شرح الاقتصاد في الاعتقاد للمقدسي [12]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله: [ والإيمان بأن الإيمان قول وعمل ونية يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، قال الله تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة:124]، وقال عز وجل: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4]، وقال عز وجل: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر:31]، وروى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون -وفي رواية: بضع وستون- شعبة، والحياء شعبة من الإيمان)، ولـمسلم وأبي داود : (فأفضلها قول: لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق) ].

الإيمان عند أهل السنة والجماعة قول وعمل ونية، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية فهو أربعة أشياء:

قول القلب وهو تصديقه وإقراره، وقول اللسان وهو نطقه، وعمل القلب وهو النية والإخلاص والصدق والمحبة، وعمل الجوارح كالصلاة والصيام وغيرها. هذا هو مسمى الإيمان عند أهل السنة والجماعة، والإيمان عندهم يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فإذا أطاع الإنسان ربه ازداد إيمانه، وإذا عصى نقص إيمانه، وللعلماء عبارات في هذا، منها:

الإيمان قول باللسان وتصديق بالجنان وعمل بالأركان -يعني: الجوارح- يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.

ومنها: الإيمان قول وعمل ونية، والقول يشمل قول القلب وهو تصديقه وإقراره، وقول اللسان وهو النطق، والعمل يشمل عمل القلب مع النية والإخلاص، وعمل الجوارح مع النية، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، فهو يزيد وينقص.

استدل المؤلف للزيادة بقوله عز وجل: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا [التوبة:124] وقوله سبحانه: لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ [الفتح:4]، وقال عز وجل: وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا [المدثر:31] وروى أبو هريرة رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الإيمان بضع وسبعون -وفي رواية: بضع وستون- شعبة، والحياء شعبة من الإيمان)، هذا يدل على أن الأعمال كلها داخلة في مسمى الإيمان، والحياء شعبة من الإيمان، فالحياء عمل قلبي، ولـمسلم وأبي داود : (فأفضلها قول: لا إله إلا الله وأدناها إماطة الأذى عن الطريق)، إذاً: الإيمان بضع وستون أو بضع وسبعون -والبضع من ثلاثة إلى تسعة- كلها داخلة في مسمى الإيمان، أعلاها كلمة التوحيد لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، وبين الأدنى والأعلى شعب متفاوتة، منها ما يقرب من شعبة الشهادة: كالصلاة والزكاة والصوم والحج؛ فالصلاة شعبة، والصوم شعبة، والزكاة شعبة، والحج شعبة، والأمر بالمعروف شعبة، والنهي عن المنكر شعبة، وبر الوالدين شعبة، وصلة الرحم شعبة.. وهكذا أعلاها كلمة التوحيد وأدناها إماطة الأذى عن الطريق.

(والحياء شعبة من الإيمان) أي: الحياء شعبة قلبية، والشعبة القولية مثل قول لا إله إلا الله، والشعبة العملية مثل إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة قلبية وهي من الإيمان، وخالف في ذلك المرجئة وهم أقسام، فأقربهم مرجئة الفقهاء ومنهم الإمام أبو حنيفة وأصحابه، والمشهور عن الإمام أبي حنيفة أن الإيمان شيئان: تصديق القلب والإقرار باللسان فقط، وأما عمل القلب والجوارح فليسا من الإيمان، ولكنهم يوافقون جمهور أهل السنة في أن الطاعات مطلوبة، ومرتكب الكبيرة يستحق العقوبة، إلا أنهم لا يسمونها إيماناً؛ إذ الأعمال لا تجتمع في مسمى الإيمان.

والرواية الثانية عن الإمام أبي حنيفة : أن الإيمان هو تصديق القلب، وأما الإقرار باللسان فهو ركن زائد، وهذا مذهب الماتريدية.

وذهبت الكرامية إلى أن الإيمان هو النطق باللسان فقط، فمن نطق بالشهادتين فهو مؤمن كامل الإيمان، وإن كان مكذباً في الباطن يكون منافقاً مخلداً في النار، وهذا من تناقضهم، ويلزم على قولهم أن يكون المؤمن كامل الإيمان مخلداً في النار، فإذا نطق باللسان يقولون: هذا مؤمن كامل الإيمان، وإن كان مكذباً بقلبه يخلد في النار، فيجمعون بين متناقضين.

وأفسد منه مذهب الجهمية الذين يقولون: الإيمان هو معرفة الرب بالقلب، والكفر هو جهل الرب بالقلب، فعلى مذهب الجهمية يكون إبليس مؤمناً؛ لأنه يعرف ربه بقلبه، وفرعون مؤمن لأنه يعرف ربه بقلبه، إبليس يقول كما حكى الله عنه: قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي [ص:79] فهو يعرف ربه بقلبه، وفرعون يعرف ربه بقلبه، يقول الله عن موسى أنه قال: قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الإسراء:102]، واليهود مؤمنون على مذهب الجهم قال تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، وأبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم الذي مات على الشرك مؤمن على مذهب الجهم؛ لأنه القائل:

ولقد علمت بأن دين محمد من خير أديان البرية ديناً

فتكون المرجئة أربع طوائف، أفسدها: مذهب الجهم القائلون بأن الإيمان معرفة الرب بالقلب، والكفر جهل الرب بالقلب، ويلزم على هذا المذهب أن يكون إبليس وفرعون واليهود وأبو طالب مؤمنين.

يليه في الفساد المذهب الثاني وهو مذهب الكرامية، وهو أن الإيمان هو النطق باللسان فقط، فإذا نطق بلسانه فإنه مؤمن كامل الإيمان، وهو مخلد في النار إذا كان مكذباً بقلبه.

المذهب الثالث: مذهب الماتريدية والأشاعرة: أن الإيمان هو تصديق بالقلب فقط، وهو رواية عن أبي حنيفة .

المذهب الرابع: مذهب مرجئة الفقهاء: أن الإيمان شيئان تصديق بالقلب، وإقرار باللسان.

قال المؤلف رحمه الله: [ والاستثناء في الإيمان سنة ماضية، فإذا سئل الرجل: أمؤمن أنت؟ قال: إن شاء الله.

