شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

فأذكر نفسي وإخواني بإخلاص النية لله سبحانه وتعالى في بداية الطلب، وأذكر كذلك بأدب طالب الحديث بالخصوص؛ فهو متميز عن غيره من الطلبة، والكتاب الذي اختير لهذه الدورة هو "التجريد الصريح لأحاديث الجامع الصحيح" للإمام زين الدين الزبيدي رحمة الله عليه، واختصار الحديث مصطلح معروف لدى القدماء، وهو حذف بعض متنه، بأن يقتصر المخرج له على الجزء الذي يستشهد به على الفصل الذي يريده، وهو كثير في صحيح البخاري، فكثيرًا ما يختصر البخاري بعض الأحاديث؛ أي: يحذف بعضها، سواء كان الاختصار من وسط الحديث أو من أوله أو من آخره، ومن أمثلة ذلك: أول حديث أورده البخاري في الصحيح، فقد قال فيه: (حدثنا الحميدي عبد الله بن الزبير قال: أخبرنا سفيان، عن يحيى بن سعيد الأنصاري، أنه أخبره أن محمد بن إبراهيم التيمي أخبره أنه سمع علقمة بن وقاص الليثي يقول: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه على المنبر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو إلى امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه) ) فهذا الحديث اختصره البخاري من الوسط، فحذف منه جملة وهي: (فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله).

لكن هذا النوع من الاختصار الذي بين أيدينا ليس مثل هذا النوع، فليس اختصارًا في المتن، وإنما هو اختصار في الإسناد وحذف للمكررات والمعلقات، وهو طريقة لدى المتأخرين، يحتاج إليها عندما تقاصرت الهمم بالناس وضعف الحفظ فيهم، فكثير من الناس لا يحفظون الأسانيد، ويشق عليهم حفظها وسردها، مع أن الإسناد من خصائص هذه الأمة، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء، والإسناد نسب الحديث كما قال أحمد بن حنبل، وأهل الحديث يقولون: (كفى بالرجل شرفًا أن يكون اسمه أدنى سلسلة أسماها اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم)، ومع ذلك عندما تقاصرت الهمم وضعفت احتاج الناس إلى الاختصار، فحذفوا المكررات، مع ما فيها من الفوائد؛ لأن فيها أطرافًا قد يشرح بها المقصود، مثل ما ذكر البخاري في كتاب العلم، عقد بابًا لامتحان المحدث طلبته، فأورد فيه حديث مجاهد، عن ابن عمر، أن النبي صلى الله عليه وسلم أوتي بجمار نخل، فقال: (إن من الشجر شجرة مثلها مثل المؤمن لا يتحات ورقها، فأخبروني ما هي؟)، ثم أورد الحديث في باب آخر، وهو باب: قول المحدث حدثنا وأخبرنا واحد، وأورده برواية أخرى، وهو يشير إلى أن هذا الحديث جاء فيه في لفظ: (حدثوني ما هي؟)، وجاء فيه: (فأخبروني ما هي؟)، ومعناهما واحد؛ لأنهما وردتا في مكان واحد، ومن لم يعرف التكرار لم يفهم نكتة هذا الحديث؛ لأن البخاري لم يأت بموضع الاستشهاد منه؛ فلذلك يحتاج إلى مكررات، وهي كثيرة في صحيح البخاري، فصحيح البخاري- بإحصاء المتقدمين له- فيه أربعة آلاف حديث من غير المكررات، وإذا أضيف إليه المكررات وصلت سبعة آلاف حديث، كما قال العراقي في الألفية:

أربعة آلاف والـمكرر فوق ثلاثة ألوفًا ذكروا

في عد صحيح البخاري.

وكذلك حذفوا الأسانيد؛ لصعوبة حفظها؛ ولأن الكتب قد تلقيت بالقبول، وبالأخص ما كان منها من الصحيحين وما يشبههما، فقد تلقاهما الناس بالقبول، فتجاوز كل ما فيهما القنطرة، أي حديث صح أنه في صحيح البخاري، أو في صحيح مسلم، فقد تجاوز القنطرة، ولم يعد الناس اليوم بحاجة إلى البحث في علله، أو أطرافه، أو ما يقع فيه في سنده أو في متنه.

وهذا كان مُسلَّمًا لدى جيل المختصرين، وهم أهل القرن السادس والسابع، حتى جاء أهل بداية القرن الثامن وكان فيهم عدد من المحققين من أمثال الحافظ زين الدين العراقي، وتلميذه الحافظ أحمد بن علي بن حجر العسقلاني، وتلميذه الإمام السخاوي، وكذلك تلميذه الحافظ الديلمي، وتلميذه الحافظ زكريا الأنصاري أيضًا، فهؤلاء تعقبوا بعض الأمور، وبينوا بعض العلل فيما كان في الصحيحين، ثم جاء بعدهم المتأخرون فرجعوا إلى ما كان عليه المتقدمون في أيام الدارقطني عندما ألف كتاب "الإلزامات والتتبع"، وعندما ألف أيضًا الخطيب البغدادي كتاب "أوهام البخاري" رحمه الله تعالى، وهو أوهام الجمع والتفريق، وتلك الأوهام ليست في الصحيح، وإنما هي في التاريخ، لكن "الإلزامات والتتبع" تتعلق بالصحيح.

وعمومًا فالذي عليه جمهور علماء الحديث أن ما كان في الصحيحين أو أحدهما فقد تجاوز القنطرة، لا يحتاج فيه اليوم إلى بحث؛ فلذلك اقتصر المختصرون على ذكر أطراف الحديث دون ذكر إسناد لها.

وأول من اشتغل بالاختصار هم المؤلفون في أدلة الأحكام، ومنهم الحافظ عبد الحق الإشبيلي، فقد ألف الأحكام الكبرى، ثم الأحكام الوسطى، ثم الأحكام الصغرى، وأتى بها محذوفة الأسانيد، يأتي بالحديث ثم يذكر أطرافه معه، وتبعه على ذلك عدد من الأئمة، ومن الذين ألفوا على هذه الطريقة الإمام عبد الغني المقدسي في عمدة الأحكام، فإنه اختصر بهذا المعنى، فحذف الأسانيد، وأتى بالمتون، فيورد الحديث مع بعض الروايات التي يؤخذ منها بعض الأحكام، والحافظ الزبيدي رحمه الله انتهج هذا النهج، فأتى بالأحاديث من صحيح البخاري مسرودة على حسب الكتب، ولم يرتبها تمام الترتيب الذي انتهجه البخاري؛ لأنه يحذف بعض المكررات، فيقتضي ذلك أن يأتي الحديث السابق لاحقًا، وأن يأتي الحديث اللاحق سابقًا، وأيضًا لم يستوعب كل أطرافها قصدًا، فترك بعض الأطراف التي في الصحيح لم يأت بها، ولم يذكر أي إسناد لأي حديث منها، ولم يذكر الأبواب التي هي أبواب البخاري وإن كانت تحتوي علمًا جمًّا، فيقال: (فقه البخاري في تراجمه)؛ أي: في أبوابه؛ لأنه يستنبط بها فقه الحديث، فكل ذلك أهمله صاحبنا رحمة الله عليه، وقصد بذلك أن يكون لدى الطالب المبتدئ متن فيه جمهور ما في صحيح البخاري من المتون يحفظه، فإذا أراد التوسع رجع إلى الأصل فاستوعب الصحيح، وهذا نوع من أنواع الشروح، التعليقات ولو كان الشرح باختصار ونقص، فليس الشرح دائمًا عن تطويل وزيادة.

