تراث الأمة بين التنزيه والتشويه [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وأصلي وأسلم على من بعث رحمة للعالمين، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه واستن بسنته إلى يوم الدين.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

أما بعد:

تراث الأمة ثروة لها فيه الخطأ والصواب

الرأي الثالث، وهو الرأي الذي نعتقده، وهو أن هذا التراث ثروة للأمة وملك لها، فيه الصواب والخطأ، يوزن بميزان الشرع؛ فما كان منه موافقاً للشرع فهو مقبول ولا بد من الانتفاع به، وما كان مخالفاً لميزان الشرع فهو مردود على أصحابه، ولا يمكن أن ينتفع به كذلك.

وبهذا يعلم أن في التراث ما هو نافع ضروري لا يمكن التخلص منه، وفيه ما هو متوسط؛ يحتاج إليه بعض الناس دون بعض، وفيه ما هو ضار؛ لا بد من تجنبه كذلك، فكثير من الناس الآن إذا تكلموا عن السلف الصالح مثلاً تكلموا عن الوجه المشرق للسلف، لكن لا يدخلون معهم الذين كانوا يقعون في الخطأ؛ فعصر السلف ليس أهله جميعاً مرضيون ولا تصرفاتهم جميعاً مرضية، السلف الصالح؛ فمثلاً علي بن أبي طالب هنا في نفسه.. في الكفة المقابلة عبد الرحمن بن ملجم كلاهما من السلف، لكن فرق بين سلف وسلف، وهكذا في كل الأمور؛ فالمنحرفون الأوائل في جانب الاعتقاد؛ من القدرية والجبرية والمعتزلة والخوارج والمرجئة؛ كلهم كانوا معاصرين للسلف وكانوا في القرون الثلاثة المزكاة، لكن ذلك لا يعطيهم قداسة ولا يعطي آراءهم منزلة؛ لأنها مخالفة للكتاب والسنة، مردودة على أصحابها؛ لاصطدامها بالوحي.

فلذلك كثير من الناس ينطلق من هذا المنطلق لعدم التفريق في التراث؛ فيرى أن كل ما قيل به في العصور الأولى يقول: هذا كان في عصر السلف، كان السلف يفعلون، وكان من السلف من قال كذا ومنهم من فعل كذا؛ فيقال: ليس في قول أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة ولا في عمله، ففعل غير المعصوم ليس بحجة إجماعاً، وقول غير المعصوم إذا كان صحابياً فيه خلاف؛ فقول الصحابي ليس حجة على الصحابي قطعاً، وقول الصحابي فيما يؤخذ بالرأي ليس حجة أيضاً على الراجح على غيره؛ فلذلك قال أبو حنيفة رحمه الله: (إذا جاء الكتاب والسنة فعلى الرأس والعين، وإذا جاء الفهم عن أبي بكر و عمر و عثمان و علي و أبي موسى و أبي هريرة ؛ فعلى الرأس والعين، أما إذا جاءت الفتوى عن عبيدة السلماني و زر بن حبيش وأضرابهما فهم رجال ونحن رجال) يقصد التابعين؛ فليسوا مثل الصحابة فيما يتعلق بشرح السنة وتفسير الكتاب، ولا فيما يتعلق بآرائهم، و أبو حنيفة يمكن أن يزاحمهم في اجتهاداتهم؛ لأنه مؤهل للاجتهاد.

ونظرنا للتراث بهذا النظرة المعتدلة التي تقتضي أنه يؤخذ منه ويرد؛ كما قال مالك رحمه الله: (ما منا أحد إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم)، ونظرنا إليه كذلك بأنه أهل لأن يستفاد منه وأن ينتفع به وأنه ثروة لنا وتراث أدركناه عند أسلافنا وخير سبقنا وتجارب لا داعي لتكرارها؛ فنعرف منها الصواب فنأخذ به ونترك الخطأ، هذا لا شك أنه سينفعنا ويجعلنا نستغل تراثنا استغلالاً صحيحاً ونستثمره.