روي ذلك عن عبد الله بن مسعود وعلقمة بن قيس والأسود بن يزيد وأبي وائل شقيق بن سلمة ومسروق بن الأجدع ومنصور بن المعتمر وإبراهيم النخعي ومغيرة بن مقسم الضبي وفضيل بن عياض وغيرهم.

وهذا استثناء على يقين، قال الله عز وجل: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ ].

الاستثناء في الإيمان سنة ماضية، فإذا قيل للرجل: أمؤمن أنت؟ قال: إن شاء الله، فأهل السنة والجماعة يرون أنه لابد من الاستثناء في الإيمان، ويكون الاستثناء راجع إلى العمل لا إلى تصديق القلب، فإذا قيل: أمؤمن أنت؟ فقل: إن شاء الله، يعني: بالنسبة للعمل؛ لأن الأعمال والواجبات متعددة، فلا يجزم الإنسان بأنه أدى ما عليه، بل يتهم نفسه ولا يزكيها بأنه أدى ما عليه، أما بالنسبة للتصديق فالاستثناء لا يرجع إلى التصديق، ولهذا فإن أهل السنة والجماعة يرون أنه يجوز الاستثناء بالنسبة للعمل لا بالنسبة لأصل الإيمان، ولهذا فإن بعض السلف إذا قيل له: أمؤمن أنت؟ قال: نعم. آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله.

وأما المرجئة فلا يستثنون في الإيمان؛ لأن الإيمان عندهم شيء واحد لا يزيد ولا ينقص، ويسمون أهل السنة الشكاكة؛ لأنهم يستثنون في إيمانهم.

وأما أهل السنة فيفصلون؛ فإن كان الاستثناء راجعاً إلى أصل الإيمان فإن هذا الاستثناء ممنوع، إما إذا أردت أن شعب الإيمان متعددة، والواجبات كثيرة، ولا تريد أن تزكي نفسك، ولا تدري بأنك أديت ما عليك، بل تتهم نفسك فقل: أنا مؤمن إن شاء الله، وكذلك إذا أراد الإنسان التبرك بذكر اسم الله فيقول: إن شاء الله، وكذلك إذا أراد عدم العلم بالعاقبة، وأن العاقبة لا يعلمها إلا الله جاز الاستثناء، أما إذا شك في الإيمان فإن هذا ممنوع، ولهذا يقول المؤلف: [ والاستثناء في الإيمان سنة ماضية، فإذا سئل الرجل أمؤمن أنت؟ قال: إن شاء الله، روي هذا عن عبد الله بن مسعود وعلقمة بن قيس والأسود بن يزيد وأبي وائل شقيق بن سلمة ومسروق بن الأجدع ومنصور بن المعتمر وإبراهيم النخعي ] وهؤلاء الأخيار كلهم من التابعين.

يقول المؤلف: [ وهذا استثناء على يقين] يعني: أن الاستثناء في الإيمان لا يعني الشك في أصل الإيمان؛ لأن المستثني إذا أراد الشك في أصل الإيمان فهذا ممنوع، وإذا أراد العمل فلا بأس، قال الله عز وجل: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح:27]، هذا استثناء، فالله استثنى وهو لا يشك سبحانه وتعالى، ولهذا قال الله تعالى: لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ [الفتح:27]، قال أبو بكر الآجري رحمه الله: إن أهل العلم يستثنون في الإيمان لا على جهة الشك، نعوذ بالله من الشك في الإيمان، ولكن خوف التزكية لأنفسهم، ولاستكمال الإيمان، لا يدري أهو ممن استحق حقيقة الإيمان أم لا؛ وذلك أن أهل العلم والحق إذا سئلوا: أمؤمن أنت؟ قال: آمنت بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والجنة والنار، وأشباهها، والناطق بهذا والمصدق به بقلبه مؤمن، وإنما الاستثناء في الإيمان لأنه لا يدري أهو ممن يستوجب ما نعت الله عز وجل به المؤمن من حقيقة الإيمان أم لا. هذا طريق الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم بإحسان الاستثناء في الأعمال الموجبة لحقيقة الإيمان.

قال المؤلف رحمه الله: [ والإيمان هو الإسلام وزيادة، قال الله عز وجل: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، وروى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت)، فهذه حقيقة الإسلام، وأما الإيمان فحقيقته ما رواه أبو هريرة فيما قدمناه، وروى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: (أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وأنا جالس، وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم رجلاً هو أعجبهم إلي، فقمت فقلت: ما لك عن فلان؟! والله إني لأراه مؤمناً! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً؟ ذكر ذلك سعد ثلاثاً، وأجابه بمثل ذلك، ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه)، قال الزهري : فنرى أن الإسلام الكلمة والإيمان العمل الصالح.

قلنا: فعلى هذا قد يخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرج من الإسلام إلا إلى الكفر بالله عز وجل ].

الإيمان هو الإسلام وزيادة، والإيمان أكمل من الإسلام، ولهذا فإن الإيمان يراد به أداء الواجبات وترك المحرمات، والإيمان لا يطلق إلا على المطيع، أما العاصي فيطلق عليه اسم الإسلام، ولا يطلق عليه اسم الإيمان، فالإيمان أعلى من الإسلام، وأعلى منه الإحسان، فكل محسن مؤمن، وليس كل مؤمن محسناً، وكل مؤمن مسلم وليس كل مسلم مؤمناً، فالمؤمن الذي أدى الواجبات وترك المحرمات يقال له: مسلم، ويقال له: مؤمن، وأما المسلم فإن كان مطيعاً سمي مؤمناً، وإن كان عاصياً سمي مسلماً، ولا يسمى مؤمناً بإطلاق، بل لابد من القيد، فإن الإيمان هو الإسلام وزيادة، قال الله عز وجل: قَالَتِ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، وجه الدلالة: أن الأعراب قالوا: آمنا وهم ما زالوا ضعفاء إيمان دخلوا في الإسلام حديثاً، فقالوا: آمنا، فرد الله عليهم: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14] أي: لم تصلوا إلى درجة الإيمان؛ لأنكم دخلتم في الإسلام من جديد، وما تمكن الإيمان في قلوبكم: قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا [الحجرات:14]، فدل على أن الإسلام هو الإيمان وزيادة.

