تفسير سورة لقمان [12-15]


الحلقة مفرغة

قال الله جل جلاله: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان:12].

لقد نوه الله بذكر لقمان وأشاد باسمه وخلده مع الخالدين وكأنه نبي من الأنبياء، وما هو عند الجماهير إلا ولي من الأولياء وصالح من الصالحين وحكيم من الحكماء.

فـلقمان جعل الله منه مثلاً لمحاسن الأخلاق والحكمة، ولنشرها وإذاعتها بين من يجب عليه أن يتحلى بمكارم الأخلاق التي جاء بها الإسلام، وجاءت بها قبل الإسلام الأديان السابقة، ولكن الإسلام أتمها وأكملها، وقال صاحب الرسالة المحمدية: (إنما بعث لأتمم مكارم الأخلاق).

اختلف العلماء في حقيقة لقمان : من هو؟ وفي أي عصر كان؟ وهل هو نبي أو ولي؟

فجماهير العلماء على أنه صالح من الصالحين، وحكيم من الحكماء.

وهناك رواية عن عكرمة مولى عبد الله بن عباس أنه قال عنه: إنه نبي، والطريق إليه لا تصح، ولو صحت لكان قد انفرد بقول لم يقل به غيره.

ولم يذكر الله عنه نبوة ولا رسالة، وإنما ذكر أنه آتاه الحكمة.

وقيل: إن لقمان حفيد ابن عم إبراهيم خليل الرحمن وأبي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.

وقيل: هو ابن أخت أيوب نبي الله، وقيل: هو ابن خالته.

وعلى هذا فهو حر من الأحرار ذو نسب معلوم، إما من عشيرة إبراهيم، أو هو من حكماء بني إسرائيل، وكل هذا قد نقل عن بني إسرائيل ولا يعتمد، ولم يأت فيه شيء صحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما الذي صح هو ما في الآية الكريمة، وأنه حكيم من الحكماء أنطقه الله بالحكمة فتفجر بها لسانه، وأصبح ينطق بها بما لو جمع لملأ مجلدات ضخمة منذ العصور الساحقة إلى يوم الناس هذا.

وقال قوم: هو حبشي، وقيل: نوبي.

وقيل: هو عبد كان لبني حسحاس يرعى إبلهم ويخدمهم خدمة الموالي لساداتهم، ووصفوه بالسواد وبالمشافر وبالشعر المفلفل وبشق القدمين وبالفطس.

ولو كان كذلك لم ينقصه ذلك شيئاً في مقامه وفي حكمته، فالإسلام لم يفرق بين الألوان والأجناس: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وإنما ينظر إلى قلوبكم)، وقال تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، وقد كان المولى من سادات الصحابة كـبلال مؤذن رسول الله عليه الصلاة والسلام، وكذلك جهجاه أجير عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان هكذا الكثير من السلف، وما زادهم ذلك إلا ذكراً وصلاحاً واتباعاً وقدوة بين المؤمنين.

قال تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ [لقمان:12] يقول ربنا جل جلاله بأنه آتى لقمان ومنحه وأكرمه بالحكمة.

والحكمة هي: الفقه والفهم والعلم، وإصابة المحز في القول والفعل، ولقد كان لقمان حكيم اللسان والقلب، حكيم النصائح والمواعظ، والله جل جلاله سيقص علينا في هذه السورة التي سميت به نصائح منه ومواعظ لولده.

