تفسير سورة لقمان [27-31]


الحلقة مفرغة

قال تعالى: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:27].

نبينا عليه الصلاة والسلام هو الذي أوتي جوامع الكلم، وهو أفصح العرب وأبلغهم، وقد حمد الله بمحامد لا يقدر أحد من الخلق أن يحمده مثلها، ومع ذلك اعترف بالعجز والقصور أمام نعم الله، وأمام مقام وآلاء الله فقال: (لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك)، أي: فأنت وحدك القادر على أن تثني على نفسك، أما الخلق فهم عاجزون مقصرون.

ولذلك عدد الله جل جلاله آلاءه، فذكر إجمال نعمه الظاهرة والباطنة، من تسخير السماوات والأرض للإنسان وتسخير الشمس والقمر، ثم بعد ذلك عمم فذكر ما لا يجمعه قلم، ولا يكتبه قرطاس، ولا يحفظه صدر فقال: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لقمان:27].

يقول الله للناس: مهما علمتم عن الله فأنتم به جاهلون، فلو أن شجر الأرض جميعها بريت أقلاماً ثم جعلت البحور التي في الأرض عموماً -ولا مفهوم للعدد هل هي البحور المحيطة أو غيرها- فكل بحار الأرض لو كانت مداداً لهذه الأقلام، وكتبت الأقلام ثناءً على الله وصفاته وجلاله وعزته ومقامه لجفت الأقلام وانتهت الشجر من الأرض ولانتهت البحار مداداً، ولو صب بعضها في بعض سبع مرات، مرة بعد مرة إلى السابعة.

وليس معناه أنه إذا أصبحت أكثر من سبع استطاعت أن تحصي كلمات الله، وعلم وجلال الله، فلا مفهوم للعدد، ولن يتم ذلك ولن يحصيه إلا هو.

وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ [لقمان:27]. أي: يزيده ويمدده من خلفه (سبعة أبحر)، وكما تقول لغة العرب التي بها نزل القرآن: إنه لا مفهوم للعدد، فلو انتهت وجفت وحفيت الأقلام لما نفدت ولا انتهت كلمات الله وعلوم الله وجلال الله جل جلاله وعز مقامه.

وفي قصة موسى والخضر ، أراد الله تعالى تعليم موسى وتأديبه عندما سئل: من أعلم الناس؟ قال: أنا، فقال الله له: الخضر أعلم منك، والخضر ليس نبياً عند الكثيرين، وإنما هو صالح من الصالحين، وولي من العارفين، فعجب موسى ورجا ربه أن يجمعه به ليراه ويتعلم من علمه، فتعب ورحل من المشرق إلى طنجة وهي مجمع البحرين، كما يقول أبو هريرة وغيره من الصحابة ومن التابعين، فلقي عناءً وتعباً أثناء رحلته إليه إلى أن كانت الأمارة فوجد الخضر وتعلم منه، وكان مغزى القصة: التأديب والعلم من الله لموسى عليه السلام.

ومما تعلمه موسى من الخضر أنه ذات مرة وقف طائر صغير على البحر فأخذ بمنقاره قطرة، فقال الخضر : يا موسى! والله ما علمي وعلمك أمام علم الله إلا كهذه القطرة التي أخذها هذا الطائر من البحر.

ولذلك يقول الله عن علم الخق: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ [الروم:7]، فما علم كل الناس من الدنيا إلا ظاهراً منها والقليل القليل، وبواطنها وأسرارها ومعارفها المستتمة التي لا تراها عين، لم يعلم منها شيء.

أما علم الآخرة فعلم منه الرسل، وعلم منه الصحابة، وعلم منه العلماء كل حسب درجته، وكل حسب مقامه، أما كلمات الله فلا تحصى، ولا يحصيها أحد؛ قال تعالى: وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ [يوسف:76]، إلى أن يصل العلم إلى الله جل جلاله المنفرد بالعلم المطلق.

إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [لقمان:27]، العزيز الذي لا يغالب ولا ينازع، له الأمر وهو القاهر فوق عباده، والحكيم في أمره ونهيه، الذي يضع الأمور في مواضعها، وهو الحكيم جل جلاله الحكمة المطلقة، وما الحكمة بالنسبة للناس، إلا صفة مقربة للمعاني.

قال تعالى: مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [لقمان:28]، يخاطب الله الذين جهلوا جلاله ومقامه، ولم يعرفوا قدرة الله ولا برهان الله ولا آيات الله فجعلوا له شركاء وجعلوا له آلهة من دونه، قال تعالى: إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ [النجم:23].

فالخلق كلهم منذ آدم إلى آخر إنسان تقوم عليه الساعة، فخلق الله لهم ثم بعثه لهم مرة ثانية ليس إلا كنفس واحدة، أي: كما يقول للنفس الواحدة: كوني، فتكون.

فيوم القيامة يقول للخلق كلهم: قوموا لله، فيقومون جميعاً، فالحياة الثانية لن تكون كالحياة الأولى فإنه في الحياة الأولى خلقنا أطواراً، وخلقنا مراحل، فقد كنا تراباً، ثم كنا ضلعاً من ضلع آدم والذي خلق الله منه أمنا حواء، ثم كون الخلق بعد ذلك من ماء مهين، ثم من نطفة فعلقة فمضغة فعظام بلا لحم فعظام مكسوة لحماً، فخلق سوي في بطن الأم، ثم بعد ذلك طفل يرضع ثم يحبو ثم يفطم، ثم يصبح غلاماً مميزاً، ثم يافعاً، ثم مراهقاً، ثم شاباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، ثم يموت.

أما يوم القيامة فستطوى هذه المراحل كلها، وإنما يأمر الله إسرافيل الذي نفخ في الصور أول مرة فمات كل من على الأرض، وكل من على السماء، ولم يبق إلا هو وملك الموت، فأمر الله الكل أن يموتوا فماتوا، قال تعالى: كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:26-27]، سيفنى الجن والإنس والملك ولن يبقى إلا الله.

وعندما يأمر الله بالبعث في الحياة الثانية يأمر إسرافيل بالنفخة الثانية وإذا بهم قيام ينتظرون أمر الله، ولا حاجة لما كان في التطور الأول، بل إننا نبعث كما متنا، صغاراً أو كباراً، أصحاء أو مرضى، عراة حفاة حاسري الرءوس غرلاً أي: أن تلك الجلدة التي تزال عند الختان والتطهير تعود وترجع.

سألت عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، عندما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول هذا، قالت: (يا رسول الله! أنكون عراة يرى بعضنا بعضاً؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: الأمر أفظع من ذلك) لن يرى أحد أحداً، لانشغالهم بأهوال يوم القيامة.

وعندما تذهب الأمم كلها مبتدئين بأبيهم آدم أول الأنبياء وأبي البشر قاطبة يقولون له: يا نبي الله يا أبانا! استشفع لنا فيقول: نفسي نفسي، ويقال ذلك لنوح فيقول: نفسي نفسي، ويقال ذلك لإبراهيم فيقول: نفسي نفسي، إلى أن يصل الأمر إلى نبي الله محمد عليه الصلاة والسلام فيقولون: يا رسول الله! اشفع لنا عند ربك. فيقول: أنا لها أنا لها! فيخر ساجداً تحت العرش ويدعو ربه بدعوات يلهمه بها ربه إذ ذاك، أي: أنه لم يكن يعلمها في دار الدنيا، فيدعو الله ما يشاء، ثم يقال له: ارفع رأسك، وسل تعطه، واشفع تشفع، وهو المقام المحمود الذي يحمد به على رءوس الخلائق يوم القيامة، فيشفع حتى في الأمم الماضية لفصل القضاء.

قوله: (إن الله سميع بصير): أي: سميع لأقوالكم سواء كنتم مؤمنين أو كافرين، بصير بأحوالكم سواء كنتم محسنين أو مسيئين، فهو السميع لكل شيء، البصير بكل شيء جل جلاله وعز مقامه.

قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [لقمان:29].

لا يزال الله جل جلاله يلفت أنظار خلقه: ألم تروا إلى قدرة الله المتنوعة العجيبة التي لا يقدر قدرها، ولا يستطيع مثلها إلا هو جل جلاله.

وقوله: (ألم تر) المقصود: رؤية البصيرة ورؤية القلب، فهي رؤية علمية إدراكية.

أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ [لقمان:29] أي: يدخل الليل في النهار، ويدخل النهار في الليل، ويتضح ذلك: أن اليوم والنهار في معتدل الأرض أربع وعشرون ساعة، والشهر تسعة وعشرون أو ثلاثون يوماً، والسنة اثنا عشر شهراً، وهذا في أكثر بقاع الأرض، وليس فيها كلها، ففي جزء منها في الشمال عند الجزء المتجمد تكون السنة ستة أشهر ليلاً وستة أشهر نهاراً، وجاء سكان هذه المناطق حجاجاً -فإن هناك مسلمين- قالوا: كيف نصوم ونصلي؟ فقيل لهم: قدروا الشهر، وقدروا اليوم، وقدروا العام بأقرب الأراضي والأقاليم إليكم، وليس هذا اجتهاداً، ولكنه تنفيذ للنص النبوي، فالنبي عليه الصلاة والسلام عندما قال لنا عن الصيام: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غم عليكم فاقدروا له)، وهناك يغم في السنة كلها على أنها يوم، فيقدر بأقرب الأقاليم وهكذا وأكثر من ذلك.

وأخبر النبي عليه الصلاة والسلام في علامات الساعة الكبرى أنه سيكون عندما ينزل الدجال اليوم كالسنة، واليوم كالشهر، واليوم كالجمعة، واليوم كالومضة من النهار، قيل: يا رسول الله! كيف نصلي عندما يكون اليوم كالسنة وكالشهر؟ قال: اقدروا له، أي: قدروا الصلوات كما تقدر في البلاد الطبيعية بالنسبة للشروق وللغروب، والمعتاد من الأرض أن اليوم -الليل والنهار- أربع وعشرون ساعة، ولكن اليوم في الشتاء يقصر حتى يصبح النهار أقل من سبع عشرة ساعة، بين ثلاث عشرة وأقل، ويصبح اليوم في الصيف سبع عشرة ساعة وقد تزيد، وإن كان اليوم أخذ ينقص قليلاً، فالإيلاج: هو نقصان الليل من أجل النهار، وزيادة الليل لأجل النهار.

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ [لقمان:29]، يطيل الليل ويقصر النهار، ويكون ذلك شتاءً، ويقصر الليل ويكون النهار طويلاً، ويكون ذلك في صدر الصيف، والذي يفعل ذلك هو الله جل جلاله الخالق المدبر، وكل ذلك لأجل الناس ومصالح الناس، ولزراعة وراحة الناس، وكل ذلك قد مضى مفصلاً، ويأتي بمناسباته كذلك.

فهل الذي أولج الليل في النهار وأولج النهار في الليل الشركاء الذين زعموهم من دون الله؟! وهل هم الوثنيون الجدد من عبدة ماركس ولينين وأمثالهم من الشيوعيين والاشتراكيين والماسونيين والوجوديين، وما إلى ذلك من الملل الكافرة، والنحل الباطلة المعبودة من دون الله، والمشركين لها مع الله؟!

فهل هم الذين يولجون الليل في النهار، ويولجون النهار في الليل ويسخرون الشمس والقمر؟!

الجواب: بكل تأكيد إنه الله الذي سخر للناس ما في السماوات وما في الأرض، وما بينهما، فسخرها وذللها للناس، وللعمل بما في منافعها ومزاياها.

قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى [لقمان:29].