ويبدو أنكم قد أخذتم من أحاديثه في الماضي جملة لا بأس بها، فقد وصلتم إلى الحديث المكمل مائة وخمسة وثمانين حديثًا، وهو أول حديث في كتاب الغسل، والترجمة التي بين أيدينا هي: كتاب الغسل، و(الكتاب) في الأصل (فعال) بمعنى الآلة من (كتب) إذا خط، أو من (كتب) إذا خاط، فالكتابة تستعمل بمعنى الخياطة، وتستعمل بمعنى الخط؛ فمن استعمالها بمعنى الخياطة قول الشاعر:

لا تأمنن فزاريًا مررت به على قلوصك واكتبها بأسيار

(اكتبها)؛ أي: خطها بأسيار.

ومن استعمال الكتابة بمعنى الخط قول الشاعر:

تخطه من بوادي المصر كاتبة قد طالما ضربت باللام والألف

(كاتبة)؛ أي: خاطة، (قد طالما ضربت باللام والألف).

و(الغُسل) بالضم اسم مصدر: اغتسل اغتسالًا؛ أي: غسل جسمه وبدنه، والفرق بينه وبين (الغَسل) بالفتح أن (الغسل) مصدر: غسل الشيء يغسله، فهو فعل في الغير، و(الغُسل) بالضم فعل في النفس، و(الغُسل) اسم مصدر، و(الغَسل) مصدر، فاسم المصدر يدل على الفعل بواسطة دلالته على المصدر، والمصدر يدل على الفعل مباشرة، فهو يدل على الحدث الذي هو أحد مدلولي الفعل، فالفعل له مدلولان، هما: الحدث والزمن، فقولك: غسل فلان ثوبه، هذا الفعل يدل على حصول غسل ويدل على أن ذلك كان في الزمن الماضي، فإذا قلت: (غسلًا) فهذا المصدر يدل على الحدث فقط، ولا يدل على الزمن، فيمكن أن يكون الغسل في الماضي وفي الحال وفي المستقبل.

أما (الغُسل) فهو اسم مصدر يدل على اغتسال الإنسان؛ أي: غسله لبدنه، فهو فعل في النفس، و(الغُسل) هو: الطهارة المائية الكبرى.

فالطهارة تنقسم إلى قسمين: إلى طهارة حدث، وطهارة خبث، فطهارة الحدث هي: إزالة المنع المرتب على الأعضاء، وطهارة الخبث هي: إزالة النجاسة عن موضعها، وطهارة الحدث تنقسم إلى: مائية، وترابية؛ فالمائية مثل: الغسل، والوضوء، والترابية هي: التيمم، والطهارة المائية تنقسم إلى قسمين: كبرى وصغرى، فالكبرى هي: الغسل، والصغرى هي: الوضوء.

وقد ابتدأ كتاب الغسل بقوله: (باب: الوضوء قبل الغسل)، والمقصود بالقبلية هنا أي: عند بداية الشروع، فلا يقصد بها الانفصال، فالقبلية في الأصل يحصل في الذهن أنها تقتضي انفصالًا، فالوضوء قبل الغسل أي: أن يكون منفصلًا عنه، ولا يقصد ذلك، بل المقصود ابتداء الغسل بالوضوء، فهو أول ما يصنع منه، وذلك أن الغسل رفع للحدث الأكبر، والحدث الأكبر يندرج فيه الحدث الأصغر فهو داخل فيه، فإذا اغتسل الإنسان ولو كان ذلك بالانغماس في النهر فإن حدثه يرتفع، سواء كان أكبر أو أصغر، ولا يحتاج إلى وضوء إلا إذا انتقض وضوءه في الأثناء، كما إذا مس ذكره في أثناء غسله كما كان ابن عمر يفعل، فيلزمه الوضوء من جديد، ومثل ذلك ما إذا أحدث في الأثناء فغسله صحيح رافع للحدث الأكبر، ولكنه يحتاج بعده إلى وضوء ليرفع الحدث الأصغر.

وسنة الغسل أن يبدأ فيه بالوضوء، ودليل ذلك: الحديث الأول من هذه الأحاديث، وهو عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ فغسل يديه، ثم توضأ كما يتوضأ للصلاة، ثم يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره، ثم يصب على رأسه ثلاث غرف بيديه، ثم يفيض الماء على جلده كله).

وهذا الكتاب- وهو كتاب الغسل- الأحاديث الفعلية فيه مروية عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه فعل لا يطلع عليه الغير، وإنما يفعله الرجل مع أهله أو في بيته فقط، فلا يمكن أن يروي الغير هذا الفعل، أما الأحاديث القولية في كتاب الغسل فيرويها غير واحد من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم كما سيأتينا في حديث جبير بن مطعم بن عدي، وكما سيأتينا في حديث جابر، وحديث أبي هريرة، لكن أكثر الأحاديث في هذا الكتاب هي من رواية عائشة، وميمونة، وغيرهما من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم.

وعائشة هي أم عبد الله، عائشة الصديقة، ابنة أبي بكر الصديق رضي الله عنهما، وهي أم المؤمنين وأحب أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه، وهي زوجه في الجنة، وقد اختلف هل هي أفضل أزواجه مطلقًا، أو خديجة أفضل منها، أو هما سيان؟ وقد نظم السيوطي هذا الخلاف في قوله:

وأفضل الأزواج بالتحقيق خديجة مع ابنة الصديق

وفيهما ثالثها الوقف وفي عائشة مع بنته الخلف يفي

والمرتضى تقدم الزهراء بل وعلى مريم العذراء

يقول: إن الخلاف حصل في عائشة وخديجة أيهما أفضل؟ على ثلاثة أقوال لأهل السنة:

القول الأول: تفضيل خديجة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما قالت له عائشة: (لا تزال تذكر عجوزًا قد أبدلك الله خيرًا منها، قال: لا والله ما أبدلني خيرًا منها)، فهذا يقتضي أن خديجة أفضل من عائشة.

القول الثاني: فضل عائشة، ودليله أيضًا ما بينه النبي صلى الله عليه وسلم أن فضل عائشة على سائر النساء كفضل القمر على الكواكب، أو على سائر الكواكب، أو كفضل الثريد على سائر الطعام، وقد ورد في ذلك عدد من الأحاديث، وأيضًا أن الله نوه بها، فأنزل في براءتها قرآنًا يتلى، فأنزل فيها إحدى عشرة آية، أو اثنتي عشرة آية من سورة النور، وهي تنويه بفضل عائشة ومزيتها في الإسلام.

القول الثالث: الوقف؛ أي: التوقف عن التفضيل بينهما، ببيان أن عائشة وخديجة أفضل أمهات المؤمنين، لكن لا نفضل إحداهما على الأخرى، ثم ذكر خلافًا آخر، وهو الخلاف في التفضيل بين عائشة وفاطمة، فذهب بعض أهل العلم إلى تفضيل عائشة؛ لأنها ورد فيها هذا الفضل المذكور، ونزل فيها القرآن، وذهب الجمهور إلى تفضيل فاطمة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فاطمة بضعة مني)، وذكر هو- أي: السيوطي- أن جمهور أهل السنة على أن فاطمة أفضل من سائر النساء؛ لأنها سيدة نساء العالمين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يقتضي تفضيلها حتى على مريم ابنة عمران على القول بعدم نبوتها، وقد اختلف أهل السنة في نبوة مريم ابنة عمران بأنها لم يذكر في القرآن اسم امرأة بالاسم الصريح سواها، وقد جاء ذكرها في القرآن ثلاثين مرة، جاءت تسمية مريم في القرآن ثلاثين مرة، ولم يذكر فيه اسم امرأة سواها.

