توظيف القصة دعويا وتربويا
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
تَوظيفُ القِصَةِ دعويًّا وتَربويًّا قبلَ عِدةِ سنواتٍ وقعَتْ في يدِي قِصةٌ مُؤثرةٌ لأحدِ الغواصِين، وهي قِصةٌ مليئةٌ بالعِظاتِ والعِبرِ، والألطافِ الإلهيةِ، لكنَّها كانت طويلةً جِدًّا، فقمتُ باختصارها دُونَ أن أُخلَّ بشيء من أحداثها، كما أنني تصرَّفتُ قليلًا في بعضِ عباراتها لتُناسِبَ مقامَ الخطبة، فلما أتممتُ إعدادها تبيَّنَ لي أنها لا زالت طويلةً، فوقَعتُ في حَيرةٍ من أمري، هل أخطُبَ بها كما هيَ (لأحافظَ على وِحدتها وتماسُكِها)، أم أقسِمُها بين جُمعتينِ؛ لكيلا أُطِيلَ على المصلِين، وإن كانت بذلك ستفقدُ الكثيرَ من رونقِها وتماسُكِها، فآثرتُ الخيارَ الأولَ، فلمَّا انتهيتُ من الخُطبةِ ونظرتُ إلى الساعةِ، عرفتُ أنها كانت أطولَ خُطبةٍ لي في حَياتي، وداخلَني قلقٌ عسى ألَّا أكونَ قد أطلتُ على المصلينَ وضايقتُهم، فسألتُ فيما بعدُ عددًا منهم، فأجمعوا أنهم لم يشعروا أبدًا بطُولهِا، بل حلفَ أحدُهم قائلًا: واللهِ لو بقِيتَ إلى أذانِ العصرِ لما شعرنا بذلك، لقد كانت قِصةً رائعةً ومُؤثرةً.
ولاحظتُ بعدها أنَّني كُلما أكثرتُ من القصصِ في الخُطبِ، انعكسَ ذلك على قُوَّةِ التفاعُلِ معها، وحُسنِ التأثُرِ بها، وثناءِ المصلينَ الزائدَ عليها.
أيُّها الكِرامُ، الحديثُ عن القِصةِ حديثٌ عن أعظَمِ وسائِلِ الدَّعوةِ والتَّربيةِ، وأقواها تأثيرًا، وأكثرِها جاذِبيةً، وأعمقِها أثرًا، وهي في نفسِ الوقتِ من أسهلِها استخدامًا وأقربها تناولًا..
وحُبُّ القَصصِ والميلُ لها، نزعةٌ فِطريةٌ في النفسِ الإنسانيةِ، وذلك لما فيها من مُتعةٍ كبيرةٍ، وإثارةٍ قويةٍ، وجاذِبيةٍ عاليةٍ..
واللافتُ للانتِباهِ أنَّ العالمَ كُلَّهُ باتَ يعي تمامًا أهميةَ القِصةِ وقوةَ تأثيرها في توجِيهِ الأفرادِ والمجتمعاتِ وتربِيتهم، وفي تغيِيرِ قناعاتهم ومُعتقداتهم، وتشكِيلِ ثوابِتهم ومُسلماتهم، ولذا كَثُرت القَصصُ والروايات، وازدهَر سُوقُها بشكلٍ هائِل، وتنوَّعَ توظِيفُها تنوعًا كبيرًا، فقَصصٌ للأطفالِ، وأخرى للمراهِقينَ، وثالثةٌ للكِبارِ، وهُناك القَصصُ الغرامِيةُ، والقَصصُ العائِليةُ، والقَصصُ البولِيسيةُ، والقَصصُ الأسطُوريةُ، والدِّرامِيةُ، والتعليمِيةُ، والتارِيخيةُ، والخيالِيةُ، والفُكاهِيةُ...
وغيرها من الأنواع.
ولعلَ أكثرَ ما ساهمَ في انتشارِ القَصصِ بشكلٍ واسِعٍ تحويِلُها إلى أفلامٍ ومُسلسلاتٍ مُصورةٍ ورسومِ مُتحركةٍ..
فلا تَسَلْ بعدَ ذلك عن شِدَّةِ الإقبالِ عليها، وقُوةِ المتابَعةِ لها، حتى ولو كانَ فيها ما فيها من الشُّبُهاتِ والشَّهوات، وحتى لو عارضت شيئًا من العقائدِ والأخلاقِ والعاداتِ..
