خطب ومحاضرات
تفسير سورة لقمان [20-26]
الحلقة مفرغة
قال الله جلت قدرته: أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [لقمان:20].
لا نزال مع ربنا جل جلاله وهو يعلمنا من حكمة لقمان، ومن مواعظه، وما تخلل ذلك من آيات الله وبيناته، فمن ذلك قوله تعالى: ( ألم تروا ) والرؤية هنا المقصود بها رؤية القلب، التي تساعد على التدبر والتمعن.
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ [لقمان:20] أي: يا أيها الخلق! ويا أيها الناس! من مؤمنين وكافرين، ( ألم تروا ...).
والاستفهام في الآية استفهام تقريري للبيان والتأكيد، أي: ألم تروا هذه السماوات السبع العلا، وهذه الأرضين السبع، وأن الله سخر ما فيها لكم، فسخر الأمطار لتنبت ما في الأرض والقمر والشمس يشعان على الناس وعلى النبات والأشجار، وسخر لكم الأجواء فأنتم تطيرون من إقليم إلى إقليم، ومن قارة إلى قارة، فتقطعون الأجواء، وتقطعون القارات من مكان إلى مكان، وسخر لكم الأرض بنبتها وزرعها وشجرها ومياهها وبحارها ودوابها، فكل ذلك مذلل ومسخر لك أيها الإنسان! ألا يكفيك ذلك دلالة على ربك، وعلى قدرته ووحدانيته وجلاله جل جلاله وعز مقامه؟! ألا يحملك ذلك على شكر الله آناء الله وأطراف النهار.
قوله: وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً [لقمان:20]، أي: أن الله جل جلاله أسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة بمعنى أنه أتمها، ومنه إسباغ الوضوء، أي إتمامه أركاناً وأعضاءً واجبات ووسنناً.
وكذلك أسبغ الله عليكم نعمه ظاهرة وباطنة، فالظاهرة نراها، والباطنة نحس بها ونشعر بها، تلك التي سخرها لنا في السماوات والأرض، وسخر لنا ما عليها وما بينها على أن نعم الله لا تحصى، ألا يدعونا ذلك إلى شكر الله وحمده؟ وألا يدلنا ذلك على أن الله جل جلاله هو الواحد القادر على ذلك، ولا أحد غيره؟
قوله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ [لقمان:20]، أي: مع كل هذا يوجد من الناس من يجادل في ربه، ويقول القول بغير دليل ولا برهان، ولذا قال: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُنِيرٍ [لقمان:20] أي: يجادل في ربه جاهلاً، لا علم عنده، سواء كان علم دنيا أو علم آخرة، فيجادل في الله بلا هدى، فهو لم يكن مؤمناً ولا مهدياً وإنما ضلاله وظلماته هي التي أوحت له أن يقول ما قال، وأن يجادل بما يجادل.
فلا كتاب عنده يوضح الحقائق وينير البصائر، ويبعده عن الباطل، فالذين يجادلون في الله -وما أكثرهم- يجادلون في علم الله وقدرة الله ووحدانية الله، وهم مع ذلك في جهل وظلام وكفر، وفي إصرار على الجهل والباطل، ومعنى هذا أن الله جل جلاله يحذرنا ويعلمنا ألا نفعل ذلك، وإلا كنا من الضالين المبعدين، وكنا ممن يرى ولا يبصر، ويسمع ولا يدرك، وممن لا يعي بقلب ولا بفهم ولا بإدراك.
قال تعالى: وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان:21].
أي: ومن الناس فئة أخرى، إذا وعظوا بأن يتبعوا ما أنزل الله في كتابه، وبينه رسوله من حلال وحرام، وآداب ورقائق، وعقائد وقصص، رفضوا ذلك بحجة تقليد الآباء وقالوا: بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا [لقمان:21].