فـعائشة رضي الله عنها قد أكثرت من الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم، وحفظت علمًا جمًا، وردت على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في كثير من المسائل، وهي تروي طريقة غسل النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا اغتسل من الجنابة...)، كان إذا اغتسل؛ أي: إذا أراد الاغتسال من الجنابة، فلا يُقصد بالفعل هنا المضي، بل يقصد به الاستئناف؛ لأنها ستعطف عليه بالفاء، والفاء تقتضي الترتيب والتعقيب، فذلك يدل على أن (اغتسل) هنا ليست على إطلاقها المعروف الذي هو الدلالة على الماضي، بل المقصود إذا أراد أن يغتسل من الجنابة، والجنابة مصدر (جنب) الرجل أو المرأة إذا كان غريبًا أو اجتنب المجلس، فيقال: رجل جنب، وامرأة جنب، ورجلان جنب، وامرأتان جنب، ورجال جنب، ونساء جنب، فهو بلفظ واحد للمذكر والمثنى والمفرد والجمع، ومثله (غُرُب) أيضًا، لكن (غُرُب) قد تثنى، ومن ذلك قول الشاعر:

وما كان غض الطرف منا سجية ولكننا في مذحج غُربان

وهي تثنية (غُرُب)، وذلك أن المحدث حدثًا أكبر يتجنب المسجد، ويتجنب قراءة القرآن، ويتجنب الطواف؛ فلذلك سمي (جنبًا) من أجل ما يجتنبه.

والجنابة هي مصدر: جنب الرجل، وهنا عندما ذكرت عائشة رضي الله عنها غسل النبي صلى الله عليه وسلم بينت أنه في أكمل أحوال الغسل؛ لأن الغسل من الجنابة واجب، فإذا كان غُسله من الجنابة على هذه الطريقة دل ذلك على أن أفضل الغسل ما كان على هذا الوجه.

(كان إذا اغتسل من الجنابة بدأ..)؛ أي: بدأ في غسله، (فغسل يديه)، والمقصود غسلهما قبل إدخالهما في الإناء؛ لأنه أمر بذلك، ونهى عن إدخالهما في الإناء قبل غسلهما، (ثم يتوضأ كما يتوضأ للصلاة..)؛ أي: يتوضأ وضوءًا كاملًا، بمضمضة، واستنشاق، واستنثار، وغسل وجه، وغسل اليد اليمنى إلى المرفق، واليسرى إلى المرفق، ومسح الرأس، وغسل الرجل اليمنى، ثم غسل الرجل اليسرى. وسيأتينا في حديث ميمونة أنه ربما أخر رجليه حتى يخرج من مغتسله؛ لئلا يلتصق بهما الغبار والثرى، (توضأ كما يتوضأ للصلاة)؛ أي: وضوءًا نحو وضوئه للصلاة، (ثم يدخل أصابعه في الماء )؛ أي: يغمس يديه، والمقصود غمس الأصابع، فيحملان اليسير من الماء فيدخله في شعره ويخلله به؛ وهذا ليصل الماء إلى أصول الشعر؛ حتى لا يتقبض الجسد عن مماسة الماء ومباشرته له، وهو يقتضي دخول الماء مباشرة للشعر، إذا خلل في بداية الغسل قبل أن يصب عليه الماء بالأصابع مبلولة، فصب عليه الماء، خالَّه وداخله بعد ذلك، أما إذا صب عليه الماء مباشرة، فإنه سينقبض دونه، فلا يدخل إلى أصوله؛ فلذلك كان يدخل أصابعه في الماء فيخلل بها أصول شعره، ومعنى (يخلل)؛ أي: يدخلها في خلله، والخلل: الفرجات التي تحصل في أثناء الشيء، ومن ذلك قول الله تعالى: فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ[النور:43]؛ أي: مما فيه من الفرجات، فيخلل بها أصول شعره، وهذا يشمل شعر الرأس وشعر اللحية، وأصوله هي: منابته، والأصل هو: ما يبنى عليه غيره، وما ينبت عليه؛ فأصل الشجرة ما ينبت عليه غيره، وأصل البناء ما يبنى عليه غيره، (ثم يصب على رأسه ثلاث غرف)، ثم يصب على رأسه؛ أي: يصب من الماء ثلاث غرف، وهي ثلاث حفنات بيديه معًا، يصب ذلك على رأسه، ثم يدلكه بعد أن يصب عليه الماء، و(الغرف) جمع غرفة، و(الغُرفة) بالضم وبالفتح أيضًا، يقال فيها: (الغَرفة) واحدة الغرف، وهو المصدر، والأصل في المصدر أن تكون المرة منه على وزن (فَعْلة) كما قال ابن مالك:

لمرة فعلة وفعلة وضعوا لهيئة غالبًا كمشية الخيلا

ولكنه يأتي فيها الضم، وقد قرئ بهما في سورة البقرة قول الله تعالى: إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً[البقرة:249]، (إلا من اغترف غَرفة بيده)، وقد روي في ذلك قصة عن الحجاج مع أبي عمرو بن العلاء زبان قارئ البصرة رحمة الله عليه، فإنه ذكر للحجاج أن هذه الكلمة فيها قراءتان، وهما: الضم، والفتح، فأنكر الحجاج قراءة الضم، وقال: لا تأتي "المرة" إلا بفتح، فقال: بلى فيها الضم، والفتح، فأجله شهرًا أن يأتي بشاهد من لغة العرب يثبت أن (الفُعلة) تأتي للمرة، وإلا قطع رأسه، فأرسل معه حرسيًا، وذهب أبو عمرو في نجد وباديته يتقصى أحياء العرب لعله يجد شاهدًا لذلك؛ فلما كمل الشهر، وأراد الحرسي إرجاعه إلى الكوفة ليأتي به الحجاج، بينما هو في الطريق، وهو مهموم مغموم إذ رأى راكبًا يتغنى، فإذا هو ينشد قول الشاعر:

قد يموت الجبان في آخر الصف وينجو مقارع الأبطال

ربما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال

(له فرجة كحل العقال) فلما لقوه سألوه، قالوا: ما وراءك من الخبر؟ فقال: مات الحجاج، قال أبو عمرو: والله ما أدري بأيهما أفرح أبوجود الشاهد أم بموت الحجاج؟! فالشاهد: (له فُرجة كحل العقال)، وهذا الشاهد أيضًا مناسب للمعنى، فهو الآن في غم شديد، وسيأتيه الفرج القريب.

ربما تكره النفوس من الأمر له فرجة كحل العقال

والفرج قريب وهو موت الحجاج، ومعه وجود الشاهد، و(الغُرفة) جمعها: (غرف)، وقد سمعتم في صلاة العشاء قراءة القارئ لما قرأ سورة الزمر قال: مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ[الزمر:20]، فـ(الغرف) جمع: (غرفة)، وتُجمع أيضًا على (غرفات)، وكلتاهما في القرآن: (الغرف)، و(الغرفات)، وتطلق على الحجرة، وتطلق أيضًا على واحدة الغرف من الماء، ثلاث غرف بيديه؛ أي: بيديه معًا، وهي الحفنة، وهي ملء اليدين معًا، ثم يفيض الماء على جلده كله؛ أي: يغسل جميع جلده؛ أي: ما ظهر من جسمه، يفيض عليه الماء؛ أي: يصبه عليه، ولا يقصد بذلك مجرد صب الماء، بل يتبعه بالدلك؛ لأن الدلك جزء من أجزاء الغسل، وهو ركن منه على الراجح، وقد ذهب بعض أهل العلم إلى أن الدلك إنما يجب لإثبات أو لثبوت وصول الماء إلى الجسد، فإذا رآه الإنسان وأيقن وصول الماء إليه لم يلزمه دلكه، ولكن الراجح هو وجوب الدلك، ودخلوه في مسمى الغَسل.

