكن يحتسب، ويرى فيها كثيرًا مما كان مغطًى عنه: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ المَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ * لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ [ق:19-22].
مشاهد وأهوال القيامة الكبرى
وبعد ذلك القيامة الكبرى، ومشاهدها تبدأ: بنفخ الملك في الصور، وقد التقمه الآن، وأصغى ليتًا ينتظر الإذن، (أصغى ليتًا)؛ أي: رفع أحد شقي رقبته ينتظر الإذن له بالنفخ، فينفخ فيه نفخة الفزع ،فيصعق لها الخلائق جميعًا، ويمكثون أربعين سنة، ثم ينفخ فيه النفخة الثانية، فإذا هم قيام ينظرون، وحينئذ ينادي المنادي في الناس: هلموا إلى ربكم، فيخرجون من الأجداث إلى ربهم ينسلون، وتبدل الأرض غير الأرض، فتبس بسًّا، ويزول ما فيها من الجبال والأودية، فتكون الجبال كالعهن المنفوش؛ أي: كالصوف المندوف، الذي تفيئه الرياح يمينًا وشمالًا، ويذهب كل ما فيها من الأودية، ثم تنفض نفض الجراب، تزلزل زلزالها، فتنفض نفض الجراب، فتلقي ما فيها من الكنوز والمعادن والجثث، ثم بعد ذلك تشقق السماء، فهي يومئذ واهية، وتطوى كطي السجل للكتب، ويحشر الناس إلى الساهرة، فيأتونها كالجراد المنتشر، وكالفراش المبثوث، فيجتمعون فيها أولهم وآخرهم، يقف الواقف على طرفها فيرى طرفها الآخر، وهم جميعًا حفاة عراة غرل مشاة: كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ [الأنبياء:104]، وحينئذ تدنو الشمس فوق رءوسهم حتى تكون كالميل، ويشتد العرق، فمن الناس من يصل العرق إلى كعبيه، ومنهم من يصل إلى ركبتيه، ومنهم من يصل إلى حقويه، ومنهم من يصل إلى سرته، ومنهم من يصل إلى ثدييه، ومنهم من يصل إلى ترقوتيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا، وذلك بعد أن يسيح في الأرض سبعين ذراعًا، ثم بعد ذلك يؤتى بجهنم، تقاد بسبعين ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك، فتحيط بالناس من كل جانب، ويقودها الملائكة، ويجرونها جرًّا، وفيها أربعة مليارات وتسعمائة مليون من الملائكة يقودونها، سبعين ألف ضرب سبعين ألف، لها سبعون ألف زمام، في كل زمام سبعون ألف ملك، وتحيط بالناس من كل جانب: وَجَاءَ رَبُّكَ وَالمَلَكُ صَفًّا صَفًّا * وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى * يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي [الفجر:22-24]، ويتجلى الباري جل جلاله لفصل الخصام: وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ * يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ [الحاقة:17-18]، وهذه أمور عظام جدًا.
الشفاعة والموقف والعرض
وبعدها الشفاعة والخروج من الموقف، ثم العرض على الله جل جلاله، ثم بعد ذلك إخراج الصحف، ثم أخذها إما باليمين وإما بالشمال، فمن بيض الله وجهه حتى يخترق في النور مسافة خمسمائة عام، تطيب يده اليمنى، فتكون بيضاء، فيأخذ بها كتابه تلقاء وجهه فيفرح به فرحًا شديدًا، فينادي فيقول: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الأَيَّامِ الْخَالِيَةِ [الحاقة:19-24]، ومن كان من أهل الشقاوة سود الله وجهه، فلا يرى موضع قدمه، وتؤخذ يمينه فتغل إلى عنقه بغل من نحاس، ثم يثقب صدره من بين ثدييه حتى يخرج الثقب من بين كتفيه، ثم تؤخذ يده الشمال فتدخل من بين ثدييه حتى تخرج من بين كتفيه، فيعطى بها كتابه وراء ظهره فينادي: يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ [الحاقة:25-29].
