أرشيف المقالات

رسالة هامَّة إليك - أبو محمد بن عبد الله

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحابته ومن والاه.
ربِّ اشرح لي صدري واحلل عقدة من لساني يفقهوا قولي..
ربِّ ابعثها من قلبي إلى قلوب الأصفياء...

نكتب من بُنيَّات أفكارنا كلاما كثيرًا، نريد من ورائه بيان حق، أو إزهاق باطل، أو كشف شبهة، أو إيصال فكرة، أو تعبيرًا عن مشاعر..
وفي نفسي معاني عديدة وعميقة أَتحرَّقُ على إيصالها إليكم: تذكيرًا للمؤمنين، وتنبيها للغافلين، وتبكيتًا للمنافقين، نسأل الله-تعالى- ألا يكون من بيننا ولا منا ولا معنا منافق..
ولا أجد لقول كل ذلك خيرًا من أن أنقل هذه الآيات البيِّنات المُبيِّنات..
الفاضحات..
ونسأل الله تعالى أن يرزقنا تَدَبُّرَها وتدبر القرآن، ومواجهة أنفسنا وواقعنا بمعانيه وأحكامه..
حتى نعيش في ظلاله، ونتخلق بأخلاقه، ونعالج بشفائه من كل أمراضنا..
تدبَّرها أخي المؤمن، وتدبَّريها أختي المؤمنة، اقرأها مرة ومرة، لا تقرأها كما من عادتك أن تقرأ القرآن، اقرأها وكُلّك فيها، وكأنك في امتحان مدرسي، يتعلق به مصيرُك الدراسي، أو مستقبلك الاجتماعي، تَصَوَّر فقط أنك في امتحان، وسُئِلتَ فيه أسئلة؛ جوابها في تلك الآيات..
فكيف ترى نفسك تقرأها وكم مرة تعيدها، حتى بعد الجواب، تعود فتقأها حتى لا تكون قد نسيت منها..
إن القرآن جاء لامتحان الدنيا والآخرة..
بل تصوَّر أنكَّ محبوس في سجن وعليك السنون فيه، وأنه قيل لك: إن في الآية أسرارًا عديدة، كلمَّا عثرت على واحدٍ منها خُفِّفت عنك سنة...
أو تَصَوَّر أيَّ شىء آخر؛ يدفعك لقراءة تلك الآيات مرارًا حتى تمتلئ روحك بمعانيها ومراد الله لك منها.
وإنك حقًّا في سجن الدنيا، كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «الدنيا سجن المؤمن، وجنة الكافر»(مسلم؛ صحيح مسلم ، برقم:[ 2956])، وخروجك من هذا السجن سالمًا غانمًا يتوقف على عدد الأسئلة التي أجبت عليها من نصِّ هذا الامتحان في الوحيين الشريفين، وبقدر إصابات في إجاباتك، وبقدر الفوائد التي استقيتها منه، وبقدر تمثُّلك لمبادئه وتخَلُّقِك بأخلاقك..
ثم بقدرك مجاهدتك به نفسك وغيرك: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ}[العنكبوت:69]، {فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا}[الفرقان:52].
لو أن رسالة وصلتك من حبيب كريم، أو من بغيض لئيم، فإنك تقرأها وتعيدها، وتتأمل مرارًا كل كلمة لم تفهمها كما ينبغي..
فإن كانت من عزيزٍ عليك، تقرأها فَرِحًا، مُفتِّشًا ما عساه أن يكون قد أودعها من بشريات، أو مسرَّات، أو تحذيرات لك من مطبَّات خافيات، أو توجيهات نافعات..
تقرأها وتعيدها، وتدور في رأسك مرة فتعود تفتحها وتقرأها..
وإن كانت من شانئ فإنك تقرأها مُفتِّشًا فيها وما حوته من مكائد ومصائد..
تقرأ السطور وما بين السطور، بل ما بين الحروف!
فها أنت تقرأ، لا في كل سورة، بل في كل آية رسالة؛ من حبيبك الرحمن سبحانه وتعالى، رسالة ما سمع الكون بمثلها، أمرَك فيها حبيبُك بكل معروف، ونهاك فيها عن كل منكر، ودعاك فيها إلى كل خير..
وأشار لك فيها إلى كل صديق، وكشف لك فيها عن صفات وخبايا كل عدو، أبان لك فيها الطريق السوي المستقيم والآمن الموصل..
عرَّفك فيها بنفسك ما لم تكن تعرف..
أعطاك فيها دواء كل داء..
ثم عدِّد ما تشاء ولن تحصي..
رسالة من حبيبك، إليك، إليك أنت أيها الذي يقرأ كلماتي، والتي تقرئين كلماتي..
رسالة لو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوك بمثلها ما استطاعوا: {قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا، وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا}[الإسراء: 88-89]..
الإسلام كلها رسالة، يختار الله سبحانه من عباده من ينزلها عليهم..
لكن ينزلها إلى كل الناس، وأنت واحدٌ من الناس، أنت معني بكل آية من هذا القرآن؛ فهي رسالة إليك..
ولكني اخترتُ لي ولك تدبُّرَ هذه الآيات؛ لشديد الحاجة إليها في هذه الأيام، وفي ظل إعلان الحرب العالمية؛ الغربية والعربية، على الإسلام والمسلمين، وفي ظل مفاجآت تخرج من تحت أجنحتنا ومن بين ضلوعنا، ومن ذات جنب تخرج جوانبنا، لا دواء لها إلا في القرآن، وعند من أنزل هذا القرآن، ليكون للعالمين نذيرًا وليكون شفاء لما في الصدور...
أرجوك أن تقرأها على النحو الذي ذكرته لك آنفًا، مستشعرًا في نفسك أنها لك خاصة، بكل ما فيها من أمر ونهي وتحذير وتنبيه ووصف وبيان..
بل إن كنت تعتبر نفسك مؤمنًا، فقد صدَّرها الله بخطابك مع المؤمنين، فقد قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا، إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا، هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا، وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا، وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا، وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا، وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا، قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا، قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا، قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا، أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا، يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا، لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا، وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا}[الأحزاب: 9- 22].
أولا حاول أن تجد نفسك من المؤمنين، فهي كما ترى للمؤمنين.
قرأها وابحث عن نفسك فيها، فأنت ممن؟
أأنت من الجنود؟
أأنت من ممن زاغت أبصارهم وبلغت قلوبُهم حناجرَهم؟
أصابك الزلزال الشديد؟ أم لم يصبك منه شيئًا؟ وإن كنت في الأقطار النائية والديار البادية..
فما زلزل إخوانَك في الميدان لا بد أن تشعر به، وتفزع له من فراشك..
لأن المؤنين يتداعون لحمى بعضهم البعض كما يتدعى الجسد للعضو منه...
وإلا فأنت ممن؟!
أسأل الله تعالى ألا تكون ممن قال عن عصابة الحق: ما يوعدون أو يعدون إلا غرورًا، كما جاء في الآية!
وأسأل الله تعالى ألا تكون ممن قالوا: يا أهل غزة لا مقام لكم فاهجروا! وقد قالها قوم، وبئس ما قالوا!
ثم أكمل تساؤلاتك مع نفسك عن كل آية أو كلمة في الآية..
ابحث فيمن حولك، ومررهم على كير الآية..
لتعرف صديقك صديق الحق من عدوك عدو الحق..
فإنه إن فاتك وهج الكير فات تمييز القوم، لأن القرآن نزل على أحداث تحرك النفوس وتهيئها لاستقبال رسائلها والتفاعل معها، ولا بد لنا من استغلال الأحداث المشابهة لنستفيد منها أكثر ما يكون.
ابحث عن الأفراد والأحزاب..
تزود بروح الآية ومعناها..
ثم انظر في عيونهم؛ وسوف تجد نفسك تردد:
عينـــاك قـد دلتا عَينيّ منك على * * * أشياءَ لـــــولاهما ماكنتُ أدريها
والعينُ تعرفُ مِن عينيْ محدّثها* * * إن كان مِن حزبها أو مِن أعاديها

