استغلال الوقت [2]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن طلاب العلم هم أولى الناس في حفظ الوقت والعناية به، فالطلاب بالخصوص عليهم أن يستشعروا نعمة الله عليهم بما آتاهم من القوة، وبما آتاهم من الشباب والفراغ، وبما أنعم عليهم به من التعود على تنظيم الوقت، فقد كانوا يستيقظون في الصباح الباكر، وكانوا في نشاط دائم، طيلة وقت الدراسة، فعليهم أن يستمروا على ذلك وأن يستغلوه بالطاعة، وأن يقسموا الأوقات تقسيمًا جادًا، فلا بد أن يجتهد كل إنسان منا ذكرًا أو أنثى، كبيرًا أو صغيرًا لاستغلال وقته وتنظيمه، فما لم ننظم الأوقات فلا بد أن تكون حجة علينا وحسرة وندامة يوم القيامة.

ترتيب وقت العلم

لكن إذا نظمناها فجعلنا وقتًا لتعلم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، يتعلمه الكبير والصغير والذكر والأنثى، والغني والفقير، والمشغول والفارغ: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20].

لم يعذر أحدًا، اقرءوا جميعًا ما تيسر منه، فكلٌ وما يليق به، من يليق به أن يجعل ربع وقته للتعلم فهذا فضل عظيم، وهذا سيكون أبلغ الناس في ذلك، ومن يليق به أن يجعل ثُمن وقته للتعلم فهذا أيضًا على خير، ومن لا يليق به ذلك يجعل ساعة من أربع وعشرين ساعة للتعلم، ومن لا يليق به ذلك جعل نصف ساعة للتعلم يوميًا، ومن لا يليق به ذلك جعل ربع ساعة للتعلم يوميًا، لكن لا يمكن أن يقصر عن هذا أحد، إلا من كان مغبونًا خاسرًا في صفقته، غبينًا يندم على الغبن عندما لا ينفع الندم.

ترتيب وقت العبادة

ثم بعد ذلك لا بد من وقت آخر أيضًا للعبادة، ولا يقصد بالعبادة هنا الفرائض وحدها، فهي غير كافية في هذا، وإن كانت الفرائض أعظم ما يتقرب به إلى الله، لكن لا بد من الزيادة عليها، فمن المعلوم أن زماننا هذا زمن الفتن، والإنسان المقصر ينظر بعينيه ما لا يجوز له النظر إليه، ويسمع ما لا يجوز له سماعه، ويأكل ما لا يجوز له أكله، ويأخذ ما لا يجوز له أخذه، ويترك ما لا يجوز له تركه، فلا بد في مقابل ذلك من الحسنات اللاتي يذهبن السيئات، فقد قال الله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، لا بد أن يطهر جوارحه بالطاعات والعبادات.

فإذا كان لكل إنسان منا وقت للطاعة، يخلو فيه بربه إن كان من أهل قيام الليل فبها ونعمت، يجتهد في وقت الإجابة في الثلث الأخير من الليل، عندما ينزل الرب إلى سماء الدنيا، ويقول: ( ألا من يستغفرني فأغفر له، ألا من يدعوني فأستجيب له، ألا من يسألني فأعطيه )، هذا الوقت وقت بركة عظيمة، ووقت تنافس شديد، والملائكة فيه يكتبون، فمن كان من أهله وكان من المبادرين لاستغلاله فهو رابح لا محالة، يستطيع أن يغطي كثيرًا مما عمله ومما جناه، ومما اكتسبه، فالحسنات يذهبن السيئات، وتكون تكفيرًا لما بدر منه في نهاره، ومن المعلوم أن الحسنة إذا تقبلت فإنها قد تقضي على الكبائر من الذنوب، فالفرار من الزحف من أكبر الكبائر، وبالأخص إذا كان عن رسول الله الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد انهزم عنه بعض المؤمنين يوم أحد، فكان ذلك كبيرة عظيمة، لكن الله عفا عنهم: فقال إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ [آل عمران:155]، وكل إنسان وقع في معصية من هذه المعاصي، فبالإمكان أن يكفرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان زلفها، ثم كان بعد ذلك القصاص، الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه).