وإذا حملتنا العاطفة والبر بآبائنا وأسلافنا إلى قبول التراث كله فسندخل في التناقض السابق، وإذا حملتنا النصوص والتمسك بها وحدها والرجوع إلى فهمنا نحن وحده دون فهم غيرنا؛ فسيقتضي منا ذلك تخلصاً من كثير مما نحن محتاجون إليه من التآليف، ومن اقتصر على النصوص وحدها اليوم وهو غير مؤهل للاستيعاب والاجتهاد لا يستطيع أن يستخرج منها كثيراً من الأحكام التي هو مضطر إلى معرفتها، وما هو محتاج إليه في عبادته وسلوكه.

وأعرف أحد الشباب ليس مؤهلاً للاجتهاد، ولم يدرس وسائل الاجتهاد، ولكنه رأى أن يرد كل التراث ما عدا الكتاب والسنة، قال: أنا أرد كل التراث لأنه مخالف للكتاب والسنة وأرى أنه من المثناة، وهي ما استكتب من غير كتاب الله، فقلت له: طيب! كيف تتعبد الله سبحانه وتعالى؟! قال: بما ثبت لدي في الكتاب والسنة، فسألته عن فرائض الوضوء؛ فتلكأ؛ فكثير من الأمور جاءت فيها نصوص متعارضة، مثلاً: هل السلام ركن من أركان الصلاة؟ هل الفاتحة ركن من أركان الصلاة؟ هل المضمضة والاستنشاق ركن من أركان الوضوء؟ إذا اقتصرت على النص: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ[المائدة:6]، وهذا مجمل مرن، ويدخل فيه كثير من الإشكالات، هل الدلك داخل في: (اغسلوا) ؟ وهل ما بين العذار والأذن داخل في الوجه؟ وهل داخل الأنف وداخل الفم داخل في الوجه؟ هذا كله يحتاج إلى فهم واستنباط، وقد أحال الله إليه في قوله: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]، وهنا لم يقل: لعلموه جميعاً؛ فأهل الاستنباط هم المؤهلون لفهم الكتاب والسنة وحل الإشكالات من خلالهما، ومن ليس كذلك ليس مؤهلاً لهذا.

الرأي الثالث، وهو الرأي الذي نعتقده، وهو أن هذا التراث ثروة للأمة وملك لها، فيه الصواب والخطأ، يوزن بميزان الشرع؛ فما كان منه موافقاً للشرع فهو مقبول ولا بد من الانتفاع به، وما كان مخالفاً لميزان الشرع فهو مردود على أصحابه، ولا يمكن أن ينتفع به كذلك.

وبهذا يعلم أن في التراث ما هو نافع ضروري لا يمكن التخلص منه، وفيه ما هو متوسط؛ يحتاج إليه بعض الناس دون بعض، وفيه ما هو ضار؛ لا بد من تجنبه كذلك، فكثير من الناس الآن إذا تكلموا عن السلف الصالح مثلاً تكلموا عن الوجه المشرق للسلف، لكن لا يدخلون معهم الذين كانوا يقعون في الخطأ؛ فعصر السلف ليس أهله جميعاً مرضيون ولا تصرفاتهم جميعاً مرضية، السلف الصالح؛ فمثلاً علي بن أبي طالب هنا في نفسه.. في الكفة المقابلة عبد الرحمن بن ملجم كلاهما من السلف، لكن فرق بين سلف وسلف، وهكذا في كل الأمور؛ فالمنحرفون الأوائل في جانب الاعتقاد؛ من القدرية والجبرية والمعتزلة والخوارج والمرجئة؛ كلهم كانوا معاصرين للسلف وكانوا في القرون الثلاثة المزكاة، لكن ذلك لا يعطيهم قداسة ولا يعطي آراءهم منزلة؛ لأنها مخالفة للكتاب والسنة، مردودة على أصحابها؛ لاصطدامها بالوحي.

