أرشيف المقالات

الصفات المحسودة

مدة قراءة المادة : 8 دقائق .
للأستاذ عبد الرحمن شكري قال شوبنهور: إن حسد المرء للشيء يكون على قدر يأسه من نيل مثله؛ وهذا اليأس سبب أساسي من أسباب الحسد، فقد يحسد صاحب الضياع والعمارات والسيارات، ولكن حاسده قلما يقصده بحسد كحسده لصاحب العقل الرجيح الأصيل الذي يستمد من العبقرية الموروثة صفاتها.
فالأول قد يحسد في فترات غير متصلة، لأن الحاسد يرجو أن ينال الخير على يديه مما لديه، أو يرجو الخير من جاهه ووساطته لدى من تنفع شفاعته عنده.
فالخير يرجى في التحبب إلى الغنى والخضوع له والمهابة عند طلعته؛ وهذه أمور قد تكون ظواهر تستر حسدا، ولكن المرء إذا روض نفسه عليها واعتادها عاد بعضها حقيقة في نفسه يخالطها أو لا يخالطها النفاق.
ومما يعين في تحويلها إلى حقيقة أن المرء مأخوذ بوسائل الحياة، منهوم بها من مال وعقار وجاه، فهو يعدها أسباب الحياة الأولية أكثر مما يعد العبقرية من أسباب الحياة؛ ولا يجل الناس عقلاً بلا مال قدر ما يجلون مالاً بلا عقل.
فالموهوبات المادية لا يحسدها المرء قدر حسد الموهوبات العقلية، لأنه يرجو الخير عند الأولى بالتحبب إلى صاحبها، ولأنه يهابها، والهيبة والإجلال تتغلب على الحسد للمرء المهيب.
أما الثانية فإذا كانت استعداداً موروثاً من صفات العبقرية لا يجلبه التعليم ولا تخلقه التربية، لم يكن للمحروم أمل في نيلها؛ وهذا اليأس منها منشأ الغيظ والمقت والحقد والحسد.
ولعل النفس تزكى نفسها بأن المرء المحسود لم ينل الاستعداد الموروث بجد واجتهاد وعمل فهو لا فضل له فيه، وهذه مغالطة، فان الاجتهاد والجد والعمل صفات منشؤها استعداد موروث آخر. ولا يحسد المرء المال الموروث قدر حسده العقل الموروث، لأن المال الموروث يوجد مثله في السوق، وقد ينال الصعلوك مثله وأكثر منه فيغنى بعد فقر.
فالأمل في كسبه موجود دائماً حتى وإن بعدت وسائل نيله؛ وإذا وجد الأمل لطف من عدواء الحسد.
أما الاستعداد العقلي الموروث فلا يناله أحد بالاجتهاد والعمل كما ينال العلم المكتسب الذي هو شيء آخر، فليس عند المحروم أمل في نيل صفات العبقرية الموروثة مهما كان أمله عظيما في نيل العلم المكتسب، فتراه يحسد على الاستعداد العقلي الموروث أكثر من حسده على الضياع والعقار، وأكثر من حسده على العلم المكتسب؛ وهو لا يحسد على الضياع والعقار والمال إلا إذا يئس من بلوغ الخير عند صاحبها، أو إذا يئس من بلوغ مثلها بالجد والاجتهاد، أو بالنصب والاحتيال؛ وهو لا يحسد على العلم المكتسب إلا إذا حرم صفات الجلد والمثابرة والقدرة التي ينال بها العلم المكتسب.
فاليأس هو أساس الغيظ والحقد والحسد في كل حالة من الحالات الثلاث ومما يحير الألباب أن ترى أنساناً فقيراً لا حول له يحسد على صفات العبقرية التي هي فيه أو التي يحسبها الحاسد من صفاته أكثر من حسد الحاسد للغني صاحب المال والجاه، فيحار الباحث المفكر في تعليل هذا التفاوت في الحسد؛ وكان المعقول في رأيه أن يكون مقدار الحسد على عكس ما يرى لأن الناس تتقاتل على الذهب والفضة، ولكن إذا عرف الباحث ما ذكر من نشأة الحسد وسببه زالت حيرته وزال عجبه. ولعل لهذا الانقلاب في مقادير الحسد الذي يقصد به صاحب المال وصاحب العقل الموروث سبباً آخر، وهو أن وسائل القهر والدفاع والانتقام متوفرة عند صاحب المال وهي أمور يخشاها الحاسد، والخوف منها يلطف من غلواء حسده لصاحب المال والجاه خشية أن يصيبه من قدرة الغنى أو صاحب الجاه ومن انتقامه وبطشه ما يؤذيه فيردعه الجبن عن الحسد.
فترى أن الرهبة من وسائل البطش عند صاحب المال والجاه تعمل أيضاً عمل الرغبة في الاستفادة من التحبب إليه، وكلتاهما تضعف الحسد في نفس الحسود. ومظاهر العقل المكتسب لا ينالها من حسد الحاسد قدر ما ينال مظاهر العقل الموروث، فالعلم الذي ينال بالاجتهاد وهو من مظاهر العقل المكتسب الذي لا يستطيع كل مثابر أن يناله، أما العبقرية في شتى مظاهرها فلا ينالها المحروم بالجد والاجتهاد، ويأسه منها واقع لا محالة؛ وهذا اليأس هو منشأ غيظ المحروم ومنها ومنشأ حسده، ولا يردعه عن كيد الحسد خوف البطش، لأن العبقري قلما تتوافر لديه أسباب البطش توافرها عند صاحب الجاه والمال.