ومسمى الإسلام استدل له المؤلف رحمه الله بحديث عبد الله بن عمر في الصحيحين: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصيام شهر رمضان، وحج البيت)، يقول: فهذه حقيقة الإسلام، والأعمال الصالحة كالنطق بالشهادتين والصلاة والصوم والحج، والإيمان حقيقته فيما رواه أبو هريرة : (الإيمان بضع وسبعون شعبة -أو بضع وستون- فأعلاها قول لا إله إلا الله، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان)، هذه حقيقة الإيمان.

إذاً: الإيمان شعب كثيرة تصل إلى بضع وسبعون، والبيهقي رحمه الله تتبع هذه الشعب وأوصلها إلى تسع وسبعين، وألف كتاباً سماه: شعب الإيمان.

إذاً: الإيمان حقيقته بضع وسبعون شعبة، والإسلام حقيقته الأعمال، واستدل المؤلف رحمه الله على أن الإسلام غير الإيمان، وأن الإيمان أكمل من الإسلام، وهو استسلام وزيادة، بحديث سعد بن أبي وقاص قال: (أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم رهطاً وأنا جالس، وترك رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً هو أعجبهم إلي)، أعطاه يعني: نفله من الغنيمة أو أخذ له من الأعطيات: (فقلت: ما لك عن فلان يا رسول الله ما أعطيته؟ والله إني لأراه مؤمناً! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أو مسلماً؟) يعني: ما وصل إلى مرتبة الإيمان، (ذكر ذلك سعد ثلاث مرات، وأجابه النبي بمثل ذلك، ثم قال: إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكب في النار على وجهه) فالنبي صلى الله عليه وسلم يعطي الرجل وغيره أحب إليه مخافة أن يرتد عن دينه فيكبه الله في النار، فيعطيه النبي صلى الله عليه وسلم من الدنيا حتى يتقوى إيمانه؛ لأنه لو لم يعط لارتد، فيكبه الله على وجهه في النار، فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما يعطي ليتألف على الإسلام، لا عن هوى أو محاباة، فقوي الإيمان قد لا يعطيه، وضعيف الإيمان يعطيه حتى يتقوى إيمانه.

الشاهد: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أو مسلماً) دل على أن الإسلام غير الإيمان، قال الزهري رحمه الله: فنرى أن الإسلام هو كلمة التوحيد وهي النطق بالشهادتين، والإيمان العمل الصالح، يقول الزهري : الإسلام هو النطق بالشهادتين، والإيمان هو العمل، مقصود الزهري أن الأعمال لا تدخل في مسمى الإسلام، فالمقصود: أن الكافر إذا نطق بالشهادتين حكم بإسلامه، وإلا فحديث ابن عمر دل على أن العمل داخل في مسمى الإسلام؛ فقد ذكر فيه الشهادتين والصلاة والزكاة والصوم والحج.

ومتى يخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام؟ إذا عصى خرج من الإيمان إلى الإسلام فصار مسلماً وليس مؤمناً، فإذا كان مطيعاً يؤدي الواجبات، ويجتنب المحرمات، فإنه مؤمن بإطلاق، وإذا عصى خرج من الإيمان إلى الإسلام، فيسمى مسلماً ولا يسمى مؤمناً، أو يسمى مؤمناً بالقيد لا بإطلاق، فيقال: مؤمن ضعيف الإيمان، مؤمن ناقص الإيمان، مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، وإذا كان مطيعاً سمي مؤمناً بإطلاق، فعلى هذا قد يخرج الرجل من الإيمان إلى الإسلام، ولا يخرج من الإسلام إلا إلى الكفر بالله عز وجل، نعوذ بالله من ذلك.

وذهب بعض العلماء إلى أن الإيمان والإسلام مترادفان، وهما اسمان لشيء واحد، ذهب إلى هذا محمد بن نصر المروزي وابن عبد البر والإمام البخاري، هذا هو القول الأول.

والقول الثاني: التفريق بينهما، وهو أن الإيمان هو أعمال القلوب، والإسلام هو أعمال الجوارح.

والقول الثالث: أنه تختلف دلالتهما بالاجتماع والافتراق، فإن افترقا فإنهما يشملان الأعمال الظاهرة والأعمال الباطنة، وإن اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالأعمال الباطنة كما في حديث جبريل؛ فإنه سأله عن الإسلام ففسره بالأعمال الظاهرة، وسأله عن الإيمان ففسره بالأعمال الباطنة، فإذا اجتمعا افترقا وإذا افترقا اجتمعا، وهذا هو الصواب: أنه تختلف دلالتهما بالاجتماع والافتراق.

فإذا أطلق الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإذا أطلق الإسلام وحده دخل فيه الإيمان، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالأعمال الباطنة، فمثلاً: (الإيمان بضع وسبعون شعبة)، يدخل فيه الإسلام: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ [آل عمران:19] يدخل فيه الإيمان، فإذا ذكر الإسلام وحده دخل فيه الإيمان، وإذا ذكر الإيمان وحده دخل فيه الإسلام، وإذا اجتمعا فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة والإيمان بالأعمال الباطنة، كما في حديث الترمذي . هذا هو الصواب الذي تدل عليه النصوص والذي عليه المحققون.

قال المؤلف رحمه الله: [ ونؤمن بأن الدجال خارج في هذه الأمة لا محالة؛ كما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصح عنه.

وأن عيسى بن مريم عليه السلام ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيأتيه وقد حصر المسلمون على عقبة أفيق، فيهرب منه فيقتله عند باب لد الشرقي، ولد من أرض فلسطين بالقرب من الرملة على نحو ميلين منها ].