أي: إنما نتبع ونقلد ما وجد عليه آباؤنا من ضلال وكفر، ومن خروج عن الحق، ويفعلون ذلك بلا دليل ولا كتاب ولا إنارة قلب ولا علم ولا معرفة، وهذا هو التقليد الباطل للآباء وإن كانوا يعملون عمل الشيطان، ولو كان الشيطان هو الموحي لهم والذي يدلهم، وقد تركوا بذلك كتاب الله وسنة رسوله إلى الشيطان وإلى سنن الآباء غير المؤمنين.
يقول ربنا جل جلاله: أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [لقمان:21].
أي: حتى لو كان يدعوهم الشيطان إلى الضلال والباطل، ويدعوهم ليفعلوا ذلك، ويتركوا الكتاب المنزل، ويتركوا النبي المرسل صلى الله عليه وعلى آله، حتى ولو كان الشيطان إمامهم والداعي لهم، ولا يدعوهم الشيطان إلا إلى عذاب السعير، أي: العذاب المسعر الذي يحرقهم في جهنم وبئس المصير.
تلك نتيجة اتباع دعوة الشيطان، وما يوحي إليهم به الشيطان، وهؤلاء استبدلوا الهدى والحق بالباطل، وأبوا اتباع الرحمن وما يوحي به.
قال تعالى: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [لقمان:22].
يقول الله جل جلاله: أما أولئك الذين يجادلون ويخاصمون في ربهم بلا علم ولا كتاب ولا دليل ولا برهان، ولا نور من الله، فإنهم مع ذلك إذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله، وما أوحى به الله، وما أرسلت به الأنبياء وخاتمهم صلوات الله وسلامه عليه أعرضوا، فتلك فئة الشيطان.
قوله: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ [لقمان:22] أي: من أسلم واستسلم لله مطيعاً له مؤمناً به، فاستسلم له في فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [لقمان:22].
وهذا الذي أسلم وجهه لربه كان ذلك حال كونه محسناً، والإحسان الدرجة الثالثة بعد الإسلام والإيمان، والإيمان أن تؤمن بربك وبالدار الآخرة وبيوم البعث، وأن تؤمن بالرسل، وبالقدر خيره وشره من الله تعالى، وأن تؤمن بالجنة والنار.
والإسلام: أن تصلي خمس صلوات في اليوم والليلة، وأن تصوم شهراً من كل عام وهو شهر رمضان، وأن تؤدي زكاة مالك إذا بلغ الحول، وأن تحج مرة في عمرك إلى بيت الله الحرام، وأن تترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن، وأن تمتثل أمر ربك جهد طاقتك وجهد قدرتك، والضابط في ذلك ما قاله عليه الصلاة والسلام: (ما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عنه فانتهوا)، فالباطل يترك كله، والخير يفعل منه ما في قدرة الإنسان.
فالذين يسلمون وجوههم لله، وهو الإسلام ومنه اشتق اسم المسلم، فالمسلم من أسلم وجهه لله سميعاً مطيعاً، لا يخرج عن أمره، ولا يخرج عن نهيه، يمتثل أوامر ربه وأوامر نبيه حال كونه محسناً عاملاً بالصالحات، وأن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
أي: أن نعبد الله مخلصين له وكأننا نراه، وإن لم نكن نراه فهو يرانا، فإن كانت العبادة كذلك فستكون أكثر إخلاصاً وأكثر اطمئناناً وخشوعاً.
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [لقمان:22]، العروة: الحلقة التي يدخل فيها العقد، ثم أصبح معنى الاستمساك بالعروة الوثقى: أن يستمسك بعهد الله الوثيق، وبدينه الكامل، وبالعهد الذي تركه لنبيه وما أمر نبيه الناس به من الإيمان بالله وبرسل الله وبعمل الصالحات في خشوع واطمئنان وإخلاص، فمن فعل هذا فقد استمسك بالعهد الوثيق، وبالدين المتين، وبعهد الله جل جلاله وبالإسلام والعمل به، إلى لقاء الله ليفي الله بوعده وبعهده، قال تعالى: وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ [التوبة:111] وعهد الله أن يجازي بالجنة وبالرحمة من أطاعه، وأن يعذب من عصاه وخالفه.