فالجبن الذي يحذر الحاسد من بطش المحسود إذا كان ذا مال وجاه يتطلب في نفس الحسود ما يزكيه وما يداوي ألمه وما يغالط النفس عنه كي لا تعتريها الذلة والاحتقار من أجله بأن يتحول الجبن استطالة وكيداً لصاحب العبقرية الذي فقد وسائل البطش أو لمن خيلت فيه صفات العبقرية. ومن أجل ذلك ترى أن المرء قد يؤلف كتاباً في الجبر أو الحساب أو الهندسة أو غيرها من العلوم فيروج ويقرأ في شتى المدارس وينشر مؤلفه منه طبعة بعد طبعة حتى يثرى بسببه ويقتني العقار والضياع ويحصل من أجله على مال كثير فلا يصيبه من حسد الحساد قدر ما يصيب فقيراً من ذوي الفنون أو الفكر الأصيل إذا لمحت فيه مظاهر العبقرية أو خيلت فيه لأن العبقرية استعداد موروث لا أمل للمحروم في نيله، واليأس منشأ الغيظ والحسد.
أما صاحب العلم المكتسب الذي يؤلف كتاباً يغتني من أجله فقدرته قدرة مكتسبة يستطيع كل إنسان أن ينال مثلها إذا انصرف إلى وسائل نيلها وخصص نفسه لها، فلا يأس يدعو إلى الغيظ والحسد الشديد؛ وإن كان يصيب صاحب العلم المكتسب حسد عليه فحسد الكسول الذي يستطيع بلوغ العلم المكتسب ولا يتخذ العدة لبلوغه، وهذا حسد كسول مثل صاحبه الحسود.
وإذا كان ذا نقص عقلي يمنع من بلوغ العلم المكتسب فالحسد في هذه الحالة على العقل الموروث الذي نقص حظه منه. وعلى هذا القياس ترى في الفنون أستاذ الصنعة الذي حرم العبقرية واكتسب الصنعة بالجد والاجتهاد، لا يحسد قدر ما يحسد الفنان الذي يرى الناس فيه مظاهرة العبقرية؛ فترى الأول ذا جاه وأصدقاء ومال ولا يحسد على كل هذه النعم قدر ما يحسد الثاني.
ومما يزيد الحنق والحقد على ذوي العبقرية في شتى مظاهرها العلمية والفنية أنهم أناس ذوو نظرات جديدة خاصة، والناس من أجل كسلهم الفكري ومن أجل خوفهم من الجديد المجهول غير المألوف يرون صلاح الحياة وضمانها في الاستمساك بالمألوف، حتى ترغمهم العدوى شيئاً فشيئاً على الأخذ بما لم يكن مألوفاً لديهم.
ومما يزيد في خوفهم شطط أهل الشطط؛ وهذه الأسباب إذا عللت جانبا من جوانب الحنق والحقد فأنها لم تعلل كل جانب، ولم تعلل الحسد الذي ينشأ من الرغبة في شيء حال اليأس دونه.
وكثيراً ما يختفي الحسد وراء ستار فيحسب شيئاً آخر غير الحسد. وكثيراً ما يحسب فضيلة من الفضائل لأنه يستتر بستار الفضائل ويتخذها لباساً كي يخفي قبح نفسه، وكي يكون أبلغ في الكيد لأنه يبيح كل ضعة.
والحسد ليس من صفات المحرومين وحدهم، فإن من الموهوبين من هو شديد الحسد.
ومنشأ الحسد في الموهوبين الرغبة في التفرد بكل إجادة.
والعبقري الموهوب قد يحسد إذا يئس من حيازة شيء جليل أصيل وإن كان عنده مثله.
فالرغبة في حيازة كل فضل، واليأس من تحقيق تلك الرغبة، ينشئان الحسد في صدره كما ينشأ في صدر المحروم. وقلما يحسد أشباه العامة ذا العبقرية قدر حسد العلماء أو المتعلمين أو الحفاظ المجتهدين له، فمن أخذ بنصيب من العلم قل أو كثر أحس فقدانه العقل الموروث إذا كان قد حرم صفاته فييأس منها مهما غالط نفسه وادعاها لها.
فالمغالطة والحنق الناشئ من اليأس قد يتفق وجودهما في وقت واحد.
والعامة إذا أبغضوا ذوي العبقرية كان بغضهم بسبب جلب العبقريين لغير المألوف من المعاني في بعض الأحايين وبسبب قلة فهم العامة، وما ينشأ عنها من الغيظ والخوف والمقت، فيستثمر الحسود المتعلم هذه الصفات فيهم كوسائل لإشباع حسده؛ وقد يستثمرها كي يصرف نفوسهم عن أن يحسدوه على جاه أو مال أو كي يزكي نفسه بمعاونتهم فيما يحس من ضعف وجبن نشأ من اليأس والعجز عن الأمر المحسود الذي لا يستطاع نيله لأنه استعداد موروث. عبد الرحمن شكري

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