ابحث عنهم ولتعرفنهم في لحن القول: فمنهم من يردد قول هؤلاء ومنهم من يردد قول هؤلاء...
وكل إناء بما فيه ينضح..
إذا وصلت إلى آخرها، فجزاك الله خيرًا أنك قرأتها مرة..
أدعوك لتعيدها بتدبر أكثر..
ثم تعيدها، وإن ارتقيت أكثر، فضع ورقة واحمل قلمًا، وسَطِّر ما استفدتَهُ من كل آية، بل من كل كلمة..
ثم أخبرني..
وإن فعلتَ ما قلتُ لك، ثم أجريتَه مع غير هذا من مقاطع القرآن، لوجدت نفسَك غير ما تجدها الآن..
ثم أخبرني أيضًا.
أخي المسلم..
اختى المسلمة..
هيَّا بنا نغيِّر طريقتنا لقراءة القرآن، لأنه نزل في أجواء ليست متوفرة لنا دائمًا، ولا أن قلوبنا تتهيأ لها دائمًا، إلا تحت مطراق الشدائد، فلنستغلها قبل أن تخمد جذوتها، ولنجعل منها مُفسِّرًا لها يخاطب العقل والوجدان، ويُغِّر السلوك، ولنجعل محنها مِنحًا.
اللهم انفعنا بالقرآن وارفعنا به، وانصرنا به، واهدنا ونوِّر صدورنا به، اللهم افتح بيننا وبينك كتابك الكريم..

شارك الخبر

مشكاة أسفل ٢