خُصوصًا مع ترابُطِ أطرافِ العالمِ بشبكةٍ واسِعةِ من الاتصالاتِ، وانتشارِ المواقِعِ المتخصِصةِ والقنواتِ، فقد تضاعفَ أثرُ القِصةِ مِئات ومِئات المراتِ، وباتَ الكثيرُ من أبناءِ المسلمينَ يُتابِعونها بشراهةٍ وانبِهارٍ، وبلا مُقاومةٍ ولا اعتراضٍ؛ لأن فيها من جمالِ العَرضِ، وحلاوةِ الطرحِ ما يشِلُّ التَّفكِير، ويسلُبُ الاختِيار...
فاستحوذت بذلك على العقولِ والقلوبِ والأوقاتِ، وتلاعبت بالأفكارِ والمشاعرِ والقناعاتِ، وغيرت الكثيرَ من الثوابتِ والأعرافِ والمسلماتِ، خِدمةً لتوَجُّهاتِ ومبادِئِ واضِعيها، وتحقيقًا لمصَالحهِم التي لا تخفى على مُتأمِّل..
وباتَ المصلِحُونَ والمربُونَ في مَأزقٍ حَقِيقِي، كيفَ يتداركُونَ هذا الوضعَ الحرجَ؟ وكيفَ يُصلِحُونَ هذا الخللَ العمِيق؟
هذا شيءٌ مما فعلتهُ القِصةُ بمجتمَعاتِنا وأجيالنا..
فهل من تعريفٍ للقِصةِ؟ ما هذهِ الوسيلةُ المؤثِرةُ التي بكل أسفٍ أَهمَلَ غالِبيةُ دُعاتِنا ومُربِينا استثمارَها والاستفادةَ منها، على الرغم من قُوةِ أثرِها، وبساطةِ استخدامِها، وسُهولةِ الحصولِ عليها؟
القِصةُ هيَ سردٌ لمجموعةٍ من الوقائعِ والأحداثِ المتَسلسِلةِ، (واقعيةً كانت أو خياليةً)، تقعُ لشخصٍ أو أكثر، تُصاغُ بأسلوبٍ أدبيٍ فنيٍّ محبُوكٍ، وتساقُ غالبًا للعِبرةِ والعِظةِ، ولا تخلو من المتعةِ والإثارةِ..
وتتَكوَّنُ عادةً من العناصِرِ التالية:
الشخصِيات: وهم أبطالُ القِصةِ الذين يصنعُونَ أحداثها ويحركِونَ وقائِعها..
الفِكرةُ: وهي النقطةُ الأساسِيةُ التي تدورُ حولَها أحداثُ القِصةِ..
البِيئةُ: وهي الظُّروفُ المكانِيةُ والزمانِيةُ التي تجري فيها أحداثُ القِصةِ..
الحبكةُ: هي المعالجةُ الفنيةُ لأحداثِ القِصةِ بطريقةٍ مُتصاعِدةٍ وصولًا للعُقدةِ ثمَّ الحل.
العُقدةُ: وهي نُقطةُ الذِّروةِ التي تتأزمُ فيها الأحداثُ وتتشابك..
الحلُّ: وهو النتيجةُ النهائيةُ التي تصلُ إليها أحداثُ القِصةِ..
وقوةُ القِصةِ وجدارتُها إنَّما تكُونُ بقوةِ تشويِقها وإثارتِها، ولا يتحقَّقُ ذلك إلا بوجودِ حَبْكَةٍ فنيةٍ مُتصاعِدة، يُسهِمُ في تكويِنها أحداثٌ قويةٌ مُترابِطةٌ..
والمستقرئُ لكتابِ اللهِ الكريمِ الذي هو منهجُ الحقِّ لإصلاحِ الخَلْقِ، وشريعةُ السماءِ لهدايةِ الأرضِ، ودستورُ الأمَّةِ ونِبراسُها، يتبينُ لهُ حَجمُ الاهتمامِ الكبيرِ بالقِصةِ، ويلحَظُ كثرةَ وتنوعَ استخدامِها، وكيفَ وُظِفت واستُثمِرت بفاعِليةٍ كبيرةٍ، حتى ليكاد القرآنُ العظيمُ كلُّهُ أن يكونَ قَصَصًا، والمتتبعُ لورودِ القِصةِ في القرآنِ الكريمِ يجدُ أنَّ أكثرَ وُرودِها إنما كانَ للعِظةِ والعِبرةِ، وللتَّفكُّرِ والتدبُّرِ، ولتثبِيتِ الإيمانِ وتزكِيةِ الأخلاقِ، تأمَّل قولَ الحقِّ تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111]، وقولهِ تعالى: ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 176]، وقولهِ تعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [هود: 120]، وعلى هذا فالدَّاعِيةُ في ميدانِه، والخطِيبُ مِنْ على مِنبرهِ، والمربي في مَحضنهِ، والمعلِمُ في قاعتهِ، كُلُّهم بأمَسِّ الحاجةِ إلى توظِيفِ القِصةِ واستثمارِ مزاياها الفرِيدةِ؛ ليتمكنوا من القيامِ بأدوارهِم التربويةِ والتعلِيميةِ على الوجهِ اللائقِ.
