كل معروف صدقة
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
كل معروف صدقةربما يظن البعض أن الرحمة تقتصر على مظاهر العطف على الفئات الضعيفة في المجتمع، ولكن المفهوم الإسلامي يوسّع مداها، لتشمل كل عمل خيّر طيب، والمعروف نقيضه المنكر، فالمعروف في جوهره أداء البر للناس، والشخص البار: عابد لله، مخلص في عمله، ساع للخير في كل وقت، فلا ترتبط الرحمة لديه بتبرع مالي أو عطف وقتي، بل تلازمه في سائر شؤونه، في صحوه ونومه، وقد رأينا في شعوب أخرى كيف أن تجار المخدرات المتاجرون بدماء الناس يتصدقون للمؤسسات الخيرية، أو تجار السلاح المتعيشين على إزهاق الأرواح، وزيادة الجرحى والمشردين والمعدمين يساعدون الضعفاء، إنهم يفعلون ذلك دون وخز من ضمير، يقدمون المساعدة من دماء ضحاياهم، ليتهم يمتنعون عن شرورهم، وستنعم البشرية براحة كبرى، ولكنهم يعيشون في انفصال: تبرعات خير، من أعمال شر.
عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: " كل معروف صدقة " [1]،
الصدقة: ما يبذله المسلم تطوعًا لله تعالى نحو العباد والمخلوقات، وهي تتمايز عن الزكاة في أنها تطوع من الفقير أو الغني دون قيد مكاني أو زماني أو مادي؛ أما الزكاة ففرض على الغني فقط الذي امتلك النصاب في المال أو التجارة أو الزرع أو الأنعام...
إلخ.
" فليست الصدقة قاصرة على نوع معين من أعمال البر، بل القاعدة العامة أن كل معروف صدقة "[2].
فمفهوم الصدقة يشتمل ثلاثة أبعاد: بعد ذاتي من المتصدق لأنه يتطوع من ذاته لأداء الصدقة، وبعد في نوعية الصدقة حيث يشمل: المادي، والقولي، والفعلي، وبعد متلقي الصدقة وهو كل من في المجتمع، قريب للمتصدق أو بعيد عنه.
وكل معروف: قولي أو سلوكي أو مادي هو من الصدقة، فقد اتسع معناها ليشمل الناس بأسرهم.
وعن أي موسى الأشعري - رضي الله عنه -، قال: قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: على كل مسلم صدقة.
قالوا: فمن لم يجد؟ قال: فيعمل بيديه، فينفع نفسه ويتصدق.
قالوا: فإن لم يستطع أو لم يفعل؟ قال: فيعين ذا الحاجة الملهوف؟ قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: فيأمر بالخير.
أو قال بالمعروف.
قالوا: فإن لم يفعل؟ قال: فليمسك عن الشر، فإنه له صدقة "[3]
في هذا الحوار المباشر بين الرسول والصحابة، نلاحظ مدى اعتناء الصحابة بذكر كل حالة ضيق يمر بها الفرد في حياته قد تمنعه من التصدق، وحرص الرسول على إفساح المجال لكل فرد مهما ضاق به الحال أن يتصدق.
فمن لا يجد المال ميراثًا وغني، فهو يجب أن يعمل فينفع نفسه ويتصدق حتى لو كان عمله بسيطًا ودخله قليلا؛ ومن كان لا يعمل أو تعرض لبطالة، فله أن يساعد "الملهوف "، وهو الشخص ذو الاحتياج الطارئ، فمن لم يجد، فله أن يذكّر الناس بالخير، عبادات مفروضة أو مندوبة أو أعمال بر مختلفة، فلو لم يفعل هذا، فمجرد صمته وعدم فعله الشر، هو صدقة له.
صار المسلم وفقًا لهذا الحديث شخصًا إيجابيًا في كل حال، في الغني والفقر، في العمل والبطالة، في القول والصمت، شرط كل هذا أن يمتنع عن المعصية وفعل الشر.
ولو نظرنا للحديث من زاوية أخرى، زاوية الحكم الأدنى، أن يصمت الفرد عن الشر، بمعنى ألا يتكلم به ولا يفعله، فلو فعل الناس ذلك لمحي الشر تمامًا من المجتمع، لأن الشر درجات تبدأ بالقول وتنتهي بالفعل، فلو لم يفعل الناس أي خير، وامتنعوا عن الشر، لعاش المجتمع في سعادة، وخلا من الشقاء والشرور.