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ [لقمان:22]، أي: إلى الله العاقبة، وإلى الله النهاية في أمرنا كله، وفي أمر الله وخلق الله، وقدر الله وما أمر به، فيوم القيامة عندما نكون عنده يجازي المحسن بإحسانه، ويعاقب المسيء بإساءته، فله العاقبة والمعاد، ولله الرجوع والمآب، فمن أحسن فلنفسه، ومن أساء فعليها.
قال تعالى: وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [لقمان:23].
فنبينا عليه الصلاة والسلام كان حريصاً على هداية الناس، ولكن الله لم يكلفه بالهداية، وليست الهداية هي رسالة الأنبياء والرسل، وإنما رسالتهم أن يبلغوا الناس ما أمرهم الله بتبليغه.
وأما الهداية فهي على الله، قال تعالى: لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ [البقرة:272]، وقال تعالى: إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ [القصص:56].
وكان نبينا عليه الصلاة والسلام يجهد نفسه أحياناً في سبيل هداية الناس، فقال الله له: لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]، أي: لعلك مهلكها ومؤذيها، وهذا لم يكن الأمر ولا الرسالة التي ابتعثت بها، وهذه الآية كتلك، وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ [لقمان:23].
أي: من كفر بعد البلاغ والرسالة، وبعد وحي الله الذي سمعه، وبلغه حلالاً وحراماً، وعقائد وآداباً، وقصصاً ورقائق، في هذه الحالة إن بقوا على كفرهم، وأصروا على شركهم، فلا يحزنك ذلك، فلهم عذابهم، ولهم كفرهم، وهم لم يضروا أحداً إلا أنفسهم، وليس عليك الهداية وإنما عليك البلاغ.
وَمَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ [لقمان:23]، أي: من كفر بعد البلاغ والتبليغ وبعد إسماعه كتاب الله وما أرسلت به فلا تحزن عليه، ولا تكرب من أجله، ولا تحمل نفسك ما لم تؤمر به مما لا طاقة لها به.
إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا [لقمان:23]، أي: إلينا مرجع هؤلاء ومآبهم، فهم سيحيون بعد الموت، ويبعثون إلى الله، ويعرضون عليه، فيجازي المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته، وسيعلمون عند ذاك ما قدمت أيديهم، وما أسوأ فعالهم، فلكل نفس عملها وما سعت إليه، فسيعلمون عند ذلك من المحق من المبطل، وماذا كنت تأمرهم به، وهل كنت تدعوهم إلى صلاحهم وإلى جنتهم وإلى رحمة الله بهم أم إلى غير ذلك.
قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ [لقمان:23]، الله جل جلاله العليم بما تخفي الصدور، وهو عليم بالضمائر، وبما لم ينطق به لسان، وبما ينوي به إنسان، فالله يعلم المعلن ويعلم السر وأخفى من السر، فالسر هو ما أسررت به لواحد، والأخفى من ذلك ما لم تنطق به وأضمرته فالله يعلم ما أسررت به لواحد أو أكثر أو أعلنت به بين الملأ، أو كتمته في نفسك فلم يسمع به أحد.
وهذا إنذار من الله وتهديد ووعيد للذين كفروا، وأن مآلهم إلى الله، ورجوعهم إلى الله، فسيعلمون أن أعمالهم قد سجلت عليهم، فمن أوتي كتابه بيمينه فقد اهتدى، ومن أوتي كتابه بيساره فقد ضل، وكان قد أبى الهداية وهو لا يزال حياً في دار الدنيا، والله عالم بأسرارهم، وعالم بضمائرهم، وعالم بما تخفي الصدور وبذوات الصدور.
قال تعالى: نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان:24].
