خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/975"> الشيخ محمد الحسن الددو الشنقيطي . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/975?sub=4846"> سلسلة المحاضرات
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
مصدر عزة المسلم [2]
الحلقة مفرغة
الذين ذاقوا طعم هذا الإيمان، وأدركوا أن الاتصال بالله سبحانه وتعالى به تحصل العزة، لا يمكن أن يتأثروا بأي ضغط من الضغوط، ولا أن ينساقوا وراء أي عدوٍ من أعداء الله سبحانه وتعالى، وقد قال العلامة مولود بن أحمد الجواد رحمه الله في أبياته المشهورة:
أستودع الحافظ المستودع الوالي ديني ونفسي وإخواني وأموالي
وأسأل المتعالي أن يوفقني وأن يسدد أفعالي وأقوالي
أنا الضعيف فذاك الضعف يرحمه ربي القوي فكان الضعف أقوى لي
ما ذل ما ذل من بالله عز وكم ذل العزيز بأعمام وأخوالِ
وكم رأينا ذليلاً بعد عزته من عزه بالموالي أو بالا موال
متى تفز بموالاة الإله يد فعاد يا أيها المخلوق أو والي
إن موالاة الله سبحانه وتعالى تقتضي من الإنسان أن يعلم أنه لا نافع ولا ضار إلا هو وحده، وأن يسلك منهجه الذي ارتضى له، وأن يعلم أنه معه أين ما كان، فالله سبحانه وتعالى قال لـموسى وهارون: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، وقد خاطب المؤمنين بقوله: وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ [الحديد:4]، وقال تعالى: مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ [المجادلة:7].
التعرف إلى الله في الرخاء
إن الذي يريد معية الله سبحانه وتعالى ونصرته وتمكينه، لا بد أن يكون مع الله في كل أحواله، ولا بد أن يعلم أنه في حال جلوته مثله في حال خلوته، وأنه ينبغي أن يكون إقباله على الله في حال السراء مثل إقباله عليه في حال الضراء، ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة )، فالذي يتعرف إلى الله في الرخاء هو الذي ينال مثل هذه المواقف ومثل هذا التشريف بالثبات العظيم في وقت الاحتكاك والمحن، أما الذي لا يعرف الله سبحانه وتعالى إلا في وقت الشدة، فحاله حال المشركين الذين إذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعونه إلا الله، وحينئذٍ يرفعون عقائرهم بالدعاء يدعون الله كحال فرعون عندما أدركه الغرق: قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ [يونس:90]، آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِينَ [يونس:91].
فلا بد من التعرف إلى الله في الرخاء، حتى ينال الإنسان ذلك التثبيت وذلك النصر في الشدة، لا بد أن يكون الإنسان مع الله سبحانه وتعالى في حال النعمة، إذا أنعم عليه كان معه في حال النعمة، فلم تغوه هذه النعمة ولم يطغ من أجلها، إن العبد الذي لا يعرف الله إلا في حال مرضه وفي حال ضعفه وفي حال مسكنته وفقره، يلجأ إلى الله فقط في تلك الأوقات، لا يمكن أن ينال ذلك الفرج الذي يناله الموحدون الصادقون الذين عرفوا الله في الرخاء فتعرف إليهم في الشدة، إن على الإنسان منا أن يتذكر أن الله سبحانه وتعالى جعل على هذا الطريق عقبات كثيرة، وأنها أمامه تنتظره، ما لم يصبه اليوم سيصيبه غداً وبالتالي فهو يفكر في ثباته أمام هذه الصدمات، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمرأة التي وجدها تبكي عند قبر صبي لها: ( يا أمة الله اتق الله واصبري، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمثل مصيبتي، فقيل لها: ويلكِ إنه رسول الله، فجاءت تعتذر إليه وقالت: يا رسول الله والله ما عرفتك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى)، فلا بد أن يستحضر الإنسان أن الصبر عند الصدمة الأولى، ولذلك قال علي رضي الله عنه عندما سئل عن الشجاعة قيل: ما الشجاعة؟ قال: صبر ساعة، أن يوطن الإنسان نفسه على الصبر في مواطن اللقاء، وأن يعلم أن تلك المصائب قد أصابت من هو خير منه، وأنها إذا أصابته هو فلا ضرر، أليس نوح عليه السلام قد صبر على المصائب والمحن والأذى ألف سنة إلا خمسين عاماً، أليس أكرم على الله منا نحن، أليس إبراهيم قد رمي به في النار، أليس محمد صلى الله عليه وسلم قد لقي من أنواع الأذى الشيء الكثير، فقد جعل عقبة بن أبي معيط السلا على ظهره بين كتفيه وهو ساجد لربه، وجاء هو و أبو جهل فجعل حبلاً في عنقه وتجاذباه، وهو يصلي، حتى جاء أبو بكر فضربهما بمنكبيه وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ لقي من أنواع الأذى الشيء الكثير، فلذلك لا بد أن نعرف نحن أننا سالكون لطريقه، وأننا لا بد أن نلقى بعض ما لقي، فقد قال الله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186]، فلذلك لا تتوقعوا أن أمور الدين ستبقى هكذا يجلس الإنسان في الظل مستريحاً في مسجد يسمع محاضرة مثلاً، ويكون بهذا من أنصار الله، بهذا القدر فقط، بل لا بد أن تتذكروا قول الله تعالى : فَاسْتَجَابَ لَهمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ [آل عمران:195]، هذه شروط رب العزة، فَاسْتَجَابَ لَهمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:195]، وقد قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3]، فلا بد أن يستشعر الإنسان أن أمامه كثيراً من الفتن والبلايا في طريق الحق، وأنه مستعد للصبر والمصابرة على هذا الطريق، كما قال الحكيم:
يمثل ذو اللب في لبه مصائبه قبل أن تنزلا
فإن نزلت بغتة لم ترعه لما كان في نفسه مثلا
وذو الجهل يأمن أيامه وينسى مصارع من قد خلا
فإن دهمته صروف الزمان ببعض مصائبه أعولا
فلا بد أن يستحضر الإنسان طريق الذين سلكوا هذا الطريق قبله، وأنها ليست محفوفة بالورود، بل هي مليئة بالأشواك، وهذا الصراط الدنيوي الذي نسير عليه، هو تمثيل للصراط الأخروي، الذي هو أرق من الشعر وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، ومن كان أثبت على هذا الصراط الدنيوي كان أثبت على الصراط الأخروي.
فلذلك علينا جميعاً أن نحرص على تحسين علاقتنا بالله سبحانه وتعالى، والاتصال به والتوكل عليه والتعرف عليه في الرخاء، وأن نستحضر أن أمامنا كثيراً من المحن على هذا الطريق، وأن نوطن أنفسنا على الصبر عند مجيء المصائب، وأن نعلم أنها ليست في أيدي المخلوقين وإنما هي في يد الله، فالمخلوق لا يستطيع أن يرفع شيئاً لا يستطيع أن يرفع ضرراً ولا أن ينزله، إنما ذلك كله بيد الله سبحانه وتعالى وأمره.
تجسيد الحقائق الإيمانية واقعياً في الأعمال
إن هذه الحقائق التي نؤمن بها لا بد أن نجسدها واقعياً في أعمالنا، فلا يكفي أن تقول: أنا مؤمن بالقدر خيره وشره، مؤمن بأنه رفعت الأقلام وجفت الصحف، حتى تأتي إلى نتيجة الإيمان بالقدر، فقد ذكر الله القدر في آية وذكر نتيجته في آية بعدها، فقال تعالى: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ [الحديد:22]، هذا القدر، ثم قال: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ [الحديد:23]
فهذه نتيجة الإيمان بالقدر، وهي: (لكي لا تأسوا على ما فاتكم)، والأسى: الحزن، (ولا تفرحوا بما آتاكم): فإذا حقق الإنسان هذه النتيجة فعلاً كان مؤمناً بالقدر خيره وشره، أما إذا لم يحققها فسيكون مثل الذين يلهجون بقول لا يدركون حقيقته ولا معناه، كالذي يلقن كلاماً، فيعيده كالببغاء.
إن علينا أن نعلم أن الذين نالوا هذه العزة بالاتصال بالله سبحانه وتعالى في المواقف العظيمة، إنما كانوا أولياء الله في حال الرخاء، وكانوا من المطيعين لأوامره، المجتنبين لنواهيه، فالله سبحانه وتعالى حقق لهم الموعود؛ لأنه علم من قلوبهم الصدق، ولذلك فلابد أن نصدق مع الله سبحانه وتعالى في شأننا كله، وأن نعلم أن العزة بدينه هي العزة الحقيقية، فالأنساب والأحساب التي يتعزز بها الناس كلها منقطعة ولا معنى لها، فالناس لـآدم و آدم من تراب، ومن كان يتعزز بنسب في هذه الحياة الدنيا، أليست هذه الحياة فانية قصيرة، وذلك النسب سينقطع بمجرد النفخ في الصور، فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ [المؤمنون:101]، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ [المؤمنون:102]، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [المؤمنون:103]، تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ [المؤمنون:104].