الميزان والصراط
ثم بعد ذلك وزن الأعمال، فيوضع الميزان بالقسط وله كفتان ولسان، فتوزن فيه أعمال من كان له حسنات، فمن رجحت كفة حسناته كان ناجيًا، ومن رجحت كفة سيئاته كان هالكًا، ثم بعد ذلك تزلف الجنة لأهلها والنار لأهلها، ثم ينصب الجسر- وهو الصراط- على متن جهنم، ويستبق الناس إليه: فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ [يس:66]، ثم بعد ذلك يمضون فوقه، فمنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح المرسلة، ومنهم من يمر كأجاويد الخيل والإبل، ومنهم من يمر كالرجل يشتد عدوًّا، ومنهم من يزحف على مقعدته، فناج مسلم، ومخدوش مرسل، ومكردس على وجهه في نار جهنم.
ثم بعد ذلك يرسل بعث النار إلى النار، ووفد الجنة إلى الجنة، وهذه مشاهد عظام جدًّا كبيرة، وقد ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم فطواها أنس في قوله: ( فذكر أن فيها أمورًا عظامًا ) وشأن الآخرة كله عظيم، فكل ما فيها من الأمور من العظائم، وهي إحدى الكُبر، كما أقسم الله على ذلك في كتابه؛ ولذلك كل أسمائها في القرآن مروعة مفظعة، إذا قرأتم أسماءها في القرآن تجدون: الحاقة، والقارعة، والواقعة، والآزفة، والطامة، والصاخة، والساعة، والقيامة، كلها أسماء مروعة مفظعة؛ لدلالتها على مسمياتها الكبيرة المرعبة؛ فلذلك قال: ( فذكر أن فيها )؛ أي: في الساعة ( أمورًا عظامًا ).
ثم قال: ( من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل ) إنما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك حين غضب من كثرة أسئلتهم، فسألوه عن أمور كان يظن أنهم تأدبوا بحيث لا يسألون عن أمثالها، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ( من أحب أن يسأل عن شيء فليسأل، فلا تسألوني عن شيء إلا أخبرتكم ما دمت في مقامي هذا )؛ أي: ما دام واقفًا على المنبر، لا يسألونه عن أي شيء إلا أخبرهم به، وهذا وعد منه، ( فأكثر الناس في البكاء )؛ أي: بكى الناس- وهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم- لشدة اتعاظهم بالقيامة، ولغضب النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا؛ ولأنهم رأوا أمرًا غير معهود، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدثهم حتى عن الغيب كأنهم يرونه، وليتصور كل واحد منا مثلًا امتحانه بالإيمان بالغيب فكيف إذا رآه وأخبر به بتفصيله؟!
( وأكثر أن يقول: سلوني )؛ أي: أكثر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول: سلوني، وذلك لشدة غضبه ( فقام عبد الله بن حذافة السهمي ) وهو: عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي، وهو من بني سهم بن عمرو بن هصيص من قريش، وكان من أسرة شريفة منهم، فجده قيس بن عدي يضرب به المثل في العز، كما قال عبد المطلب في وصف النبي صلى الله عليه وسلم:
كأنه في العز قيس بن عدي في دار كعب ينتدي أهل الندي
وعبد الله بن حذافة أسلم هو وأسلمت أمه- وكانت امرأة صالحة عفيفة- فقال: من أبي؟ سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن أبيه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أبوك حذافة )، فأثبت نسبه، وقد يكون عبد الله بن حذافة أراد بذلك أن يتأكد من نسبه؛ لأن أنساب أهل الجاهلية فيها ما فيها، وقد يكون ذلك لدعابة فيه، فكان كثير الدعابة واللعب، فهو الذي حل غرض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على ناقته، ويقصد بذلك مداعبته.