ثم ذكر الحديث الثاني في هذه الترجمة، وهو عن ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءه للصلاة غير رجليه، وغسل فرجه، وما أصابه من الأذى، ثم أفاض عليه الماء، ثم نحى رجليه فغسلهما، هذه غسله من الجنابةميمونة بنت الحارث الهلالية من بني هلال بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن قيس عيلان بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان، خالة خالد بن الوليد، وأولاد العباس بن عبد المطلب، وهي من بنات هند بنت عوف، وهند بنت عوف امرأة كانت صاحبة سعد نزلت مكة ببناتها فتزوجت بناتها من أهل مكة، فكان أصهارها يضرب بهم المثل، فصاهرها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين على اثنتين من بناتها، تزوج أولًا بـزينب بنت خزيمة، فماتت عنده بعد ستة أشهر، ثم تزوج أختها ميمونة بنت الحارث، وهي أختها لأمها، وأختهما لبابة الكبرى هي أم الفضل، وهي زوجة العباس بن عبد المطلب، ولها منه ستة أولاد، يقول فيهم الشاعر:

ما أنجبت كريمة من فحل كستة من بطن أم الفضل

وأختها لبابة الصغرى، وهي زوجة الوليد بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم بن يقظة بن مرة، وهي أم خالد بن الوليد، وبعض إخوته، وكذلك أختهما أسماء بنت عميس تزوجها جعفر بن أبي طالب، فقتل عندها، فتزوجها أبو بكر الصديق فمات عندها، فتزوجها علي بن أبي طالب، فكان الثلاثة من أصهار هند، وأختها سلمى بنت عميس تزوجها حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه وقتل عندها، فهؤلاء هم أصهار هند بنت عوف، يضرب بهم المثل.

وميمونة بنت الحارث هي آخر امرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد تزوجها في عمرة القضاء في ذي القعدة من العام السابع من الهجرة، وعرض على قريش أن يطعمهم جميعًا، ويزيدوا له المدة، فقد كاتبهم في الأصل في صلح الحديبية على أن يتركوا له مكة ثلاث ليال، فلم يقبلوا ذلك، فأولم عليها في سرف، ودخل عليها هنالك، فلما خرج من عندها نزل عليه جبريل بقول الله تعالى: لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ[الأحزاب:52]، وقد أخبرها النبي صلى الله عليه وسلم أن مدفنها سيكون في مكان الدخول بها، فماتت ودفنت في نفس المكان الذي دخل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه، وهو سرف، قريب من التنعيم على مخرج مكة من جهة المدينة.

وميمونة رضي الله عنها روت كثيرًا من الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنها أحاديث الغسل، ومن أحاديثها في الغسل هذا الحديث الذي بين أيدينا قالت: (توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم..)، ولا تحكي قصة واحدة، بل تذكر أن هذا كان هيئة غسله، بدلالة قولها في آخر الحديث: (هذه غسله من الجنابة)، فإذًا لا تقصد بقولها: (توضأ): مرة واحدة، بل تقصد أنه كان دائمًا يتوضأ هكذا.

وهذا النوع هو من المطلق الذي يقصد به العموم، فالفرق بين الإطلاق والعموم أن المطلق: لفظ يتناول الصالح له من غير حصر، دفعة واحدة، مثل: (الرجال)، ومثل: النكرة في سياق النفي: (ما قام رجل)، فهذا نفي لكل الرجال، يتناول كل الرجال، (جاء الرجال) هذا إثبات يتناول كل الرجال كذلك، بخلاف المطلق، فهو: لفظ يتناول الصالح له من غير حصر، ولكن لا يكون ذلك دفعة واحدة، بل على سبيل البدلية والترتيب، مثل: (جاء رجل) فهذا يصدق على هذا، وعلى هذا وعلى هذا، على كل الرجال، لكن لا يصدق عليهم جميعًا دفعة واحدة، بل يصدق عليهم مترتبين بالتدريج، والمطلق قد يستعمل بمعنى العام، وذلك مثل: النكرة في سياق الإثبات، فإنها تأتي للعموم نادرًا، كقول الله تعالى: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ[التكوير:14]، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ[الانفطار:5]، ففي سورة التكوير: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ[التكوير:14]، وفي سورة الانفطار: عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ[الانفطار:5]، وكلاهما من المطلق الذي يقصد به العموم، فعلمت نفس معناه: (علمت كل نفس ما أحضرت)، عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ[الانفطار:5]، معناه: علمت كل نفس، مع أن الأصل لا يقتضي ذلك، والفعل من قبيل الإطلاق، لا من قبيل العموم، فقولها: (توضأ) في الأصل يدل على مرة واحدة، إذ الفعل من قبيل الإطلاق، ولكنه هنا يراد به: العموم؛ ولذلك بينت ذلك في آخر الحديث، قالت: (توضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم..)؛ أي: كان يتوضأ، (وضوءه للصلاة..)؛ أي: وضوءًا نحو وضوئه للصلاة، فهذا المصدر منصوب على ما ناب عن المطلق؛ أي: وضوءًا كوضوئه للصلاة، والتشبيه تام؛ أي: وضوء كامل مثل وضوئه للصلاة تمامًا، إلا أنها استثنت من ذلك والاستثناء معيار العموم، وهو يدل على أن الوضوء تمامًا مثل وضوئه للصلاة؛ لأنها استثنت منه، والاستثناء معيار العموم، فقالت: (غير رجليه.. )؛ أي: غير أنه لم يغسل رجليه في هذا الوضوء الذي افتتح به غسله، (وغسل فرجه وما أصابه )، عطفت ذلك بالواو، والواو تعطف السابق على اللاحق، واللاحق على السابق، ولا تقتضي ترتيبًا، كقوله الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى[الشورى:13]، فعطف السابق على اللاحق، واللاحق على السابق، فكذلك هنا غسله لفرجه وما أصابه من الأذى كان في بداية غسله قبل الوضوء؛ لأنه لو غسل فرجه بعد الوضوء لانتقض وضوءه بمماسته للذكر على الراجح، ومس الذكر ناقض للوضوء على الراجح وهو مذهب جمهور الصحابة رضوان الله عليهم، وقد جاء فيه حديث بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مس ذكره فليتوضأ)، وفي حديث عبيد الله بن أبي بكر بن عمرو بن حزم قال: (تذاكر أبي، وعروة بن الزبير يومًا ما يلزم منه الوضوء، فذكر عروة وذكر حتى ذكر مس ذكر، فقال أبي: ما عرفته، فقال: قد أخبرتني بسرة بنت صفوان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من مس ذكره فليتوضأ ) ) وهذا الحديث عارضه حديث طلق بن علي، وذلك الحديث يقتضي عدم النقض به؛ لأنه قال: (وهل هو إلا بضعة منك )، والبضعة: مضغة اللحم منك، وكذلك عارضه أثر عن عمر أنه قال: (ما أبالي أمسست أنفي أم مسست ذكري)، ولكن جاءت آثار أخرى صحيحة عن عدد من الصحابة تقتضي النقض به، كحديث سعد بن أبي وقاص: أن ابنه المنذر كان يمسك عليه المصحف، فأدخل يده في إزاره، فاحتك، فقال: (لعلك لمست ذكرك، قال: نعم، قال: قم فتوضأ).