ومن المعلوم أيضاً أن الوزن بالحق سيقام يوم القيامة، فإذا رجحت كفة حسنات الإنسان فلا ضير عليه، ولا تضره سيئاته، وإذا رجحت كفة السيئات فمعنى ذلك أنه لم يقدم لنفسه ما ينجيه، فلا بد حينئذٍ من العقاب إلا أن يتداركه الله بشفاعة الشافعين أو بشافعة أرحم الراحمين.

ومن هنا: فعلى الإنسان أن يجتهد في أن يكون له وقت من أربع وعشرين ساعة، يختص بعبادة خاصة يكتمها ويخفيها، وتكون مكفرة لسيئاته وما يكتسبه ويجترحه طيلة النهار من السيئات والتقصير.

فضل ركعتي الضحى

وإذا عرفنا أن ركعتين فقط في وقت الضحى يوميًا تقومان مقام ثلاثمائة وستين صدقة، كما بين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وجدنا أن هذا الأمر عظيم جدًا، ركعتان فقط، في وقت الضحى تصليهما بالكافرون والإخلاص، أو بالكافرون والنصر، أو تصلي الأولى بسورة الزلزلة والثانية بالكافرون والنصر، فتكون قد ختمت القرآن كاملًا في ركعتين، سورة الزلزلة تعدل نصف القرآن، و(قل يا أيها الكافرون) تعدل ربع القرآن، و(إذا جاء نصر الله) تعدل ربع القرآن، فإذا صليت ركعتين في الأولى بسورة (إذا زلزلت الأرض زلزالها) والثانية بالفاتحة، قل يا أيها الكافرون، وقل هو الله أحد تكون قد ختمت القرآن بكامله بركعتين قصيرتين، ويكتب لك هذا الثواب العظيم جدًا، ثلاثمائة وستين صدقة: ( كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس).

وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم: (أن الله فطر ابن آدم على ثلاثمائة وستين مفصلًا، كل مفصل عليه صدقة كل يوم تطلع فيه الشمس، ويجزئ من ذلك أن يصلي ركعتين في وقت الضحى)، ركعتان فقط تجزئان مقام هذا العدد الكبير من الصدقات، هذا الشيء الكثير، أنتم تعرفون أن الصدقة الواحدة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار، كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك، فكيف بثلاثمائة وستين صدقة.

فلذلك احرص على أن يكون لك حظ من كل أربع وعشرين ساعة تصلي فيه، وتحاول أن تنجو به من حر يوم الوعيد بركعتين تباعدان وجهك عن النار، تحاول أن يكون لك شيء من المناجاة ولذتها، تحاول أن تعفر وجهك لله سبحانه وتعالى شكرًا لنعمته واعترافًا بربوبيته وألوهيته، ورضًى بحكمه جل شأنه، فأشرف ما فيك وجهك وكفاك فعفرهما بالتراب، إيذانًا برضاك بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم ورسولًا، واحترامًا لدينك وتوقيرًا لربك جل جلاله، وإجلالًا لوجهه الكريم، وتعظيمًا له.

إمساك الزمام والحذر من مكائد الشيطان

إذا استطعت أن تزيد: فاعلم أن الشيطان سيحاول معك، يحاول أن تنقطع عن هذه العادة، فلذلك يجعلك في اليوم الأول تصلي مائة ركعة .. مائتي ركعة؛ لتنقطع في اليوم الثاني فلا تصلي شيئًا، حاول أن يكون عدداً معيناً ليس فيه مساومة، ولا يمكن أن يطلع الفجر أو أن تغرب الشمس إلا وقد انتهى هذا العدد، وأفضل ذلك ما كان في أول النهار وفي أول الليل؛ لأنك تمسك زمام النهار، كما قال الفضيل بن عياض : إنما يومك كالجمل فإذا أمسكت بزمامه لم يفتك، وإذا فاتك زمامه لم تمسكه، فحاول أن تمسكه من البداية، في وقت الضحى عند صلاة الأوابين عندما ترمض الفصال، أو عندما يباح النفل وذلك عندما ترتفع الشمس قيد رمح وتزول عنها الحمرة، فكن من المبادرين الأوابين في هذا الوقت، فصلّ لتملك زمام يومك.