غرض الراحلة، رحل رسول الله صلى الله عليه وسلم مشدود على الناقة، والرسول يركب على الرحل، فحل هو غرضها به، فانتبه لذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو الذي كان أميرًا على سرية، فأصابهم برد، فأوقدوا نارًا فأمرهم أن يزيدوها، فجمعوا حطبًا كثيرًا، فأوقدوا نارًا كبيرة، فقال: ألستم تعلمون أنني أميركم؟ قالوا: بلى، قال: أليس يجب عليكم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال: فقد عزمت عليكم أن تتواثبوا في هذه النار، فهم بعضهم أن يثب فيها حتى تحاجزوا، أمسك بعضهم بعضًا، وقال بعضهم: ما أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا فرارًا من النار فكيف ندخل فيها؟! ( فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك، قال: لو دخلوها ما خرجوا منها، إنما الطاعة في المعروف )، الطاعة لا تكون إلا في المعروف؛ فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
وعبد الله كان من المقربين من النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أرسله بكتابه إلى كسرى، وقد كان أيضًا من الذين لهم المشاهد في الإسلام، وهو الذي أسر مع مائة أسير من المسلمين في الشام، فلما أسروا وجيء بهم إلى طاغية الروم- وكان يعرف شدة كراهة المسلمين للكفار وشدة تقززهم منهم واحتقارهم لهم- فقال لهم الطاغية: إذا قبل أحدكم رأسي فسأطلق سراحكم جميعًا- فبادر عبد الله بن حذافة وقبل رأس الطاغية، فأطلق له الأسرى- وكانوا مائة- فلما رجع إلى المدينة- وقد استنكر ذلك عليه أصحابه- فدخل المسجد على عمر، أمر عمر كل من في المسجد أن يقبلوا رأس عبد الله بن حذافة؛ لأنه قد اجتهد اجتهادًا فأطلق به مائة أسير من أسرى المسلمين، ويقال: إن أمه حلفت ألا تكلمه بعد؛ لأنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أبيه، فلو كان نسبه لغير أبيه لكانت سبة على أمه إلى يوم القيامة، وهي من نساء الجاهلية، وقد كان هذا فيها، وقالت: إنما أنت معتوه فلا أكلمك بعد، وفي ذلك يقول البدوي رحمه الله في الأنساب:
وسأل النبي من أبوه.. إلى أن يقول:
.. فهو إذًا معتوه
لدى الحصان أمه
(الحصان) معناه: العفيفة، فجعلته معتوهًا.
وفي هذا الحديث أن رجلًا آخر سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: من أبي؟ فنسبه لغير أبيه، قال: أبوك فلان مولى بني فلان؛ فنسبه لغير أبيه، وهذا الذي خافت منه أم عبد الله بن حذافة.
فقال: أبوك حذافة، ثم أكثر أن يقول: سلوني، فبرك عمر رضي الله عنه على ركبتيه فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا، كان عمر رضي الله عنه من أفقه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعلمهم بما ينبغي أن يكون الأدب عليه؛ فلذلك لما رأى غضب النبي صلى الله عليه وسلم واستمراره وهو يقول: سلوني، سلوني، ورأى أن بعض الناس سيتجاسرون على المسألة فقد سأل رجلان عن آبائهما، فربما يسأل الناس عن الأنساب، أو يسألون عمن قتل آباءهم، أو يسألون عما يحدث فتنة بينهم، قام عمر فبرك بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم على ركبتيه، والمقصود بذلك: التوبة إلى الله سبحانه وتعالى مما أغضب النبي صلى الله عليه وسلم، فأعلن باسم أصحابه التوبة إلى الله مما أغضبوا به رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبرك على ركبتيه، والمقصود أنه انحنى إجلالًا لله عز وجل، وتعظيمًا لشأنه، وتوبة إليه فقال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيا (فسكت)؛ أي: سكت النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على جواز الكلام في الخطبة إذا لم تكن خطبة جمعة، وقد اختلف أهل العلم في ذلك، فرأى بعضهم جواز الكلام في الخطبة؛ لأن عمر هنا تكلم حيث لم يؤذن له، ولم يكن سائلًا، والذين سألوا لهم الحق أن يسألوا؛ لأن الإمام أذن لهم في ذلك كحال الجمعة، فالخطيب إذا كان على المنبر فسأل إنسانًا يوم الجمعة فله أن يتكلم وأن يجيبه، كما فعل سليك الغطفاني عندما سأله النبي صلى الله عليه وسلم: أصليت؟ لكن يبدو أن هذا الكلام إنما كان لحاجة لا بد منها كما فعل عمر توبة مما أغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والكلام الذي قاله عمر هو مبالغة في التوبة؛ لما فيه من الاستسلام التام لحكم الله تعالى، فإنه قال: رضينا بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًّا، وحينئذ سكت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومعنى سكت هنا: رضي أو انقطع غضبه، فيقال: سكت الغضب عن فلان بمعنى: رضي، وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ [الأعراف:154] معناه: انقطع عنه الغضب.
