تفسير سورة لقمان [1-7]


الحلقة مفرغة

قال الله تعالى: الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ [لقمان:1-3].

هذه سورة لقمان الحكيم رحمه الله ورضي عنه، آياتها (34) آية، نزلت آياتها على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم وهو بمكة المكرمة، فهي بذلك سورة مكية.

قال تعالى: الم [لقمان:1]، هذه الحروف المقطعة هي حروف الهجاء في لغة العرب، فمنها ركب القرآن وانتظم، وعليها قام، وهو مع ذلك معجز، أعجز الخلائق منذ نزوله وإلى يوم القيامة، وتحدى الله الخلق يوم نزوله أن يأتوا بمثله أو بسورة منه أو بآية فقط، فعجز الكل، ولم يستطع أحد من ذلك العصر إلى يومنا وإلى يوم القيامة.

وأتى السخفاء بكلام يضحك الثكلى ويحمل على الهزء والسخرية وأرادوا به معارضة القرآن، فأتوا بالسخيف من القول وبالسقط من الكلام مما لا معنى له قط.

وفي الغالب أنه عندما تذكر هذه الحروف تختم بالإشارة إلى آيات الله، فقال تعالى هنا: الم * تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [لقمان:1-2]، والضمير يرجع عادة إلى أقرب مذكور، ولا أقرب من الم [لقمان:1]، أي: تلك الأحرف الألف واللام والميم آيات الكتاب الحكيم.

وقال تعالى: الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ [البقرة:1-2]، والإشارة كذلك تعود إلى أقرب مذكور، وهي الألف واللام والميم.

وبعض السور لم تعقب بهذا كما في سورة الروم: الم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ [الروم:1-3].

فإن الأمر يتم بالكلمة الواحدة، فإذا تكرر مرتين وثلاثاً وأربعاً وما فوق ذلك فقد تقرر، وكما يقولون في الأمثال: الشيء إذا تكرر تقرر، وقد تكرر ذكر الإشارة بتلك وبذلك عقب هذه الحروف، فكان ذلك تقريراً بحيث أصبح مثل القاعدة العامة، فإذا لم يذكر في بعض فمعنى ذلك أنه قد مضى وتقرر، والتكرار بعد أن يكرر مرات ومرات يصبح لا حاجة إليه.

قال تعالى: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ * هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [لقمان:2-4].

قال تعالى: تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ [لقمان:2].

تلك الآيات الكتابية والأحرف الهجائية التي ترتب منها كتاب الله وكلامه المعجز هي بينات الله وأحكامه في الحلال والحرام وفي الإعجاز وبيان القدرة والآيات الدالات على الوحدانية والقدرة الإلهية.

الحكيم: في أوامره ونواهيه، والحكمة: وضع الشيء في محله، والقرآن كذلك، فلا يضع أوامره ونواهيه إلا في محلها، فكان في ذلك البلسم الشافي لهداية الخلق إلى مصالحهم وإلى معاشهم ومعادهم وفي دنياهم وآخرتهم.

قال تعالى: هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ [لقمان:3].

أي: حال كون تلك الآيات نزلت هداية ورحمة من الضلال ومن العذاب إلى طريق الحق المستقيم، والطريق الحق هي الإسلام ودين محمد عليه الصلاة والسلام، والقرآن الكريم هو الذي بين ذلك وأوضحه؛ فلذلك وصف بذلك على أنه حال له.

وقرئ: (هدى ورحمة) بالرفع على أنه كلام مستأنف، أي: هذا الكتاب الكريم الحكيم هو هدى للناس ورحمة لهم، يهديهم من الضلال ويرحمهم من العذاب.

وقوله: (لِلْمُحْسِنِينَ)، أي: للمؤمنين الذين أحسنوا طاعة ربهم والقيام بدينه، والإحسان يأتي في المرتبة الثالثة في بيان الإيمان والإسلام، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان فذكر المعتقدات فقال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر)، وسئل عن الإسلام فذكر الشريعة المطهرة: أن تصلي خمس صلوات في اليوم والليلة، وأن تصوم شهراً من كل عام، وأن تزكي مالك، وأن تحج بيت الله الحرام ثم سئل عن الإحسان فقال: (أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك).