وهذا التمتع القليل هو هذه الحياة الفانية، ومهما عاش فهي متعة قليلة، ولو عاش عمر نوح، فأين نوح وأين عمره؟ وأين الألف سنة والنيف التي عاشها، فقد مضى بعدها الآلاف والآلاف من القرون، وقد انتهى وكأنه لم يكن، وقد سبق أن قلنا: إنه عندما جاءه ملك الموت وسأله: كيف ترى حياتك هذه الطويلة؟ قال: كرجل له دار لها بابان، دخل عندما عاش من باب، ثم خرج عند الموت من الباب الآخر، وليس أكثر من ذلك.
فمتعة الحياة التي يعيشها الإنسان قليلة مهما عاش منعماً، ومهما عاش في عز وسلطان وصحة وخدم وحشم وجاه ومال، فإن بعد ذلك الموت والقبر، فمن التراب أتينا وإلى التراب نصير، وهي متعة بين ذلك لا تكاد تذكر.
وقد شبه صلى الله عليه وسلم الدنيا كلها كمسافر آذاه حر الشمس فاستظل تحت ظل شجرة، حتى إذا زالت الشمس أخذ طريقه وذهب في سبيله، هكذا الدنيا كلها.
وهكذا عندما يبعث الكفار الضالون يوم القيامة، ويسألون: كَمْ لَبِثْتُمْ [الكهف:19] فيجيبون: لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ [الكهف:19] فيحسبون الدنيا كلها بما مضى فيها من القرون كيوم أو كبعض يوم.
قوله: ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ [لقمان:24]، يضطرهم أي: يكرههم ويدعوهم بالضرورة إلى العذاب الغليظ، وإلى العذاب المؤلم الذي لا يطاق وإلى العذاب المهين الموجع، وهي جهنم، أعاذنا الله من حرها وعذابها.
قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [لقمان:25].
وهؤلاء على كفرهم آمنوا بالله، ولكنهم أشركوا معه غيره، فلئن سألتهم عن السماوات المرفوعة بغير عمد، وعن هذه الأرض التي أرسيت بالجبال، والتي يعيش عليها من كل دابة: إنساناً وجناً وحيواناً وطيراً، فإن سألتهم من خلق ذلك ليقولن الله: أي: ليقولن مقسمين؛ فاللام لام التوطئة للقسم، ومؤكدين ذلك بالنون المؤكدة، فليقولن: الله هو الذي خلق السماوات والأرض، وخلق ما بين ذلك.
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ [لقمان:25]، أي: الحمد لله على أنه المنفرد بالخلق، الحمد لله على أن الله لم يكن له شريك في الملك، ولا في الخلق ولا في الأمر، فالحمد لله الذي جعل المشركين والأعداء، والذين جحدوا دينهم، وجحدوا وحدانية ربهم، يعترفون أن الله وحده الذي انفرد بخلق السماوات والأرض.
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [لقمان:25]، أكثر الناس -وهم المشركون- لا يعلمون أن الله واحد لا ثاني له، ومع اعتقادهم، ومع اعترفاهم بأن الله الخالق للسماوات والأرض تجدهم يشركون مع الله غيره، ممن لم يخلق أرضاً ولا سماءً، ولم يخلق خلقاً كخلق الله ولا قريباً من خلق الله.
إذاً فلم تعبدون ما لا يخلق وما لا يضر ولا ينفع، ومن ليس بيده حياة ولا موت؟! ليس هذا فعل العقلاء ولا فعل من خلق الله له هذه الدنيا، وسخر له السماوات والأرض، وسخر له الشمس والقمر، فهو مع هذا يسوس كل ما خلق وسخر له، فيأبى إلا الشرك بالله، وعبادة ما لا يضر وما لا ينفع، وهذا فعل من لا عقل له ولا سمع ولا بصر، وهؤلاء كما وصفهم الله: أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الأعراف:179].
قوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ [لقمان:25] فأكثر الناس كافر مشرك، والمؤمنون ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، وقد قال الله لنبيه عليه الصلاة والسلام: وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ [يوسف:103]، وقال: وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ [الأنعام:116]، فأكثر الناس ما بين مشرك وكافر.
ومن هنا نعلم بطلان تلك القاعدة التي يجعلونها في البرلمانات وفي المجالس الدولية، وفي المجالس الحكومية وهي: القول بالأكثرية، فليست الأكثرية مصيبة دائماً، بل الأكثر أن الأكثرية ضالة ومبطلة، وأن الحق ليس بقلة ولا بكثرة، إنما الحق بالدليل والبرهان، وقد ظهر نبينا عليه الصلاة والسلام في هذه البقاع المقدسة وهو يدعو الخلق إلى عبادة الله الواحد ويقول بما أمره الله به: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا [الأعراف:158].
قام وهو وحده الموحد المؤمن في الأرض وهو الذي جاء بالحق ومعه الحق، وبعد أن جاء بالتوحيد وأنزلت عليه الرسالة، آمنت معه امرأة ورجل وغلام، آمنت خديجة ، وآمن أبو بكر ، وآمن علي رضي الله عنه، فكان هؤلاء وحدهم هم أهل الحق والثواب الأعظم، ومن يجب على الخلق كلهم أن يهتدوا بهديهم، ويؤمنوا إيمانهم، ويسلموا إسلامهم، وينيبوا إلى الله إنابتهم، والإنابة إلى الله الرجوع إليه عبادة وديناً، والرجوع إليه في الأوامر والنواهي، وفي الآداب والرقائق.
فالله جل جلاله عندما يأمرنا بطاعته، وعندما يدلنا على دلائل وحدانيته، ودلائل قدرته إنما يدلنا لخيرنا ولمستقبلنا، ولكي نأتي الله يوم القيامة مؤمنين منقذين من عذابه؛ ولكي لا نصنف مع الكفرة والمشركين.
قال تعالى: لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [لقمان:26].
وهل غير الله في الأرض، فلله ما في السماوات والأرض ملكاً وخلقاً وقدراً، وله ما في السماء وما عليها وما فيها، ولله الأرض وما فيها وما عليها وما في باطنها، وما بين السماوات والأرض، قال تعالى: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا [مريم:93]، فالكل عبد وملك لله فكيف يصبح المملوك شريكاً للمالك؟! تلك خصلة لا يؤمن بها من رزق عقلاً وفهماً، فهؤلاء الذين يجعلون مع الله شركاء إنما يجعلون عباد الله وخلق الله الذين لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً، بل هم عبيد الله وخلقه.
قوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [لقمان:26]، أي: إن الله هو الغني عن عبادة خلقه، وعن أعمالهم، وهو المحمود الذي يحمده الكل بحق، طائعين ومكرهين بما رزقهم وخلقهم، ودبرهم وأعطاهم.
فالله جل جلاله هو المنفرد بالحمد والمنفرد بالخلق، وهو الغني عما سواه، قال تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر:15].
فلا يوجد مخلوق على الأرض إلا وهو فقير لغيره، فالملك -على سبيل المثال- فقير للخباز، وفقير للبناء، وفقير للمرأة لكي تلد له، والفقير محتاج لكل شيء، فلا غني إلا الله، والكل فقير إليه.
خرجنا من أرحام أمهاتنا لا نملك شيئاً فكسانا بعد عري، وأشبعنا بعد جوع، وملكنا بعد عوز، وعلمنا بعد جهل، وأعطانا بعد منع، جل جلاله وعز مقامه، هو الله الغني الحميد.
استمع المزيد من الشيخ محمد المنتصر بالله الكتاني - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
تفسير سورة لقمان [8-11] | 2399 استماع |
تفسير سورة لقمان [12-15] | 1987 استماع |
تفسير سورة لقمان [1-7] | 1855 استماع |
تفسير سورة لقمان [27-31] | 1347 استماع |
تفسير سورة لقمان [32-34] | 1268 استماع |