خطب ومحاضرات
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [14]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، واستن بسنته إلى يوم الدين.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
أما بعد:
فقد بدأنا بالأمس الكلام في قول البخاري رحمه الله تعالى: (باب: المساجد التي على طرق المدينة، والمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم)، وذكرنا أن لتلك المساجد مزيتين:
المزية الأولى: أن قبلتها قبلة وحي، والمزية الثانية: البركة الحاصلة بصلاة النبي صلى الله عليه وسلم فيها، وذكرنا أن أشهر المتتبعين لتلك الآثار هو عبد الله بن عمر، وأن ذلك غير مختص به، فقد كان غيره من الصحابة يفعلون، وسيأتينا قريبًا إن شاء الله حديث سلمة بن الأكوع عندما كان يصلي عند الأسطوانة التي عندها المصحف ويتحرى ذلك، وبين أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتحرى الصلاة عندها، وكذلك حديث جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في مسجد بني معاوية بن زيد في مكان منه)، فكان جابر يتحراه، وكذلك حديث جابر: (أنه كان يذهب إلى المسجد الذي فوق سلع يوم الثلاثاء، فيدعو فيه بين الظهر والعصر)، وبين أن هذا الوقت هو الذي استجيب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه.
فقد قال هنا: (والمواضع التي صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم)؛ فهذا من تمام الترجمة فهو يتحدث عن المواضع التي صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو لم تكن مساجد؛ أي: لم تتخذ لذلك، فبعض المواضع التي صلى فيها قد كانت قريبة من مسجد؛ فلم تستعمل للمساجد، أو لم يبن فيها مساجد، وأكثر المواضع التي عرفت بصلاته فيها إمامًا اتخذها الناس مسجدًا من عهد الصحابة، وعرفت وتواترت؛ ولذلك عرفت مساجده التي كان يؤم الناس فيها في المدينة أو أمهم فيها ولو لمرة، فهي معروفة الأمكنة مشهورة، ففي المدينة مساجد صلى فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرارًا، فكانت قبلتها قبلة وحي، وحصلت البركة بصلاته فيها، فغير مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مسجد قباء، فيها أيضًا مسجد الفضيخ، الذي هو قريب من مسجد قباء، وقد أدركناه مسجدًا قديمًا مبنيًا بالحجارة، ولكنه الآن قد هدم وأزيل، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه فترة حصاره لبني قريظة في غزوة بني قريظة كان يصلي هنالك.
وكذلك مسجد آخر بالقرب منه هو قريب من مشربة مارية القبطية أم إبراهيم في العوالي، وكذلك مسجدان في شرق المسجد النبوي، أحدهما: مسجد لبني عبد الأشهل قد أزيل، والآخر مسجد بني معاوية بن زيد وهو قائم إلى الآن، والناس يسمونه مسجد الإجابة، وكذلك مسجد بني سالم الحبلى وهو الذي يسمى بمسجد الجمعة؛ لأنه صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم أول جمعة صلاها في المدينة، فقد نزل بقباء أول قدومه للمدينة يوم الإثنين، فبدأ تأسيس مسجد قباء، وصلى في مسجد قباء الإثنين والثلاثاء والأربعاء والخميس، فلما كان يوم الجمعة بعد أن صلى الفجر ركب ناقته متجهًا إلى مكان مسجده، ولم يكن أحد يقودها، فكان كلما مر بحي أمسكوا بخطامها، وقالوا: (يا رسول الله، انزل فينا؛ فإن فينا المنعة والشوكة، فيقول: دعوها فإنها مأمورة)، حتى حان وقت الجمعة وهو في ديار بني سالم الحبلى، فنزل فصلى الجمعة هنالك، فاشتهر هذا المسجد بـ(مسجد الجمعة)، وحوله مسجد آخر كان يسمى أيضًا (مسجد الجمعة)، والمقصود به المكان الذي كان أسعد بن زرارة ومصعب بن عمير يصليان فيه الجمعة للناس قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم، فأول جمعة جمعت في الإسلام كانت بنقيع الخضمات بحرة بني بياضة، وفي رواية: بهزم النبيت، تحت ظلال النخل، والواقع أنها بين حرة بني بياضة وهزم النبيت، فبنو النبيت هم بنو عمرو بن مالك بن الأوس، ولهم قرًى معروفة حول قباء، وقباء من بلادهم، وبنو بياضة كانوا جيرانهم، وكانت الحرة لبني بياضة كانوا يزرعونها، وسميت حرة بني بياضة، فكانت على طرف هزم النبيت، فهذا المكان فيه نقيع الخضمات، وهو النقيع بالنون، المدينة فيها البقيع والنقيع، فالبقيع: هو بقيع الغرقد، وهو مدفن المدينة الذي حول المسجد، والنقيع: هو نقيع الخضمات، وهو هذا المكان الذي صليت فيها الجمعة أول ما صليت في المدينة.
وكذلك مسجد بني حرام وهو من مساجد بني سلمة، وكان لـعبد الله بن عمرو بن حرام والد جابر بن عبد الله وهو قائم الآن معروف في شعب سلع، ومثل ذلك مسجد بني مبذول بن النجار وهو المعروف الآن بـ(مسجد القبلتين)، وغير ذلك من المساجد صلى فيها النبي صلى الله عليه وسلم، ومنها مسجد يسمى (مسجد الاستراحة) وهو أنه لما رجع من غزوة أحد حان عليه وقت صلاة العصر في الطريق، فصلى في هذا المسجد واستراح فيه، فعرف بمسجد الاستراحة، وقد بني حوله مسجد حول عن مكانه الأول قد أدركناه قائمًا من الحجارة، كان مسجدًا عتيقًا قديمًا من الحجارة، فبني حوله مسجد ثم هدم هو، فبقي مكانه إلى الآن براحًا عن يمين المسجد.
كذلك هذه المساجد التي في الطريق.