من عقيدة أهل السنة والجماعة: الإيمان بأن الدجال خارج في هذه الأمة لا محالة، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح به الخبر، والدجال رجل من بني آدم يخرج في آخر الزمان يدعي أولاً أنه رجل صالح، ثم يدعي النبوة، ثم يدعي الربوبية، فيقول للناس: أنا الرب، وسمي الدجال لكثرة دجله وكذبه، والدجال صيغة مبالغة، فهو الدجال الأكبر.

والسحرة الموجودون الآن كلهم دجاجلة صغار، لكن الدجال الذي يحكم في آخر الزمان، هو آخرهم وأكبرهم، وهو من أشراط الساعة الكبار التي تتبعها الساعة مباشرة، وقبله المهدي، وهو رجل من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم اسمه كاسم النبي صلى الله عليه وسلم، واسم أبيه كاسم أبي النبي صلى الله عليه وسلم يبايع له بين الركن وباب الكعبة، في وقت ليس للناس فيه إمام، والفتن والحروب كثيرة، وأهل السنة والجماعة تحصرهم الفتن في الشام.

ففي زمن المهدي يخرج الدجال، والملاحم في أيام المهدي قائمة بين المسلمين وبين اليهود والنصارى، وآخرها فتح القسطنطينية، ويعلق المؤمنون سيوفهم على شجر الزيتون، فيصيح الشيطان: إن الدجال قد خلفكم في أهليكم، فيخرج الدجال، وهو على هذه الصفة، أعور العين اليمنى كأن عينه عنبة طافية، مكتوب بين عينيه كافر، يقرؤه كل مؤمن، معه جنة ونار يجري الله على يديه خوارق العادات الكثيرة، منها أنه يأمر السماء فتمطر والأرض فتنتج، ومنها أنه يأتي إلى الجبال فتتبعه كنوزها، ويأتي إلى الرجل الذي لا يؤمن به فيقطعه نصفين، ويمشي بين القطعتين، ثم يقول له: قم، فيحييه الله فيقول له: مه، أما تؤمن بي؟ قال: ما ازددت فيك إلا بصيرة فأنت الدجال، ويدخل كل بلد إلا مكة والمدينة، فإن الملائكة تصف حولها تمنع الدجال من دخولها، ويأتي إلى المدينة فينعق ثلاث نعقات فيخرج إليه كل كافر وكافرة وكل منافق ومنافقة وكل خبيث وخبيثة، فعند ذلك تنفي المدينة خبثها ولا يبقى فيها إلا المؤمنون، فيتبعون الدجال، نسأل الله السلامة والعافية.

ويمكث في الأرض أربعين يوماً، اليوم الأول طوله سنة، تطلع الشمس ولا تغيب إلا بعد ثلاثمائة وستين يوماً، واليوم الثاني طوله شهر تطلع الشمس فلا تغيب إلا بعد ثلاثين يوماً، واليوم الثالث طوله أسبوع تطلع الشمس ولا تغيب إلا بعد سبعة أيام، وبقية الأيام كأيامنا، وسئل النبي صلى الله عليه وسلم ماذا نصنع في الصلوات في الأيام الثلاثة؟ قال: (اقدروا له قدره)، كل أربعة وعشرين ساعة خمس صلوات، والأحاديث في هذا كثيرة، منها حديث النواس بن سمعان وهو حديث طويل، ذكر فيه النبي صلى الله عليه وسلم قصة الدجال، وفيه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عبد الله بن عمرو - قام في الناس خطيباً عليه الصلاة والسلام وذكر الدجال ، فقال: إني لأنذركموه، وما من نبي إلا وقد أنذره قومه، ولكن سأقول لكم فيه قولاً لم يقله نبي لقومه: إنه أعور، وإن الله ليس بأعور)، فأخذ العلماء من حديث الدجال إثبات العينين للرب؛ لأن الدجال أعور العين اليمنى، والله تعالى له عينان سليمتان سبحانه وتعالى، والأحاديث في هذا كثيرة، ومذهب أهل السنة والجماعة والمحدثين والفقهاء إثبات الدجال.

وأنكر الدجال الخوارج والمعتزلة والجهمية والجبائي المعتزلي وموافقيه، وقال بعضهم: إن الدجال خروجه صحيح، ولكن الذي يدعيه مخارق وخيالات لا حقائق لها.

وذكر النووي رحمه الله نقلاً عن عياض هذا في شرحه على صحيح مسلم وقال: (إن أحاديث الدجال حجة في مذهب أهل الحق في صحة وجوده، وأنه شخص بعينه ابتلى الله به عباده، وأقدره على أشياء من مقدورات الله تعالى، من إحياء الميت الذي يقتله، ومن ظهور زهرة الدنيا والخصب معه، وجنته وناره) معه صورة الجنة والنار، فالذي يعصيه يضعه في النار التي يراها الناس وهي الجنة حقيقة، والذي يطيعه يضعه في الجنة التي يراها الناس الجنة وهي النار حقيقة.

يقول: (من ظهور زهرة الدنيا والخصب معه، وجنته وناره ونهريه، واتباع كنوز الأرض له، وأمره السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، فيقع كل ذلك بقدرة الله ومشيئته، ثم يعجزه الله بعد ذلك فلا يقدر على قتل ذلك الرجل ولا غيره، ويبطل أمره ويقتله عيسى) في النهاية يقتله عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام، ينزل عيسى بن مريم من السماء فيقتل الدجال قال تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ [إبراهيم:27].

ولا شك أن فتنته فتنة عظيمة، وجاء في صحيح مسلم : (ما بين خلق آدم وقيام الساعة أمر أعظم وأكبر من الدجال)، فهو فتنة عظيمة ويأتي إلى أهل البادية الذين يطيعونه من الابتلاء والامتحان، وتكون أنعامهم سمينة وضروعها ممتلئة باللبن، والذين لا يطيعونه يصبحون جوعى وتموت أنعامهم، هذا من الابتلاء والامتحان، نسأل الله السلامة والعافية.

وبعض الناس أنكر الدجال والعياذ بالله، وأنكر نزول عيسى بن مريم، وهناك رجل يقال له: محمد فهيد أبو هيثم يقول: إن الدجال يمثل صورة الباطل، ونزول عيسى بن مريم يمثل صورة الحق، وإلا لا يوجد دجال ولا عيسى! فهؤلاء الذين يعتمدون على عقولهم العقلانيون ينكرون الدجال وينكرون عيسى، فيعملون بعقولهم وأهوائهم.