والمتأمِّلُ في عالم القِصةِ يحارُ في تحديدِ مصدرِ قُوتها، وسِرِّ جاذِبِيتِها، ومكمَنِ سِحرِها، أهو بسببِ روعةِ الخيالِ المنبعثِ أثناءَ مُتابعةِ أحداثها، أم هو بسببِ ما يقومُ به المتابِعُ لها من تعاطُفٍ ومشاركةٍ وجدانيةٍ لشخصِياتها، أم هوَ بسببِ قُوةِ تفاعُلِ المتابعِ مع مواقِفِ القِصةِ وأحداثِها، وكأنهُ واحدٌ من أبطالها، أم هوَ بسببِ ما تُثِيرهُ القِصةُ من فُضولِ المتابعِ وجَذبِ انتِباهِهِ حتى آخرِ مرحَلةٍ من مراحِلها، أم هوَ بسبِ تكامُلِ مشهدِ الأحداثِ في حِس المتابعِ دَفعةً واحدةً، وبأدقِ التفاصِيل، أم هوَ بسببِ ذلك كُلِّهِ، أيًَّا ما كانَ الأمرُ فلا شكَّ أنَّ مُتابِعَ القِصةِ لا يملِكُ نفسهُ أمامَ روعةِ تَسلسُلِها، وقوةِ أحداثِها، وجمالِ حبكتِها، فيظل مشدُودًا معها وإلى آخرِ فصلٍ من فُصولها.
وعلى كثرةِ وتنوُّعِ أساليبِ الدعوةِ والتربية، فإن القِصةَ تنفرِدُ بمجموعةٍ رائعةٍ من الخصائِصِ والمزايا لا تكادُ تُوجدُ مِيزةٌ منها في غيرها من الأساليبِ الأُخرى، فضلًا عن أن توجدَ كُلُّها مجتمِعِةً، ومن هذه المزايا الفريدة:
1- أنَّ للقصةِ قُدرةً كبيرةً على تبسِيطِ الأفكارِ المعقدةِ، وتحويلِ المعاني والأفكارِ المجردةِ إلى واقعٍ حي يسهُلُ فهمهُ واستيعابهُ.
2- أنَّ توجِيهاتِ القِصةِ إيحائيةٌ غيرُ مُباشرةٍ، (إياكَ أعني واسمعِي يا جارة)، ولذا تحظى توجِيهاتُها بقبولٍ أكبر وتأثيرٍ أعمق.
3- أنَّ للقِصةِ قُدرةً كبيرةً على إثارةِ فُضولِ المتابعِ وشدِّ انتباهِهِ وزيادة تركِيزهِ، وجعلهِ يستمتعُ بمتابعتِها، ويتفاعلُ مع كلِّ حدثٍ من أحداثها.
4- أنَّ القِصةَ غالبًا ما ترتبِطُ بواقعِ الناسِ وحياتِهم؛ مَمَّا يجعلُ لها مِصداقِيةً أعلى، وأهميةً أكبر، وقابليةً أشدُّ.
5- أنَّ من السهولَةِ تذكُّرَ أحداثِها، وبقاءها في الذاكرةِ فترةً طويلةً، وذلك لترابطِ الأحداثِ وتسلسُلِها، ولتكامُلِ المشهدِ (بكلِّ تفاصِيلهِ) في حِسِ المتابعِ دَفعةً واحدةً.
6- أنَّ للقصةِ قُدرةً كبيرةً على تحريكِ المشاعِرِ والعواطِفِ، وإثارةِ الخيالِ، وجعلِ المتابعِ يتكهنُ بما سيأتي من الأحداثِ قبلَ سماعِها.