ومن ناحية أخرى: فإن خدمة المسلم لمجتمعه وللناس جميعًا، توازي ما يسمى بالعمل التطوعي الآن.
ويطلق الباحثون الاجتماعيون المعاصرون على عمل هذه الشخصيات مصطلح "العمل التطوعي" الذي يُعرّف بأنه:" كل ما يبذله الفرد بهدف تقديم الخدمات الاجتماعية أو الإغاثية أو التربوية، بلا أجر مادي، سواء كان ما يبذله علمًا أو وقتًا أو جهدًا بدنيًا أو رأيًا...
مما يمتلكه الفرد ويحتاجه الآخرون " [4]، وجاء في بيان المؤتمر العالمي للتطوع في العام 2001م أن التطوع هو: " اللبنة الأساسية في بناء المجتمع المدني، فالتطوع يجسد في الحياة أنبل آماني الإنسان في تحقيق السلام والحرية، وإيجاد مختلف الفرص والأمان والعدالة لكل البشر " [5]
إن هذين التعريفين يتناولان العمل الخيري من منظور مدني بحت، فهما يتعاملان من منطلق الرؤية الغربية التي تعزز الخدمة المجتمعية المدنية، من منطلق علماني، أما في الإسلام، فإن العمل التطوعي من صميم الدين، فهو: كل معروف، يؤديه الفقير أو الغني، الصغير أو الكبير، لا يحتاج إلى تفرغ، فكل لحظة أو موقف من الممكن أن يتطوع المسلم لفعل الخير وخدمة الآخرين، المسلم إيجابي في كل لحظة، أما في الرؤية الغربية للتطوع، فإن المتطوع شخص يحتاج إلى تفرغ للقيام بالعمل الخيري، وهذا لا يمنع من تفرغ فئة من المسلمين للقيام بأعمال البر تنظيمًا ومتابعة، بل المقصد أن يتحول المجتمع كله إلى مجتمع خيّر متراحم، لا يكتفون بما تؤديه الجمعيات الخيرية.
وعن عدي بن حاتم، قال: ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - النار فتعوّذ منها وأشاح بوجهه، ثم ذكر النار، فتعوّذ منها، وأشاح بوجهه.
ثم قال: اتقوا النار ولو بشق تمرة، فإن لم يكن فبكلمة طيبة " [6].
شأن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - في كل موقف التذكير بالآخرة، فيجعل أعيننا الملهاة بزخرف الدنيا، وقلوبنا المنشغلة بتقلبات الدنيا وصراعاتها وأهوائها، تعود إلى الغاية الأساسية في حياتنا، نيل مرضاة الله، ورحماته، والنجاة من نار جهنم.
وعندما تذكر النار يتعوذ الرسول منها، ويشيح بوجهه، وحينما يتكلم يكون الكلام ذا بعد خيري مجتمعي، بالرحمة والصدقة نحو الناس، بأن نتقي نار جهنم، بأهون السبل: بشق تمرة أو بكلمة طيبة.
في كلام الحبيب - صلى الله عليه وسلم - حذف، وتقدير المحذوف: اتقوا النار بالتصدق بشق تمرة، أو بقول كلمة طيبة.
وكلا الفعلين يجلبان الثواب للذات الفاعلة، ويتوجهان نحو الآخرين في ميدان المساعدة العينية أو القولية.
وذات مرة، كان النبي - صلى الله عليه وسلم - جالسًا إذ جاء رجل يسأل أو طالب حاجة، فأقبل الرسول على الجالسين بوجهه ناصحًا إياهم بقوله: اشفعوا فلتؤجروا، وليقضِ على لسان نبيه ما شاء "[7].
ودلالة الحديث: إذا جاء من يطلب حاجة (معونة )، فلنتكلم بالكلام الطيب في حقه، وجاء تعبير " فلتؤجروا " ذو دلالة وإرشاد، فالمقصود منه: أي أعينوا طالب هذه الحاجة بقلوبكم وألسنتكم وإمكانياتكم، فإن جزاء ذلك الأجر عند الله[8].
وقد كان الرسول قدوة في الزهد والعطاء، وقد قال ابن عباس - رضي الله عنهما -: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والتفتَ إلى أُحد فقال: والله ما يسرني أن لآل محمد ذهبًا أنفقه في سبيل الله، أموت يوم أموت وعندي منه دينار، إلا دينارًا أرصده لدَين.
