أمنيتي. . .
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
للأستاذ عباس محمود العقاد
قلت في ختام مقالي السابق: (أما أمنيتي التي يسألني الأديب عنها سؤاله الأخير فلعلها لا تشرح في ذيل هذا المقال، وأحرى بها أن تؤجل إلى مقال قريب، لأنني لا أطرق منها جانباً يخصني دون غيري، بل أطرق منها ما يصح أن يمتد إليه كل بحث وينظر فيه كل ناظر. ) ولم أقصد بكتابة هذا المقال عن أمنيتي في الحياة إلا ما قصدته بكتابة مقالي السابق عن أدب اليوميات، وهو تسجيل ظاهرة نفسية أستطيع أن أراقبها في نفسي وأن أتخذ من تجربتي لها فائدة أضيفها إلى تجارب غيري.
فليس أصدق في دراسة النفسيات من تسجيل تجارب النفوس. وإذا صدقت تجربتي في هذا الباب فما من أمنية تسيطر على حياة الإنسان إلا ظهرت بذورها الأولى في بواكير صباه، فإنني لم أتمن في حياتي أمنية كبرى بعد الذي تمنيته بين العاشرة والخامسة عشرة، وكل ما أضافته السنون من جديد أنني كنت في الطولة أتمنى على سبيل الرمز والتلميح، وأنني استوضحت أماني بعد ذلك فبرزت لي على ضوء الوصف البين الصريح بين العاشرة والخامسة عشرة تمنيت على التوالي أن أصبح ولياً من أولياء الله، وقائداً من كبار القادة، وأدبياً من رجال القلم النابهين.
فعلمت مع الزمن أن هذه الأماني الثلاث إن هي إلا أمنية واحدة ضلت طريقها حتى اهتدت إليه، وجهلت عنوانها حتى اتسمت به والتزمت مسماه، وأن الولي والقائد إنما هما جانبان منطويان في الجانب الأكبر أو الجانب الوحيد الذي هو جانب الباحث والمفكر والأديب. شاقني من الولاية وأنا في العاشرة تسخير قوى الطبيعة واستطلاع أسرار الدنيا والآخرة؛ فقرأت مناقب الصالحين وكتب السحر، وأردت أن أمشي على الماء، وأن أطير في الهواء، وأن أتلو القسم على شيء من الأشياء فإذا هو مذعن مطيع، وأن أدعوا الغيب إلي فإذا هو مجيب سميع؛ فصليت عشرات الركعات، وسردت ألوف الأسماء، وأوشكت أن أتمادى في (الدروشة) وأن أزهد في الدنيا وأنقطع للعبادة، وأنتظم بين من يسمونهم أهل الطريق.
ث عصمني حادثان صبيانيان يضحكان، ولكنها بما أعقبا وأفادا بالغان في الجد والتسديد: أحدهما ضياع حذاء بالمسجد الكبير في يوم صلاة جامعة بين أولئك أهل الطريق! فقلت: إن أناساً يسرقون الأحذية في مساجد الله لا يرجى بينهم فلاح.
والآخر إمام من أئمة (المندل) كذب على الحاضرين باسمي وأنا أنظر لهم في (الفنجان) لأستطلع الغيب؛ فقلت إن الذي يكذب في الحس المشهود، لن يدلني على الغيب المحجوب.
وكان هذا وذاك فراق بيني وبين الولاية والكرامات. أما قيادة الجيوش فكان لها سبب معقول في تلك الأيام.
فقد كانت بلدتي (أسوان) قاعدة من القواعد الكبرى في طريق حملة السودان، وكان فيها مقر الجنود المصريين والسودانيين والإنجليز الذين ينتظرون السفر ذاهبين أو قافلين، وكنا نصبح ونمسي على خوف من الدروايش الذين يذبحون الرجال والنساء ويرفعون الأطفال مطعونين على أسنة الحراب.
