رحلة في أعماق الذات
مدة
قراءة المادة :
9 دقائق
.
رحلة في أعماق الذاتكم هو جميل أن يرحل الإنسان في أعماق ذاته، ودواخل نفسه؛ ليستخرج مكنونات قيمة من أعماقه تنير له الطريق، وتضيء للآخرين من حوله مسالك دروب الحياة!
إن التفكير بعمق من السمات الإيجابية للإنسان عمومًا، وللمسلم خصوصًا؛ فهو مطالب بأن يجول بفكره في ملكوت الله عز وجل، ومخلوقاته؛ بل وفي نفسه وذاته؛ ليستدل على عظمة الخالق سبحانه وتعالى؛ فينقاد راغبًا محبًّا ذليلًا لخالقه وموجده، قال تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191]، وقوله: ﴿ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ ﴾ [الذاريات: 21]، فالتحَدُّثُ بِعُمْقٍ وبتفكُّر وَرَوِيَّةٍ مع أعماق الذات يستمطر كنوزًا قيمة من مكنوناته التي لا تستخرج إلا بعمق ورويَّة من التفكير الإيجابي؛ ولذا يقولون لمن هم في اشتياق إليهم، معبرين عما بدواخلهم: نحَيِّيكم من أعماق القلب، وبعد هذه المقدمة، نشرع في رصد بعض مكنونات تلك الرحلة لعلَّها أن تكون ماتعةً، فهيَّا إلى دوحة أعماق الذات؛ لنطرح بعض التساؤلات للإجابة عنها في هذه الرحلة.
س /كيف لنا أن نسع الجميع؟!
نسع الجميع بحمال الأدب الجوهري، وفن الاحتواء الاحترافي، وحسن الإصغاء المهاري، وبشاشة المُحيَّا الصادق الجاذب للغير، والتعامل مع الغير بما يليق به في الجانب الإيجابي، والمبادرة في تلبية احتياجاته؛ تعبُّدًا لله أولًا وأخيرًا، ثم سعيًا لإيصال الخدمة للمستهدف بأرقى أسلوب ممكن، بهذا وبذاك معًا سنسع الجميع، وإن لم يُحِبَّنا الجميع، قال تعالى: ﴿ فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ ﴾ [آل عمران: 159].
عند ذلك يصبح الغير مع نفسه مخيرًا بين ثلاثة أمور: إمَّا أن يخجل من نفسه ويكفينا شرَّه، وإمَّا أن يبادلنا نفس المشاعر الإيجابية، وإمَّا أن يتحوَّل إلى صديق حميم، وما يُلَقَّى ذلك الرقي في النفس والقول والفعل إلَّا ذو حظٍّ عظيمٍ، جعلنا الله وإياكم منهم، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ * وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ [فصلت: 33 - 35].
س/ ما الذي يُحدِّد للشخص بالضبط فعل هذا أو ترك ذاك؟!
الذي يُحدِّد بالضبط للشخص فعل هذا أو ترك ذاك هو صِدْق اعتقاده وانتمائه لما يؤمن به داخل سويداء قلبه، من تصوُّرات وأفكار، ومبادئ وقيم؛ ومِن ثَمَّ فإن كانت تصوُّراته وأفكاره التي ستتحوَّل إلى سلوكيات مشاهدة للآخرين تتوافق مع ما يؤمن به دينًا واعتقادًا، فسيلحظ - وقبل غيره - وجود توافق داخلي وخارجي، وسيشعر بالاستقرار النفسي والقلبي الذي لن يستطيع أن يمنحه له أحدٌ سواه.
وإن كان العكس، عاش الازدواجية بين الداخل والخارج هو قبل غيره، التي ينتج عنها الاضطرابات النفسية، والتوتُّرات العصبية، وإن كان صاحبها يسبح في بحيرةٍ من الملذَّات الوقتية!
وصدق الله القائل في كتابه: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ ﴾ [الصف: 2، 3]، وقال تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 8 - 10]، وقال تعالى: ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [البقرة: 14، 15].
وأخيرًا قال تعالى عن كل مُعْرِض أعرض إعراضًا كليًّا أو جزئيًّا لمخالفته للفطرة التي فطر الله الناس عليها؛ ومِن ثَمَّ يحدث التناقض والازدواج بين أصل الفطرة والتكوين وبين السلوك الممارس الناتج عن التصوُّر الخاطئ لذلك الإنسان، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 124- 127].
س/ متى يمكن أن نحكم على شخص ما بإيجاب أو سلب؟!