فالإحسان هو: أن تعبد ربك العبادة الخالصة له كأنك تراه ببصرك، فإن لم يمكن ذلك ببصرك فليكن ذلك في ضميرك ونفسك، وما تصل له بيقينك فعلى الأقل أن تعتقد اعتقاداً جازماً قاطعاً بأنك إن لم تره فإنه يراك، فإذا كان العبد يعبد الله تعالى ويعلم بأن الله يرى عبادته وقيامه وقعوده ويراه في ليله ونهاره ويستحضر هذا في نفسه فإن عبادته تكون خالصة من أن ينالها رياء أو سمعة أو إشراك بغير الله، وذاك المراد.

قال تعالى: هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ * الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [لقمان:3-4].

فهؤلاء المحسنون هم الذين يقيمون الصلاة، ونرى ذكر الصلاة يأتي دائماً بعد الشهادتين والعقائد والإيمان بالله وبكتابه وبرسله. وإقامتها: إتيانها في أوقاتها بأركانها وواجباتها وشرائطها مع الخشوع والاطمئنان والأذكار المذكورة والمطلوبة في الصلاة، تلاوة وتسبيحاً وتعظيماً وتكبيراً وقياماً وركوعاً وجلوساً وسجوداً، والصلاة هي: أفعال مخصوصة مبتدأة بالتكبير منتهية بالتسليم.

فالمقيم لهذه الصلاة بكل أركانها وآدابها هو من المحسنين.

قال تعالى: وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ [لقمان:4]، أي: يزكون أموالهم، والزكاة في لغة العرب: التنمية والنماء والزيادة، وظاهر الفعل أن الزكاة: النقص، أي: أنك ستنقص من مالك قدراً تؤديه لمن ذكر الله من الفقراء والمساكين ومن إليهم، ولكن هذا النقص هو زيادة في الحقيقية، قال تعالى: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ [البقرة:276].

فالزكاة تنمي المال وتضاعفه وتكثره ما دمت تؤدي حق الله فيه، وحق الفقراء والمساكين، وحق القرابة وذوي الأرحام كما أمر الله جل جلاله.

قال تعالى: وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ [لقمان:4]، كررت (هم) للتأكيد، أي: هم يوقنون بالآخرة دواماً واستمراراً، وإيمانهم بالآخرة وبيوم القيامة والبعث وعودة الأرواح إلى أجسادها يوم عودة الحياة ثانية لا شك فيه ولا ريب ولا تردد، وذلك يقين في القلب، وهذه عقيدة يوقن ويؤمن بها المسلم وإلا لكان شاكاًمرتاباً متردداً، والشك والارتياب كفر، وقد بنيت عقيدة المسلمين على اليقين القاطع الذي ليس فيه شك ولا ارتياب.

فهؤلاء المحسنون الذين يقيمون الصلاة ويؤدون الزكاة مع إيقان ذلك في أنفسهم عقيدتهم ثابتة بأنهم فعلوا ذلك لله ولما أمر به، وما نزل على نبينا عليه الصلاة والسلام من وحي ورسالة، وهم يوقنون بأن يوم الآخرة يوم حق، فهم يعملون لذلك، حتى إذا عرضوا على الله وسئلوا عن أعمالهم كانوا موقنين متأكدين غير شاكين ولا مرتابين في يوم البعث.

قال تعالى: أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:5].

أي: أولئك الموقنون بيوم القيامة المصلون المزكون المحسنون في عبادة ربهم على هدى من ربهم، فهم على هداية وعلى بيان وحق وعلى نور من أمرهم.

قال تعالى: (وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ)، الذين أفلحت وجوههم وطابت أعمالهم وزكت عبادتهم فقبلها الله منهم، فكانوا مفلحين بالفوز والنجاة من النار، وبالنجاح يوم القيامة عند العرض على الله يوم الحساب، وبالانتقال من النار ومن غضب الله إلى الجنة خاتمة المطاف.

فهؤلاء المحسنون المصلون المزكون الموقنون على هداية وعلى فلاح، وهم الذين يقبل الله أعمالهم وعقائدهم، ويجعلهم من الفائزين يوم القيامة حقاً.

قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [لقمان:6].

يقول ربنا جل جلاله: من الناس ناس يشترون لهو الحديث ويدعون الحق في حديثهم، ويتركون كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ثم يذهبون يبذلون مالهم ووقتهم يشترون به اللهو والباطل؛ (ليضل عن سبيل الله بغير علم) أي: لتكون عاقبة عملهم ونهاية مطافهم فاللام للعاقبة، أو يفعلوا ذلك من أجل أن يضلوا، وتكون اللام لام العلة.