فضل صلاة الليل

كذلك في الليل: إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا [المزمل:6]، احرص على أن تصلي ركعتين بعد المغرب، واحرص على أذكار المساء، واحرص كذلك على ركعتين بعد العشاء إذا رجعت إلى بيتك، واحرص على أن تصلي ما تيسر لك في الليل بعد أن تستيقظ، بأن تجافي بذلك جنبك عن فراشك: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ المَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ * فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ[السجدة:16-17]، قال أهل العلم في التفسير: في هذه الآية مناسبة عجيبة: وهي أنهم لما أخفوا أعمالهم فأخفوا صدقاتهم وأخفوا قيامهم، فالصدقة أفضلها أخفاها، وقيام الليل وقته وقت الظلام للإخفاء، فقال الله في جواب ذلك: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [السجدة:17]، فأخفي لهم الثواب بحيث لا يمكن أن يصل إليه أحد بتفكيره: (أعددت لعبادي ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر).

ترتيب الأوقات في الجانب الدعوي

ثم بعد ذلك احرص أيضًا على أن تكون لك مشاركة في شأن هذا الدين، وإعلاء كلمة الله، ونصرة هذا الدين وتبليغه، وإرشاد الناس إليه، فهذا الدين أمانة جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم من عند الله وبلغها، وأنت قامت الحجة عليك بها، فلا تستطيع أن تتنكر لها، وقد وظفك النبي صلى الله عليه وسلم وبين حقه عليك، فقال: (بلغوا عني ولو آية)، وقال: (ألا فليبلغ الشاهد منكم الغائب)، وقال: ( نضر الله امرأ سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقيه إلى من هو أفقه منه).

وقد أمرك الله سبحانه وتعالى في أمره لرسوله صلى الله عليه وسلم بأن تدعو إلى سبيله، وأن تبلغ فقال تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المُسْلِمِينَ [فصلت:33]، وقال تعالى: وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُشْرِكِينَ [القصص:87]، وقال تعالى: ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ [النحل:125]، وقال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللهِ وَمَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ [يوسف:108].

فحاول في كل يوم أن تسجل موقفًا تنصر فيه الله ورسوله، موقف واحد فيه أمر بمعروف أو نهي منكر، أو سعي لإظهار شعيرة من شعائر الدين، أو إحياء لسنة ميتة، أو نصرة لأهل الحق، أو إظهار لشعائر الإسلام أو تكثير للسواد، فكل ذلك من المواقف العظيمة التي تسجل لك، إذا سجلت في كل يوم نصرة لرسول صلى الله عليه وسلم، ونصرة لله بتكثير لسواد المسلمين أو بأمر بمعروف أو نهي عن منكر، أو تبليغ سنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو عمل بسنة ميتة، أو إماتةٍ لبدعة، فإنك بذلك تكون قد أديت واجبًا عليك، وكتبت في المجاهدين في ذلك اليوم.

إعطاء كل ذي حق حقه

كذلك احرص على أداء الحقوق التي عليك قبل فوات الأوان، وهذه التبعات التي تقعد بالإنسان عن الطاعات، وتقعد به عن المنازل العالية بادر لردها قبل فوات الأوان.