علَّمتني الحياة في رحاب الإسلام، ومبادئه، ومفاهيمه، وقيمه العظام، ألَّا أحكم على شخص ما بالإيجاب أو السلب، أو القرب أو البعد، أو غير ذلك لمجرد الظاهر، مهما وصلني عنه من الآخرين من رسائل إيجابية أو سلبية، إلا بعد المعاشرة والتعامل معه، ومعرفته عن قرب واحتكاك؛ فكثيرٌ من الناس، يحملون في دواخلهم كنوزًا من الجواهر، في مبادئهم، وقيمهم، وأخلاقهم، تعجب كثيرًا منها، عندما تلامس واقعهم ملامسةً حقيقيةً، بعيدةً عن المصالح، وإن كان لديهم بعض التقصير في الظاهر، مرتبطًا بهم، وليس بالآخرين، وهذا التقصير على كل حال لا يخلو منه أحدٌ، في الظاهر أو الباطن أو كليهما.
فمن ذا الذي ما ساءَ قَطّ
ومَن له الحُسْنى فَقَطْ
وإن كان توافُق الظاهر مع الباطن وتطابقهما من أسمى المطالب الشرعية، ومطلبًا جوهريًّا للشخصية المسلمة، ينبغي أن تسعى له جاهدة؛ لتتحلى به في واقع الحياة؛ لنيل رِضا الله أولًا وأخيرًا، ولصدق الانتماء والاعتقاد، ثم للرِّضا النفسي والاستقرار النفسي، ثم للبعد عن الازدواجية بين الداخل والخارج الناجمة من ضعف الاعتقاد والانتماء لدى المسلم، أو الناجمة من العدم لدى غير المسلم.
فهناك شيئان يُحدِّدان مَنْ أنت: صبرك عندما لا تمتلك شيئًا، وأخلاقك عندما تملك كل شيء.
فأنت رائعٌ حينما تتجاهل من يُسيء إليك، كريمٌ حينما تُخفِّف من أحزان غيرك، ولطيفٌ حينما تهتمُّ بمَنْ حولَك، وجميلٌ عندما تبتسم لمن حولك مهما كانت ظروفك؛ فهي لك وليست لغيرك!
وأخيرًا، في هذه الرحلة في أعماق الذات، أختم هذا المقال بهذه الإضاءة المهداة من زميل ورفيق درب وصديق "أبي أيمن"، يقول فيها:
الزعل المستمر واللَّوْم المستمر يُمِيت لذَّةَ كُلِّ شيء، وإن كان من غير قصد، امدحوا حسنات بعضكم، وتجاوزوا عن الأخطاء؛ فإن الكلام الجميل مثل المفاتيح تفتح بها قلوب مَنْ حولك.
تغافَل مرةً، وتغابى مراتٍ؛ فليس كُلُّ شيء يستحق الاهتمام، ولا تُعْطِ الأمورَ أكبرَ من حجمها، إن رأيت أمامك عقبةً فتجاوَزْها؛ لأن التعامل معها فنٌّ ومهارةٌ وخبرةٌ ثم ثقافة.
التمسوا لنا الأعذار حينما لا نكون كما عهدتمونا أن نكون؛ فالنفوس آفاق ووديان، ولعل نفوسنا في أودية غير وديانكم، ولعل صدورنا تحوي ما لا نستطيع البوح به.
ابتسموا وسامحوا يا أحِبَّة، واغسلوا قلوبكم من نزغات الشيطان وسوء الظن، والتمسوا لإخوانكم الأعذار؛ فنحن في أعوام تتساقط فيها الأرواح بلا سابقِ إنذارٍ، فاللهُمَّ اجعلنا ممن طال عُمُرُه وحسُن عملُه.
هنيئًا لزارعي الخير، وحاصدي الخير، والقائمين على الخير، ومُحْسِني الظَّنِّ، والناطقين بالخير، والخارجين من هذه الحياة بحسن المعشر، وطيب الذكر، فالذكر الحَسَن عُمُرٌ ثانٍ لصاحبه.
فقلت له: سلِمَتْ يداك أبا أيمن على هذه الإضاءة من بوح أعماق الذات؛ فنحن في أمسِّ الحاجة إلى إضاءات تنير لنا الطريق، وتُنظِّف لنا القلوب، وتتسامى بنا إلى علياء القِمَم الإيجابية.
وأخيرًا بهذا وبذاك، نشرع في استراحة لرحلتنا في أعماق الذات لهذا المقال، لعلنا من خلال تلك الرحلة طرحنا بعض التساؤلات التي أجابت عنها الذات بكل شفافية وبُعْد نَظَرٍ؛ لعلَّها أن تساهم في بِناء الفِكْر الراقي لمن يطالعها، أو يرحل في أعماقها، أو يتنزَّه على شواطئها دون الغوص في أعماقها، فإلى لقاء آخر في رحلة أخرى!