فقوله: وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ [لقمان:12] أي: آتيناه العلم والفهم والإصابة فيما يقوله ويفعله ويدعو له، قالوا: رآه مرة عبد زنجي فقال له: ألست كنت معي راعياً لأغنام بني فلان، قال: بلى، قال: بم نلت ما نلت؟ قال: لأني لم أشتغل إلا بما يعنيني، ولم أر يوماً فيما يعتبر لهواً وباطلاً، وأقول القول إذا علمته، وأسكت عما لا أعلم، وأحترم من سبقني بالعلم والسن والفضل، ومع ذلك أعترف لله بالفضل وبالإكرام، فهذا الذي أنزلني ما تراه! وهكذا:

العلم يرفع بيتاً لا عماد له والجهل يخفض بيت العز والنسب

وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ [لقمان:12] أي: أن تشكر لله على ما أعطاك يا لقمان ، والشكر يكون باللسان وبالجنان وبالأركان، فالشكر على المال الإعطاء منه نفقات وصدقات وزكوات واجبات ونوافل، والشكر على الحكمة أن تؤديها كما ملكتها لمن لا يعلمها، فتعلم الناس الحكمة وتوجههم إلى الخير، تلك زكاتها وذلك شكرها، مع القول باللسان: أشكر الله على ما تفضل به.

وقوله: وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ [لقمان:12] أي: من شكر ربه وحمده على ما أعطاه فهو في الحقيقة يشكر نفسه، ولها قدم، ومن أجلها عمل، فثمرة الشكر أن يكون صاحبه من أهل الخير ومن أهل الجنة، ممن رحمهم ربهم ورضي عنهم، ورفعهم إلى درجات الصالحين والصديقين والحكماء.

إذاً: الشكر على الحكمة والشكر على المحاسن والمزايا والمكارم هو شكر الإنسان لنفسه، وأجره وثوابه له، والعاقبة للمتقين.

وقوله: وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ [لقمان:12] أي: ومن جحد النعمة وكفرها ولم يعترف بها ولم يشكر الله عليها فإن الله غني عنه، وهو المحمود في السماوات والأرض، وهو صاحب الحمد المطلق على ما أولى به وأنعم وما خلق ورزق وهدى.

فكفر الكافرين لا ينقص من ملك الله شيئاً، وإيمان المؤمنين لا يزيد في ملك الله شيئاً، وإنما من كفر فنفسه أضر ومن شكر فنفسه نفع.

قال الله تعالى: وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

أي: اذكر يا محمد وتذكر لقمان عندما أخذ يعظ ولده بالحكمة ويعلمه إياها، وكان أول ما قال له: يَا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13].

فأول حكمة علمها لولده بألا يجعل مع الله شريكاً ولا نداً، وإنما يعبد الله الواحد الذي لا ثاني له في ذات أو صفات أو فعال، وبأن يمحص الله الوحدانية وأنه الرب والإله الواحد الخالق الرازق، لا ثاني معه ولا مؤازر ولا شريك، تعالى الله عن كل ذلك علواً كبيراً.

قال وهو يعظ ويعلم ويرشد ولده: لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13]، أي: الشرك أعظم أنواع الظلم، ولا ظلم أكبر ولا أعظم منه؛ لأنك ظلمت الحق فأزلته عن مكانه وأعطيته باطلاً لما ليس له ولا يستحقه، ونزعت الألوهية برأيك الضال وأعطيتها مخلوقاً مرزوقاً، وأعطيتها من لا يضر نفسه ولا ينفعها، وأعطيتها لمن خلقه الله، ثم أنت ظلمت نفسك بابتعادك عن الحقائق، بأن جعلتها وصنفتها مع المشركين الكافرين، ومن صنع ذلك بنفسه فقد أهلكها وأوردها المهالك، وقد أخلدها مع المشركين والكافرين وابتعد عن عباد الله الصالحين.

ومن أجل ذلك كان الشرك ظلماً، بل كان أشد أنواع الظلم، والله تعالى عندما يقص علينا قصة لقمان الحكيم بمواعظه وحكمه لولده إنما يرشدنا لأن نتخذ من تلك المواعظ حكمة وعلماً وفهماً، وأن لقمان قد وصفه الله بالحكمة وآتاه الحكمة، وأن ما علمه ولده يجب أن يتعلمه كل الناس كباراً وصغاراً رجالاً ونساء، فحكمته هذه التي قصها الله علينا في كتابه ينبغي أن نتخذها حكمة لنا، ونتخذ لقمان في ذلك أستاذاً ومرجعاً في مثل هذه المحاسن من الأخلاق والإيمان بالله، والكفر بالمشركين ممن لا وجود لهم ولا حقيقة لهم ولا ثبات.

وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ [لقمان:13] (يا بني) قرئت: (يا بنيي) وقرئت مسكنة (يا بنيْ) وكلها في القراءات السبع المتواترة، وكلها بمعنى واحد.

فهو ينادي ولده متحبباً مدللاً له بالتصغير: (يا بني)، وبني تصغير ابن، فقد يكون صغيراً، وهو صغير على أي اعتبار بالنسبة لوالده، وقد يكون شاباً كبيراً ولكنه يصغره تدليلاً له وتحبباً، لينقل عنه الحكمة ويعمل بما جاء فيها، والولد بدوره ينقلها لأولاده عندما يكونون، وهكذا تتسلسل الحكمة في سلالة لقمان ومن يسمعها فيتعظ بها.

وقوله: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ [لقمان:13] من الشرك بالله ما زعم اليهود والنصارى عندما قالت اليهود: عزير ابن الله، وعندما قالت النصارى: الله ثالث ثلاثة، فهؤلاء أشركوا بالله وجعلوه ثلاثة، وأولئك أشركوا بالله وجعلوه اثنين، تعالى الله عن شركهم علواً كبيراً.

معنى قوله تعالى: (ووصينا الإنسان بوالديه)

قال الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14].

قيل: إن هذه الوصية هي من الله تعالى ذكرها بين وصايا لقمان لابنه وموعظته له، وقيل: هي من مواعظ لقمان ، والسياق يقتضي ذلك وإن لم يكن التعبير مما يؤكده.

قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ [لقمان:14] أي: أي إنسان من سلالة آدم وحواء ابتداء من أولاده لصلبه وأولاد حواء لرحمها.

فالله أوصى وأمر وفرض ووجه وأرشد بقوله: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ [لقمان:14] أي: أوصى الله الإنسان بوالديه حسناً، أمر ببرهما وطاعتهما فيما لم يكن فيه معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وأمر بالإحسان إليهما بالقول وبالعمل، وبخفض الجناح والصوت الهادئ، وبالكلمة اللطيفة، وبالإنصات والامتثال لكل ما أمرا به، حتى لقد قال فقهاؤنا: لو نادى الأب أو الأم الولد وهو في صلاته يجب أن يقطع الصلاة ويجيب الأب المنادي أو الأم المنادية، وقصة جريج العابد الصالح العارف مع أمه معروفه، قد قصها علينا النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه جاءته أمه تناديه وهو يصلي، وكان يقول في نفسه: اللهم أمي وصلاتي، فلم يجبها، فدعت عليه بألا يموت حتى يرى وجوه الفواجر والعواهر.

وإذا بدعوتها قد استجيبت، وإذا بـجريج على صلاحه وعلى اعتزاله الناس للعبادة في برج من الأبراج في مكان منفرد به يتهم بالفاحشة، حيث تأتي امرأة حامل وتقول: زنى بها هذا الصالح.

فيجر الصالح إلى الحاكم مسبوباً ملعوناً مضروباً، وتهدم صومعته، وهم يسألونه: كيف تدعي الصلاح وتزني ببنات الناس، وعندما شددوا عليه قال: اسألوا الطفل الوليد، فقالوا له: أتسخر بنا؟ قال: ائتوا به، وإذا به يقول للطفل: من أبوك؟ فيقول: فلان الراعي.

في هذه القصة كرامة للأم حيث دعته فلم يجبها، وعقوبة له حيث لم يجب أمه التي أوصى الله بها وبالأب، وجعل درجتهما تأتي بعد التوحيد، ولذلك يكثر الله في الكتاب الكريم ذكر التوحيد والدعوة إليه، ويعقب ذلك مباشرة بذكر البر والطاعة والإحسان بالوالدين: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14].

قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ [لقمان:14] ثم أكد على الأم فقال: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ [لقمان:14] أي: حملته ضعفاً على ضعف ومشقة على مشقة، كان الضعف الأول والوهن عندما حملت به في أيام الأشهر الأولى، ثم كلما ازداد وكبر في بطن أمه ازداد وهنها وازدادت مشقتها، حتى ولدته بألم ومشقة وضعف، ثم أرضعته بضعف ووهن إلى أن يتم رضاعه، وتبقى ضعيفة وقتاً بعد وقت وزمناً بعد زمن، حال الحمل وحال الرضاع وحال الحضانة، إلى أن يشب ويقف على رجليه، وحتى بعد أن يشب تشب معه المشقة والتعب وتكبر مع جميع الأولاد، فهم عندما يكبرون لا تنقضي مشاقهم ومتاعبهم، ولكنها تكبر بكبرهم.

معنى قوله تعالى: (حملته أمه وهناً على وهن)

فقوله: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ [لقمان:14] أي: حملته في بطنها وفي رحمها ضعفاً مضاعفاً وزمناً بعد آخر ووقتاً بعد آخر؛ ولذلك جاء عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه سئل: (من أحق الناس بحسن صحبتي؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أمك، قال: ثم من؟ قال: أبوك)، فأوصى بالأم ثلاث مرات وبالأب مرة واحدة، لأنها من جنس ضعيف ومن ضلع أعوج كما يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام، فهي في بنيتها وفي فكرها ضعيفة، وجعل الله الوهن والضعف في الحمل عليها، فهي التي تحمل وهي التي تلد وهي التي ترضع وهي التي تحضن وهي التي تنشئ وتربي، فكان للوالدة على الوالد مزية في هذا؛ لأن الرجل قائم بنفسه، ومهما يكن من الولد فيجب أن يكون باراً بأبيه، ولكن الأب في الغالب هو مستغن عن الأولاد وليس كذلك الأمهات؛ لأنهن يتنقلن من ضعف إلى ضعف إلى ضعف إلى آخر أعمارهن.

فالأم محتاجة إلى بر الأولاد وإلى رعاية الزوج، بل ومحتاجة إلى رعاية الأب إن بقي؛ فأوصى الله تعالى بالوالدين، وجعل الوصاية بهما بعد الدعوة لتوحيده والإيمان به، ومن هنا نعلم أن البر يأتي في الدرجة الثانية بعد التوحيد، والعقوق يأتي في الدرجة الثانية بعد الكفر والشرك بالله، (وسئل النبي عليه الصلاة والسلام: أي العمل أعظم؟ قال: لا إله إلا الله، قيل: ثم أي؟ قال: برك بوالديك).

وظواهر الآي المتكررة بمختلف المعاني في كتاب الله تؤكد ذلك وتحض عليه، قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14] هي متعبة بحمل وكبر بطن ومشقة تتبعها أخرى إلى أن تضعه، وقد تموت قبل أن تضع، وقد تموت عند الولادة.

معنى قوله تعالى: (وفصاله في عامين)

وقوله: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]، أي: فطامه عندما يفصل عن رضاع أمه وثدي أمه يكون تمام ذلك عامين.

وخلال العامين تتعب الأم فهي تأكل لنفسها وتأكل لولدها؛ لكي يكون في ثديها لبن؛ ليتغذى الوليد ويعيش، فهي إنسان مكون من إنسانين، وقد يكون الحمل توأماً، فهي تتكون من ثلاثة، فتراها تأكل لتطعم نفسها ولتطعم وليدها معاً.

وفطامه في عامين كما قال تعالى: وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233]، وفي هذه الفقرة من الآية الكريمة يقول: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]، أي: فطامه، وفي الآية الأخرى يقول: لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ [البقرة:233].