(ثم قال)؛ أي: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( عرضت علي الجنة والنار آنفًا في عرض هذا الحائط )، عرضت عليَّ الجنة والنار؛ أي: مثلتا له، وليس المقصود عرضهما عرضًا حقيقيًّا؛ لأن الحائط لا يمكن أن يتحمل الجنة والنار، فالجنة عرضها كعرض السماء والأرض، والنار كذلك على سعة، فالمقصود هنا أنهما مثلتا له: (في عرض هذا الحائط)؛ أي: في اتجاهه؛ أي: في جهته، والحائط المقصود به جدار المسجد، فقد مثلتا له في جدار المسجد، وقد حصل ذلك في أكثر من مشهد قد حصل للنبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يصلي بالناس إمامًا فتقدم في الصلاة كأنه يتناول شيئًا، ثم بعد ذلك تكعكع؛ أي: رجع على عقبيه حتى كاد يغشى الصف؛ أي: كاد يصل إلى الصف الذي وراءه، وخاف الناس لذلك خوفًا شديدًا، فلما سلم أخبرهم أنه: عرضت عليه الجنة في عرض الحائط، فتقدم إليها فرأى أن يأخذ منها عنقودًا، ولو أخذه لأكل الناس منه إلى يوم القيامة، عنقود واحد منها لو أخذه، لو تناوله لأكل الناس منه إلى يوم القيامة ولم ينفد، فكل ما في الجنة لا نفاد له، وأنه عرضت عليه النار فتأخر لهول ما رأى ولشدته.
الغيب الحقيقي والغيب النسبي
وهذا يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم يرى ما لا يراه الناس، فيطلعه الله من الغيوب النسبية على ما لا يطلع عليه غيره، فقد سبق أن الغيب ينقسم إلى قسمين: إلى غيب حقيقي، وهو مفاتيح الغيب، وهي مما اختص الله به واستأثر بعلمه، الغيب القسمان: غيب حقيقي وهو مفاتيح الغيب التي استأثر الله بعلمها، وقد قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل: ( في خمس لا يعلمهن إلا الله: إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34] ).
والغيب الثاني هو الغيب النسبي، وهو الذي يكون غيبًا في حق بعض الناس دون بعض، أو بعض الخلائق دون بعض، فما كان وراء هذا الجدار فهو غيب بالنسبة لنا نحن هنا، ومن كان وراء هذا الجدار فما نقوله نحن الآن هنا غيب بالنسبة إليه، لكن هذا الغيب نسبي؛ لأنه لو دخل المسجد لزال عنه، ولو خرجنا نحن وراء الجدار لزال عنا ذلك، ومثل هذا اكتشاف ما في بطن الحامل هل هو ذكر أو أنثى مثلًا، أو حي أو ميت، فليس ذلك من الغيب الحقيقي، بل هو من الغيب النسبي؛ لأنه يمكن عن طريق الأجهزة، أو عن طريق العملية القيصرية، أو نحو ذلك طريق بقر البطن.
أما الغيب الحقيقي فهو معرفة هل هو شقي أو سعيد، وهل هو معمر أو ينقص من عمره، وهل هو مرزوق أو محروم، وعدد أنفاسه، وسعة أمعائه، وعدد كرياته البيضاء والحمراء في دمه وغير ذلك، فهذا غيب حقيقي، لا يمكن أن يطلع عليه إلا الله؛ ولذلك عرض على النبي صلى الله عليه وسلم هنا ما لم يره غيره، فمثلت له الجنة، ولم يرها أصحابه، ومثلت له النار، ولم يرها أصحابه، وقد يقع لبعض الصحابة لعلو مستواهم في الإيمان أن يحصل لديهم علم دون العلم الذي يحصل للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم أخبر: ( أن من الوحي ما يأتيه على مثل صلصلة الجرس، وهو أشده عليهم، فيفصم عنه وقد وعى ما يقول )، وعن عمر رضي الله عنه: ( أنه كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل عليه الوحي، فسمع مثل صوت النحل.. )، أزيز النحل فسماع عمر له كان فقط مثل أزيز النحل، ولم يفهم منه شيئًا، والنبي صلى الله عليه وسلم سمعه مثل صلصلة الجرس، ومن دون عمر في هذا المستوى الإيماني لا يسمع شيئًا أصلًا، فيقع التفاوت في ذلك.
