شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [7]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ روى يزيد بن هارون في مجلسه حديث إسماعيل بن أبي خالد عن قيس بن أبي حاتم عن جرير بن عبد الله في الرؤية وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنكم تنظرون إلى ربكم كما تنظرون إلى القمر ليلة البدر)، فقال له رجل في مجلسه: يا أبا خالد ما معنى هذا الحديث؟ فغضب وحرد، وقال: ما أشبهك بـصبيغ وأحوجك إلى مثلما فُعِل به، ويلك! ومن يدري كيف هذا؟ ومن يجوز له أن يجاوز هذا القول الذي جاء به الحديث، أو يتكلم فيه بشيءٍ من تلقاء نفسه إلا من سفه نفسه واستخف بدينه؟

إذا سمعتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاتبعوه ولا تبتدعوا فيه؛ فإنكم إن اتبعتموه ولم تماروا فيه سلمتم، وإن لم تفعلوا هلكتم ].

أراد المؤلف رحمه الله من ذكر هذا الحديث ومن قول أبي خالد يزيد بن هارون : أن يبين موقف السلف من هذه الأخبار الواردة في صفات الله عز وجل، وأن موقفهم القبول والتسليم وعدم الاعتراض، بل يسلمون لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولهذا ذكر المؤلف رحمه الله عن يزيد بن هارون أنه روى في مجلسه حديث رؤية الله يوم القيامة، وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم: (إنكم تنظرون إلى ربكم كما تنظرون إلى القمر ليلة البدر) وفي لفظ: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)، في حديث جرير بن عبد الله البجلي الذي رواه البخاري في صحيحه: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته)، وفي رواية أبي هريرة : (إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس صحواً) أي: ليس دونها سحاب، وفي بعضها: أنه قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل نرى ربنا؟ قال: (هل ترون القمر ليلة البدر؟ قالوا: نعم، قال: هل تضارون في رؤيته؟ قالوا: لا، قال: فإنكم ترون ربكم كما ترون القمر لا تضارون في رؤيته)، وفي لفظ (لا تضامون) يعني: لا يصيبكم ضيم ولا ضرر.

وهذا الحديث مع الأحاديث التي فيها إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة من الأحاديث المتواترة.

والرؤية أيضاً ثابتة في القرآن الكريم، قال الله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:22-23]، ومعنى (ناضرة) في الآية الأولى: من النضرة وهي: البهاء والحسن، وأما (ناظرة) في قوله: إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ [القيامة:23]، فهو من النظر بالعين، فلما ذكر الوجه والعين دل على أن المراد الرؤية بالعين التي في الرأس إلى الرب جل جلاله، وقال سبحانه: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ [يونس:26]، جاء في تفسير (زيادة): بأنها النظر إلى وجه الله الكريم.

وقوله: لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ [ق:35]، جاء في تفسير المزيد: بأنه النظر إلى وجه الله الكريم.

وقال سبحانه عن الكفرة: كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ [المطففين:15]، وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله بهذه الآية على إثبات رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة. قال: لما أن حجب هؤلاء في السخط دل على أن المؤمنين يرونه في الرضا، ولو كان المؤمنون لا يرون ربهم لتساووا هم وأعداؤهم في الحجب عن رؤيته.

تواتر النصوص في الرؤية وتسليم أهل السنة بها

إن رؤية المؤمنين لربهم عز وجل ثابتة في القرآن العزيز وفي السنة المطهرة، والنصوص التي في إثبات الرؤية من السنة متواترة.

قال ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح بعد أن ساق هذه الأحاديث: رواها نحو ثلاثين صحابياً في الصحاح والسنن والمسانيد، فرؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ثابتة في القرآن العظيم وبالنصوص المتواترة في السنة المطهرة.

وإثبات رؤية المؤمنين لربهم من العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين المبتدعة، فأنكرتها الجهمية والمعتزلة، وفسروها بالعلم، والأشاعرة أثبتوا الرؤية لكن في غير جهة، فقالوا: إنه يرى، لكن لا في جهة، فيقال لهم: كيف يرى؟ إن كان المؤمنون لن يروه لا من فوق؟ ولا من تحت؟ ولا من أمام؟ ولا من خلف؟ ولا عن يمين؟ ولا عن شمال؟ فأين يرى؟ قالوا: يُرى لا في جهة، فسخر منهم كثير من العقلاء وقالوا: إن هذا غير متصور، الرؤية لا بد أن تكون بجهة من الرائي، أي: أن المرئي لا بد أن يكون بجهة من الرائي، فلابد أن يكون مبايناً له مواجهاً له، فإثبات الرؤية من دون إثبات جهة غير متصور وغير معقول، وهذا يدل على تذبذب الأشاعرة، أي: كونهم بين أهل السنة وبين المعتزلة، فأرادوا أن يكونوا مع المعتزلة في إنكار الجهة وأن يكونوا مع أهل السنة في الرؤية، فعجزوا عن ذلك فلجأوا إلى حجج سفسطائية، وهي الحجج المموهة، أي: التي ترى كأنها حجة وليست بحجة.