فقال: عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (أنه كان يصلي في أماكن من الطريق، ويقول: إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في تلك الأمكنة)، وهذا الحديث فيه الجمع بين (الأماكن) و(الأمكنة)، فـ(الأماكن) جمع كثرة، و(الأمكنة) جمع قلة، وبما أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي في الطريق أيامًا فتتعدد الأماكن؛ لأنه قلما يصلي صلاتين في مكان واحد، يتصور هذا في حق المسافر مثلًا في الصلاتين المجموعتين كالظهرين أو العشاءين، أو صلاة الصبح مع صلاة العشاء، إذا جمعهما في معرس له أو مكان نزل فيه، لكن لا يتصور أن المسافر مثلًا يجمع صلاتين متباعدتين في مكان واحد، والنبي صلى الله عليه وسلم سافر بين مكة والمدينة في عدة أسفار، فمنها غزوات لم يصل إلى مكة فيها، بل سافر في بعض الطريق ورجع كغزوة العشيرة، وقد سار فيها النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذي العشيرة فقط، و(العشيرة) تصغير العشرة، و(العشرة) واحدة النبات المعروف بالعشر، وهي إلى جنوب المدينة، وكذلك غزوة حمراء الأسد، وكانت بعد أحد بيوم واحد، وهي أيضًا على طريق المدينة قريبًا من المدينة، (حمراء الأسد) جبل أحمر قريب من المدينة خلف الميقات، وكذلك غزوة بني المصطلق، فكانت إلى تلك الجهة، وقد نزل النبي صلى الله عليه وسلم فيها بذات الجيش أو بالبيداء، و(البيداء) هي الأرض المستوية التي وراء ذي الحليفة، وذات الجيش جبل وراءها أسود وهو معروف الآن، فهذا المكان هو الذي فقدت فيه عائشة رضي الله عنها عقدها أو عقد أسماء الذي كان عندها، فنزلت في ذلك آية التيمم؛ لأنهم احتبسوا في طلبه، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء، فأنزل الله آية التيمم، فتيمموا، فقال أسيد بن حضير: (ما هي بأول بركاتكم علينا يا آل أبي بكر).
وكذلك في تلك الجهة الغزوات الأول؛ فأول غزوة غزاها النبي صلى الله عليه وسلم غزوة ودان، وتسمى أيضًا غزوة الأبواء، وكانت إلى تلك الجهة فـ(ودَّان) و(الأبواء) قرينان متقاربتان، وهما في شرق بدر، وفي الأبواء قبر آمنة بنت وهب بن عبد مناف بن زهرة وهي أم النبي صلى الله عليه وسلم، وقد استأذن الله في زيارة قبرها، فأذن له، واستأذنه في الدعاء في الاستغفار لها؛ فلم يأذن له، وهذا القبر مسافته من المدينة مائة وأربعون كيلو تقريبًا، وقد زارها النبي صلى الله عليه وسلم.
وكذلك غزوة بدر الكبرى التي كانت إلى عير قريش وفيها يوم الفرقان، كانت إلى بدر، وبدر كان في طريقه إلى مكة، بينها وبين المدينة، وكذلك بدر الصغرى وهي بعد بدر بعام أو بعد أحد بعام؛ فإن أبا سفيان يوم أحد قال لهم: موعدكم بدر العام القابل، فكانت الغزوة إلى بدر في العام القابل، ومثل ذلك غزوة ذات السويق إلى عير لقريش، كانت في سيف البحر، فكل ذلك كان في ذلك الطريق.
ومثل ذلك سيره صلى الله عليه وسلم إلى مكة عام الحديبية، وهو العام السابع من الهجرة، وكانت عمرة الحديبية في ذي القعدة من آخر العام السادس، لكنه حان عليه بداية العام، فكانت غزوة خيبر في أول العام السابع، ثم بعد ذلك كانت عمرة القضاء التي قاضى عليها قريشًا، وكانت في ذي القعدة من العام السابع، ثم كان غزو فتح مكة، وكان في العام الثامن في رمضان، وقبل ذلك غزوة عسفان، وعسفان قريب من مكة بينها وبينها تسعين كيلو فقط، وكانت إلى هذه الجهة أيضًا، وغزو مكة هو الذي سافر فيه النبي صلى الله عليه وسلم لقتال هوازن في غزوة حنين وأوطاس، وهو الذي سافر فيه أيضًا إلى الطائف، فحاصر بني ثقيف شهرًا وخمسة عشر يومًا، ثم تركهم، ومن هذه الغزوة اعتمر من الجعرانة عمرة الجعرانة المشهورة، فهذه تقريبًا هي أسفار النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الطريق إلى جهة الجنوب من المدينة.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يغزو إلى جهة ورى بغيرها، فكثيرًا ما يخرج من المدينة إلى هذه الجهة وهو يقصد جهة أخرى؛ كما في حديث كعب بن مالك في الصحيحين: (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يغزو جهة ورى بغيرها)، ومعنى (التورية): أنه يظهر للناس أنه سيغزو إلى جهة غيرها.
ويحقق ذلك كثيرًا من المصالح الحربية، فمنها:
أولًا: أن أهل الجهة التي يغزوها النبي صلى الله عليه وسلم سيغترون بأنه ذهب إلى سواهم؛ فلا يستعدون للحرب، ومنها: أن الجهة الأخرى التي سمع أهلها أنه غزاهم سيفرون وينهزمون، فتتحقق المصالح، والتورية كلام يفهم منه شيء ولا يدل عليه دلالة صريحة، فلا يكون من باب الكذب، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (في المعاريض مندوحة عن الكذب)، (المعاريض): أن يعرض الإنسان في الكلام بشيء ولا يصرح به، كما قال أبو الطيب المتنبي:
وإذا الفتى طرح الكلام معرضاً في مجلس أخذ الكلام اللذ عنا
أي: الذي عناه الإنسان.
فلذلك جاء جمع الأمكنة في قوله: (أنه كان يصلي في أماكن) فجمع المكان هنا جمع كثرة؛ أي: أماكن متعددة من الطريق، ويقول: (أنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي في تلك الأمكنة) فجاء الجمع هنا جمع قلة، والجمع بين الأمرين أن الواقع أنها أماكن متعددة، ولكن المذكور هنا في هذا الحديث مجموعه تقريبًا تسعة أمكنة في الطريق، والتسعة من باب القلة، لكنها حدها فما كان فوقها، فالعشرة فما فوقها من الكثرة، والتسعة فما دونها من حد القلة.
والحديث يدل على مشروعية الصلاة حيث صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، لفعل ابن عمر، وعدم إنكار أحد من الصحابة عليه، فليس مجرد فعل ابن عمر دليلًا؛ لأن فعل غير المعصوم ليس بحجة إجماعًا، ولكن توافق الصحابة على ذلك، ودلالة النصوص أيضًا على التبرك بالنبي صلى الله عليه وسلم في نصوص أخرى، وإقرار النبي صلى الله عليه وسلم لهم عن التبرك به، كل ذلك دليل على أصل مشروعية الأمر.
قال: وعنه رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر وفي حجته حين حج تحت سمرة في موضع المسجد الذي بذي الحليفة)، بين عن ابن عمر رضي الله عنهما أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل بذي الحليفة، وهو ميقات المدينة، وبينه وبين المدينة سبعة كيلو الآن، وهو بوادي العقيق، ووادي العقيق هو الوادي الغربي للمدينة، والمدينة اشتهر فيها ثلاثة أودية، هي: وادي العقول وهو واديها الشرقي، ووادي العقيق، وهو واديها الغربي، والوادي المعترض في وسطها وهو الذي يسمى (بطحان) فهذه هي أودية المدينة المشهورة، وأكبرها وادي العقيق وهو أفضلها أيضًا؛ لأنه الذي ورد فيه الفضل عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: (أتاني الليلة آت من ربي، فقال: إنك في بطحاء مباركة فصل)، وهذا الحديث أيضًا يدل على مشروعية الصلاة في الأمكنة المباركة، فقال: (إنك في بطحاء مباركة فصل) فالفاء سببية، معناه: فبسبب كونك في بطحاء مباركة صل.