فالرضاع نهايته عامان لمن أراد أن يرضع وليده عامين، وإلا فمن لم يرد لسبب أو بغير سبب أن يكتفي بأكثر من عام أو أقل منه فله ذلك، ولكن رضاع الطفولة يعتبر في هاتين السنتين السنة الأولى والثانية، فبناء على ذلك يقول تعالى في آية ثالثة: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15].

مر علي كرم الله وجهه يوماً على عثمان في مجلس تحاكم فيه امرأة ولدت من ستة أشهر، يقولون: لم تتزوج إلا منذ ستة أشهر فكيف تلد لستة أشهر؟ وكانت تبكي وتصيح وتقول: والله ما كشف علي إلا زوجي وما عرفت الفاحشة في حياتي، وإذا بـعثمان يأمر برجمها.

فقال علي بن أبي طالب لـعثمان : ألا تقرءون القرآن؟ قال: بلى، قال: إن المرأة تحمل لستة أشهر، قال تعالى: وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْرًا [الأحقاف:15]، وقال عن فصاله: وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ [لقمان:14]، فالعامان أربعة وعشرون شهراً فبقي إلى الثلاثين ستة أشهر، فإذا بـعثمان يقول: قضية ولا أبا حسن لها فأصبحت مثلاً.

وعلي رضي الله عنه أوتي العلم، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أنا مدينة العلم وعلي بابها)، وهناك من يحاول أن يطعن في الحديث مع أنه قد ورد عن عشرات من الصحابة.

معنى قوله تعالى: (أن اشكر لي ولوالديك)

وقوله: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14]، لقد قرن الله شكره بشكرهما، وشكر الله توحيده، وشكر الله في الدرجة الأولى النطق بكلمة التوحيد: لا إله إلا الله، وقد شكر الله من وحده، وشكر الله من عبده، وشكر الله يكون باللسان وبالجنان وبالأركان، وكل ذلك شكر لله.

وشكر الوالدين طاعتهما وخفض الجناح لهما وبرهما في كل ما يقر أعينهما، وكذلك فيما يتعلق بسكناهما وبمعيشتهما، وفيما يتعلق بالأدب معهما، ذاك شكرهما الواجب الذي لا يجوز لإنسان ما أن يقصر فيه.

وقوله: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14]، أي: إلي النهاية وإلي ستصيرون وتعودون في الحياة الثانية، وهذا فيه معنى الوعيد ومعنى البشرى، فمن صار إلى الله وبعث وهو موحد لله كافر بالطواغيت بار بوالديه فالله يجازيه بالخير، ومن جاء مشركاً عاقاً لوالديه أو جاء مؤمناً ولكنه عاق لوالديه فسيجزى الجزاء الأوفى يوم القيامة بعذاب السعير وبالآلام، إلا أن يغفر الله له أو يتغمده الله برحمته ويعفو الأب والأم عنه، فذاك موقوف عليهما.

وقيل للنبي عليه الصلاة والسلام: (إن شاباً يحتضر للموت ويريد أن ينطق بالشهادة فيعجز، فسأل: لم؟ فقيل له: كان عاقاً لأمه، وطلب الناس منها أن تسامحه وهو الآن يموت فترفض، فجاء عليه الصلاة والسلام إلى الشاب، وقال لأمه: سامحيه لعل الله ينقذه بك من النار، فقالت: لا أفعل، فكرر ذلك مراراً، فقالت: لا أفعل، فقال: إذاً نحرقه في الدنيا؛ فذاك أهون عليه من حريق النار يوم القيامة، فعندما رأت النار تشتعل وحمل ولدها بما أوهمت بأنه سيلقى في النار منعتهم، وقالت: أغفر له وأسامحه، فانطلق لسانه وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله).

انظروا البر بالوالدين أخرس من أجله اللسان فلم ينطق بالشهادتين والتوحيد!