قال المؤلف رحمه الله: [ وأن عيسى بن مريم عليه السلام ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق ] نزول عيسى بن مريم ثابت في القرآن وفي السنة، قال الله تعالى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا [النساء:159].

وثبت في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تقوم الساعة حتى ينزل عيسى بن مريم)، وفي لفظ: (لا تقوم الساعة حتى ينزل عيسى بن مريم حكماً مقسطاً وإماماً عدلاً فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ويفيض المال حتى لا يقبله أحد).

ينزل حكماً مقسطاً يحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، ويكون فرداً من أفراد الأمة المحمدية: (حكماً مقسطاً) يعني: عادلاً (وإماماً عدلاً فيكسر الصليب) الصليب الذي يعبده النصارى يكسره عيسى، مبالغة في إبطال ما هم عليه، إذ يكسر الصليب ويقتل الخنزير الذي يأكلونه، ويضع الجزية أي: لا يقبل الجزية، ولا يقبل إلا الإسلام أو السيف.

وعيسى عليه الصلاة والسلام ينزل ويحكم بشريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيكون نبياً ومن هذه الأمة، فأفضل هذه الأمة بعد نبيها عيسى وهو نبي، ثم يليه أبو بكر الصديق، وكل نبي يأخذ الله عليه الميثاق: لئن بعثت محمداً وأنت حي لتؤمنن به ولتتبعنه.

إذاً: عيسى ينزل بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فيكون فرداً من أفراد الأمة المحمدية؛ لأن شريعة نبينا صلى الله عليه وسلم ناسخة لجميع الشرائع؛ فلهذا يقول: وأن عيسى بن مريم ينزل على المنارة البيضاء شرقي دمشق، فيأتيه وقد حصر المسلمون على عقبة أُفَيق ] أفيق هذه بلدة بين دمشق وطبرية، وهي عقبة طويلة نحو ميلين، كما ذكر في تاج العروس قال: [ فيهرب منه -يعني: الدجال يهرب من عيسى- فيقتله عند باب لد الشرقي، (ولد) من أرض فلسطين بالقرب من الرملة على نحو ميلين منها ] وجاء في الحديث الآخر أن الدجال إذا رأى عيسى ذاب كما يذوب الملح في الماء، ولو تركه لمات، لكنه يقتله عند باب لد.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ونؤمن بأن ملك الموت أرسل إلى موسى عليه السلام فصكه ففقأ عينيه كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا ينكره إلا ضال مبتدع راد على الله ورسوله.

ونؤمن بأن الموت يؤتى به يوم القيامة فيذبح، كما روى أبو سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح، فينادي منادٍ: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادي: يا أهل النار! فيشرئبون وينظرون فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت وكلهم قد رآه فيذبح، ثم يقول: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت، ثم قرأ: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم:39]) ].

يقول المؤلف رحمه الله: ونؤمن بأن ملك الموت أرسل إلى موسى عليه الصلاة والسلام فصكه ففقأ عينه كما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا ثابت في الحديث الذي رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (أرسل ملك الموت إلى موسى عليه الصلاة والسلام فلما جاء صكه ففقأ عينه).

وهذا ثابت؛ لأن أهل السنة والجماعة يؤمنون بما ثبت في كتاب الله وما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولهذا قال المؤلف: لا ينكره إلا ضال مبتدع راد على الله ورسوله، فهؤلاء المبتدعة والملاحدة لا يؤمنون إلا بما تهواه عقولهم، تجدهم يطعنون في الأحاديث الصحيحة ويؤولونها بتأويلات باطلة، والواجب على المسلم التصديق بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم وصح عنه اعتقاده؛ لأن ذلك من الإيمان بالغيب الذي أطلع الله عليه رسوله، ولهذا نقل النووي عن المازري أنه قال: (وقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث) حديث أن موسى صك ملك الموت ففقأ عينه، قال: (فقد أنكر بعض الملاحدة هذا الحديث وأنكروا تصوره، قالوا: كيف يجوز على موسى فقأ عين ملك الموت؟ وأجاب بعض العلماء عن هذا بأجوبة:

أحدها: أنه لا يمتنع أن يكون موسى عليه الصلاة والسلام قد أذن الله له في هذه اللطمة، ويكون ذلك امتحاناً للملطوم، والله سبحانه يفعل في خلقه ما يشاء ويمتحنهم بما أراد، أو أن موسى عليه الصلاة والسلام لم يعلم أنه ملك من عند الله، وظن أنه رجل قصده يريد نفسه، فدافعه عنها فأدت المدافعة إلى فقء عينه لا أنه قصدها بالفقأ، وهذا جواب الإمام أبي بكر بن خزيمة وغيره من المتقدمين.

وقال ابن قتيبة : (لما تمثل ملك الموت لموسى عليه السلام وهذا ملك الله وهذا نبي الله، وجاذبه لطمه موسى لطمة أذهبت العين التي هي تخييل وتمثيل وليست حقيقة، وعاد ملك الموت إلى حقيقة خلقته الروحانية كما كان لم ينتقص منه شيء).

نحن نؤمن بأن موسى عليه الصلاة والسلام صك عينه، ومن المعلوم أن الملك أعطاه الله قدرة على التشكل والتصور، قال تعالى: جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ [فاطر:1]، جبريل عليه السلام جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صور متعددة، كان يأتي في صورة دحية الكلبي وكان رجلاً جميلاً، وجاء في صورة رجل أعرابي يسأل عن الإسلام والإيمان والإحسان، ورآه في الصورة التي هو عليها مرتين مرة في الأرض ومرة في السماء له أجنحة، فالملك أعطاه الله قدرة على التشكل.