كان ينزل بذي الحليفة حين يعتمر؛ أي: في عمره، وقد اعتمر في ثلاثة أسفار: عمرة الحديبية وهي أولها، ثم عمرة القضاء، ثم عمرة الجعرانة، وكانت في غزو مكة في سفره إلى غزو مكة، (وفي حجته) كذلك وهي حجة الوداع، ولم يحج من المدينة إلا حجة واحدة، (حين حج تحت سمرة)؛ أي: كان ينزل تحت سمرة، فهذه السمرة، وهي شجرة كبيرة من السمر، وهو نوع من أنواع الطلح كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل تحتها للاستظلال بها، (في موضع المسجد الذي بذي الحليفة) هذه السمرة مكانها هو الذي اتخذ مسجدًا بذي الحليفة، و(ذو الحليفة) أرض مستوية، وقد اجتمع فيها المسلمون ليحرموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، فاجتمع فيها خلائق كثيرة لا يمكن أن يحصرها مسجد واحد؛ ولذلك ففي حديث جابر: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما استقلت به ناقته، قال: نظرت بين يديه، فإذا مد البصر، وعن يمينه مثل ذلك، وعن شماله مثل ذلك، ومن خلفه مثل ذلك)، مد البصر من الناس، كلهم جاءوا ليشهدوا حج النبي صلى الله عليه وسلم، وقد أرسل الرسل من رمضان إلى الآفاق: (إني حاج من عامي، فمن استطاع أن يشهد معي فليشهد)، فجاء الناس جميعًا، وقد كانوا قبل ذلك يتحدثون عن حجة الوداع ولا يدرون ما هي، كما في حديث ابن عمر كانوا يسمعون عن شيء اسمه حجة الوداع ولا يعرفون ما هي، حتى أعلن النبي صلى الله عليه وسلم أنه حاج، وودع الناس فيها، وبين لهم مناسكهم، قال: (خذوا عني مناسككم؛ فلعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا).
(في موضع المسجد الذي بذي الحليفة) فـ(ذو الحليفة) فيه مساجد متعددة، ولكن المسجد الذي عند الشجرة هو أفضلها، وهو مكان منزل النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان ينزل فيه، وهنا يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل بمكان في الجيش فسيكون له مصليان: مصلى الفرض، حيث يؤم الناس فيتقدم في المكان الذي يتسع للناس، ومصلى النفل؛ أي: بيته هو الذي يبيت فيه، منزله الذي يبيت فيه يصلي فيه، فلم يترك نافلة الليل قط في سفر، أما نافلة النهار فلم يرو عنه أنه صلى راتبتي الظهر؛ أي: القبلية والبعدية، ولا راتبة العصر في السفر، وروي عنه أنه صلى بمكة الضحى كما في حديث أم هانئ في الصحيح، وسيأتينا: (أنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم ضحى يوم الفتح، فوجدته يغتسل وابنته فاطمة تستره بثوب، فسلمت، فقال: من هذه؟ فقالت: أم هانئ، فقال: مرحبًا بـأم هانئ، فلما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى ثماني ركعات، وكان ذلك في وقت الضحى).
وأهل العلم اختلفوا في صلاة النافلة في السفر، والمقصود بالنافلة هنا صلاة النهار، فقد قال ابن عباس: (لو كنت مسبحًا لأتممت)، فرأى أنه إذا كان الفرض ينقص بسبب السفر فمن باب أولى أن تسقط النافلة بذلك؛ فالرباعية تنقص بركعتين فمن باب أولى تسقط نافلة النهار في السفر، ولم يكن ابن عمر يترك شيئًا من نوافله، ونافلة الليل كان النبي صلى الله عليه وسلم يصليها على راحلته أنى توجهت به، وكان يصليها على حماره متجهًا إلى خيبر، وعلى بعيره قبل نجد، كلها أحاديث صحيحة لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم فيها نافلة الليل.
(وكان إذا رجع من غزو)؛ أي: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع من غزو كان في تلك الطريق، وقد ذكرنا الغزوات التي كانت في تلك الطريق، (أو حج) وذلك حصل مرة واحدة في رجوعه من حجة الوداع، (أو عمرة) وذلك حصل في الحديبية وعمرة القضاء، وأيضًا في عمرة الجعرانة؛ لأنها وإن جمعت بين الغزو والعمرة فكان آخر ذلك العمرة، (هبط من بطن واد)؛ أي: هبط النبي صلى الله عليه وسلم عن الطريق (من بطن واد) والمقصود به: من بطن من بطون وادي العقيق، والحديبية كانت قبلها، وحيل بينه وبين البيت؛ فلم يعتمر، وإنما كتبت عمرة وكتب الأجر لهم، ونحر هديه، وحلق رأسه، وعمرة القضاء هي التي قاضاهم عليها؛ أي: صالحهم عليها من العام القادم، فجاء في ذي القعدة من العام القادم، وتركوا له مكة ثلاثة ليال بأيامهن، فدخلها هو وأصحابه فاعتمروا، وحقق الله لهم ما وعدهم بقوله: لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا[الفتح:27]، وهو فتح خيبر.
وتسمى عمرة الحديبية عمرة؛ لأنه ما خرج للغزو، إنما خرج معتمرًا، وأحرم من ذي الحليفة، وقلد هديه؛ ولذلك فقد تحلل بالحديبية، فنحر هديه، وحلق رأسه، وفعل ذلك أصحابه، وكتبت لهم عمرة.