( فلم أر كالخير والشر )، ومعنى قوله: (آنفًا)؛ أي: قبل كلامي هذا متصلًا به ( فلم أر كالخير والشر ) معناه: لم أر كالخير الذي في الجنة، فإنه لا مثال له من الدنيا، وقد قال ابن عباس: (ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء) ففي الدنيا ماء، وفي الجنة ماء، لكن شتان بين مائهما، وفي الدنيا لبن، وفي الجنة لبن، لكن شتان بين اللبنين، وفي الدنيا خمر، وفي الجنة خمر، لكن شتان ما بين الخمرين.. وهكذا، فالاشتراك فقط في الاسم، وهو لا يدل على المشابهة ولا على المماثلة؛ ولذلك فالله سبحانه وتعالى أثبت لنفسه صفات ثبت سميُّها؛ أي: مشاركها في الاسم للمخلوق، لكن بينهما فرق شديد جدًا لا يقتضي مماثلة ولا مشابهة، فكذلك هنا قال: فلم أر كالخير؛ أي: الذي أعد الله لعباده المؤمنين في الجنة، والشر معناه: ولم أر كالشر أيضًا، وهو ما رأى في النار؛ أي: ما أعد الله لمن عصاه في النار.
وقد ذكر المختصر هنا قال: تقدم بعض هذا الحديث في كتاب العلم من رواية أبي موسى، وهذا مخالف لاصطلاح المحدثين، فمن المعلوم أن الحديث إنما يطلق على ما كان من رواية رجل واحد، فما كان من رواية رجلين فهو حديثان، والمعنى أنه سبق حديث يشهد له هو حديث أبي موسى في كتاب العلم، وليس هذا حديثًا واحدًا، وقوله: من رواية أبي موسى هذا أيضًا مخالف للاصطلاح، فمن المعلوم أن الرواية إذا قصد بها المتابعة تكون بمن دون الصحابي، فكل المتابعات دون الصحابي لا تخرج الحديث عن أن يكون حديثًا واحدًا، أما إذا اختلف الصحابيان فهما حديثان ولو اتحدا في اللفظ والمعنى، لكن في هذه الرواية؛ أي: في حديث أنس زيادة ومغايرة ألفاظ، زيادة على ما في حديث أبي موسى الذي سبق، وفيه أيضًا مغايرة ألفاظ؛ أي: اختلاف في الألفاظ، مع أن المعنى ليس مختلفًا، فقد يتذكر أحدهما ما لم يتذكر الآخر، ولا يمكن أن يتناقضا، ولا أن يكذبا ما في واحد منهما ما في الآخر.
من فوائد حديث أنس
والحديث يدل على ما عقدت له الترجمة، وهو أن وقت الظهر يبدأ من الزوال؛ أي: من زوال الشمس لأن أنساً أخبر أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى الظهر حين زاغت الشمس، ومعنى (زاغت) مالت عن وسط السماء، ويدل كذلك على جواز التعليم في المساجد في غير أيام الجمع، وعلى جواز استغلال الموقوف المخصوص على غير ما نص على الوقف فيه، فالمنبر في الأصل موضوع لخطبة الجمعة مثلًا، ولكن جاز استعماله في غير ذلك من الخطب والتعليم، ومثل ذلك مكبر الصوت، فالمقصود به التسميع في الصلاة والخطبة، لكن يجوز استعماله في الدروس أيضًا ولو لم تكن كذلك، ولو شرط الواقف أن هذا الـمُسمع أو أن الكهرباء تستعمل للصلاة والخطبة، فلا يمنع ذلك استعمالها في الدروس والتعليم؛ لأن ذلك من التمام والكمال، كاستعمال المنبر هنا في هذا الحديث.
وكذلك يدل الحديث على مشروعية مجالس الوعظ والتذكير والتعليم، ويدل كذلك على حاجة الناس إلى تذكر أمور الساعة، وأن ذلك مما يزيد إيمانهم ويقويه.
ويدل الحديث كذلك على جواز رواية الحديث بالمعنى إذا لم يكن من ألفاظ التعبدات؛ لأن أنساً قال: ( فذكر أن فيها أمورًا عظامًا ) فذكر معنى الحديث، ولم يذكر لفظه، والراجح أن الحديث تجوز روايته بالمعنى إن لم يكن من أحاديث التعبدات أو جوامع الكلم، كما قال العلامة محمد مولود رحمه الله:
راوي أحاديث جوامع الكلم أو التعبد بمعناها أثم
في الغير للدار بمدلولات الالفاظ أن يروي بالمعناة
(في الغير)؛ أي: في غير أحاديث التعبدات وجوامع الكلم (للدار بمدلولات الألفاظ أن يروي بالمعناة)؛ أي: أن يروي بالمعنى والمعناة هي المعنى، وفي المسألة خلافة معروف، وقد أشار إليه السيوطي رحمه الله في قوله في الكوكب.. نسيت الألفاظ، لكن يقول آخر أيضًا:
رواية الحديث بالمعنى اختلف فيها كثير من أكابر السلف
فذهبت لمنعه منهم زمر موافق عبد الإله بن عمر
والحق أن العار كل العار في تبديل لفظه لغير العارف
(الحق أن العار كل العار في تبديل لفظه لغير العارف) معناه: لغير الداري بمدلولات الألفاظ، والسيوطي يقول:
.. وقيل إن ينسى وقيل إن ذكر.