والأقرب والله أعلم أنه ما علم أنه ملك، كما أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام جاءته الملائكة في صورة رجال ولم يعلم أنهم ملائكة في صورة رجال، وجاء بهم إلى بيته يظن أنهم ضيوف، ومال إلى أهله سريعاً وجاء بعجل سمين، وشوى لهم العجل وقدمه إليهم، لكنهم لم يمدوا أيديهم إليه، فخاف منهم، وأنكر أنهم لا يأكلون! وإذا الضيف لم يأكل فهذا يُخشى أن يكون جاء لشر، فقالوا: نحن الملائكة لا نأكل ولا نشرب، أخبروه وجاءوه في صورة لم يعرفهم فيها، وجاءوا إلى لوط، ولم يعلم لوط أيضاً أنهم ملائكة في صورة رجال، فليس ببعيد أن يكون ملك الموت أتى موسى ولم يعلم أنه ملك.

يقول المؤلف: كما صح عن النبي لا ينكره إلا ضال مبتدع راد على الله وعن رسوله، ونؤمن بأن الموت يؤتى به يوم القيامة فيذبح، كذلك أنكر هذا بعض أهل البدع، قالوا: كيف يذبح الموت والموت أمر معنوي؟!

نقول: إن هؤلاء هم العقلانيون الذين لا يؤمنون إلا بما تهواه عقولهم، ويتأولون النصوص فهؤلاء يتبعون أهواءهم، والواجب على المسلم أن يؤمن بما ثبت في كتاب وبما صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله قادر على جعل المعاني أجساماً وعلى قلب الأعراض أجساماً، وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:284]؛ ولهذا ثبت في الحديث الذي رواه الشيخان الذي ذكره المؤلف رحمه الله في حديث أبي سعيد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يؤتى بالموت كهيئة كبش أملح فينادي منادٍ: يا أهل الجنة! فيشرئبون وينظرون) يشرئبون: يعني: يمدون أعناقهم ويرفعون رءوسهم بالنظر، فيقول: (هل تعرفون هذا؟ فيقولون: هذا الموت، وكلهم قد رآه، ثم ينادى: يا أهل النار! فيشرئبون ينظرون، فيقول: هل تعرفون هذا؟ فيقولون: نعم، هذا الموت، وكلهم قد رآه، فيذبح ثم يقال: يا أهل الجنة! خلود فلا موت، ويا أهل النار، خلود فلا موت)، وهذا بعد خروج العصاة من النار، وجاء في اللفظ الآخر: (فيزداد أهل الجنة نعيماً إلى نعيمهم، ويزداد أهل النار حسرة إلى حسرتهم)، نعوذ بالله.

(ثم قرأ: وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ [مريم:39]) والحديث صحيح رواه الشيخان البخاري ومسلم رحمهما الله ورواه غيرهما، رواه الترمذي وأحمد في المسند والآجري في الشريعة، قال الترمذي : والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك بن أنس وابن المبارك وابن عيينة ووكيع وغيرهم، أنهم رووا هذه الأشياء، ثم قالوا: نروي هذه الأحاديث ونؤمن بها، ولا يقال: كيف؟ وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تروى هذه الأشياء كما جاءت، ويؤمن بها ولا تفسر ولا نتوهم، ولا يقال: كيف! يعني: لا تفسر التفسير المخالف لظاهرها، وهذا عمل أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه.

ومعنى قوله: لا تفسر أي: لا يكتب لها تفسير مخالف لمعناها، يقصدون عدم تفسيرها بخلاف ظاهرها الذي تدل عليه.

بيان ما يمر بالإنسان من أحداث يوم القيامة

السؤال: نرجو التكرم بترتيب الأمور التي تمر بالإنسان يوم القيامة، فهل ورود الحوض قبل الشفاعة؟ وهل الميزان قبل الصحف؟ ومتى يكلم الله عز وجل عباده بلا ترجمان؟ نرجو ترتيب هذه الأمور التي تحصل.

الجواب: أولاً: يوم القيامة يبعث الله الأجساد، ينزل الله مطراً تنبت منه أجساد الناس، وينشئون تنشئة غير تنشئة الدنيا، والذوات هي نفسها الذوات، فإذا كمل نباتهم أمر الله إسرافيل أن ينفخ في الصور النفخة الثانية، إذ إن النفخة الأولى هي التي يموت فيها الناس، ثم يمكث الناس أربعين، ثم ينزل الله مطراً تنبت فيه أجساد الناس، ثم يأمر الله إسرافيل فينفخ في الصور نفخة البعث، فتأتي الأرواح إلى أجسادها، ومعلوم أن الأرواح باقية لا تموت في نعيم أو في عذاب، فتدخل كل روح في جسدها، فيقوم كل واحد ينفض التراب عن رأسه، ويقفون بين يدي الله للحساب سراعاً، حفاة لا نعال عليهم، عراةً لا ثياب عليهم، غرلاً -جمع أغرل- غير مختونين، وتدنو الشمس من رءوسهم ويزاد في حرارتها، ويشتد الكرب بالناس، ويسألون الأنبياء الشفاعة، ويذهبون إلى آدم ثم نوح ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ثم نبينا عليه الصلاة والسلام، ثم يشفع نبينا صلى الله عليه وسلم، يشفعه الله فيقضي الله بين الخلائق، يحاسبهم في وقت واحد، لا يلهيه شأن عن شأن سبحانه وتعالى، فنحن نعرف أن ابن آدم الضعيف لا يستطيع التكلم مع اثنين في وقت واحد، لكن الرب سبحانه وتعالى يحاسب الخلائق في وقت واحد، ويفرغ سبحانه وتعالى من حسابهم في قدر منتصف النهار، وفي وقت القيلولة يدخل أهل الجنة الجنة، قال سبحانه: أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24] وبعد الحساب تعطى الصحف وتتطاير بالأيمان وبالشمائل وتوزن الموازين ويرد الناس على الحوض، واختلف العلماء في الترتيب.