(هبط من بطن واد)؛ أي: من بطن من بطون وادي العقيق، و(وادي العقيق) وادي طويل جدًا يأتي سيله من جبال الطائف، ويكون فيه أمكنة فيها بطحاء، وتكون فيه أمكنة عميقة وأمكنة غير ذلك؛ فهو متفاوت البطون والشعاب؛ فلذلك قال: من بطن واد، (فإذا ظهر من بطن واد أناخ) إذا ظهر النبي صلى الله عليه وسلم؛ أي: تجاوز قطع أسفل الوادي، وكرر هنا فقال: (من بطن واد)، فلعل ذلك الموضع بخصوصه يسمى بطن واد، فكان يقطع المكان العميق من العقيق، فينزل فيه عن يمين الطريق، فيقطع البطن بطن الوادي العميق، ثم يصعد، فإذا صعد في الجهة الأخرى من الوادي- عليها بطحاء وأرض مستوية- ينزل فيها النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا ظهر- أي: صعد من بطن واد- أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية، أناخ ناقته؛ أي: أبركها في هذا المكان، ومعنى ذلك: النزول، (أناخ بالبطحاء) وهي المكان المنبطح من الأرض؛ أي: المستوي، وهو الذي لا يكون فيه الحجارة، وإنما يكون فيه الرمل أو الحصباء التي على شفير الوادي، هذا مكان هذه البطحاء، هي على شفير الوادي، قال: (على شفير الوادي الشرقية) فـ(الشرقية) نعت للبطحاء، أناخ بالبطحاء الشرقية التي على شفير الوادي، (فعرس) ومعنى التعريس: النزول للراحة في الليل، فالمسافر إذا كان يريد قطع المسافة يستغل بعض الليل- أي: بعض الدلجة- ثم ينزل للراحة، وهذا النزول يسمى تعريسًا، وقد يكون من أول الليل، وقد يكون من آخره، عرس ثم؛ أي: استراح ثم، (حتى يصبح)؛ أي: حتى يطلع الفجر فيصلي الصبح في ذلك المكان، وللنبي صلى الله عليه وسلم في ذلك حكم ومصالح، فمنها ألا يطرق الناس بيوتهم ليلًا، وقد جاء النهي عن الطروق، ومعنى الطروق: أن يأتي الإنسان أهله دون أن يكونوا على علم من قدومه فيفجأهم، وقد نهى عن الطروق ليلًا، (فقال: حتى تغتسل المغيبة وتحد)، فـ(المغيبة)؛ أي: التي كان زوجها غائبًا تتهيأ لقدومه، فإنهم لم يكن لهم أجهزة اتصالات ولا وسائل اتصالات، فإذا جاء الإنسان فجأة ربما وجد في بيته ما يسوءه، ولم يكن أهله على استعداد؛ فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ينهى عن الطروق، وينزل بهذا المكان، وقد كان بعض العرب يتحرج من المبيت قرب أهله ويهجون بذلك، لكن القصد بذلك طلب الضيافة، فكانوا ينزلون عند جيران بيوتهم ليضيفوهم، ثم يأتون بيوتهم في النهار، وكان هذا يهجى به؛ لما فيه من الطمع، ومن ذلك قول الشاعر:
والبائتين قريبا من ديارهم ولو يشاءون آبوا الحي أو طرقوا
(ولو يشاءون آبوا الحي)؛ أي: جاءوه عشية، (أو طرقوا)؛ أي: جاءوه في الليل، و(التأويب) معناه: المجيء في العشية.
فلذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل بهذا المكان، وأيضًا لا ينكر أن في هذا المكان بركة مخصوصة؛ فلذلك نزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم وقصده للنزول أكثر من مرة، وأناخ به، مع أنه ليس على طريقه، بل يعدل إليه فيقطع واديًا دونه حتى يصل إليه، وقد يكون قطع الوادي أيضًا لمصالح، منها: أن الله سبحانه وتعالى قال: وَلا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهمْ[التوبة:121]، فيريد أن يكتب ذلك له وللغازين معه، وأيضًا فإنه يريد النزول بالبطحاء فهي أليق وأسهل للناس في نزولهم، والأماكن الأخرى التي تكسوها الحجارة يصعب النزول فيها، وفيها مشقة على الناس، وبالأخص من ليس له فراش، أنه يشق عليه الاضطجاع على الحجارة، بينما البطحاء تكون جيدة لمن ليس له فراش.
(أناخ بالبطحاء التي على شفير الوادي الشرقية، فعرس ثم)؛ أي: في ذلك المكان، (حتى يصبح) وسيتكرر لفظ (ثم) في هذا الحديث؛ أي: في ذلك المكان، وهي إشارة إلى المكان، وهي بفتح الثاء، (ليس عند المسجد الذي بحجارة)؛ أي: منزل النبي صلى الله عليه وسلم الذي كان ينزل فيه ويصبح فيه وكان يقصده، (ليس عند المسجد الذي بحجارة)؛ أي: الذي بني بحجارة (ولا عند الأكمة التي عليها المسجد)؛ أي: ليس أيضًا عند الأكمة التي عليها المسجد، وهي وراء الوادي إلى جهة الغرب، فـ(الأكمة) الجبل الصغير، والأكمة كانت خلف الوادي، وهي قائمة الآن، وهي في الشمال الغربي للمسجد لمسجد الميقات الآن، فهذه الأكمة كان عليها مسجد آخر، وهو مقصود ابن عمر هنا، (كان ثم خليج)؛ أي: كان في ذلك المكان خليج، في مكان البطحاء، والخليج معناه: الوادي العميق المتعرج، فهذا المكان من وادي العقيق كان عميقًا، وكان ضيقًا متعرجًا؛ فلذلك سمي خليجًا، (كان ثم خليج يصلي عبد الله بن عمر عنده) يصلي عبد الله عنده في المكان الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه في بطنه كثب، (في بطنه)؛ أي: في بطن ذلك الخليج، وفي أسفله (كثب) جمع كثيب وهي: الرمال، (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه وسلم ثم يصلي) معناه: هذا المكان هو الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه.
(فدحا السيل فيه بالبطحاء) هذه الرواية التي بين أيديكم: (دحا السيل) (فدحا السيل فيه بالبطحاء) وفي رواية أخرى في الصحيح: (قد جاء السيل فيه بالبطحاء) بدل (فدحا) قد جاء وخطهما واحد يفرق بينهما فقط؛ لأن الهمزة ليس لها صورة، فالبطحاء هذه التي كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل فيها، سد بها السيل كذلك الخليج، (حتى دفن ذلك المكان)؛ أي: المكان العميق الذي كان هنالك الذي كان عبد الله يصلي فيه.
ثم قال: وحدث عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى حيث المسجد الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الروحاء، بعد هذا المكان ذكر مكانًا آخر وهو في الروحاء، وهي قرية كبيرة على الطريق بين مكة والمدينة وهي على الطريق القديم، فالطريق المشهور الآن بطريق الهجرة ليس يمر بالروحاء، لكن الطريق القديم الذي كان يمر ببدر هو الذي يمر بالروحاء، وهي قرية كبيرة معروفة، وفيها مساجد متعددة؛ فلذلك حدث عبد الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى حيث المسجد الصغير الذي دون المسجد الذي بشرف الروحاء)، فهناك مسجد صغير ومسجد كبير، فالمسجد الكبير ليس في مكان صلاة النبي صلى الله عليه وسلم، بل المسجد الصغير هو الذي في المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه، وأهل المكان الآن يعرفون المسجدين وبينهما فقط الشارع، ليس بينهما إلا الشارع فقط، فأحدهما في طرف الجبل هو المسجد الصغير الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه.