ترك التعذر بغير المشروع
إن التفاخر بأنساب الدنيا ووظائفها لا معنى له، فهو منقطع زائل في أسرع الأوقات، ولذلك انظروا إلى الذين يدفنون في هذه الأرض، فالقطع المتجاورة تجد فيها قبر الملك وقبر السوقة، وقبر الغني وقبر الفقير، وقبل العالم وقبر الجاهل، وهم سواء، قبورهم جميعاً سواء، قد انقطعت أخبارهم بمجرد مواراتهم في التراب، فنعلم أن القبر إما أن يكون روضة من رياض الجنة، وإما أن يكون حفرة من حفر النار، ولا يمكن أن يعرف ذلك من خلال ظاهره وما نراه فوقه، فالقبر الذي توضع فوقه الفسيفساء أو يوضع عليه الزخارف أو تغرس عليه الأشجار، والقبر الذي ليس فوقه علامة سواء، فليست العبرة بظاهر الأرض، بل الإنسان في باطنها، وقد عرض عليه مصيره هنالك: وَبَدَا لَهمْ مِنَ اللهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ [الزمر:47].
إن الإنسان إذا أدرك هذا عرف أن ما يتعزز به الناس من شئون هذه الدنيا ليس له أثر في العزة، وعرف أن العزة الحقيقية هي عندما يبيض الله وجهه حتى يسير في النور مسيرة خمسمائة عام، ويعطيه كتابه بيمينه تلقاء وجهه، ويجوّزه على الصراط كالبرق الخاطف، ويحول بينه وبين أعدائه بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب، ثم بعد ذلك يدخله جنات النعيم، فهذا هو الفوز العظيم، وإذا ناله الإنسان فوالله لا يضره ما فاته من أمور الدنيا، بل ابيض وجهه يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وأخذ كتابه بيمينه فوالله لا يضره احتقار الناس له في الدنيا، أو أنه عاش فقيراً أو عاش ضعيفاً أو محتقراً في هذه الحياة الدنيا فلا يضره ذلك.
أعمار الإنسان الخمسة
وقد بينت لكم أن أعمار الإنسان خمسة: عمره الأول: عمر الذر، عندما مسح الله ظهر آدم فأخرج ذريته، فقال: ألست بربكم؟ قالوا: بلى، وهذا العمر طويل والتكليف فيه فقط للتوحيد: ألست بربكم، أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ [يس:60]، وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ [يس:61].
والعمر الثاني: عمر الإنسان فوق هذه الأرض، وهو أقصر أعماره وهو عمر التكليف.
والعمر الثالث: عمره في البرزخ في بطن الأرض، وهو طويل إذا ما قورن بعمره فوقها.
والعمر الرابع: عمره على الساهرة في المحشر، وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ [الحج:47].
والعمر الخامس: هو العمر الأبدي السرمدي في جنة أو في نار، فإذا كان الإنسان يعلم أن مدة مذلته وهوانه هي مدة هذا العمر الدنيوي القصير، وحتى كل ما فيه لا يدوم، حتى المذلة فيه لا تدوم، والنعيم فيه لا يدوم، إذا أدرك الإنسان ذلك هان عليه هذا في مقابل ما يرجوه عند الله سبحانه وتعالى، في الموقف عندما يجعل الله المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين، وكذلك عندما يدخلون الجنة فيتجلى لهم الباري سبحانه وتعالى من فوقهم فيقول: سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ [يس:58]، فلا بأس عليهم حينئذٍ ولو لقوا من أنواع الأذى ما لقوا في هذه الحياة الدنيا.
التخلص من التعززات الشيطانية الباطلة
إن علينا جميعاً أن نتعزز للانتماء لله سبحانه وتعالى والامتثال لدينه، وأن نتخلص من كل ما يلقيه الشيطان علينا من أنواع التعززات الباطلة، فالتعزز بالقبيلة من أمر الجاهلية، وقد كان أهل الجاهلية يتعززون بقبائلهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعزى عليكم بعزاء الجاهلية فأعضوه بهن أبيه ولا تكنوا)، وكانوا كذلك يتعززون بالأموال والأولاد، فقال الله سبحانه وتعالى: ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا [المدثر:11]، وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا [المدثر:12]، وَبَنِينَ شُهُودًا [المدثر:13]، وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا [المدثر:14]، ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ [المدثر:15] كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا [المدثر:16]، سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا [المدثر:17]، وصعود: جبل من جبال النار، ويرهقه: يحمل على ظهره يوم القيامة، نسأل الله السلامة والعافية، سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا [المدثر:17]، فلذلك لا بد أن نتخلص نحن من أغلال الجاهلية كلها، فلا بد أن نعلم أن الفضل بين الناس إنما هو بتقوى الله، فمن يخاف الله عز وجل ويخشى عقوبته ويتقي سخطه هو الذي يستحق العزة، ومن لا يخاف الله لا خير فيه، فالبهائم خير منه، فإنها على الأقل غير مكلفة فليست عاصية، ومكانة البهيمة خير منه، فلا شك أنه لا يمكن أن يتعزز، من كان حماره خيراً منه، كيف يتعزز!