وإن كانت للعاقبة فإن ذلك بالنسبة للمسلمين، أي: إن فعلوا ذلك فإنما يفعلون ما تكون عاقبته ضلالاً ومعصية وباطلاً.

وإن كانت اللام للتعليل فالمعنى أنهم فعلوا ذلك لعلة شراء الباطل واللهو؛ وليضلوا بذلك عن سبيل الله، أي: فعلوه عن نية سابقة وقصد ثابت؛ ليتخذوا من الضلالة هداية مستهزئين بدين الله وبكتابه، أي: ليتخذوا ذلك هزواً ولعباً.

قال تعالى: أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [لقمان:6]، فالله يعذبهم العذاب المذل المهين؛ جزاء ما لعبوا في الدنيا واستهزءوا بالحق واشتروا اللهو والباطل.

وعن عبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وجابر بن عبد الله وجماهير التابعين والأئمة وأقسم ابن مسعود بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات بأن اللهو هنا هو الغناء والمزامير وما يلهيك عن الله وكتابه وعبادته، واستشهدوا على ذلك بقول النبي عليه الصلاة والسلام: (لا تبيعوا القينات ولا تشتروهن، ولا خير في تجارة فيهن، وثمنهن حرام) أو كما قال عليه الصلاة والسلام.

فالقينات والمغنيات والجواري لا يجوز شراؤهن لهذا المعنى، قال ذلك الصحابة، وممن قال ذلك من التابعين سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب في طائفة من كبارهم وجماهيرهم، فقالوا: إن اللهو هو المزمار وآلات الغناء، وهو الغناء المشغل عن الله الذي تشغل به زمانك وحياتك كلها من الصباح إلى المساء ومن الليل إلى النهار، وتشتريه ببعض المال؛ لتضل عن سبيل الله، ولتنتقل من الهداية إلى الضلال، وتتخذ ذلك هزواً بالآيات وبالإسلام وبالحق الذي جاء عن الله، فهذا الغناء والمجون إذا اشتريتها بمالك فقد اشتريت اللهو بمال وثمن، وعندما تعكف عليهما ليلك ونهارك والناس يعبدون الله ويصلون ويصومون ويتلون ويتهجدون، وأنت من رواية فاسقة إلى مغنية داعرة إلى كلام يدعو إلى الباطل والفحشاء إلى أنواع من الخنا ومن الفحش، ومما لا يجوز من هتك الأعراض وذكر المرأة ومداخلها وبواطنها فقد اشتريت اللهو الباطل بالمال وبالزمن، تركت الحق والعمل بالحق، وذاك باطل ولهو يشغلك عن الله وآياته والدين الحق.

والله عندما يقول: (ومن الناس) أي: من الناس الذين يزعمون الإسلام ومن الناس الكافرين كذلك من يتخذ الغناء والطرب وآلاتهما بكل أشكالها مع المغنيات وكشف أعراضهن وأصواتهن المتخنثة المتكسرة وكلامهن الفاحش، من ذكر محاسن المرأة التي لا تربطك بها رابطة، ورؤيتك لشعرها وخصرها وهتكها لبطنها ولعبها بجسدها، وذاك الباطل الذي لا يجوز أن تشغل به نفسك، زيادة على أنك تدفع فيه المال وتشتريه، فالمال في ذلك حرام أخذه أو دفعه، مع ضياع المال والوقت، وترك عبادة الله وتلاوة القرآن والصلاة والصيام والزكاة والذكر والتهجد والاعتكاف وكل أنواع العبادات، فيدع هؤلاء الناس الذين قال الله عنهم: (ومن الناس) كل ذلك، ويشترون الباطل بالمال، ويضيعون الزمن في سبيل ذلك.

ولهو الحديث هو: الحديث الباطل والذي ليست نتيجته ونهايته إلا الإفساد، من إفساد الرجال والصبيان والنساء والبنات والخدم عن الحق، وشغلهم بالباطل، وتهييج أفكارهم وما في نفوسهم للفاحشة وما يرتبط بها قولاً وعملاً.

قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [لقمان:6] فهو يفعل ذلك وهو لا يعلم أن الله حرم ذلك، ومنع منه، مع أن العقل السليم يأمرك ألا تبذل المال فيما يضر فكرك ومالك وزمانك وما يضيع عليك ما ينبغي أن تشتغل فيه بالحق لتدخره ليوم القيامة عند الله، كما قال تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى [البقرة:197]، وهذا الزاد الذي ستقدمه بين يديك يجب أن يكون عبادة وتلاوة وذكراً وأنواعاً من العبادات منوعة ومشكلة، فلا تذهب فتتزود بالباطل وباللهو، فإنك بذلك تجهد نفسك يوم القيامة؛ لأنك قد تزودت بكل غث وباطل وزهيد بما لا تعود عليك نتائجه إلا بالكفر والإفساد والباطل الذي لا حق فيه ولا نور ولا ضياء.

قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [لقمان:6].

أي: ليكون ضلالة، فاللام لام العاقبة في تفسير وقول، أي: لتكون العاقبة والنتيجة لمشتري الباطل والضلال والفساد والظلمات بعضها فوق بعض بغير علم من الله ولا دليل له ولا برهان من عقل أو نقل، فهو يتصرف تصرف الجاهل البعيد عن الحق عملاً وقلباً، والبعيد دليلاً عقلياً ونقلياً من الكتاب والسنة.

قال تعالى: لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا [لقمان:6]، أي: يتخذ آيات الله ودينه ورسالته هزواً يهزأ بها ويشتغل بالباطل، ويهزأ بالعبادة الدائمة ليلاً ونهاراً، وفي كون الإنسان يركع ويصلي، فمن وصل إلى هذا فقد وصل إلى الكفر والشرك، وليس بعد الكفر ذنب، وقد يكون ذلك عن جهالة، ولكن العاقبة تكون انتقاله من الهداية إلى الضلال ومن النور إلى الظلام.

قال تعالى: أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ [لقمان:6]، أولئك الذين يشترون اللهو الباطل بالمال؛ ليكونوا مستهزئين بالحق وبالنور لهم عذاب مهين، أي: يهينهم الله بعذابه ويذلهم، فيتحملون أنواع المهانة؛ جزاء ما كانوا يظنون أنهم في دار الدنيا يشترون السرور والعزة والراحة وما ظنوه حقاً وسلواً وإذا به العذاب المهين يوم القيامة.

ويدخل في ذلك كل ما يلهي عن الحق وعن الصلاة والتلاوة وعن العبادة، فما شغل الإنسان عن وقت الصلاة وكان حاملاً على السباب والشتائم وكان سبباً إلى القطيعة بين الأرحام والأصدقاء يدخل في الآية، وما آل للباطل فهو باطل، وما آل للحرام فهو حرام، فقطيعة الأرحام وما يوصل إليها حرام، ومقاطعتك المسلم لدنيا ولباطل حرام، فما يوصل إلى ذلك فهو حرام، ومن ذلك الشطرنج.

وبعض السلف أباح لعب الشطرنج وهم قلة قليلة، وروي ذلك عن الإمام الشافعي وإبراهيم بن سعد بن عبد الرحمن بن أبي وقاص من علماء المدينة وأئمتها وعن الكثيرين، وقالوا عن الشطرنج: يعلم الرأي والفكر والسداد، ولكن ذلك إذا كان لا يشغلك عن الصلاة والعبادة وتعلم العلم وما يكفيك في حياتك للمعيشة ولا يحوجك للناس ولا يبذل ماء وجهك للناس.

على أن أكثر الذي ولعوا بلعب الشطرنج يشتغلون به الليل والنهار، ويشغلهم عن الصلوات، فيصلونها جميعاً وينقرونها نقراً، ولا يفكرون بعد ذلك في مصلحة دينية ولا دنيوية، ونعلم من ذلك الكثير الكثير مما كان سبباً لخصامه مع أهله والافتراق بعد ذلك والطلاق، وأحدهم كان يغيب عن زوجته الليالي ذوات العدد، فإذا عاتبته ولامته صاح في وجهها، فنشأ عن ذلك الخصومة والغث من القول، وكانت النتيجة الطلاق.

فإذا كان الشطرنج أداة باطل ولهو وتمزيق الأسرة وقطيعة الرحم فهو مما حرمه الله وأجمعت عليه الكتب السماوية والرسل في جميع رسالاتهم، وزاد ذلك بياناً خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم في كتابه الخاتم للكتب، فهو يدخل في هذه الآية.