و(شرف الروحاء) معناه: المكان المرتفع منها، فالروحاء في مضيق بين الجبال، ففيها فج الروحاء، وهو المكان المتسع منها، وفيها شرف الروحاء؛ أي: المكان المرتفع عند الجبال، وفيها منصرف الروحاء؛ أي: المخرج منها، فإذًا ثلاثة أماكن كلها يطلق عليها اسم الروحاء، والشرف: هو المكان المرتفع من الأرض، ومن ذلك قول الشاعر:
آتي النبي فلا يقرب مجلسي وأقود للشرف الرفيع حماري
(وأقود للشرف الرفيع حماري)؛ أي: المكان المرتفع من الأرض، (بشرف الروحاء).
(وقد كان عبد الله يعلم المكان الذي كان صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم) وفي رواية: (يعلِّم المكان الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم) وهذه الرواية أشبه؛ لأنه من المعلوم أنه لم يكن ليصلي فيه إلا وهو يعلمه؛ فإذًا الرواية الأشبه أن يقال: (وكان عبد الله يعلِّم المكان الذي صلى فيه النبي صلى الله عليه وسلم) ومعنى (يعلِّمه)؛ أي: يعرفه ويصفه، فما هو وصفه له؟ يقول: (ثم عن يمينك حين تقوم في المسجد تصلي، وذلك المسجد على حافة الطريق اليمنى وأنت ذاهب إلى مكة، بينه وبين المسجد الأكبر رمية بحجر أو نحو ذلك) هذا تعليم عبد الله بن عمر للمكان الذي صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وتعريفه له، فبين أنه هذا المكان المستوي الذي هو قريب من المسجد الكبير عن يمين الطريق، فالطريق سيكون المسجد الكبير عن يسارها، وهذا نفس المكان هو الذي مر منه الشارع، مر على نفس مكان الطريق، فالمسجد الكبير على يسارك وأنت متجه إلى مكة، وهو جنوب الطريق، والمسجد الصغير على يمينك وهو شمال الطريق، وبينهما قدر رمية بحجر، وهو عرض الشارع الآن تقريبًا، أو نحو ذلك؛ أي: الرمية بالحجر تتفاوت بحسب قوة الرامي وضعفه؛ فالمهم أن بينهما قدر الشارع تقريبًا.
والمسافة بين الروحاء والمدينة تقريبًا تسعين كيلو.
والروحاء حولها الأثيل، قد نزل فيه النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا، وهو الذي قتل فيه النبي صلى الله عليه وسلم النضر بن الحارث وعقبة بن أبي معيط من أسرى بدر، فأمر علياً أن ينزل، وأن يضرب أعناقهما، فقتلهما علي في هذا المكان، وقال عقبة: (أأقتل بين ظهراني قريش صبرًا؟ فقالوا: لست من قريش)، وهو الذي ذكرته قتيلة أو نتيلة ابنة النضر في أبياتها التي أرسلت بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، تقول فيها:
من صبح خامسة وأنت موفق
أبلغ به ميتًا بأن تحية ما إن تزال بها النجائب تخفق
مني إليك وعبرة مسفوحة جادت بواكفها وأخرى تخنق
هل يسمعني النضر إن ناديته أم كيف يسمع ميت لا ينطق
ظلت سيوف بني أبيه تنوشه لله أرحام هناك تشقق
صبرًا يقاد إلى المنية متعبًا رسف المقيد وهو عان موثق
أمحمد يا خير ضنئ كريمة في قومها والفحل فحل معرق
ما كان ضرك لو مننت فربما من الفتى وهو المغيض المحنق
أو كنت قابل فدية فلنأتين بأعز ما يغلو لديك وينفق
فالنضر أقرب من أسرت قرابة وأحقهم إن كان عتق يعتق
وقد بكى النبي صلى الله عليه وسلم لأبياتها، وأخبر أنها لو جاءته هذه الأبيات وهو حي لأطلقه لها، وذلك من رحمة النبي صلى الله عليه وسلم، فرحم هذه المرأة حين وجهت إليه بهذه الرسالة، وقال: (لا يقتل قرشي بعد اليوم صبرًا)، فأصدر أمرًا أن لا يقتل أحد من قريش بعد اليوم صبرًا، (صبرًا) بمعنى أن يكون أسيرًا فيقتل دون قتال.
قال: وكان عبد الله يصلي إلى العرق الذي عند منصرف الروحاء، وذلك العرق انتهاء طرفه على حافة الطريق دون المسجد الذي بينه وبين المنصرف، قد ذكرنا أن الروحاء فيها ثلاثة أمكنة: فيها شرف الروحاء، وفيها فج الروحاء، وفيها منصرف الروحاء، وفي هذا الحديث ذكر شرف الروحاء كما سبق، ومنصرف الروحاء وهو المذكور هنا، وفج الروحاء جاء في حديث ابن عباس في الحج: (أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وصل فج الروحاء استقبله ركب فقال: من أنتم؟ فقالوا: مسلمون، قالوا: ومن أنت؟ قال: رسول الله)، صلى الله عليه وسلم، وكذلك فقد ثبت في الصحيح: (أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن عيسى بن مريم سينزل بفج الروحاء ملبيًا)، سيحرم من جهة المدينة فيلبي بفج الروحاء..
وهي قرية واحدة، لكن قرية مستطيلة بين جبال، فالجبال تحاصرها من الجهتين، فالمكان المرتفع عندما تنزل من ثنية الجبل إلى أصل الوادي هو الذي يسمى شرف الروحاء، والمكان المتسع الذي فيه المزارع وهو اتساع الوادي هو الذي يسمى بفج الروحاء، يا راكبًا إن الأثيل مظنة والمنصرف هو الخروج من الروحاء عند نهايتها؛ فلذلك بين أنه في المنصرف أيضًا هناك منزل آخر للنبي صلى الله عليه وسلم غير المنزل الذي بشرف الروحاء، فقال: وكان عبد الله يصلي إلى العرق الذي عند منصرف الروحاء، فالعرق معناه: الوادي الضيق، والمقصود هنا في نهاية الوادي ليس في قعره وأسفله بل في طرفه ونهايته؛ فلذلك قال: كان يصلي إلى العرق؛ فيجعله بينه وبين القبلة الذي عند منصرف الروحاء، وذلك العرق انتهاء طرفه على حافة الطريق، انتهاء طرفه؛ أي: نهايته على حافة الطريق؛ أي: طريق المشاة والركاب بين مكة والمدينة، دون المسجد الذي بينه وبين المنصرف، فالمسجد في المنصرف هو مسجد قائم مبني، ومكان نزول النبي صلى الله عليه وسلم كان وراء ذلك المسجد، فيتجاوز المسجد ثم ينزل، وهذا المكان الذي كان ابن عمر يصلي فيه؛ ولذلك قال: (وذلك العرق انتهاء طرفه على حافة الطريق، دون المسجد الذي بينه وبين المنصرف وأنت ذاهب إلى مكة) فهذا المنصرف هو آخر الروحاء إلى جهة مكة.