7- سهولةُ تفاعُلِ المتلقي مع أحداثِ القِصةِ عندَ سردِها، وتلوينهِ لصوتهِ حسَبَ مُجرياتِها، ومُحاكاةً لشخصِياتِها؛ مما يزيدُ في جاذِبيتِها وقوةِ التأثُرِ بها، وغيرها من الخصائصِ والمزايا.
فهل جربتَ يومًا أن تُوظِّفَ هذه المزايا الفريدةِ في بناءِ جُسورِ التواصُلِ بينك وبين أبنائك، وتقترِبَ منهم أكثر؛ لتستخرِجَ ما خفِي عليك من أُمورِهم، وما غابَ عنك من أحوالِهم، ولتكتشِفَ جَوانِبَ التميُّزِ والإبدَاعِ فيهِم، فتُنميها وتُطوِّرها، وتتلمَّسَ جوانِبَ الضَّعفِ والخلَلِ، فتقوِّمَها وتقوِّيها.
وهل جرَّبتَ أن توظِّفَ مزايا القِصةِ في تعلِيمِ طُلابِك ورفعِ دافِعيتِهم وتفاعُلِهم، وتحسِينِ استجابتِهم وتقبُّلِهم، وتزكيةِ أخلاقِهم وسُلوكِياتِهم، وتَسهِيل فهمِهم واستِيعابِهم، وتُوسِيع خيالهم ومَدارِكهِم، وإثراءِ لُغتِهم ومعارِفِهم.
وهل جرَّبتَ أنَّ توظِّفَ مزايا القِصةِ في دعوتِك إلى اللهِ تعالى، وتوثِيقِ الإيمانِ في النُّفوسِ، وتعمِيقِ مبادِئِ الإسلامِ، وتهذِيبِ السُّلوكِ، وترقِيقِ القُلوبِ، والتذكِيرِ بأيامِ اللهِ، وتدبُّرِ أحوالِ الأُممِ السَّالِفَةِ، والتَّعريفِ بسِيرِ الأنبِياءِ وجِهادِهم وصبرِهم: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ﴾ [هود: 120].
وليس سِرًّا أنَّ المكتبةَ الإسلامية فقيرةٌ جدًّا في بابِ القَصصِ المفهرَسةِ موضُوعِيًّا، على الرغم من أن كُتبَ السِّيرةِ والتَّاريخِ حافلةٌ بآلافِ القَصصِ الرائِعةِ، لكنها لا تزالُ مَدفُونةً تحتَ رِمالِ الإهمالِ، ومُتفرقة في بُطونِ الكُتبِ والمجلدات، وتحتَاجُ إلى عملِياتِ بحثٍ وتنقِيبٍ، وفرزٍ وانتِقاءٍ، كما تحتاجُ لبعضِ المعالجاتِ الفنيةِ لترتقي بجمالِيتها وجاذِبيتها، ولتتناسبَ مع لُغةِ العصرِ، دونَ المِساسِ بجوهَرِها، ثمَّ فهرَستِها وتصنِيفِها موضُوعِيًّا؛ ليَسهُلَ على كُلِّ من يحتَاجُها الوصولَ السريعَ إليها،
فلعلَّ أصحابَ الهِممِ والمهتمِينَ من طلبةِ العِلمِ والهيئاتِ العِلميةِ ومراكزِ البحثِ، لعلَّهم ينبرُونَ لذلك، فيُخرِجونَ لنا موسُوعاتٍ قَصصية مُفهرسةً موضُوعِيًّا، تُسهِّلُ على الدُّعاةِ والخطباءِ والمربِينَ الوصولَ إلى القِصةِ المناسبةِ لموضوعهم.
وأخيرًا فأوصي أحبتي من أهلِ الدعوةِ والتربيةِ والتعليمِ أن يهتموا جيدًا بتوظيفِ القِصةِ دعويًّا وتربويًّا وتعليميًّا، وأن يختاروا من القَصصِ ما هو قريبُ الصِّلةِ بموضوعاتهِم، واضِحُ الدِّلالةِ على أهدافهِم، وأن يبتعدوا عن القَصصِ الموغِلةِ في الغرابةِ، البعِيدةِ عن الواقِعيةِ، المثِيرةِ لشكُوكِ السامِعين، وألا تَحمِلهُم قُوةُ القِصةِ أو غرابتُها على إقحامِها كيفما اتَّفق، فيُسيئوا من حيثُ أرادَوا أن يُحسِنَوا.
وفَّق الله الجميع لكُلِّ خير، وأعاننا وإياكم على ما يُحبُّ ويرضى، وهو الهادي إلى سواء السبيل، وآخر دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.