فلذلك كثير من الناس ينطلق من هذا المنطلق لعدم التفريق في التراث؛ فيرى أن كل ما قيل به في العصور الأولى يقول: هذا كان في عصر السلف، كان السلف يفعلون، وكان من السلف من قال كذا ومنهم من فعل كذا؛ فيقال: ليس في قول أحد بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة ولا في عمله، ففعل غير المعصوم ليس بحجة إجماعاً، وقول غير المعصوم إذا كان صحابياً فيه خلاف؛ فقول الصحابي ليس حجة على الصحابي قطعاً، وقول الصحابي فيما يؤخذ بالرأي ليس حجة أيضاً على الراجح على غيره؛ فلذلك قال أبو حنيفة رحمه الله: (إذا جاء الكتاب والسنة فعلى الرأس والعين، وإذا جاء الفهم عن أبي بكر و عمر و عثمان و علي و أبي موسى و أبي هريرة ؛ فعلى الرأس والعين، أما إذا جاءت الفتوى عن عبيدة السلماني و زر بن حبيش وأضرابهما فهم رجال ونحن رجال) يقصد التابعين؛ فليسوا مثل الصحابة فيما يتعلق بشرح السنة وتفسير الكتاب، ولا فيما يتعلق بآرائهم، و أبو حنيفة يمكن أن يزاحمهم في اجتهاداتهم؛ لأنه مؤهل للاجتهاد.

ونظرنا للتراث بهذا النظرة المعتدلة التي تقتضي أنه يؤخذ منه ويرد؛ كما قال مالك رحمه الله: (ما منا أحد إلا راد ومردود عليه، إلا صاحب هذا القبر صلى الله عليه وسلم)، ونظرنا إليه كذلك بأنه أهل لأن يستفاد منه وأن ينتفع به وأنه ثروة لنا وتراث أدركناه عند أسلافنا وخير سبقنا وتجارب لا داعي لتكرارها؛ فنعرف منها الصواب فنأخذ به ونترك الخطأ، هذا لا شك أنه سينفعنا ويجعلنا نستغل تراثنا استغلالاً صحيحاً ونستثمره.

وإذا حملتنا العاطفة والبر بآبائنا وأسلافنا إلى قبول التراث كله فسندخل في التناقض السابق، وإذا حملتنا النصوص والتمسك بها وحدها والرجوع إلى فهمنا نحن وحده دون فهم غيرنا؛ فسيقتضي منا ذلك تخلصاً من كثير مما نحن محتاجون إليه من التآليف، ومن اقتصر على النصوص وحدها اليوم وهو غير مؤهل للاستيعاب والاجتهاد لا يستطيع أن يستخرج منها كثيراً من الأحكام التي هو مضطر إلى معرفتها، وما هو محتاج إليه في عبادته وسلوكه.

وأعرف أحد الشباب ليس مؤهلاً للاجتهاد، ولم يدرس وسائل الاجتهاد، ولكنه رأى أن يرد كل التراث ما عدا الكتاب والسنة، قال: أنا أرد كل التراث لأنه مخالف للكتاب والسنة وأرى أنه من المثناة، وهي ما استكتب من غير كتاب الله، فقلت له: طيب! كيف تتعبد الله سبحانه وتعالى؟! قال: بما ثبت لدي في الكتاب والسنة، فسألته عن فرائض الوضوء؛ فتلكأ؛ فكثير من الأمور جاءت فيها نصوص متعارضة، مثلاً: هل السلام ركن من أركان الصلاة؟ هل الفاتحة ركن من أركان الصلاة؟ هل المضمضة والاستنشاق ركن من أركان الوضوء؟ إذا اقتصرت على النص: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ[المائدة:6]، وهذا مجمل مرن، ويدخل فيه كثير من الإشكالات، هل الدلك داخل في: (اغسلوا) ؟ وهل ما بين العذار والأذن داخل في الوجه؟ وهل داخل الأنف وداخل الفم داخل في الوجه؟ هذا كله يحتاج إلى فهم واستنباط، وقد أحال الله إليه في قوله: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ[النساء:83]، وهنا لم يقل: لعلموه جميعاً؛ فأهل الاستنباط هم المؤهلون لفهم الكتاب والسنة وحل الإشكالات من خلالهما، ومن ليس كذلك ليس مؤهلاً لهذا.