إدراك أن القيم الحقيقية هي القيم المشروعة
إن علينا أن ندرك أن القيم الحقيقية هي ما بينه الله في كتابه، فقد قال: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات:13]، فمن كان أتقى لله فهو الأكرم الأرفع عند الله سبحانه وتعالى ولا نبالي بنسبه، فسيفر الناس جميعاً من آبائهم وأمهاتهم وأزواجهم وأولادهم يوم القيامة: يَوْمَ يَفِرُّ المَرْءُ مِنْ أَخِيهِ [عبس:34]، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ [عبس:35]، وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ [عبس:36]، لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ [عبس:37]، يَوَدُّ المُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ [المعارج:11] وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ [المعارج:12]، وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ [المعارج:13]، وَمَنْ فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ [المعارج:14]، فإذا عرف الإنسان ذلك هان عليه كل هذه الأمور التي يتعزز بها للناس في الحياة الدنيا، وكذلك إذا تذكر سرعة زوالها فكم رأينا من عزيز في الدنيا قد أصبح مدفوعاً بالأبواب، ألا تذكرون أن كثيراً من الرؤساء والملوك الذين كان لهم الأمر النافذ، وكان الناس يرهبونهم في المكاتب، ها هم اليوم يردون عن المكاتب التي كانت تابعة لهم، وكانوا يعينون علينا من شاءوا ويصرفون عنها من شاءوا، وها هم اليوم يدفعون عنها على الأبواب.
ألا ترون أن الذين كانوا أغنياء وبالأخص الذين كانوا يأخذون المال من غير حله، قد منع كثير منهم من ذلك فلم يستفيدوا منه أي شيء، بل عاش كثير منهم فقراء، لا يملكون شيئاً بعد أن كانوا أغنياء، إن من عرف ذلك أدرك أن ما يتعزز به الناس من أمور هذه الدنيا ليس شيء منه باقياً، وأن البقاء للباقيات الصالحات، كما قال الله تعالى: وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف:46]، وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا [مريم:76]، والباقيات الصالحات: هي الحسنات التي يتقبلها الله سبحانه وتعالى، فهي الباقية التي لا تذهب كذهاب أمور الدنيا، وهي صالحة لأنها لا تمرض ولا تصاب بالمصائب، فهي موفورة كاملة عند الله سبحانه وتعالى.
نسأل الله سبحانه وتعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يعزنا بدينه وأن يعز دينه بنا، وأن يجعلنا في قرة عين نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وأن يلزمنا التمسك بسنته عند فساد أمته، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آلة وأصحابه أجمعين، وسأستقبل بعض الأسئلة.
إن الذي يريد معية الله سبحانه وتعالى ونصرته وتمكينه، لا بد أن يكون مع الله في كل أحواله، ولا بد أن يعلم أنه في حال جلوته مثله في حال خلوته، وأنه ينبغي أن يكون إقباله على الله في حال السراء مثل إقباله عليه في حال الضراء، ( تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة )، فالذي يتعرف إلى الله في الرخاء هو الذي ينال مثل هذه المواقف ومثل هذا التشريف بالثبات العظيم في وقت الاحتكاك والمحن، أما الذي لا يعرف الله سبحانه وتعالى إلا في وقت الشدة، فحاله حال المشركين الذين إذا مسهم الضر في البحر ضل من يدعونه إلا الله، وحينئذٍ يرفعون عقائرهم بالدعاء يدعون الله كحال فرعون عندما أدركه الغرق: قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ المُسْلِمِينَ [يونس:90]، آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ المُفْسِدِينَ [يونس:91].