فعندما تغيب الشمس تكون قد طلعت في جانب من الأرض، وهي لا تغيب على الأرض كلها، وإنما تغيب في جانب وتظهر في جانب، وتشرق في جانب وتغرب عن جانب، ولذلك يقال عن العالم الإسلامي: لا تغرب عنه الشمس لحظة ولا ثانية، فالعالم الإسلامي يعد ملياراً من الخلق، وإن كان كغثاء السيل لنزع الشجاعة وحب الموت وقذف الوهن في قلوبنا، مما جعل الأعداء يتشجعون على حساب رجولتنا وشجاعتنا، وعلى حساب ديننا.

والشمس والقمر آيات تمور فتختفي تارة وتظهر تارة في رقعة من الأرض، ولم تختف من الأرض كلها، فالقمر باستمرار يوجد في جزء من العالم الإسلامي، وكذلك الشمس، ويجري ذلك لأجل مسمى وهو يوم القيامة إلى أن يفنى الكل، وإلى أن تصبح الجبال كالعهن المنفوش، إلى أن تبدل السماوات والأرض، ويموت كل من فيها، ويبقى الله وحده ذو الجلال والإكرام.

قال تعالى: وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [لقمان:29] أي: ألم تروا أن الله خبير بأعمالكم، فيجازي المحسن يوم القيامة على إحسانه جنة، ويجازي المسيء على إساءته ناراً.

فالله جل جلاله عندما يلفت أنظارنا للبعث إليه، وللحياة بعد الموت، فذلك لنتعظ ونعتبر، ونعلم أننا لم نعش سبهللاً، وأن الحساب والبعث بعد ذلك، وأنه لابد لكل حي أن يعود مرة ثانية.

قال تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [لقمان:30].

أي: أن الله هو الحق وما سواه الباطل، فالله هو الذي جاء بالحق، وأمر به وأنزل كتابه وأرسل رسله بالحق، ودعا الناس للحق، فالمؤمن يعيش بحق، ويموت بحق، ويبعث على حق، ويؤمن بالحق الذي هو الله جل جلاله، فالله هو الحق لا سواه، وكل ما عداه باطل في باطل، كان عدماً ثم أصبح في الوجود ثم سيعود للعدم مرة ثانية، ويبقى الله وحده ذو الجلال والإكرام، ثم سيعود المخلوق ثانية بقدرة الله، لا بوجوده ولا بشركائه، فلا شريك له ولا ثاني معه.

قوله: وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ [لقمان:30].

أي: أن الله هو العلي فلا أعلى منه، وأن الله الكبير فلا أكبر منه، وشعار المؤمن: الله أكبر، يقولها في اليوم عشرات المرات، يقولها في الأذان خمس مرات وفي الإقامة كذلك، وفي ركعات الصلاة يتنقل بالله أكبر، وندخل الصلاة بالله أكبر، فالله أكبر من كل كبير، فهو الكبير الذي لا كبير معه فضلاً على أنه الأكبر، فالأكبر صيغة تفضيل فلا كبير مع الله، هو الكبير المتعال، هو الأكبر الذي لا كبير معه.

قال تعالى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان:31].

أي: ألم تر يا محمد! وكل تابع له بل وكل إنسان، ألم ير بقلبه ويعتبر ويفكر ويعي كيف أن هذه الفلك تجري في البحر، وهذا الاستفهام استفهام تقريري يقرر الله تعالى به أن هذه الأفعال لا يستطيع أحد غيره أن يفعل منها شيئاً.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ [لقمان:31].

أي: هذا البحر المتلاطم الأمواج، وقد كان عمر بن الخطاب يتهيب البحر، وقد فتح الأمصار، وبلغت مملكته إلى الشام وإلى العراق وإلى فارس وإلى مصر وإلى المغرب، وزادت بعد ذلك، فطلب جنده أن يغزوا ما بعد البحار فتوقف عمر وتخوف عليهم من البحر، فكتب يسأل من ركب البحر، وهو عمرو بن العاص فقال: يا أمير المؤمنين ! راكبه مقصود، والخارج منه مولود، والموجود فيه دود على عود، فقال: والله لن يركبوا فيه ما دمت حياً!