فكانت لعبتنا في المدرسة تمثيل هذه الجيوش واستعجال النقمة من الأعداء. ثم لم ألبث أن ظهر لي أن قيادة الجيش ليست هي الأمل المقصود ولا الأمنية الفضلى؛ وأنني كنت من آل عطارد ولم أكن من آل المريخ؛ لأننا كنا ننظم الجيوش على أساليب القصص العنترية والهلالية وما ورد عن سيف بن ذي يزن وأبطال ألف ليلة وليلة: فارس يبرز بين الصفوف ليتحدى خصومه بأبيات من الشعر أو فقرات من الكلام المسجوع، وهذا هو بيت القصيد! فلما نظمت الشعر عرفت ما أردت، ووصلت إلى ما قصدت، وتركت فتوح القيادة، كما تركت من قبلها كرامات الولاية! وانتهيت بعد طواف قصير في هذا التيه الصغير إلى أمنية الأدب والكتابة، ولكني لا أزال ألمح في باطن هذه الأمنية مسحة من غلبة القيادة، ونفحة من أسرار الولاية، وشوقاً إلى المجهول لم يقف قط عند حد من الحدود؛ ولم يفارقني قط حتى حين أحسبني مستغرقاً في الحس وفي غواياته وملاهيه هذه عقدة من عقد النفوس التي التبست فيها أول الأمر ثكنة القائد وصومعة العابد وروضة الشاعر.
ثم انجلت الرؤية من وراء الغشاوة الظاهرة شيئاً فشيئاً، حتى ظهر أن الثكنة والصومعة والروضة شيء واحد يفترق من بعيد ويتفق من قريب لكن العجيب غاية العجب هو أن تحل هذه العقدة على البداهة السهلة وعلى أيدي طائفة من التلاميذ لم يفهموا ما صنعوه ولعلهم لا يفهمون بعد ذلك لو سئلوا فيه وبيان ذلك أننا كنا قبل خمس وعشرين سنة نعمل في التدريس بالمدرسة الإعدادية الثانوية: الأستاذ المازني، والأستاذ الزيات، والأستاذ علي الجندي، وكاتب هذه السطور، وطائفة مختارة من الفضلاء الذين لهم اليوم مكانهم الممتاز في مناحي العلم والعمل بهذه البلاد فقيل لنا يوماً إن التلاميذ المعاقبين يملأون جدران الحبس بالنوادر والفكاهات عن المدرسين، وذهبنا إلى حجرات الحبس فقرأنا على الجدران أفانين من تلك النوادر والفكاهات: أذكر منها مما كتبوه عن المازني وعني: أن ناظر المدرسة سألني وقد رآني على بابها: أين صاحبك؟ فقلت له: نسيته في الدرج! وأن العقاد دعا المازني إلى وليمة على مائدة فلم يأكل المازني؛ ثم دعا المازني العقاد إلى وليمة على الأرض فلم يأكل العقاد! وكثير من أمثال هذه المساجلات نكتفي بما تقدم منها على سبيل التمثيل لأنه غير المقصود في هذا المقال. أما المقصود فهو الألقاب التي أطلقها علينا أولئك الخبثاء وكشفوا بها من جوانب الشخصية ودخائل النفس ما يعي به كبار النقاد. فاختاروا للأستاذ المازني اسم تيمورلنك وللأستاذ الزيات اسم الشاب الظريف. وللأستاذ علي الجندي اسم ابن المقنع! ولكاتب هذه السطور اسم حرحور! أما الأستاذ المازني فبراعة التسمية في أنه كان يدرس التاريخ وأنه كسميه صغير الجسم مصاباً بإحدى قدميه، وأنه مسيطر على التلاميذ، قلما يحتاج إلى معاقبة أحد منهم لخروجه على نظام الحصة، لأنه كان مهيباً بينهم قديراً على أخذهم بمهابتهم إياه قبل خوفهم من عقابهم؛ فجمعوا كل ذلك في اسم تيمورلنك أحسن جمع مستطاع وأما الأستاذ الزيات، فدماثته، وظرفه، ولطف حديثه، وأسلوبه الأدبي، وأناقة ملبسه، ترشحه لاسم الشاب الظريف أصدق ترشيح. وأما الأستاذ الجندي فقد لاحظ الخبثاء في تسميته بابن المقفع أنه نحيل هزيل، وأنه يدرس لهم كليلة ودمنة وقواعد البلاغة، فوفقوا بين ذلك كله أبرع توفيق! وأما كاتب هذه السطور فقد سموه (حرحور) باسم الكاهن الحكيم المصري الذي انتزع الملك على صعيد مصر قبل الميلاد بألف سنة؛ فلم تكفه أسرار الكهانة وحب الحكمة حتى طمح إلى الغلبة والسطوة.