حق الوالدين، حقهما عظيم جدًا، تعاهدهما في كل يوم، وحاول أن تحسن إليهم امتثالًا لأمر الله، في كل يوم تطلع فيه الشمس بإحسان جديد، ونوع أنواع الإحسان إليهما حتى تنال برهما، وحتى تتقرب منهما، ولا تكن كالذين يقتصرون على ما تعودوا عليه من المرور في الصبا، فيكون برورهم قاصرًا عند ذلك الحد، فحاول أن تكون صاحب إبداع، كل يوم لك مجاملة للوالدين وإحسان شديد لم يعهداه منكم من قبل، كلما تقدمت به من السن وجدا فيك من البر ولين الجانب ما يولهان به، كما قال الرجل في وصف ولده في ذكره لـرباط يقول:

رأيت رباطًا حين تم شبابه وأودى شبابي ليس في بره عطب

لنا جانب منه يلين وجانب ثقيل على الأعداء مركبه صعب

وتأخذه عند المكارم هزة كما اهتز تحت البارح الفنن الرطب

فحاول أن تكون محسنًا إلى والديك، سواء كان في الأحياء أو في الأموات، في الأموات أيضًا إبداعك في كل يوم بالتفنن بصلة أرحامهما، ووصل قراباتهما والقيام بكل عمل صالح كانا يحبانه، وإنفاذ وصيتهما، والدعاء لهما والصدقة عنهما، كل ذلك مما يكون إبداعًا في برهما بعد الممات.

كذلك أداء حق الزوجة والزوج، فقد أوصى الله بهما: وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ [النساء:36]، الصاحب بالجنب، الزوج والزوجة، فلا بد أيضًا من الإبداع أيضًا في أداء التبعة وأداء الحق، فكل واحد منهما له على الآخر حقوق، كما قال الله تعالى: وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ [البقرة:228]، فلابد من أداء تلك الحقوق والتبعات، والسعي للإبداع في الإحسان الذي أمر الله به.

كذلك الجيران: (ما زال جبريل يحثني على الجار حتى ظننت أنه سيورثه)، وكثير منا الآن لا يعرف جيرانه الأدنين، ولا يهتم باهتماماتهم ولا يؤمل آمالهم، ولا يتألم لآمالهم، والجار حقه عظيم إن كان مؤمنًا فله حقان، وإن كان كافرًا فله حق.

ثم بعد ذلك أداء حقوق الأقربين الذين أمر الله بالإحسان إليهم، حتى بالوصية لهم: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ المَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ [البقرة:180]، وما يتعلق بالوالدين نسخ، ولكن بقيت الوصية للأقربين.

( والنبي صلى الله عليه وسلم لما أتاه أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه، فذكر أنه سمع قول الله تعالى: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]، وإنه لا يملك مالًا هو خير من بيرحاء، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعلها في ذوي القربى، فوزعها بين ذوي قرابته )، فهذه صلة الرحم التي هي حق عظيم: ( لما قضى الله خلق الخلق، قامت الرحم فتعلقت بساق العرش، فقالت: يا رب! هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال: أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك)، وقد قال الله تعالى: فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ[محمد:22-23].

وقد قال البخاري رحمه الله: صلة الرحم إشراك القرابات فيما أوتي الإنسان من أنواع الخيرات، فإذا أوتي علمًا يعلمهم، وإذا أوتي دعوة صالحة يدعو لهم، وإذا أوتي مالًا يعطيهم، وإذا أوتي جاهًا يشفع لهم .. وهكذا، فيسعى الإنسان بصلتهم؛ لأن الحقوق الدنيوية تقعد بالإنسان عن المقامات العالية، وقد يثقل ظهر الإنسان بكثرة ما تحمله من الديون والحقوق، فلا يوفق للطاعات العالية والمقامات الكبيرة، لكن إذا تخلص من التبعات استطاع الإسراع على الطريق، وكان من السابقين الذين قال الله فيهم: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [فاطر:32-33].

لكن إذا نظمناها فجعلنا وقتًا لتعلم ما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من عند الله، يتعلمه الكبير والصغير والذكر والأنثى، والغني والفقير، والمشغول والفارغ: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ [المزمل:20].