ورؤية المؤمنين لربهم عز وجل ثابتة بالنصوص من الكتاب والسنة، وهي من العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدع.

ولهذا قال كثير من أهل العلم: من أنكر رؤية الله فهو كافر؛ لأنه أنكر النصوص المتواترة، وهي مروية في الصحاح والسنن والمسانيد.

موقف السلف من المعترضين على النصوص

لما ذكر يزيد بن هارون حديث الرؤية: (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)، (قال له رجل في مجلسه: يا أبا خالد ) وهي: كنية يزيد بن هارون (ما معنى هذا الحديث؟) يعني: حديث (إنكم ترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر)؟ (فغضب) يزيد بن هارون (وحرد) يعني: استشاط غضباً، لماذا؟ لأن السائل اعترض على الحديث، (وقال: ما أشبهك بـصبيغ ، وأحوجك إلى مثلما فُعِل به) وصبيغ هذا سيذكر المؤلف قصته، وهو رجل كان يأتي بشبه واعتراضات على النصوص، فجلده عمر مائة، ثم جلده مائة حتى سال الدم على وجهه، ونفاه إلى الكوفة، وكتب لعاملها: أن لا يكلمه الناس. فصار الناس لا يكلمونه، وكلما جاء إلى حلقة طُرد حتى تاب، وقال يا أمير المؤمنين: ذهب ما في رأسي. فعند ذلك أباح الناس أن يكلموه.

فـأبو خالد يقول لهذا الرجل الذي اعترض عليه: (ما أشبهك بـصبيغ ، وأحوجك إلى مثلما فعل به) أي: تحتاج إلى أن تضرب حتى يذهب ما في رأسك من الشبه، وتحتاج إلى جلد كجلد عمر رضي الله عنه صبيغاً .

ثم قال له: (ويلك! ومن يدري كيف هذا؟) أي: من يدري كيفية الصفة؟ فلا يعلمها أحد إلا الله، فقولك: ما معنى هذا الحديث؟ كأنك تعترض، وتطلب الكيفية، وهذا غلط منك، وتحتاج بسببه إلى تأديب فـ(ما أشبهك بـصبيغ ، وأحوجك إلى مثلما فعل به) ولهذا قال له: (ويلك ومن يدري كيف هذا؟ ومن يجوز له أن يجاوز هذا القول الذي جاء به الحديث؟) أي: أَثبت الحديث قل: إن المؤمنون يرون ربهم يوم القيامة.

ثم قال له: (ومن يجوز له أن يجاوز هذا القول الذي جاء به الحديث أو يتكلم فيه بشيءٍ من تلقاء نفسه إلا من سفه نفسه واستخف بدينه؟ ثم قال له: إذا سمعتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فاتبعوه ولا تبتدعوا فيه فإنكم إن اتبعتموه ولم تماروا فيه سلمتم) تماروا يعني: تجادلوا لا يجوز للإنسان أن يجادل، بل يسلم، ولا يقول في صفات الله: كيف؟ ولا في أفعاله: لم؟

فلا توجه كلمة: (كيف) للصفات، ولا (لم) للأفعال؛ لأنه حكيم يفعل ما يشاء، ولهذا لما وجه سؤال هذا الشخص معترض، قال: ما معنى هذا الحديث؟ يعني كأنه يعترض غضب عليه واستشاط غضباً يزيد بن هارون ، وقال: ما أشبهك بـصبيغ ، وأحوجك إلى مثل ما فعل به إذا سمعتم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتبعوه ولا تبتدعوا فيه؛ فإنكم إن اتبعتموه ولم تماروا -يعني: لم تجادلوا -سلمتم، وإلا تفعلوا هلكتم.

قال: [ وقصة صبيغ الذي قال يزيد بن هارون للسائل: ما أشبهك بـصبيغ ، وأحوجك إلى مثل ما فعل به: هي ما رواه يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب : أن صبيغاًً التميمي أتى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! أخبرني عن قوله: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا [الذاريات:1]، قال: هي الرياح، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ما قلته، قال: فأخبرني عن: فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا [الذاريات:2] قال: هي السحاب، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن: فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا [الذاريات:4] قال: الملائكة، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: فأخبرني عن: فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا [الذاريات:3] قال: هي السفن، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته، قال: ثم أمر به فضرب مائة سوط، ثم جعله في بيت حتى إذا برئ دعا به ثم ضربه مائة سوط أخرى، ثم حمله على قتب، وكتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن حرم عليه مجالسة الناس، فلم يزل كذلك حتى أتى أبا موسى الأشعري رضي الله عنه فحلف بالأيمان المغلظة ما يجد في نفسه مما كان يجده شيئاً، فكتب إلى عمر يخبره، فكتب إليه: ما إخاله إلا قد صدق، خل بينه وبين مجالسة الناس ].