(وقد ابتني ثم مسجد)؛ أي: ابتني في المنصرف مسجد، وهذا المسجد لم يبن في مكان صلاة النبي صلى الله عليه وسلم؛ فلذلك قال: (فلم يكن عبد الله بن عمر يصلي في ذلك المسجد) كان يتركه عن يساره ووراءه، ويصلي أمامه إلى العرق نفسه، كان يتركه؛ أي: يترك هذا المسجد المبني ويصلي أمامه، كان يتركه عن يساره ووراءه: أن يجعله عن يساره ويتقدم عنه قليلًا؛ فيكون المسجد عن يساره ووراءه قليلًا، يجمع بين كونه وراءه وعن يساره.
مثلًا هذا الشخص الآن عن يساري وورائي؛ لأنه متأخر عن المسامتة، لكن هذا عن يساري وعن حذائي؛ فأنا الآن يساري إلى هذا الاتجاه، فإذا كنت متجهًا إلى هذا الاتجاه فهذا عن يساري، ولكنه ورائي؛ أي: متأخر قليلًا.
فلذلك قال: (عن يساره ووراءه) ووراءه؛ أي: وراء ابن عمر عن يساره ووراءه، فهو عن يساره كما ذكرنا، لكنه متأخر عنه، فيتقدم قليلًا، ويجعل المسجد عن يساره. ووراءه بالنصب؛ لأنه ظرف منصوب، وإذا قلت: عن يساره وعن ورائه أيضًا بالعطف فلا حرج في ذلك؛ لأنه مما يمكن فيه العطف.
(عن يساره ووراءه ويصلي أمامه) يصلي أمامه؛ أي: في هذا المكان الذي يكون متقدمًا على المسجد، ويجعله عن يساره، ثم يتقدم عليه قليلًا (إلى العرق نفسه)؛ أي: يصلي في اتجاه العرق هذا؛ أي: في اتجاه هذا الوادي، (وكان عبد الله يروح من الروحاء) والرواح هنا هو: الانصراف بعد الزوال، فينتقل بعد الزوال يروح من الروحاء، (فلا يصلي الظهر حتى يأتي ذلك المكان) فيؤخر صلاة الظهر إلى هذا المكان (فيصلي فيه الظهر) ينزل فيصلي فيه الظهر؛ لأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه، (وإذا أقبل من مكة)؛ أي: كان في رجوعه من مكة، فإن مر به قبل الصبح- العادة بأن يمروا بهذا المكان في الليل (فإن مر به قبل الصبح بساعة أو من آخر السحر عرس حتى يصلي بها الصبح)- ينزل في هذا المكان ينتظر صلاة الصبح حتى يصلي فيه الصبح.
هذا من كلام الراوي عن ابن عمر، وقد رواه عنه رجلان هما: نافع، وسالم، وهذا من حديثهما، فقد اتفقا على كل هذا الحديث إلا كلمة واحدة، هما الراويان سيأتي التفريق بين حديثيهما فـسالم بن عبد الله بن عمر ونافع مولى عبد الله بن عمر هما اللذان يحدثان هنا عن عبد الله.
كلاهما أوثق، لكن نافعاً هو الذي قال فيه البخاري: إنه من سلسلة الذهب.
قال: (وحدث عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل تحت سرحة ضخمة) (حدث عبد الله)؛ أي: عبد الله بن عمر، (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل تحت سرحة ضخمة)، و(السرحة): واحدة من السرح، وهو نوع من الشجر لا شوك له، يتخذ الناس منه السواك، وهو الشجر ظله جيد للمسافرين، وهو كثير في الحجاز وفي جزيرة العرب، وقد قال الشاعر:
أبى الله إلا أن سرحة مالك على كل أفنان العضاه تروق
فهل أنا إن عللت نفسي بسرحة من السرح مسدود علي طريق
(ينزل تحت سرحة ضخمة)؛ أي: عظيمة (دون الرويثة)؛ أي: أقرب من هذه القرية التي تسمى بالرويثة، (عن يمين الطريق ووجاه الطريق) (عن يمين الطريق): مواجهة للطريق، (في مكان بطح أو بطْح سهل)؛ أي: في مكان منبطح سهل، فيه الحصباء وليس فيه الحجارة؛ ولذلك اختاره النبي صلى الله عليه وسلم لنزول الناس رفقًا بهم، (حتى يفضي من أكمة دوين بريد الرويثة بميلين) معناه: حتى ينزل (يفضي هنا) بمعنى ينزل الناس؛ أي: يفضي إلى الأرض وهو النزول (من أكمة)؛ أي: مرتفع، هي الجبل الصغير، (دوين بريد الرويثة)؛ أي: دون المكان الذي ينزل فيه بريد الرويثة، والبريد اتخذ في أيام معاوية رضي الله عنه هو أول من برد البرد لحمل الرسائل والأمانات، فتكون خيلًا معدة لذلك تسمى خيل البريد فتقطع. بريدًا وهو: ثلاثة أميال، ثم يستلم منه الرسالة فارس آخر، فيقطع بريدًا وهو ثلاثة أميال، وهكذا.
فالبريد من المسافات معناه ثلاثة أميال، ويختلف اعتبارات الناس باعتبار البريد، فقد يطال ما بين غلوتي الفرسين مثلًا فيجعل البريد ما بين قريتين، فيكون هذه الفرس تنطلق من هذه القرية لاستقبال الرسائل القادمة فتستقبلها في القرية الأخرى، وتأتي بها، فهذه الفرس لا تتجاوز ما بين هاتين القريتين دائمًا، والأخرى لا تتجاوز ما بين القريتين الأخريين وهكذا؛ فيكون الوصول سريعًا جدًّا، وصول الأخبار والأمانات، وقد استغل ذلك لإيصال الأخبار والأمانات وللأمور الأمنية التي يحتاج إليها؛ فكان اختراعًا فيما يتعلق بالمواصلات، وأول من فعله معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما.
فبين منزل النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر أنه: (حتى يفضي من أكمة دوين بريد الرويثة بميلين)؛ أي: بقدر ميلين، والميل اختلف في تحديده على ثلاثة أقوال:
القول الأول: أنه ألفا ذراع، وهذا القول المشهور؛ وعليه يكون موافقًا للكيلو؛ لأن الكيلو ألف متر، وألفا ذراع هي ألف متر.
والقول الثاني: أنه ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع؛ فيكون ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع؛ فيكون أطول من الكيلو متر، وهذا الذي يسمى بالميل الإنجليزي.
الميل الإنجليزي ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع، والذراع شبران من الوسط، الذراع شبران لصاحبه، والشبر اثنا عشر إصبعًا من الوسط كذلك، والإصبع خمس حبات من وسط الشعير، والحبة من الشعير اثنتا عشرة شعرة من متوسط شعر البرذون.
والبرذون: الفرس غير الأصيل، الفرس المهجن.