لم يعذر أحدًا، اقرءوا جميعًا ما تيسر منه، فكلٌ وما يليق به، من يليق به أن يجعل ربع وقته للتعلم فهذا فضل عظيم، وهذا سيكون أبلغ الناس في ذلك، ومن يليق به أن يجعل ثُمن وقته للتعلم فهذا أيضًا على خير، ومن لا يليق به ذلك يجعل ساعة من أربع وعشرين ساعة للتعلم، ومن لا يليق به ذلك جعل نصف ساعة للتعلم يوميًا، ومن لا يليق به ذلك جعل ربع ساعة للتعلم يوميًا، لكن لا يمكن أن يقصر عن هذا أحد، إلا من كان مغبونًا خاسرًا في صفقته، غبينًا يندم على الغبن عندما لا ينفع الندم.

ثم بعد ذلك لا بد من وقت آخر أيضًا للعبادة، ولا يقصد بالعبادة هنا الفرائض وحدها، فهي غير كافية في هذا، وإن كانت الفرائض أعظم ما يتقرب به إلى الله، لكن لا بد من الزيادة عليها، فمن المعلوم أن زماننا هذا زمن الفتن، والإنسان المقصر ينظر بعينيه ما لا يجوز له النظر إليه، ويسمع ما لا يجوز له سماعه، ويأكل ما لا يجوز له أكله، ويأخذ ما لا يجوز له أخذه، ويترك ما لا يجوز له تركه، فلا بد في مقابل ذلك من الحسنات اللاتي يذهبن السيئات، فقد قال الله تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]، لا بد أن يطهر جوارحه بالطاعات والعبادات.

فإذا كان لكل إنسان منا وقت للطاعة، يخلو فيه بربه إن كان من أهل قيام الليل فبها ونعمت، يجتهد في وقت الإجابة في الثلث الأخير من الليل، عندما ينزل الرب إلى سماء الدنيا، ويقول: ( ألا من يستغفرني فأغفر له، ألا من يدعوني فأستجيب له، ألا من يسألني فأعطيه )، هذا الوقت وقت بركة عظيمة، ووقت تنافس شديد، والملائكة فيه يكتبون، فمن كان من أهله وكان من المبادرين لاستغلاله فهو رابح لا محالة، يستطيع أن يغطي كثيرًا مما عمله ومما جناه، ومما اكتسبه، فالحسنات يذهبن السيئات، وتكون تكفيرًا لما بدر منه في نهاره، ومن المعلوم أن الحسنة إذا تقبلت فإنها قد تقضي على الكبائر من الذنوب، فالفرار من الزحف من أكبر الكبائر، وبالأخص إذا كان عن رسول الله الكريم صلى الله عليه وسلم، وقد انهزم عنه بعض المؤمنين يوم أحد، فكان ذلك كبيرة عظيمة، لكن الله عفا عنهم: فقال إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ [آل عمران:155]، وكل إنسان وقع في معصية من هذه المعاصي، فبالإمكان أن يكفرها؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العبد إذا أسلم فحسن إسلامه محا الله عنه كل سيئة كان زلفها، ثم كان بعد ذلك القصاص، الحسنة بعشر أمثالها، والسيئة بمثلها إلا أن يتجاوز الله عنه).

ومن المعلوم أيضاً أن الوزن بالحق سيقام يوم القيامة، فإذا رجحت كفة حسنات الإنسان فلا ضير عليه، ولا تضره سيئاته، وإذا رجحت كفة السيئات فمعنى ذلك أنه لم يقدم لنفسه ما ينجيه، فلا بد حينئذٍ من العقاب إلا أن يتداركه الله بشفاعة الشافعين أو بشافعة أرحم الراحمين.

ومن هنا: فعلى الإنسان أن يجتهد في أن يكون له وقت من أربع وعشرين ساعة، يختص بعبادة خاصة يكتمها ويخفيها، وتكون مكفرة لسيئاته وما يكتسبه ويجترحه طيلة النهار من السيئات والتقصير.