سبب نزول الآية

وقال قوم: إن سبب نزول هذه الآية أن النضر بن الحارث أحد المشركين من كفار مكة الذين عاندوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وقد خرج أخيراً في غزوة بدر يقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فأسر، فقتله صلى الله عليه وسلم صبراً كما قتل عقبة بن أبي معيط.

كان يرحل إلى فارس والروم فيأتي بقصص عن ملوك الروم وأكاسرة الفرس وخرافاتهم وحكاياتهم إلى مكة، فإذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكعبة وهو يعلن للناس كتاب الله ويقرأ عليهم من آياته يقول لهم: لا تذهبوا إلى محمد، وائتوا إلي فأنا كذلك أحفظ من القصص، وقد أتيتكم بقصص الفرس والروم وفيها من الغرائب والقصص ما يسليكم أكثر من ذلك، فكانوا يجتمعون إليه، وكان أحياناً يبذل على ذلك مالاً، وكان يأتي بالقينات والمغنيات، ويدعو إليه هؤلاء الذين يريدون الإسلام فيقص عليهم من تلك القصص، ويأمر الجواري بأن يغنين له، ويعارض بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلاوته للقرآن وذكره القصص التي أتى بها عن الأنبياء والأمم السابقة، ويقول لهم: إن حدثكم محمد عن عاد وثمود فأنا أحدثكم عن فارس والروم.

وهذا السبب والنقل لو كانا صحيحين فقد قال علماؤنا في جميع آيات القرآن والأحاديث النبوية: العبرة في عموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالعبرة من الآيات ومن القرآن والسنة بما يؤديه اللفظ، وأما السبب ومن نزلت الآية فيه فذلك تاريخ لا دخل له في المعنى، إلا إذا احتيج لمعرفة البيئة والوقت الذي قيل فيه ذلك، ولعله يفيدك فائدة لم تكن في العموم، فتبقى الآية عامة.

من أنواع لهو الحديث في هذا الزمان

ومن لهو الحديث هذه الأفلام ودور السينما وأنواع الإذاعات والمسلسلات والروايات الضالة الباطلة التي تنشر الفاحشة والكذب والباطل.

وهذه الأفلام العارية الداعرة الفاسدة ينفق عليها المال، وهذه الصحف والمجلات ما أكثرها! وما أقل أن ترى جريدة أو مجلة منها في أرض العرب والمسلمين لا تنشر من الفاحشة ومن الضلال ومن الكفر ومن المعصية ما تحارب به الله ورسوله صلى الله عليه وسلم!

وهناك صحف ومجلات خصصت لهذا فقط، وفيها ما فيها من أنواع الفاحشة والدعوة إليها والسعي عليها، ويقرؤها فتياننا وفتياتنا، وفي ذلك من نشر الفاحشة والسوء والباطل ما تكون هذه الآية في شرحها وبيانها كأنها أنزلت من أجلها وهي كذلك.

قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ [لقمان:6] فذاك لهو الحديث يشتريه وقد يبالغ فيسافر من أجله ويشتري تلك الأفلام ويجعل لها عرضاً في بيته، ويدعو الناس للتفرج والسهر عليها، وعباد الله المؤمنون في بيت الله يتهجدون لله قائمين وساجدين وذاكرين وعابدين وأولئك مع الشيطان، يهنيهم بفحشهم، وهكذا ليلهم ونهارهم، ويزداد هذا في شهر رمضان، ويجعلون ذلك من السرور واللهو، ويقولون عنه: اللهو البريء، وليس من البراءة في شيء، وإنما هو اللهو الباطل الفاحش الداعر الذي حرمه الله وتضيع فيه الأوقات.

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا [لقمان:6] حتى إذا جاءه مؤمن في تلك الحالة وقال له: يا فلان! إلى متى وأنت تعتكف على هذه الأصوات، ومتى تتزود للآخرة؟ سخر منه وقال له: خذ أنت ذلك الزاد، واربح أنت ذلك الرزق، فلا حاجة لي فيه، فهذا هو الهزء بآيات الله وكتابه، وقائل ذلك مرتد كافر، قد خرج عن الإسلام بذلك.