فمن العلماء من قال: الميزان قبل الحوض، ومنهم من قال: الحوض قبل الميزان، والأقرب أنه أولاً: الحساب ثم الورود على الحوض ثم الميزان بعد ذلك؛ لأنه لو كان الميزان قبل ذلك لكان من خف ميزانه لا يرد على الحوض، وقد ثبت أنه يرد على الحوض أناس لا يعلمون فيطردون، فالترتيب يكون الحساب ثم الحوض ثم الميزان وتطاير الصحف، ثم بعد ذلك المرور على الصراط، فمن تجاوز الصراط صعد إلى الجنة، ومن سقط سقط في النار نعوذ بالله.

ثم بعد ذلك دخول الجنة، ثم بعد دخول العصاة النار تكون الشفاعة فيهم، ثم بعد ذلك الاستقرار في الجنة أو في النار نسأل الله السلامة والعافية.

الجنة والنار باقيتان لا تفنيان

السؤال: هناك أسئلة كثيرة حول فناء الجنة والنار وما ينسب إلى شيخ الإسلام من هذا الأمر، وبعض أهل البدع يذكر أن ابن تيمية قال: إن الجنة والنار تفنيان بعد مدة معينة، نرجو توضيح هذا؟

الجواب: لا، لكن ابن القيم رحمه الله وجد له في كتاب الروح وفي غيره ما يدل على هذا، والظاهر أن له قولين: قول بفنائها وقول بعدم فنائها، والصواب: عدم فنائها، وأما شيخ الإسلام رحمه الله فإن النصوص عنه كثيرة عن شيخ الإسلام رحمه الله تدل على أنه يرى أن النار باقية لا تفنى.

الإيمان اعتقاد بالقلب وقول وعمل

السؤال: هناك من يقول: إن الأعمال شرط لصحة الإيمان، ويصف من يقول: إن العمل شرط كمال في الإيمان بأنه مرجئ، وهناك من يقول: إنه شرط كمال ويصف هؤلاء بأنهم خوارج! نرجو توضيع المسألة.

الجواب: الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، فالذي يقول: إن الأعمال غير داخلة في مسمى الإيمان هذا من المرجئة كما سبق، فالمرجئة المحضة الذين هم الجهمية يرون أن الأعمال غير مطلوبة، ومرجئة الفقهاء يرون أنها ليست داخلة في مسمى الإيمان.

وأهل السنة يقولون: الإيمان مكون من هذه الأمور: قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالقلب وعمل بالجوارح، كل هذه أركان الإيمان، وداخلة في مسمى الإيمان، فالذي يقول: إن العمل خارج أو قال: إنه شرط كمال هذا من المرجئة.

والخوارج والمعتزلة يرون أن الأعمال داخلة في مسمى الإيمان مثل أهل السنة، لكن يقولون: إنه إذا نقص شيء من العمل انتهى الإيمان، وإذا فعل معصية انتهى الإيمان وخرج إلى الكفر ودخل فيه وخلد في النار، وأهل السنة يقولون: لا، إذا فعل معصية يضعف إيمانه ولا يخرج من الإيمان ولا يكفر ولا يخلد في النار.

تولي الله سبحانه حساب عباده

السؤال: رجل مسلم شرب الخمر ثم بعدما شرب سجد لغير الله ومات على ذلك -نسأل الله العافية والسلامة-، هل هذا الرجل مات على الكفر أم على الإسلام؛ لأنه فقد عقله؟

الجواب: أمره إلى الله هو الذي يتولى حسابه، نسأل الله السلامة والعافية.

بيان معنى الإيمان في اللغة والشرع

السؤال: ما رأيكم في تعريف الإيمان بأنه لغة: التصديق، وهل صحيح أن شيخ الإسلام اعترض على ذلك؟ نرجو إيضاح هذا.

الجواب: نعم، الإيمان في اللغة أصله التصديق، وأما في الشرع فكما سمعت: قول باللسان وتصديق بالقلب وعمل بالقلب وعمل بالجوارح.

الأحناف المرجئة الفقهاء استدلوا بالمعنى اللغوي قالوا: إن الإيمان هو التصديق، قال الله تعالى عن إخوة يوسف: وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا [يوسف:17] أي: مصدق، فقالوا: إن الإيمان هو التصديق، فقالوا: هو التصديق بالقلب فقط، استدلوا بالمعنى اللغوي، لكن أهل السنة قالوا: جاء الشرع ببيان مسمى الإيمان.

دخول الجنة لايكون إلا بالتوحيد

السؤال: ذكرتم أن من قال: إن رجلاً يدخل الجنة بلا عمل هذا من أهل الزيغ ومن أهل البدع، فمن المقصود بقائل هذه المقولة؟

الجواب: ليس هو المقصود، فالمقصود: ليس هناك من يدخل الجنة بدون عمل يعني: بدون توحيد، لا أحد يدخل الجنة إلا بالتوحيد، وليس المقصود أشخاصاً معينين، فنحن لا نتكلم في أشخاص، فالله تعالى قال: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [النحل:32]، فلا أحد يدخل الجنة إلا بالتوحيد، والتوحيد لابد فيه من صلاة، فمن لم يصل فليس بموحد، فلا يدخل الجنة؛ لأن الصلاة شرط في صحة التوحيد، كما لو توضأ ثم أحدث بطل وضوءه، فكذلك إذا قال: لا إله إلا الله ولم يصل بطلت كلمة التوحيد، فمن شرطها الصلاة، ولا يمكن لأحد أن يدخل الجنة بدون عمل إلا من نطق بالشهادتين ثم مات ولم يتمكن من العمل.

حكم وضع جريدة على القبر لتخفيف العذاب عن صاحبه

السؤال: ما رأيكم فيمن يضع على القبر جريدة من نخل ويعتقد أن ذلك يخفف العذاب عن صاحب القبر؟

الجواب: لا، هذا باطل، هذا من خصائص الرسول عليه الصلاة والسلام، فقد مر بقبرين فقال: إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير.. ثم وضع جريدة فالله أطلعه على ذلك، وأنت هل تعلم الغيب حتى تضع جريدتين؟! هل أنت تعلم الغيب أنه يعذب؟! وهل أنت مثل الرسول عليه الصلاة والسلام؟! فالرسول أطلعه الله على أنهما يعذبان فوضع جريدة وقال: (لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا)، أما أنت لا تعلم الغيب، ولا تدري هل يعذب أو ينعم.