والحنفية لا يعملون بحديث بسرة، قالوا: هذا من شأن الرجال ليس من شأن النساء، ولم يروه الرجال مع أنه من شأنهم، وهو مما تعم به البلوى، فيكثر السؤال عنه فيقتضي ذلك نقله تواترًا، فلما لم يتواتر دل ذلك على عدم صحته، والجمهور يرون العمل بحديث بسرة بنت صفوان حتى لو كانت امرأة، وكان هذا من شأن النساء، لأنها من باب الرواية لا من باب الشهادة، وقد ثبت الإسناد إلى بسرة، فرواه عروة بما يسمى لدى أهل الحديث بالمزيد في متصل الأسانيد، فرواه مباشرة عن بسرة، ورواه عن مروان عن بسرة، ورواه عن حرسي عن بسرة، حرسي لـمروان أرسله إلى بسرة سألها، فصح الحديث بذلك.

فإذًا قولها: (وغسل فرجه..)؛ أي: ابتدأ أولًا بعد غسل يديه بغسل فرجه، والفرج في الأصل هو: كل انفراج، فيطلق على ما أمام الإنسان، وما خلفه من الأرض، فكل فرجة يخرج منها الإنسان تسمى فرجًا، فأمام الإنسان وخلفه كلاهما يسميان بالفرجين، ومن ذلك قول لبيد بن ربيعة العامري رضي الله عنه في معلقته:

وغدت كلا الفرجين تحسب أنه مولى المخافة خلفها وأمامها

(وغدت كلا الفرجين)؛ أي: الخلف والأمام، (تحسب أنه مولى المخافة)؛ أي: الذي يأتيها الخوف منه، (خلفها وأمامها) وهذا بدل من قوله كلا.

غدت كلا الفرجين تحسب أنه مولى المخافة خلفها وأمامها

ويطلق الفرج على ما بين الرجلين، فيشمل ذلك القبل والدبر، وعورة الإنسان تسمى فرجًا، والمقصود هنا: ما بينته ميمونة في حديثها الآخر، فقالت: (فغسل مذاكيره، وذاك منه)، (مذاكيره)؛ أي: ذكره وأنثييه، (وذاك منه)؛ أي: دبره، أو ما حول المذاكير، فالإجمال في قولها: (وذاك منه)؛ أي: ذلك الموضع موضع منه، (وما أصابه من الأذى)؛ أي: ما أصاب فخذيه من أثر الوطء، فذلك هو الأذى، فالأذى المقصود به: النجس، (ثم أفاض عليه الماء )؛ أي: أفاض الماء على جلده كله كما سبق في حديث عائشة، (ثم نحى رجليه)؛ أي: رفعهما عن المكان الذي كان يغتسل فيه، وذلك لئلا يلتصق بهما غبار أو ثرى، وهذا من تمام النظافة، (فغسلهما)؛ أي: غسل رجليه، والمقصود: غسل اليمنى أولًا، ثم غسل اليسرى، ولم تذكر هل ثلث غسلهما، كما هو ظاهر الوضوء من قبل، ظاهر السياق من قبل أنه غسل وجهه ثلاثًا ويديه ثلاثًا؛ لأنها قالت: (كوضوئه للصلاة)؛ أي: كما يتوضأ للصلاة، واختلف أهل العلم في هذا، فذهب بعضهم إلى أن من سنة الغسل أن يثلث الإنسان أعضاء الوضوء، وذهب آخرون إلى أنها تغسل مرة واحدة كسائر البدن؛ لأن ما سوى أعضاء الوضوء لا يثلث إجماعًا، بل يكفي الإنسان غسلة واحدة منقية، (فغسلهما هذه..)؛ أي: هذه الهيئة (غسله من الجنابة)؛ أي: هي هيئة غسله من الجنابة؛ أي: اغتساله من الجنابة دائمًا.

ثم قال: (باب: غسل الرجل مع امرأته)؛ أي: عقد هذا الباب؛ لأنه يجوز أن يغتسل الرجل مع امرأته في مكان واحد ومن إناء واحد، وهذا رد على بعض الفقهاء الذين يرون أن الرجل لا يغتسل بفضلة المرأة، وأن المرأة لا تغتسل بفضلة الرجل، وأيضًا رد على الذين يرون أنه لا يغتسل من الماء الذي اغتسل منه جنب، أو أدخل فيه يده؛ لأنهم يرون أن الماء يجنب، والماء لا يجنب، إذا لم يتغير فهو صالح لأن يغتسل منه الإنسان، ولكن إذا استعمل الماء في رفع الحدث، أو في إزالة الخبث ولم يتغير؛ فله صور يذكرها الفقهاء، يوصلونها إلى عشرين صورة؛ لأن الماء إما أن يستعمل أولًا في حدث، أو في حكم خبث، أو في سُنَّة، أو في مندوب، أو في عادة، ثم إما أن يستعمل ثانيًا في رفع حدث، أو في حكم خبث، أو في سنة، أو في مندوب، أو في عادة؛ فخمس في خمس، خمس ضرب خمس: خمسًا وعشرين صورة، وهذه الخمس والعشرون هي صور استعمال الماء، فإن استعمل أولًا في حدث، أو في حكم خبث، كره استعماله ثانيًا في حدث، أو في حكم خبث، أو في سنة، أو في مندوب، وجاز استعماله دون كراهة في العادة، وإن استعمل أولًا في سنة، أو في مندوب، جاز استعماله ثانيًا في حدث، وفي خبث، وفي سنة، وفي مندوب، وفي عادة، وإن استعمل أولًا في عادة فلم يتغير جاز استعماله ثانيًا في رفع حدث، وحكم خبث، وسنة، ومندوب، وعادة... إلى آخره.

عن عائشة قالت: (كنت أغتسل أنا والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، من قدح يقال له: الفرق)، هذا الحديث أثبتت فيه عائشة أنها كانت تغتسل هي والنبي صلى الله عليه وسلم من إناء واحد، وهذا يقتضي أنهما في مكان واحد، والحديث يدل على أن الرجل يجوز له أن يرى جميع بدن امرأته بما في ذلك العورة، ويجوز لها هي أن ترى جميع بدنه بما في ذلك العورة، ويجوز أن يغتسلا من إناء واحد، يغترف كل واحد منهما منه ما يليه، ويقتضي ذلك أن بقية سؤر من يرفع الحدث إذا لم يتغير يجوز رفع الحدث به، ويجوز إزالة الخبث به، وكان ذلك من إناء كبير، وهو الذي يسمى بالفرق، وهو إناء يتسع لعشرين صاعًا؛ فهو إناء كبير، وفي رواية أنها كانت تقول: (حتى أقول: دع لي، دع لي)؛ أي: اترك لي شيئًا من الماء؛ لأنه كان أسرع منها، وأكبر يدًا، فهو يغترف بسرعة، فتقول: (دع لي، دع لي) تخاف أن ينتهي الماء قبل أن تكمل غسلها.