أما الكافر من أصله فلا يستغرب ذلك منه، إذ ليس بعد الكفر ذنب، وهو بكفره فعل ذلك أو لم يفعله خالد مخلد في النار أبداً سرمداً.

حكم الألعاب الرياضية

والألعاب الرياضية إن قصدت للجندية؛ لتقوية البدن وإعداد النفس للجهاد في سبيل الله، ومن ذلك الكرة واللعب بالسيف والفروسية على الخيل وضرب الإشارة والأهداف والجري عدواً، فكل ذلك مطلوب شرعاً، بشرط ألا يشغلك ذلك عن وقت الصلاة، ولا يكون فيها باطل من سباب وشتائم وخصومات قد تصل إلى الضرب أو إلى القتل، فإن وصل إلى ذلك فهو مما حرم الله ونهى عنه.

ولكل شيء بداية ونهاية، فلا يجوز تجاوز الإنسان معاني الرياضة من الألعاب الرياضية التي تقوي البدن وتعين الشخص على الجهاد والقتال، وقديماً قالوا: العقل السليم في الجسم السليم، فإذا فعلتها ليسلم بدنك وتكون أعضاؤك لينة قابلة لحمل السلاح براً وبحراً وجواً مستطيعاً للركوب على الخيل إن احتجت إلى ذلك للجهاد وللقتال، فهو بهذه النية لمن يفعله يعتبر عبادة وأجراً وثواباً، وأما أن يشغلك عن الصلاة حتى يخرج وقتها فهذه كبيرة من الكبائر، ولقد قال علماؤنا وسلفنا الصالح: من ترك الصلاة كفر، وتركها أن تخرج فرضاً واحداً عن وقته بلا عذر شرعي، ففاعل ذلك يعتبر متهاوناً في الصلاة وتاركاً لها، فإن أداها فقد ارتكب كبيرة فليستغفر الله ولا شيء عليه غير ذلك، فإن كرر ذلك عزر، والتعزير عند بعض الأئمة عشر جلدات، وقد تزيد على ذلك إن أصبح ذلك سمة وعادة وخلقاً لهذا المتهاون بالصلاة المخرج لها عن أوقاتها.

وقال قوم: إن سبب نزول هذه الآية أن النضر بن الحارث أحد المشركين من كفار مكة الذين عاندوا رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين وقد خرج أخيراً في غزوة بدر يقاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين، فأسر، فقتله صلى الله عليه وسلم صبراً كما قتل عقبة بن أبي معيط.

كان يرحل إلى فارس والروم فيأتي بقصص عن ملوك الروم وأكاسرة الفرس وخرافاتهم وحكاياتهم إلى مكة، فإذا رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم عند الكعبة وهو يعلن للناس كتاب الله ويقرأ عليهم من آياته يقول لهم: لا تذهبوا إلى محمد، وائتوا إلي فأنا كذلك أحفظ من القصص، وقد أتيتكم بقصص الفرس والروم وفيها من الغرائب والقصص ما يسليكم أكثر من ذلك، فكانوا يجتمعون إليه، وكان أحياناً يبذل على ذلك مالاً، وكان يأتي بالقينات والمغنيات، ويدعو إليه هؤلاء الذين يريدون الإسلام فيقص عليهم من تلك القصص، ويأمر الجواري بأن يغنين له، ويعارض بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلاوته للقرآن وذكره القصص التي أتى بها عن الأنبياء والأمم السابقة، ويقول لهم: إن حدثكم محمد عن عاد وثمود فأنا أحدثكم عن فارس والروم.

وهذا السبب والنقل لو كانا صحيحين فقد قال علماؤنا في جميع آيات القرآن والأحاديث النبوية: العبرة في عموم اللفظ لا بخصوص السبب، فالعبرة من الآيات ومن القرآن والسنة بما يؤديه اللفظ، وأما السبب ومن نزلت الآية فيه فذلك تاريخ لا دخل له في المعنى، إلا إذا احتيج لمعرفة البيئة والوقت الذي قيل فيه ذلك، ولعله يفيدك فائدة لم تكن في العموم، فتبقى الآية عامة.


استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير سورة لقمان [8-11] 2399 استماع
تفسير سورة لقمان [12-15] 1987 استماع
تفسير سورة لقمان [27-31] 1347 استماع
تفسير سورة لقمان [32-34] 1268 استماع
تفسير سورة لقمان [20-26] 1017 استماع