فتهيب عمر ولم ينشئ أساطيل بحرية، وكان في انتشاره في البر وفي فتحه ما يكفي ويكفي، لقد فتح كل ما اتصل به، وذهب إلى أعماق أرض الروم وقضى على فارس ألبتة حتى أصبحت كما قال المصطفى عليه الصلاة والسلام: (لا فارس بعد فارس ولا كسرى بعد كسرى) وذهبت أرض مصر، فلم يبق قبط، ولم يبق مقوقس بعد ذلك، وأصبحت جزءاً من أرض الإسلام، وما حدث بعد ذلك كان من خلاف الخلفاء، وإبقائهم الأقليات بغير دليل ولا سلطان من الله.

ثم ذهب إلى أرض البربر إلى المغرب، وكل ذلك يحتاج فيه إلى بحر، فلم يركب بحراً أحمر، ولا بحراً أبيض، ولم يصل إلى المحيط، وإنما كان ذلك بعده في أيام عثمان، ثم بعد ذلك تتابع الفتح واسترسل.

أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَةِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ [لقمان:31].

ألم تر أيها الإنسان هذا الدود الذي يركب العود في أعماق البحار، والأمواج تتلاطم به، وكأنها الجبال، ومع ذلك تمشي هويناً، ومهما قطعت من أشهر، ومن أسابيع، ومن أيام هي واصلة لبر السلامة أي: واصلة لمبتغاها وهدفها، في عالم الأحياء بأمر الله وقدرة الله، وإرادة الله، ذلك من نعم الله على الناس، فكما سخر لهم البر سخر لهم البحر ليريهم من آياته، وليطلعوا على آيات الله وقدرته، وآيات وحدانيته، وآيات جلاله، وآيات انفراده بالألوهية وبالربوبية جل جلاله وعلا مقامه.

إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ [لقمان:31].

إن في كل ما مضى ذكره من تسخير الشمس والقمر، وإيلاج الليل في النهار والنهار في الليل، وخلق الله الخلق كلهم، وأنهم عنده ليسوا إلا كنفس واحدة إذا قال لها: كوني، كانت، فالكل عليه هين، لا يعجزه شيء جل جلاله، وجري السفن والفلك في البحر؛ كل ذلك آيات ودلائل بينات، ومعجزات واضحات لكل صبار شكور.

والصبار هو: المؤمن يصبر على أمر الله في أداء الواجبات والطاعات والعبادات، لا يعجزه عن القيام بالصلاة برد ولا مرض، ولا علة، إن استطاع قائماً فقائم، أو جالساً فجالس، متوضئاً إن وجد الماء أو بالتيمم إذا لم يوجد.

فهو يصبر على أداء الصلوات، وصيام رمضان، وحج بيت الله الحرام، وزكاة أمواله.

ويصبر عن الباطل والشهوات والفحشاء كلها، فلا يقربها على قدر طاقته، وهو يذكر الله باستمرار.

وصبار: صيغة مبالغة، على وزن: فعال أي: كثير الصبر.

وشكور: صيغة مبالغة، أي: كثير الشكر، فهو يشكر الله على كل شيء، حتى على ملح طعامه، حتى على شسع نعله، يشكره صباحاً ومساءً.

ونحن نشكره في كل صلاة من خلال قراءتنا سورة الفاتحة فعندما نقول: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، هو الشكر المنفرد الله به، ونقول عقب الصلوات: الحمد لله الحمد لله، ونقول عند النوم ثلاثاً وثلاثين: الحمد لله، ونحمده آكلين وشاربين، وأصحاء وعلى كل ما أنعم به علينا، فتلك هي صفة المؤمن، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (عجبت لأمر المؤمن، كل أمره له خير، إن أصابه ضر صبر فكان خيراً له، وإن أصابه خير شكر فكان خيراً له) فهو بين صبر وشكر، فكل حياته في خير.