ثم قال: (باب: الغسل بالصاع ونحوه) عقد هذا الباب للقدر الذي يغتسل به، وذلك أن الماء هو مما خلق الله للناس ومصالحهم من الخيرات في الأرض، فينبغي ألا يسرفوا فيه، فقد نهى الله عن السرف، فقال: وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ المُسْرِفِينَ[الأنعام:141]، ونهى عن تبذير المال، فقال: وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا * إِنَّ المُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا[الإسراء:26-27]؛ فلذلك على الإنسان ألا يسرف في استعمال الماء، وبالأخص إذا كان ذلك في عبادة يتقرب بها إلى الله؛ كالغسل، والوضوء، وقد جاء في حديث أنس: (أن النبي صلى الله عليه وسلم توضأ بمد واغتسل بصاع)، وجاء الاغتسال بالصاع في أكثر من حديث؛ ولذلك جاء هو في هذه الترجمة بهذا الحديث، فقال: وعنها رضي الله عنها: (أنها سئلت عن غُسل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدعت بإناء نحوًا من صاع، فاغتسلت، وأفاضت على رأسها، وبيننا وبينها حجاب)، وفي رواية: (وبينها وبين السائل حجاب)، وقد جُمِعَ الروايتان في النسخة التي بين أيديكم.

هذا حديث عائشة رضي الله عنها، سئلت عن القدر الذي يغتسل به النبي صلى الله عليه وسلم من الماء، وهذا معنى: (سئلت عن غسل النبي صلى الله عليه وسلم)؛ أي: عن القدر الذي يغتسل به من الماء، (فدعت بإناء)؛ أي: سألت الطلبة من يأتيها بذلك الإناء ليراه السائل، والسائل ليس محرمًا لها؛ ولذلك كان بينها وبينه حجاب، وحتى لو كان محرمًا لها لا يمكن أن تغتسل بين يديه، فدعت بهذا الإناء ليراه السائل، فلما رآه، وقد ملئ هذا الإناء ماءً، وكان هذا الإناء نحوًا من صاع؛ أي: قريبًا من صاع، والنحو يطلق في اللغة على ستة أمور: يطلق على المثل، وعلى الجهة، وعلى المقدار، وعلى الشطر، ويطلق كذلك على الضرب من الشيء؛ فكل ذلك يسمى نحوًا، وقد جمعها أحد الشعراء في قوله:

نحونا بأنحاء من الحاج نحوكم تناهز نحو الألف أو هي أكثر

فنلنا جميع الحاج لا النحو عاجلًا ونحوكم يا شيخ بالنحو أجدر

(نحونا)؛ أي: قصدنا، هذا أول معاني النحو: القصد، (بأنحاء)؛ أي: بأقسام، هذا المعنى الثاني، (من الحاج نحوكم)؛ أي: جهتكم، (تناهز نحو الألف)؛ أي: قريبًا من الألف، مقدار الألف، (أو هي أكثر) (فنلنا جميعًا الحاج لا النحو)؛ أي: البعض، (عاجلًا) و(نحوكم)؛ أي: مثلكم، (يا شيخ بالنحو أجدر) هذه هي المعاني الستة.

ومنها قول الشاعر:

ترمي الأماعز بمجمرات وأرجل قح محنبات

وهن نحو البيت عامدات

(وهن نحو البيت)؛ أي: جهة البيت الحرام، (عامدات)؛ أي: قاصدات.

وهذا الإناء كان نحوًا من صاعٍ؛ أي: قريبًا منه، أو مماثلًا له كالصاع، والصاع هو: أربعة أمداد بمد النبي صلى الله عليه وسلم، ومد النبي صلى الله عليه وسلم هو: ملء اليدين المتوسطتين غير مقبوضتين ولا مبسوطتين، والمقصود: إذا كان الإناء يملؤه ملء اليدين من طعام، من قمح مثلًا، أو نحوه، فهذا الإناء قدر ذلك فيه من الماء هو الذي يسمى مدًّا، وهكذا الصاع، فهو أربعة أمداد، (فاغتسلت رضي الله عنها، وأفاضت على رأسها)؛ أي: اغتسلت حتى غسلت شعرها، وشعر المرأة كثيف، وغسله يقتضي صب ماء كثير عليه، (وبيننا وبينها حجاب) أي: بينها وبين السائل حجاب، فإنه لم يكن ليراها وهي تغتسل، وقد فرض عليها الحجاب، فقد أنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم حين تزوج زينب بنت جحش: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ[الأحزاب:53]، فكان أمهات المؤمنين يجعلن بينهن وبين الناس سترًا، وهو الحجاب؛ أي: الستر بين أم المؤمنين وبين غيرها من الناس.

وعائشة لم ترد أن تريهم طريقة اغتسال النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث، وإنما أرادت أن تريهم قدر الماء الذي كان يغتسل به، فهم رأوا القدح، فلو شاءت لأرتهم القدح فقط، لكن من زيادة التأكيد أنها تستطيع أن تغتسل به، وأن تغسل به رأسها، وهو كثيف؛ فلذلك اغتسلت به، وهذا الذي يسمى عند أهل البلاغة بـ(بيان الإمكان)، بيان الإمكان هو أن يأتي ما يدل على إمكان وقوع الشيء، فمثلًا قول امرئ القيس:

مِكَر مِفَر مُقبل مُدْبر معًا

هذه من الأمور التي تستنكر، يقال: كيف يجمع بين الإقبال والإدبار في وقت واحد؟! فأتى ببيان الإمكان، فقال:

كجلمود صخر حطه السيل من علِ

فكذلك عائشة أرادت أن تخبرهم بالقدر الذي كان يغتسل به النبي صلى الله عليه وسلم، ثم طبقت ذلك؛ لتريهم أنه بالإمكان أن يغتسل به الإنسان.

ثم قال: (عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: (أنه سأله رجل عن الغسل، فقال: يكفيك صاع، فقال رجل: ما يكفيني، فقال جابر: كان يكفي من هو أوفى منك شعرًا وخير منك، ثم أمنا في ثوب) هذا اختصار لحديث جابر الذي أخرجه بتمامه مسلم في الصحيح، في حجة الوداع، عن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم، وقد رواه عنه ابنه جعفر بن محمد، ورواه مالك عن جعفر بن محمد، ومن طريقه أخرجه مسلم في الصحيح، وهو حديث حجة الوداع الطويل، وفيه: أن محمد بن علي بن الحسين بن علي دخل على جابر بن عبد الله بن عمرو بن حرام رضي الله عنه، وقد كبرت سنه، وعمي، فقال: من هذا؟ فقيل: ابن أخيك محمد بن علي بن الحسين، فقال: يا ابن أخي، ادن مني، فحل زري الأعلى، وزري الأسفل، ووضع يده بين ثديي، ثم قال: يا ابن أخي، اسأل عما بدا لك، فسألته عن حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحدثه جابر بالحجة، وكان في أثناء حديثه تعرض لغسل النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: إن ابن عمك- يقصد: الحسن بن محمد ابن الحنفية- لما أخبره جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم اغتسل بصاع، قال: ما يكفيني، وكان الحسن بن محمد ابن الحنفية جميلًا وافر الشعر، فقال: (قد كان يكفي من هو أوفى منك شعرًا وخير منك)، يقصد: رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجابر هنا يقول ذلك لـمحمد بن علي فيرعى على ابن عمه، وهو الحسن بن محمد ابن الحنفية كذلك.