قال: فمات رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وما ترك دينارًا ولا درهمًا ولا عبدًا ولا أمة، ولقد ترك دِرعه التي كان يقاتل فيها رهنًا بثلاثين قفيزًا من شعير.
ثم قال ابن عباس: لقد كان يأتي على آل محمد - صلى الله عليه وسلم - الليالي، ما يجدون فيها عشاء ".
وعن أبي عباس - رضي الله عنهما - قال: خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أصحابه ذات يوم وفي يده قطعة من ذهب، فقال يا عبد الله بن عمرو.
ما كان محمد قائلاً لربه لو مات وهذه عنده؟ ثم قسَمَها قبل أن يقوم.
ثم قال: ما يسرني أن لآل محمد - صلى الله عليه وسلم - مثل هذا الجبل = وأشار إلى الجبل = وأني متُّ وتركت منه دينارين.
قال ابن عباس: فقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم قبض، فلم يدع دينارًا ولا درهمًا ولا عبدًا ولا أمة، وترك درعه مرهونة بثلاثين صاعًا من شعير = كان يأكل منه ويطعم عياله = عند رجل من اليهود"[9]
إن العطاء أحد مكونات الرحمة، فمن مظاهر الرحمة بالفقير أن نساعده للتغلب على فقره، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم - الرحمة المهداة - يتجاوز ذلك، لتكون حياة الزهد هدفًا له، يكرس نفسه للإنفاق في سبيل الله، غير ناظر إلى ما عند أهل بيته، ألديهم عشاء أم لا؟ وبعبارة أخرى: إن الرسول يعيش حياة الفقراء، سعيدًا بهذا الفقر، شاعرًا بآلامهم، وقدوة لكل ذي يسار وغنى.
ونلاحظ تبيين جوانب الفقر- من منظور الراوي كما هو مشاع في هذا الوقت، فقد مات الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم يترك:
• أي مال: دينارًا أو درهمًا.
• العبيد والجواري: وهم يعبرون عن جوانب اليسر المادي في الزمن القديم، فهم يعملون لدى صاحبهم خدمًا، وله أن يبيعهم.
• درعه مرهونة عند يهودي مقابل ثلاثين قفيزًا من الشعير، وكان أكثر خبز الرسول - صلى الله عليه وسلم - الشعير، يأكل منه ويطعم عياله [10].
[1] صحيح البخاري، ج4، ص95.
[2] فقه السنة، ج 1، ص315.
[3] صحيح البخاري، ج4، ص95.
[4] العمل التطوعي، أوراد يحيي، مجلة الهلال الأحمر الكويتي، يونيو 2001، ص10.
[5] نشرته مجلة الهلال الأحمر الكويتي، عدد يونيه 2001، ص8، 9، ضمن تغطيتها لأعمال المؤتمر العالمي للتطوع.
ومفهوم المجتمع المدني حديث مرتبط بالعصر الحديث حيث ازدهرت المدن في أوروبا بوصفها حاضنة للمصانع والمتاجر والمؤسسات...
إلخ، حيث يتكدس السكان بالملايين، وتغيب القيم الإنسانية الطيبة مثل: الرحمة والتكافل ومساعدة المحتاجين في خضم المادة، بعكس القرية حيث قلة عدد السكان، وترابط العائلات، وشيوع التكافل فيما بينها.
انظر تفصيلاً لذلك: المجتمع المدني بين النظرية والتطبيق، د.
الحبيب الجنحاني، دراسة منشورة بمجلة عالم الفكر، الكويت، المجلد 27، مارس 1999م
[6] صحيح البخاري، ج4، ص95.
[7] صحيح البخاري، ج4، ص96.
[8] شرح المحقق في الهامش.
[9] تهذيب الآثار لأبي جعفر الطبري (مسند عبد الله بن عباس رضي الله عنه )، قرأه وخرّج أحاديثه: محمود محمد شاكر، السفر الأول، مطبعة المدني (المؤسسة السعودية بمصر، القاهرة، 1402هـ، 1982م، ص238، 239.
وقد ذكر الشارح تعليقًا على الحديثين: وها خبر عندنا صحيح سنده وإن كان راويه عكرمة عن ابن عباس فيه نظر عند البعض، ص240.
[10] ذكر الشارح حديثًا رواه الترمذي: " كان رسول الله يبيت الليالي المتتابعة طاويًا وأهله لا يجدون عشاءً وكان أكثر خبزهم من الشعير "، وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح، ورواه أحمد مختصرًا عن طريق عكرمة عن ابن عباس.
المرجع السابق، ص239.