أي: قال بعضهم إنما يجوز له أن يروي بالمعنى إذا نسي اللفظ؛ لأن لا داعي للعدول عنه ما دام يحفظه، واللفظ النبوي أبرك وأفضل، (وقيل: إن ذكر) إذا كان يذكره يجوز له أن يرويه بالمعنى؛ لأنه مترجم لأمر يحفظه، أما إذا كان نسيه فليتورع عن التحديث به؛ لأنه لا يدري معناه، فقد نسي اللفظ.
ومعنى (أحاديث التعبدات)؛ أي: التي يتعبد بلفظها، كالتشهد وكالأدعية المخصوصة، ودليل عدم جواز روايتها بالمعنى حديث البراء، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: ( إذا أويت إلى فراشك فقل: اللهم، أسلمت نفسي إليك، ووجهت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت، قال: فذهبت أكررهن.. )؛ أي: يعيدهن ليحفظهن، ( فقلت: وبرسولك الذي أرسلت، فقال: لا، وبنبيك الذي أرسلت )، فهذا دليل على أن ما كان من التعبدات يقتصر فيه على اللفظ النبوي، ولا يتجاوز فيه كالتشهد وكالأدعية المخصوصة، وكذلك جوامع الكلم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها: ( أوتيت جوامع الكلم، واختصر لي الكلام اختصارًا )، وأهل العلم لم يحددوا جوامع الكلم في أحاديث محصورة، ولكن ذكر ابن الصلاح منها ستة وعشرين حديثًا جمعها، ثم زاد عليها النووي حتى كمل الأربعين، وهي الأربعين النووية، ثم زاد عليها ابن رجب ثمانية أحاديث، فـالنووي جعلها اثنين وأربعين حديثًا، ثم زاد ابن رجب ثمانية أحاديث، فكانت خمسين حديثًا، وهي التي شرحها ابن رجب في كتابه جامع بيان للعلوم والحكم، وهذه كثير من أهل العلم يرى أنها من الأحاديث الجوامع للكلم؛ لكثرة دلالتها؛ ولأن بعضها يقال عليه: مدار الإسلام أو ربع الإسلام أو ثلث الإسلام.. إلى آخره؛ كما قال الشافعي رحمه الله:
عمدة الدين عندنا كلمات أربع من كلام خير البرية
اتق المشبهات وازهد ودع ما ليس يعنيك واعملن بنية
هذه أربعة أحاديث هي: ( إنما الأعمال بالنيات.. )، وحديث: ( إن الحلال بين، وإن الحرام بين، وبينهما أمور مشتبهات، لا يعلمهن كثير من الناس.. )، حديث النعمان بن بشير، و: ( ازهد في ما عند الناس يحبك الناس، وارغب في ما عند الله يحبك الله )، و: ( دع ما ليس يعنيك.. ) وهذا يشير به إلى حديث: ( دع ما يريبك إلى لا يريبك )، أو حديث: ( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )، وكلاهما قيل فيه ذلك، وقد زاد بعضهم، فيكون الجميع ما وصل إليه ذلك ليس محصورًا في عدد محدد.
كذلك يدل هذا الحديث على أن الغضب مختلف، فليس مذمومًا جميعًا: ( فالنبي صلى الله عليه وسلم أتاه رجل فقال: أوصني، فقال: لا تغضب، فردد مرارًا قال: لا تغضب )، وقد أخرج ذلك البخاري في الصحيح، لكن ليس المقصود هنا لا تغضب مطلقًا، فالذي لا يغضب مطلقًا ميت الإحساس، لكن المقصود أن الغضب ينقسم إلى قسمين: إلى غضب مرضي، وغضب مقيت، فالغضب المقيت ما كان فيه الظلم، أو فيه الانتصار للنفس، أو نحو ذلك، والغضب المحمود ما كان غضبًا لله، أن يرضى الإنسان لله، ويغضب لله، فهذا من أقوى عرى الإيمان، أقوى عرى الإيمان أن ترضى لله، وتغضب لله، فالغضب لله إذا انتهكت حرمات الله هو غضب محمود، وليس مذمومًا كما غضب النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الخطبة هنا.