والمقصود بجلب الحديث في هذا الباب الاستدلال على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكفيه في الغسل صاع، وأنه كان وافر الشعر تام الخلقة، ومع ذلك يغتسل بالصاع.

وقوله: (ثم أمنا في ثوب) هذا من تمام حديث محمد بن علي عن جابر، (أمنا)؛ أي: صلى بنا إمامًا، (في ثوب)؛ أي: في ثوب واحد يلتحف به، ويجعل طرفيه على كتفه، وحوله مشجب عليه ثيابه.

قال: (باب: من أفاض على رأسه ثلاثًا)؛ أي: عقد البخاري هذا الباب لإفاضة المغتسل على رأسه ثلاثًا، وتمييز الرأس جاء في عدد من الأحاديث، وجاء فيه صورتان:

الصورة الأولى: أن يفيض على رأسه ثلاث غرفات.

والصورة الثانية: أن يجعل رأسه أثلاثًا، فيغسل شقه الأيمن، ثم شقه الأيسر، ثم وسط رأسه، فهذا التثليث إما بعدد الغرفات، وإما بتقسيم الرأس.

قال: (عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثًا، وأشار بيديه كلتيهما) ) هذا الحديث يرويه جبير بن المطعم بن عدي بن الخيار بن نوفل بن عبد مناف، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم من بني نوفل، وهو من سادتهم، وأبوه المطعم بن عدي من الخمسة الذين نقضوا الصحيفة، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم دخل في جواره لما مات أبو طالب، ثم رد عليه جواره، ولما مات في الجاهلية رثاه حسان بن ثابت بقصيدة يقول فيها:

ولو أن مجدًا أخلد الدهر واحدًا من الناس أبقى مجده الدهر مطعما

وابنه جبير بن مطعم بن عدي رضي الله عنه من خيار الصحابة، ومن أقربهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يوليه بعض الولايات، وهو يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم كأنه يرد على بعض المتنطعين الذين يرون أن شعر الرأس إذا كان كثيفًا لا يكفيه ثلاث غرفات من الماء، بل يريدون الزيادة من الماء، فرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (أما أنا فأفيض على رأسي ثلاثًا، وأشار بيديه كلتيهما)، بين أنه في حال غسله يفيض على رأسه؛ أي: يغترف عليه ثلاث حفنات، ويكفيه ذلك؛ فلذلك قال: (وأشار بيديه كلتيهما)؛ أي: بكلتا يديه يغترف بهما معًا.

ثم قال: (باب: من بدأ بالحلاب أو الطيب عند الغسل) هكذا بوب البخاري رحمه الله هذه الترجمة، وقد استشكلها العلماء، وهي من أشكل تراجم البخاري في الصحيح، وقد جزم عدد من المحدثين أن البخاري أخطأ في فهم الحديث؛ فلذلك ترجم له ترجمة مخطئة، وذلك أنه ظن أن الحلاب نوع من الطيب، والحلاب هو الإناء الذي يحتلب فيه؛ أي: تحتلب فيه الناقة، يسمى (حلابًا)، ويسمى (محلبًا)، ومن إطلاق الحلاب عليه قول عمرو بن مضاض الجرهمي:

صاح هل رَيْت أو سمعت براع رد في الضرع ما قرى في الحلاب

(ما قرى)؛ أي: جمع في الحلاب؛ أي: إناء الحلب، واختلف الناس في تأويل ذلك حتى جاء الأزهري رحمه الله، فقال: (قد أخطأ الرواة في الترجمة، وفي الحديث)، فالكلمة: (الجلاب) لا (الحلاب)، فرأى أن الترجمة هكذا: (باب: من بدأ بالجلاب أو الطيب عند الغسل)، وأن الحديث فيه: (دعا بشيء نحو الجلاب) و(الجلاب): نوع من أنواع الطيب، وهو بالجيم المنقوطة من أسفل، وهي مضمومة واللام مشددة، ولكن ذلك لم يثبت في الرواية، بل الحديث مروي بالإسناد المتصل، وفيه الحلاب بكسر الحاء المهملة، وفيه تخفيف اللام دون تشديد، فدل هذا على أن الأزهري أخطأ فيه، ولكنه محمل يمنع تخطئة البخاري، وهو أنه لا يقصد بالطيب المسك أو ما له رائحة، بل يقصد به تطييب البدن بإزالة كل الوسخ عنه، فيكون البخاري هنا قصد بالطيب استعمال الماء للغسل، والماء يعد من جنس الطيب، ومن ذلك قول زهير بن أبي سلمى في قصيدته التي يمدح بها بني بدر، يقول:

ومسك تعل به جلودهم وماء

فعد الماء مع المسك مما تعل به الجلود، فكأن البخاري يقول: (باب: من بدأ بالحلاب)؛ أي: الإناء الصغير ليغترف به، أو الطيب؛ أي: بدأ بتطييب جسده بإراقة الماء عليه عند الغسل، وهو يشير إلى حديث عائشة هنا: عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اغتسل من الجنابة دعا بشيء نحو الحلاب)، (بشيء)؛ أي: بإناء (نحو الحلاب)؛ أي: مثل الحلاب، والحلاب هو الإناء الصغير الذي تحتلب فيه الناقة، والمقصود أنه يغترف به من التور، فقد كانوا يجعلون الماء في تور من حجارة لا يمكن أن يراق منه على الأيدي، فيغترف بالحلاب منه حتى يغسل يديه، ويغترف به على رأسه وعلى أطرافه، والمقصود أن الإنسان إذا كان يغتسل من إناء كبير فيه الماء ينبغي أن يأخذ شيئًا يغترف به؛ لئلا يغير الماء بيديه؛ ولئلا يحتاج إلى إدخال يديه في الإناء قبل غسلهما؛ فلذلك يدعو بالحلاب أو نحوه فيغترف به، (دعا بشيء نحو الحلاب) سواء جررتها فقلت: (نحو الحلاب)؛ لأنها نعت لشيء، أو نصبتها فقلت: (نحو الحلاب) على القطع، (فأخذ بكفه، فبدأ بشق رأسه الأيمن، ثم الأيسر؛ فقال: بهما)؛ أي: بيديه (على وسط رأسه)، وهذا هو تثليث الرأس من حيث المكان، بدأ بشقه الأيمن، ثم شقه الأيسر، ثم على وسط رأسه.

ثم قال: (باب: إذا جامع ثم عاد)، عقد هذا الباب للجمع بين جماع عدد من النساء والتطهر طهورًا واحدًا.