يصبح عرضه خمس حبات شعير، إذا وضعت خمس حبات شعير يكون هذا متوسط الأصابع، أصابع الناس.
القول الثالث: أن الميل هو خمسة آلاف ذراع، وهذا القول يكون الميل فيه موافقًا لما يسمى اليوم بالميل البحري، والميل البحري هو اثنان كيلو ونصف تقريبًا، وهذا هو خمسة آلاف.
(وقد انكسر أعلاها)؛ أي: انكسر أعلى هذه السرحة (فانثنى في جوفها)؛ أي: انثنى إلى داخلها إلى جهة الجذع، (وهي قائمة على ساق) يصف هذه السرحة حتى كأنك تراها، (وهي قائمة على ساق، وفي ساقها كثب كثيرة) ساق السرح عادة كلما كان سرحة ضخمة وكبيرة تثنى ساقها، فكان فيه شيء يشبه الكثب تتلوى، والذي يعرف السرح يعرف هذا.
وحدث عبد الله: (أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في طرف تلعة من وراء العرش)، (وأنت ذاهب إلى هضبة عند ذلك المسجد قبران أو ثلاثة، على القبور رضم من حجارة عن يمين الطريق عند سلمات الطريق، بين أولئك السلمات، كان عبد الله يروح من العرج بعد أن تميل الشمس بالهاجرة فيصلي الظهر في ذلك المسجد) هذا موضع آخر من المواضع التي كان عبد الله يقصدها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيها، ويحدث بذلك، فقال: وحدث عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في طرف تلعة، والتلعة أيضًا: المكان المرتفع الذي دون الجبل وجمعه (تلاع)، ويطلق أيضًا على مجرى السيل الذي هو نازل من الجبل، فالسيل الذي ينزل من الجبل يبقي مكانًا يجمع فيه ما جمع من الحجارة أو من الرمل فيجعله كالمرتفع، وإذا تجاوز السيل اتخذه الناس لصعود الجبل، فهذا الذي يسمى بالتلاع، فهذه التلعة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيها؛ فلذلك قال: (صلى في طرف تلعة من وراء العرج) وهو مكان معروف أيضًا في الطريق، (وأنت ذاهب إلى هضبة)؛ أي: إلى تلك الهضبة، وهي الجبل المرتفع، فالتلعة دون الهضبة، وهي المكان الذي نزل به النبي صلى الله عليه وسلم وصلى، وقد كان فيها مسجد؛ لأنه قال: (عند ذلك المسجد قبران) (ذلك المسجد)؛ أي: المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه عنده (قبران) في وقت تحديث ابن عمر بهذا (أو ثلاثة)؛ أي: قبور قليلة، (على القبور رضم من حجارة)؛ أي: عليها صف من حجارة، قد جعل على تلك القبور تعليمًا لها، (عن يمين الطريق عند سلمات الطريق بين أولئك السلمات)، (عن يمين الطريق): طريق الذهاب إلى مكة، (عند سلمات الطريق): (السلمات) جمع (سلمة) وهي: نوع من أنواع الشجر- كما ذكرنا- من أنواع الطلح، والسلم كثير في الحجاز وبالأخص في تهامة، والطريق عليها عدد من الشجرات من هذا النوع من الشجر الذي هو السلم، يستغله المسافرون للنزول تحتها، فهي معروفة؛ فلذلك عرف بها عبد الله.
(كان عبد الله يروح من العرج بعد أن تميل الشمس بالهاجرة، فيصلي الظهر في ذلك المكان) فـعبد الله لم ير النبي صلى الله عليه وسلم صلى في العرج، بل رآه صلى في هذا المكان، فكان يرتحل بعد أن تزول الشمس، فيؤخر الظهر حتى يصليها في هذا المكان الذي رأى النبي صلى الله عليه وسلم صلى فيه.
قال عبد الله: (ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سرحات عن يسار الطريق في مسيل دون هرشا، ذلك المسيل لاصق بكراع هرشا، بينه وبين الطريق قريب من غلوة، وكان عبد الله يصلي إلى سرحة هي أقرب السرحات إلى الطريق وهي أطولهن)، هذا منزل آخر لرسول الله صلى الله عليه وسلم صلى فيه، فكان ابن عمر يقصده للصلاة أيضًا، قال عبد الله: (ونزل رسول الله صلى الله عليه وسلم عند سرحات) وهي جمع (سرحة) وقد سبق تعريفها (عن يسار الطريق)؛ أي: عن يسار الطريق الذاهب إلى مكة، (في مسيل)؛ أي: في بطحاء يسيل معها الماء، (دون هرشا) و(هرشا) ثنية معروفة في الطريق وهي مشهورة، وعندها ملتقى الطريق بين طريق المدينة وطريق الشام، فحجاج الشام وحجاج المدينة يجتمعون عند هرشا، وفيها يقول الشاعر:
خذا ظهر هرشا أو قفاها فإنه كلا جانبي هرشا لهن طريق
وفي الحديث الذي في صحيح مسلم: (أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بثنية، فقال: ما اسم هذه الثنية؟ فقيل: هرشا أو لفت، فقال: لكأني بـموسى بن عمران على ظهر هذه الثنية، له عجيج بالتلبية)، وفي رواية: (على ناقة له حمراء خطامها من ليف)، فـموسى بن عمران مر من هذا الطريق ملبيًا، وقد جاء من الشام فصعد على هرشا هذه، هي الثنية المعروفة في الطريق؛ فلذلك عرف بها ابن عمر، فقال: (مسيل دون هرشا) (ذلك المسيل لاصق بكراع هرشا)؛ أي: لاصق بما امتد من مرتفع هرشا، فالكراع هو الرجل، وكثيرًا ما يطلق على ذات الحوافر؛ ولذلك يطلق الكراع على الخيل والحمير والبغال، والكراع الجبلي أو التلعة أو المكان المرتفع، معناه: ما امتد منه.
(لاصق بكراع هرشا بينه وبين الطريق قريب من غلوة)؛ أي: هذا المنزل بينه وبين الطريق؛ أي: طريق القاصد إلى مكة (قريب من غلوة)؛ أي: رمية بسهم؛ أي: شيء يسير جدًّا.
(وكان عبد الله يصلي إلى سرحة هي أقرب السرحات إلى الطريق وهي أطولهن) هذا المكان فيه سرحات، وهن منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان عبد الله يصلي إلى إحداهن، وهي أطول السرحات في ذلك الوقت وأقربهن إلى الطريق.