كذلك في الحديث زجر عن السؤال في وقت نزول الوحي، وقد أنزل الله في ذلك: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللهُ عَنْهَا وَاللهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ * قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ [المائدة:101-102]، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إنما أهلك الذين من قبلكم كثرة مسائلهم، واختلافهم على أنبيائهم ).
وكان هذا في العهد النبوي، أما بعده فلا حرج من كثرة السؤال ليتعلم الإنسان، فالسؤال والجواب أسلوب من أساليب التعلم، وقد سأل معاوية رضي الله عنه دغفلاً فقال: بم نلت هذا العلم؟ فقال: (لسان سئول، وقلب عقول) لسان سئول يسأل به فيكثر السؤال، وقلب عقول؛ أي: يحفظ ما سمع، وقد قال ابن عباس: لله در أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم! ما سألوه إلا عن بضع عشرة مسألة، كلها في القرآن، ويقصد بذلك المسائل التي جاء جوابها في القرآن وإلا فإن أسئلتهم كثيرة في أمور أخرى، وقد كان يعجبهم أن يأتي الأعرابي الذي لم يتقدم إليه في النهي عن السؤال فيسأل فيسمعون أسئلته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يسامح الأعراب ما لا يسامح من سواهم؛ لأنهم بعيدون عن التربية وعن العلم، وهذا يدل على أن المعلم لا بد أن يراعي الفروق الفردية بين الأفراد، وأن ينظر إليهم بحسب مقامهم ومستواهم.
كذلك يدل الحديث على أن أنساب الجاهلية معتبرة، وأن عقودهم ماضية، يترتب عليها ما يترتب على العقود الصحيحة، سواء قلنا بصحتها أو ببطلانها، وقد ذكرنا أن مذهب الجمهور أن عقود الكفار صحيحة كبيوعهم، وأشريتهم، وإيجاراتهم، وأنكحتهم، وأن مذهب مالك أنها باطلة، ولكن مع ذلك هذا الخلاف لفظي؛ لأن مالكاً يرتب على العقود ما يرتب غيره، فيرى ثبوت النسب بعقد الجاهلية، ويرى إقرار الزوجين إذا أسلما على عقدهما، كما إذا أسلم الزوج في عدة المرأة، فترد إليه بالعقد الأول، وقد سبقت الإشارة إلى ذلك؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هنا أثبت نسب عبد الله إلى حذافة بن قيس بن عدي.
وكذلك يدل الحديث على مشروعية بحث الإنسان عن أنسابه وقد جاء الأمر بذلك: ( تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم )، فيمكن أن يبحث الإنسان في سلسلة نسب آبائه وأجداده حتى يعرف إلى من يرجع، وهذا مقصد شرعي، وإذا كان معه الدين فهو نسب معتبر، وإذا خلا من الدين فلا اعتبار له، كما قال العلامة ابن متالي رحمة الله عليه:
يعتبر النسب وإن كان معه تقوى وفقه الدين إلا فدعه
لجاهلي شرف الإسلام لا يرى بغير الشرط ذا محصلا
أولاد أهل العلم والصلاح لا يشرط فيهم ذاك إلا مجملا
إن انضياف النسب الديني مؤكد بالنسب الطيني
لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( الناس معادن، خيارهم في الجاهلية خيارهم في الإسلام إذا فقهوا )، ولأنه عد نسبه إلى عدنان، وقد جاء أيضًا الرفع في ما فوق عدنان، وإن كان اختلفت فيه النصوص، قد ورد فيه: (كذب النسابون في ما فوق عدنان)، فقيل: هذا تكذيب للنسابين السابقين، وليس تكذيبًا للأحاديث الواردة كحديث ابن عباس وغيره، وقيل المقصود: أنهم كذبوا في ضبط الألفاظ، فهي بلغات أعجمية، يختلف فيها النسابون، فوالد نوح اختلف فيه هل هو لمك أو لامك؟ وهكذا مهلائيل أو مهلائل واليارد أو
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [15] | 3610 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [2] | 3531 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [13] | 3464 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [3] | 3355 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [18] | 3202 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [1] | 3138 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [14] | 3075 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [20] | 2993 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [16] | 2920 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [17] | 2883 استماع |