فهذا الباب يقتضي أن الإنسان بالإمكان أن يجمع عددًا من الجنابات فيرفعها بطهور واحد، فيكفيه غسل واحد للجنابات، وهي قاعدة عامة أنه إذا تعدد السبب واتحد الموجب كفى موجب واحد، فنواقض الوضوء إذا تعددت فتوضأ الإنسان بعدها وضوءًا واحدًا كفاه لكلها، ومثل ذلك إذا لزمته فدية من الفدى في الحج، أخذ من أظافره، ثم أخذ من شعره، ثم أزال الوسخ عن بدنه، ثم أخرج فدية واحدة بعدها فإنها كافية لكل ذلك، ومثل ذلك ما إذا ولغ عدد من الكلاب في إناء، فإن الإنسان يغسله سبعًا إحداهن بالتراب، ولو تعدد الكلاب، أو الكلب الواحد ولغ عددًا من المرات، وهذه القاعدة نظمها السقاف رحمه الله في قواعده في قوله:

إن يتعدد سبب والموجب متحد كفى لهن موجب

كناقض سهو ولوغ والفدى

(كناقض) نواقض- ولو تعددت- يكفيها وضوء واحد، (سهو) إذا سها الإنسان في الصلاة، فتعددت له، هو فيكفيه سجدتان فقط للسهو، (ولوغ) ولوغ الكلب، إذا تعدد الكلب، أو تعدد الولوغ، و(الفدى) كذلك فدية الحج إذا تعدد سببها، ويدخل في هذا الأيمان في حال التأكيد، لا في حال التأسيس، إذا أقسم الإنسان لا دخل هذا البيت، ثم أقسم لا دخله، ثم أقسم لا دخله فتكفيه كفارة واحدة؛ لأن هذا محمول على التأكيد لا على التأسيس، لكن إذا أقسم لا دخل البيت ولا شرب من هذا الماء، فلا بد من كفارتين إذا فعلهما معًا؛ لأن ذلك من باب التأسيس لا من باب التأكيد؛ فلذلك عقد هذا الباب إذا جامع ثم عاد، فقال: (وعنها رضي الله عنها)؛ أي: عائشة رضي الله عنها (قالت: (كنت أطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيطوف على نسائه، ثم يصبح محرمًا ينضح طيبًا) ) بينت عائشة رضي الله عنها أنها كانت تطيب النبي صلى الله عليه وسلم لإحرامه قبل أن يغتسل، ولحله قبل أن يفيض، فكانت تطيبه، والطيب الذي تطيبه به هو الذريرة؛ أي: الطيب اليابس، ليس مسكًا، يذر فيدهن به، وكان النبي صلى الله عليه وسلم في إحرامه بالحج قد لبد شعره؛ أي: جعل عليه صمغًا ليثبت، والصمغ له وبيص يرى، و(الوبيص) هو اللمعان، وإذا كان معه الطيب فيكون الوبيص مشتركًا بين وبيص الطيب ووبيص الصمغ الذي جعل على الرأس، فهي طيبته فطاف على نسائه؛ أي: وطئهن جميعًا، وقد خرجن معه في حجة الوداع، وكن تسع نسوة، ثم بعد ذلك اغتسل لإحرامه، وكان محرمًا، وهي ترى وبيص المسك؛ أي: وبيص الطيب في رأسه، والمقصود بالمسك: المسك اليابس، وهو ذريرة المسك، هو الذي له وبيص، (ثم يصبح محرمًا)؛ أي: يحرم في الصباح، (ينضح طيبًا)؛ أي: يخرج من بدنه رائحة الطيب، والمقصود بـ(النضح) العرق، فكأنه عرق يخرج منه، والرسول صلى الله عليه وسلم عرقه دائمًا هو أطيب الطيب، وكانت أم سليم وأم حرام تجعلان عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طيبهما. وعن أنس رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدور على نسائه في الساعة الواحدة من الليل والنهار، وهن إحدى عشرة، قال: قلت لـأنس: أوَكان يطيقه؟ قال: كنا نتحدث أنه أعطي قوة ثلاثين)، هذا الحديث يرويه قتادة بن دعامة السدوسي، عن أنس بن مالك رضي الله عنه، يحدث أنس، وقد كان خادمًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، خدمه عشر سنين، وكان عمره عندما أهدته أم سليم- وهي أمه- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الحادية والعشرين من عمره، وكان من أحب الناس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأقربهم منه، وقد عاش يتيمًا، وتربى في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمات أبوه في الجاهلية في أيام بعاث، وأبوه مالك بن النضر من بني عدي بن النجار، وأمه أم سليم بنت ملحان، وهي قريبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأم عبد المطلب، وهي جدة رسول الله صلى الله عليه وسلم، سلمى بنت عمرو النجارية، وهي قريبة أم سليم، ابنة عمها، وقد جاءت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقالت: (هذا خويديمك، أنس يخدمك)، فقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومكث معه عشر سنين، وقال: (خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين، فما قال لي لشيء فعلته: لم فعلت؟ ولا لشيء تركته: لم تركت)، وهذا من تمام خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأدبه، وهو يحدث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدور على نسائه؛ أي: يطؤهن جميعًا، في الساعة الواحدة من الليل والنهار؛ أي: من الليل أو النهار، فالواو هنا بمعنى (أو)، وهن إحدى عشرة امرأة، هذه رواية فيها إثبات أنهن إحدى عشرة امرأة، ولم يجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في عقد النكاح بين إحدى عشرة امرأة قط، لكن المقصود أن له تسع نسوة، وهن أزواجه، ومعهن أمتان، فأزواجه التسع هن: سودة، وعائشة، وحفصة بنت عمر، وأم سلمة بنت أبي أمية، وأم حبيبة بنت أبي سفيان، والخمس من قريش، وزينب بنت جحش، وهي من بني خزيمة من بني أسد بن خزيمة، وميمونة بنت الحارث، وهي من بني هلال بن عامر بن صعصعة، وجويرية بنت الحارث بن أبي ضرار، وهي من بني المصطلق من خزاعة، وصفية بنت حيي بن أخطب، وهي من بني النضير من ذرية هارون بن عمران أخي موسى عليه السلام، فهؤلاء تسع نسوة هن اللواتي توفي عنهن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

توفي رسول الله عن تسع نسوة إليهن تعزى المكرمات وتنسب

لكن كان له أمتان يطؤهما بالملك، وهما: مارية القبطية التي أهداها إليه المقوقس، وهي أم إبراهيم، وريحانة بنت زيد النضرية، فالجميع إحدى عشرة امرأة، أمتان وتسع نسوة، وإماؤه اللواتي يأتي بالملك اختلف في حكمهن: هل هن مثل أزواجه أم لا؟ وهذا الخلاف يشمل عددًا من الأمور: هل يحرم نكاحهن بعده؟ والإجماع منعقد على حرمة نكاحهن؛ لأن الله قال: وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيمًا[الأحزاب:53]، فيدخل في أزواجه إماؤه كذلك، ومثل ذلك أنهن لا تجب عليهن العدة بعده؛ لحرمة نكاحهن بعده مطلقًا، ومثل ذلك وجوب نفقتهن من بيت المال أبدًا، والخلاف في هذه المسائل نظمه جدي محمد علي رحمة الله عليه بقوله:

هل أمهات المؤمنين هاتي للمؤمنات كن أمهات

وهل إماؤه اللواتي ياتي بالملك في الحكم كالاوليات

وهل عليهن اعتداد بعده إذ كن بعده كهن عنده

فهن بعده محرمات للابد لا يحللن للممات

وقوتهن لازم في ماله لم يتغير بعده عن حاله

في كل ذا خلف لدى الحطاب حكاه عن جمع من الأصحاب

فكل هذه المسائل فيها خلاف.

وإحدى عشرة امرأة إذًا فيها تسع أزواج وأمتان.

قال- أي: قال قتادة بن دعامة وهو الراوي عن أنس-: (قلت لـأنس: أوَكان يطيقه؟!)؛ أي: وهل كان يطيق النبي صلى الله عليه وسلم ذلك؟! فهذا يقتضي قوة رهيبة في البدن، قال: (كنا نتحدث)؛ أي: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يتحدثون أنه صلى الله عليه وسلم أعطي قوة ثلاثين؛ أي: قوة ثلاثين رجلًا، وذلك من تمام خلقته وما قواه الله به.

والحديث يدل على جواز وطء المرأة قبل الاغتسال من وطء ضرتها.

ونقتصر على هذا الحد.

وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.