قال: ويقول عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: (إن النبي صلى الله عليه وسلم كان ينزل في المسيل الذي في أدنى مر الظهران قبل المدينة، حين يهبط من الصفراوات، ينزل في بطن ذلك المسيل عن يسار الطريق وأنت ذاهب إلى مكة، ليس بين منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الطريق إلا رمية)، (مر الظهران) مكان قريب من مكة في نهاية الطريق، وهو معروف إلى الآن، وقد نزل به رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فتح مكة، وأمر جميع الجيش أن يوقدوا نارًا، يعني: كل مجاهد أن يوقد نارًا، فأوقد الناس عشرة آلاف نار، فرأى ذلك أهل مكة فراعهم، فخرج أبو سفيان يتعجب من هذه النيران، فقال: ما هذه النيران؟ سأل العباس بن عبد المطلب، قال: خزاعة حمشتها الحرب، كانت الحرب إذ ذاك قائمة على خزاعة، يحاربهم بنو بكر بن كنانة، وكانت قريش مع بني بكر ضد خزاعة، وقد دخل خزاعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية، فقال أبو سفيان: (خزاعة أقل وأذل من أن تكون هذه نيرانها) فعرف أن الأمر فيه شيء؛ لأنهم كانوا يتوقعون أن النبي صلى الله عليه وسلم سيغزوهم لأنهم نقضوا عهده، وعلموا أن خزاعة استنصرت به، فقد ذهب عمرو بن سالم الخزاعي حتى أتى النبي صلى الله عليه وسلم للمدينة، فقال:
يا رب إنني ناشد محمدا حلف أبينا وأبيه الأتلد
قد كنتم ولد وكنا والدا ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا
فانصر هداك الله نصرا أيدا ادعوا عباد الله يأتوا مددا
فيهم رسول الله قد تجردا أبيض مثل السيف يسمو صعدا
إن قريشًا أخلفوك الموعدا ونقضوا ميثاقك الموكدا
وزعموا أن لست تدعوا أحدا وهم أذل وأقل عددا
هم بيتونا بالوتير هجدا وقتلونا ركعا وسجدا
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن تلك السحابة لتستهل لنصر بني كعب)، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فتح مكة لنصرتهم، فنصره الله سبحانه وتعالى، ونزل بمر الظهران وهو هذا المكان، وحوله مكان يسمى بالصفراوات، وهي في امتداد الوادي الذي يسميه الناس اليوم بوادي فاطمة، عند قرية تسمى (الجموم)، و(الجموم) في الأصل بير تجم؛ فهي من آبار وادي فاطمة الذي يسميه الآن الناس وادي فاطمة، وقرية الجموم معروفة الآن، وحولها مر الظهران؛ ولذلك يقول: كان ينزل في المسيل الذي في أدنى مر الظهران قبل المدينة؛ أي: في أوله في جهة المدينة (حين يهبط من الصفراوات)؛ أي: حين يتجاوز النبي صلى الله عليه وسلم الصفراوات ينزل في بطن ذلك المسيل عن يسار الطريق، فمنزله عن يسار الطريق، (وأنت ذاهب إلى مكة ليس بين منزل رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الطريق إلا رمية بحجر) وهنا لم يذكر أنه صلى في هذا المكان، ولكن ما ساقه عبد الله بن عمر إلا لذلك؛ فدل هذا على أن فيه مصلًى لرسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال ابن عمر رضي الله عنهما: (وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل بذي طوًى)، هذا آخر المنازل إلى مكة وهو أقربها مر الظهران، بعده ينزل النبي صلى الله عليه وسلم بذي طوًى، وهي بئر في مدخل مكة، وقد كانت خارج حدود مكة إذ ذاك، واليوم تجاوزها البنيات كثير جدًّا، فأصبحت في وسط مكة تقريبًا، وهي الآن في المكان الذي يسمى بـ(جرول) في حارة من حارات مكة تسمى حارة (البيبان) وهي عند مستشفى الولادة، والبئر إلى الآن ما زالت قائمة، ولكنها محوطة محوزة لا يأتيها أحد، فهذا المكان كان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل فيه، فيبيت عنده، ويغتسل من هذه البئر؛ ولذلك تجدون في كلام الفقهاء في مندوبات الحج أن ينزل الحاج بذي طوًى ويغتسل منها اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، وهذا الغسل بلا دلك؛ لأن الإنسان محرم، فيصب الماء عليه، فلا يدلك إلا مواضع الوضوء فقط؛ لأن دلك ما سواها سيزيل الوسخ و(التفث) وهو محرم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم ينزل فيها، فكان يصل إلى هذا المكان مساءً، تارة بعد العصر، وتارة قبيل المغرب، فينزل في هذا المكان ويبيت فيه، ويغتسل من هذه البئر، فيدخل إلى الحرم ضحوة.
فيدلك أماكن الوضوء: مواضع الوضوء، أو أماكن النجس: المكان المتنجس من الإنسان أو مكان الاستنجاء، يجوز دلكه للمحرم، ولو سقط شعر أو وسخ فلا حرج في ذلك؛ لأن إسقاطه واجب؛ فلا يلزم به شيء، وكذلك الوضوء فلو سقطت شعرات من لحيته أو نحو ذلك، فلا يلزم فيها شيء في الوضوء؛ لأنها أسقطها واجب، ومثل ذلك مسح الرأس إذا سقط فيه شيء من قمله أو من وسخه، فلا حرج في سقوطه؛ لأنه أسقطه واجب.
النبي صلى الله عليه وسلم كان يغتسل هنالك، والظاهر أنه كان يغتسل في الصباح؛ لأن الغسل المقصود به ما يتصل بدخول المسجد- دخول الحرم- فهو بمثابة غسل الجمعة، وينبغي أن يكون متصلًا بالرواح، وهذا الغسل في حق المسافر إذا قدم يندب له الغسل؛ ولذلك فإن: (وفد عبد القيس لما أتوا المدينة وقد كانوا يشتاقون إلى الجلوس إلى النبي صلى الله عليه وسلم ولقائه، ذهبوا إليه، وبقي الأشج في رحالهم، فاغتسل وأخذ أحسن ملابسه فلبسها، فجاء وهو آخر القوم دخولًا على النبي صلى الله عليه وسلم، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: إن فيك خصلتين يحبهما الله ورسوله: الحلم، والأناة)، فإنه حليم لا يغضب، وهو صاحب أناة؛ أي: تأن، حيث تأخر عن أصحابه حتى اغتسل ولبس أحسن ملابسه، وجاء بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم، والآخرون يأتون وعليهم آثار السفر والغبار ورائحة السفر، فكان الأدب ما فعله أشج عبد قيس؛ فكذلك المسافر لا ينبغي أن يخالط الناس، وبالأخص لا يذهب إلى المسجد حتى يغتسل ليزيل آثار السفر، و(السفر قطعة من العذاب) كما في حديث عائشة و
استمع المزيد من الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [15] | 3610 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [2] | 3531 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [13] | 3464 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [3] | 3355 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [18] | 3202 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [19] | 3190 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [1] | 3139 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [20] | 2993 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [16] | 2921 استماع |
شرح أحاديث مختارة من كتاب التجريد الصريح [17] | 2883 استماع |