حكم رسم الميزان لتذكير الناس بالحساب

السؤال: نرى بعض الناس يرسم ميزاناً ذا كفتين ويقول: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، هل هذا الفعل صحيح؟

الجواب: بعض الناس في هذا الزمن صار عندهم جرأة، تجدهم مثلاً يرسمون ميزاناً ويضعه كذا، وبعض الناس يصور طائرة ويقول: أنت صائر إلى الآخرة وأنت كذا، ويصور الانتقال إلى الآخرة ويصور الجنة ويصور النار، فهذه جرأة عند بعض الناس في هذا الزمن، يتجرءون على أشياء ما تجرأ عليها من سبقهم.

والواجب على المؤمن أن يسعه ما وسع المؤمنين، فينصح بالنصوص وبالأدلة من الكتاب والسنة، ويذكر الأدلة على إثبات الميزان، فلا يحتاج إلى أن يرسم ميزاناً.

الإيمان والإسلام إذا أطلق أحدهما دخل فيه الآخر

السؤال: في حديث الجارية عندما سألها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أنا؟ فقالت: رسول الله، قال: اعتقها فإنها مؤمنة)، ولم يقل: مسلمة، كيف الجمع بين هذا الحديث، وحديث سعد بن معاذ رضي الله عنه؟

الجواب: هذا عند الإطلاق، فعند إطلاق الإيمان يشمل الإسلام، فإنه إذا أطلق أحدهما دخل فيه الآخر.

اختلاف المرجئة في كون أعمال القلوب من الإيمان

السؤال: قال شيخ الإسلام في الفتاوى: إن جماهير المرجئة على أن عمل القلب من الإيمان، وفضيلتكم نفيتم أن المرجئة يرون أن عمل القلب من الإيمان؟

الجواب: نعم، بعض المرجئة مختلف في هذا، بعضهم أدخل أعمال القلوب وبعضهم لم يدخلها، أما أعمال الجوارح فهم لم يدخلوها.

موالاة المؤمن بقدر ما فيه من طاعات ومعاداته بقدر ما فيه من معاصٍ

السؤال: أشعر في قلبي ببغض لمن حولي ممن لديهم معاصٍ ولا أتفاعل معهم، سواء كانوا من الزملاء في العمل أو من الأقارب أو من إخواني في الله، وأجاهد قلبي على أن يكون البغض للفعل وليس لذات الشخص، ولكني أبغض ذات الشخص، فماذا أفعل للتخلص من هذا؟

الجواب: عليك أن توالي وتعادي المؤمن بقدر ما في المؤمن من المعاصي، فالمؤمن العاصي يوالى بقدر ما فيه من الطاعات، ويعادى بقدر ما فيه من المعاصي، وأما المؤمن المطيع فإنه يوالى موالاة كاملة، والكافر يعادى معاداة كاملة هذا هو الذي عليه أهل السنة، فالناس ثلاثة أقسام:

قسم يوالى موالاة كاملة من جميع الوجوه وهم المؤمنون.

وقسم يعادى معاداة كاملة وهم الكفار.

وقسم يوالى ويعادى وهم المؤمنون العصاة، تواليه بقدر ما فيه من أجر، وتحبه بقدر ما فيه من الطاعات، وتبغضه بقدر ما فيه من المعاصي، ويتسع قلبك لهذا؛ لأن الله تعالى يوالي هكذا؛ ولأنه ينبغي للإنسان أن يوافق ربه في الموالاة والمعاداة، فتجد شخصاً مثلاً يحافظ على الصلوات الخمس وعنده الغيرة على محارمه وتجده مثلاً يصل رحمه ويبر والديه فتحبه، لكن من جهة قد تجده مثلاً يشرب الخمر أو يشرب الدخان ويحلق لحيته ويتعامل بالربا أو يغش فتبغضه، فإذا نظرت إلى المعاصي تبغضه بقدر ما فيه من معصية، وإذا نظرت إلى الطاعات تحبه بقدر ما فيه من طاعات، فلا تبغضه بغضاً كاملاً ولا تحبه محبة كاملة، بل تواليه وتعاديه، فيكون قلبك متسعاً لهذا ولهذا، لا تبغضه بغضاً كاملاً ككافر ولا تحبه محبة كاملة كالمؤمن المطيع، بل تواليه وتعاديه، تواليه بقدر ما فيه من الإيمان والطاعات، وتعاديه وتبغضه بقدر ما فيه من المعاصي.

أنواع الكفر

السؤال: يعتقد بعض الناس أن الكفر هو تكذيب، فلا يكفر عندهم إلا من كذب، وينكر أقسام الكفر الباقية ويقول: إنها مستلزمة للتكذيب، فهل هذا الاعتقاد صحيح؟

الجواب: هذا اعتقاد المرجئة، فالمرجئة يقولون: لا كفر إلا بالتكذيب، فالإيمان هو التصديق والكفر هو التكذيب، وهذا باطل، فالكفر يكون بالتكذيب، ويكون باعتقاد القلب أيضاً، فإذا اعتقد أن لله صاحبة أو ولداً، أو اعتقد أن لله شريكاً في الملك، أو اعتقد أن الصلاة غير واجبة، أو الحج غير واجب، أو اعتقد أن الزنا حلال، أو الربا حلال، فإنه يكفر بهذه العقيدة، ويكون أيضاً كافراً بالقول إذا سب الله أو سب الرسول أو استهزأ بالله أو بكتابه أو برسوله، ويكون بالفعل كأن يسجد لصنم أو يدعو غير الله أو يذبح لغير الله أو يركع ويسجد لغير الله، فإنه يكفر بهذا، ويكون بالرفض والترك، إذا ترك دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به كفر.

فالكفر يكون بالقلب، ويكون بالقول باللسان، ويكون بالعمل، ويكون بالرفض والترك، فالذي يرفض دين الله ولا يتعلم الدين ولا يعبد الله كافر، قال الله تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ [الأحقاف:3]، أما القول بأن الكفر لا يكون إلا بالتكذيب فهذا قول المرجئة، وهو قول باطل.