فلا بد من التعرف إلى الله في الرخاء، حتى ينال الإنسان ذلك التثبيت وذلك النصر في الشدة، لا بد أن يكون الإنسان مع الله سبحانه وتعالى في حال النعمة، إذا أنعم عليه كان معه في حال النعمة، فلم تغوه هذه النعمة ولم يطغ من أجلها، إن العبد الذي لا يعرف الله إلا في حال مرضه وفي حال ضعفه وفي حال مسكنته وفقره، يلجأ إلى الله فقط في تلك الأوقات، لا يمكن أن ينال ذلك الفرج الذي يناله الموحدون الصادقون الذين عرفوا الله في الرخاء فتعرف إليهم في الشدة، إن على الإنسان منا أن يتذكر أن الله سبحانه وتعالى جعل على هذا الطريق عقبات كثيرة، وأنها أمامه تنتظره، ما لم يصبه اليوم سيصيبه غداً وبالتالي فهو يفكر في ثباته أمام هذه الصدمات، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمرأة التي وجدها تبكي عند قبر صبي لها: ( يا أمة الله اتق الله واصبري، فقالت: إليك عني، فإنك لم تصب بمثل مصيبتي، فقيل لها: ويلكِ إنه رسول الله، فجاءت تعتذر إليه وقالت: يا رسول الله والله ما عرفتك، فقال: إنما الصبر عند الصدمة الأولى)، فلا بد أن يستحضر الإنسان أن الصبر عند الصدمة الأولى، ولذلك قال علي رضي الله عنه عندما سئل عن الشجاعة قيل: ما الشجاعة؟ قال: صبر ساعة، أن يوطن الإنسان نفسه على الصبر في مواطن اللقاء، وأن يعلم أن تلك المصائب قد أصابت من هو خير منه، وأنها إذا أصابته هو فلا ضرر، أليس نوح عليه السلام قد صبر على المصائب والمحن والأذى ألف سنة إلا خمسين عاماً، أليس أكرم على الله منا نحن، أليس إبراهيم قد رمي به في النار، أليس محمد صلى الله عليه وسلم قد لقي من أنواع الأذى الشيء الكثير، فقد جعل عقبة بن أبي معيط السلا على ظهره بين كتفيه وهو ساجد لربه، وجاء هو و أبو جهل فجعل حبلاً في عنقه وتجاذباه، وهو يصلي، حتى جاء أبو بكر فضربهما بمنكبيه وهو يقول: أتقتلون رجلاً أن يقول ربي الله؟ لقي من أنواع الأذى الشيء الكثير، فلذلك لا بد أن نعرف نحن أننا سالكون لطريقه، وأننا لا بد أن نلقى بعض ما لقي، فقد قال الله تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ [آل عمران:186]، فلذلك لا تتوقعوا أن أمور الدين ستبقى هكذا يجلس الإنسان في الظل مستريحاً في مسجد يسمع محاضرة مثلاً، ويكون بهذا من أنصار الله، بهذا القدر فقط، بل لا بد أن تتذكروا قول الله تعالى : فَاسْتَجَابَ لَهمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ [آل عمران:195]، هذه شروط رب العزة، فَاسْتَجَابَ لَهمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ [آل عمران:195]، وقد قال تعالى: أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ [العنكبوت:2]، وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ [العنكبوت:3]، فلا بد أن يستشعر الإنسان أن أمامه كثيراً من الفتن والبلايا في طريق الحق، وأنه مستعد للصبر والمصابرة على هذا الطريق، كما قال الحكيم:
يمثل ذو اللب في لبه مصائبه قبل أن تنزلا
فإن نزلت بغتة لم ترعه لما كان في نفسه مثلا
وذو الجهل يأمن أيامه وينسى مصارع من قد خلا
فإن دهمته صروف الزمان ببعض مصائبه أعولا
فلا بد أن يستحضر الإنسان طريق الذين سلكوا هذا الطريق قبله، وأنها ليست محفوفة بالورود، بل هي مليئة بالأشواك، وهذا الصراط الدنيوي الذي نسير عليه، هو تمثيل للصراط الأخروي، الذي هو أرق من الشعر وأحد من السيف، وعليه كلاليب كشوك السعدان، يتفاوت الناس عليه بحسب أعمالهم، ومن كان أثبت على هذا الصراط الدنيوي كان أثبت على الصراط الأخروي.
فلذلك علينا جميعاً أن نحرص على تحسين علاقتنا بالله سبحانه وتعالى، والاتصال به والتوكل عليه والتعرف عليه في الرخاء، وأن نستحضر أن أمامنا كثيراً من المحن على هذا الطريق، وأن نوطن أنفسنا على الصبر عند مجيء المصائب، وأن نعلم أنها ليست في أيدي المخلوقين وإنما هي في يد الله، فالمخلوق لا يستطيع أن يرفع شيئاً لا يستطيع أن يرفع ضرراً ولا أن ينزله، إنما ذلك كله بيد الله سبحانه وتعالى وأمره.