وقد قال نبينا عليه الصلاة والسلام: (من لم يشكر الناس لم يشكر الله) وأول الناس الواجب شكرهم أبوك الذي كان سبباً في خروجك إلى هذه الدنيا، وأمك التي حملتك في بطنها تسعة أشهر وأرضعتك سنتين، وتحملت الكثير من أجلك، فيجب أن تُشكر الأم ويجب أن يُشكر الوالد، ويأتي شكرهما بعد شكر الله.

قال الله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ [لقمان:14].

قيل: إن هذه الوصية هي من الله تعالى ذكرها بين وصايا لقمان لابنه وموعظته له، وقيل: هي من مواعظ لقمان ، والسياق يقتضي ذلك وإن لم يكن التعبير مما يؤكده.

قوله تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ [لقمان:14] أي: أي إنسان من سلالة آدم وحواء ابتداء من أولاده لصلبه وأولاد حواء لرحمها.

فالله أوصى وأمر وفرض ووجه وأرشد بقوله: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ [لقمان:14] أي: أوصى الله الإنسان بوالديه حسناً، أمر ببرهما وطاعتهما فيما لم يكن فيه معصية، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.

وأمر بالإحسان إليهما بالقول وبالعمل، وبخفض الجناح والصوت الهادئ، وبالكلمة اللطيفة، وبالإنصات والامتثال لكل ما أمرا به، حتى لقد قال فقهاؤنا: لو نادى الأب أو الأم الولد وهو في صلاته يجب أن يقطع الصلاة ويجيب الأب المنادي أو الأم المنادية، وقصة جريج العابد الصالح العارف مع أمه معروفه، قد قصها علينا النبي عليه الصلاة والسلام، وذلك أنه جاءته أمه تناديه وهو يصلي، وكان يقول في نفسه: اللهم أمي وصلاتي، فلم يجبها، فدعت عليه بألا يموت حتى يرى وجوه الفواجر والعواهر.

وإذا بدعوتها قد استجيبت، وإذا بـجريج على صلاحه وعلى اعتزاله الناس للعبادة في برج من الأبراج في مكان منفرد به يتهم بالفاحشة، حيث تأتي امرأة حامل وتقول: زنى بها هذا الصالح.

فيجر الصالح إلى الحاكم مسبوباً ملعوناً مضروباً، وتهدم صومعته، وهم يسألونه: كيف تدعي الصلاح وتزني ببنات الناس، وعندما شددوا عليه قال: اسألوا الطفل الوليد، فقالوا له: أتسخر بنا؟ قال: ائتوا به، وإذا به يقول للطفل: من أبوك؟ فيقول: فلان الراعي.

في هذه القصة كرامة للأم حيث دعته فلم يجبها، وعقوبة له حيث لم يجب أمه التي أوصى الله بها وبالأب، وجعل درجتهما تأتي بعد التوحيد، ولذلك يكثر الله في الكتاب الكريم ذكر التوحيد والدعوة إليه، ويعقب ذلك مباشرة بذكر البر والطاعة والإحسان بالوالدين: أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان:14].

قال تعالى: وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ [لقمان:14] ثم أكد على الأم فقال: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ [لقمان:14] أي: حملته ضعفاً على ضعف ومشقة على مشقة، كان الضعف الأول والوهن عندما حملت به في أيام الأشهر الأولى، ثم كلما ازداد وكبر في بطن أمه ازداد وهنها وازدادت مشقتها، حتى ولدته بألم ومشقة وضعف، ثم أرضعته بضعف ووهن إلى أن يتم رضاعه، وتبقى ضعيفة وقتاً بعد وقت وزمناً بعد زمن، حال الحمل وحال الرضاع وحال الحضانة، إلى أن يشب ويقف على رجليه، وحتى بعد أن يشب تشب معه المشقة والتعب وتكبر مع جميع الأولاد، فهم عندما يكبرون لا تنقضي مشاقهم ومتاعبهم، ولكنها تكبر بكبرهم.