ولم يفت الخبثاء في هذه التسمية أن كاتب هذه السطور من أقصى الصعيد حيث قامت دولة حرحور! وهو ما كانوا يذكرونه بينهم كلما أخذتهم بالشدة التي اشتهر بها أهل الصعيد الأقصى وفي براعة هذه التسميات شاهد على أن بداهة الجماهير لا تهبط بهم دائماً إلى ما دون طبقة الأفراد، بل ربما ارتفعت بهم أحياناً إلى طبقة من الزكانة لا يبلغها الفرد الممتاز في كل حين فاسم حرحور قد جمع من جديد ما فرقته أيام الصبا الباكر بين طالب الولاية وطالب القيادة وطالب الشعر والثقافة.
وقد دل من جديد على أن هذه الصور المختلفات لم تغب في أطواء العمر كل الغياب؛ فإلى جانب الروضة الأدبية لا يزال للثكنة مكان وللصومعة نصيب. ويسألني سائل: ولم تمنيت الأدب أو تمنيت المنزلة الأدبية؟ فأقول: إن (التعبير عن النفس) هو مزية الأدب والشعر والكتابة عامة، وهو في الوقت نفسه طريق إثبات النفس الذي يمثل الثكنة نحواً من التمثيل، ويمثل البحث عن الحقائق والأسرار من قريب. ويلوح لي أن التعبير عن النفس أو (إثبات النفس) عندي شيء لا أنساه حتى حين أكتب عن نبذ الشهوات وعن العبادة وعن الصيام قاصداً أو غير قاصد. ففي مقالي عن الصيام منذ ست عشرة سنة قلت سائلاً: (ولكن هل الصوم من دواعي إنكار الذات المتنبهة، أو هو من دواعي إثباتها وتوكيدها؟ وهل هو من أسباب نسيان النفس الشاعرة وسحق كبريائها، أو هو من أسباب تذكرها وتقرير وجودها؟) ثم قلت مجيباً: (أكاد أقول إن الصوم بجميع درجاته وأنواعه حيلة نفسية خفية لتقرير وجودها وتوكيد عزتها ورفض كل ما يسيء الظن بها في نظر صاحبها.
وما أيسر أن نعرف ذلك! حسبنا أن نراقب الحالة التي تناقض الصوم لنهتدي إلى الحقيقة من المقابلة بين النقيضين.
فانظر على سبيل المثال إلى أي رجل تعرفه ممن أرخوا العنان لشهواتهم وأجابوا نفوسهم إلى أهوائها واسترسلوا في الغواية بلا رادع ولا مقاومة، فهل ترى هذا الرجل (واجداً) نفسه مكرهاً لها، أو تراه مبتذلاً نفسه فاقداً لها في غمار شهواتها وتيار أهوائها؟ إنك لا ترى رجلاً كهذا إلا قد ارتسمت على وجهه علامة احتقار هي قبل كل شيء موجهة إلى نفسه.
ولست أعرف معنى للنفس في حالة الاستسلام والاسترسال التي نشاهدها فيمن يلبون حاجات نفوسهم ولا يقفون لها في شهوة من شهواتها؛ فإن حكم هؤلاء في هذه الحالة كحكم الخشبة المنساقة في تيار الماء، أو الريشة المتطايرة في الهواء؛ أي أنه هو حكم الجماد المفقود في تيه النواميس الكونية بلا إدراك ولا شعور ولا إرادة.
ولا يزال الإنسان شيئاً لا نفس له ولا استقلال لكيانه حتى يمتنع عن شيء يدفع إليه ويقف في وسط التيار الذي يحيط به.
فهناك يجد نفسه بعد إذ فقدها بالمطاوعة ونسيان الذات، ويشعر بمعنى رفيع هو أسمى معاني الحياة لم يسم إليه إلا الإنسان بين سائر الأحياء) وفحوى هذا جميعه أنني تمنيت الأدب لأنني تمنيت التعبير عن النفس، ولأن التعبير عن النفس يجتمع فيه عندي تحقيق وجودها ومتعتها واستكناه حقيقتها وحقيقة ما حولها، وليس فوق هذا المطلب من مطلب رفيع يتطلع إليه موجود شاعر بوجوده. عباس محمود العقاد