عمر رضي الله عنه ضرب صبيغ ؛ لأنه فهم من سؤالاته أنه يريد التعنت والعناد والاعتراض، فلهذا ضربه مائة سوط، ثم جعله في بيته، فلما أحس أنه برأ من الضرب ضربه مائة أخرى، ثم سفره من المدينة إلى الكوفة، وكتب إلى أبي موسى الأشعري : أن حرم عليه مجالسة الناس، فلم يزل كذلك كلما جاء بحلقة طردوه، وإذا جاء إلى حلقة أخرى لا يعرفونه كلم أهل الحلقة الأخرى، قالوا: عزمة أمير المؤمنين عليه ألا تكلموه، فلا يكلمونه حتى تاب وجاء إلى أبي موسى وحلف بالأيمان المغلظة أنه ما يجد في نفسه ما كان يجد، ذهبت الشكوك والشبه التي في نفسه.

فكتب أبو موسى إلى أمير المؤمنين يستأذنه في أن يتركه ويخلي بينه وبين الناس ثم كتب عمر إليه: ما إخاله إلا قد صدق، خل بينه وبين الناس، فجعل الناس يكلمونه.

قال: [ وروى حماد بن زيد عن قطن بن كعب : سمعت رجلاً من بني عجل يقال له: فلان - خالد بن زرعة - يحدث عن أبيه قال ].

في النسخة الأخرى: خلته ابن زرعة .

[ خالد بن زرعة يحدث عن أبيه قال: رأيت صبيغ بن عسل بالبصرة كأنه بعير أجرب، يجيء إلى الحلق، فكلما جلس إلى قوم لا يعرفونه ناداهم أهل الحلقة الأخرى: عزمة أمير المؤمنين ].

عزمة أمير، يعني: تلزيم أمير المؤمنين، يعني: يلزم عليكم أن لا تكلمونه، فكلما جاء حلقة لا يعرفونه أخبرهم أهل الحلقة الأخرى وقالوا: عزم عليكم ألا تكلمونه حتى يتوب.

قال: [ وروى حماد بن زيد أيضاً عن يزيد بن حازم عن سليمان بن يسار : أن رجلاً من بني تميم يقال له: صبيغ ، قدم المدينة فكانت عنده كتب، فجعل يسأل عن متشابه القرآن، فبلغ ذلك عمر فبعث إليه وقد أعد له عراجين النخل ].

العراجين جمع عرجون، وهو عرق النخلة إذا يبس واعوج كما قال: وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ [يس:39].

قال: [ فلما دخل عليه جلس، فقال: من أنت؟ قال: أنا عبد الله صبيغ ، قال: وأنا عبد الله عمر ، ثم أهوى إليه فجعل يضربه بتلك العراجين، فما زال يضربه حتى شجه، فجعل الدم يسيل على وجهه، فقال: حسبك يا أمير المؤمنين، فقد والله ذهب الذي كنت أجد في رأسي ].

يعني: يكفي الضرب، فقد ذهب ما في رأسي من الشبه والشكوك.

ونحن الآن بحاجة إلى مثل هذا، الآن صبيغ له أمثال كثيرون، في هذا الزمن نحن بحاجة إلى أن نفعل بهم مثلما فعل بـصبيغ ، هؤلاء الذين يشبهون ويلبسون، ويكتبون في الصحف والمجلات، ويكتبون الشبه، ويعترضون على الأحاديث والنصوص وأهل العلم بحاجة إلى أن نفعل بهم مثل ما فعل بـصبيغ ، ولو يفعل بهم ما فعل به لتأدب الناس، ولم يتكلم الرويبضة ولما أفتى.

حتى صار أهل الصحف والمجلات يفتون وهم ليسوا من أهل الفتوى ..يفتي: هذا يجوز وهذا لا يجوز، يجوز للمرأة أن تكشف وجهها، وليس هناك دليل، وصار الكل يفتي الآن، ولو فعل بهم مثل ما فعل بـصبيغ لتأدبوا ولما اعترضوا بالشبه والاعتراضات على النصوص وعلى أهل العلم؛ ولهذا يزيد بن هارون لما اعترض عليه الرجل، قال: ما أشبهك بـصبيغ ، وأحوجك إلى فعل مثل ما فعل به، يعني: هذا رجل اعترض على حديث الرؤية، قال: أنت بحاجة إلى أن تضرب حتى يزول ما في رأسك من الشبه والاعتراض على النصوص.

تحذير الإمام مالك أصحابه من أهل البدع

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين بن موسى السلمي أخبرنا محمد بن محمود الفقيه المروزي حدثنا محمد بن عمير الرازي حدثنا أبو زكريا يحيى بن أيوب العلاف التجيبي بمصر حدثنا يونس بن عبد الأعلى حدثنا أشهب بن عبد العزيز قال: سمعت مالك بن أنس يقول: إياكم والبدع، قيل: يا أبا عبد الله وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، لا يسكتون عما سكت عنه الصحابة والتابعون. ].

وهذا تحذير من مالك بن أنس رحمه الله، وهو إمام دار الهجرة في زمانه، وأحد الأئمة الأربعة، يقول: إياكم والبدع، قيل: يا أبا عبد الله ! وهي كنية الإمام مالك ، وما البدع؟ قال: أهل البدع الذين يتكلمون في أسماء الله وصفاته وكلامه وعلمه وقدرته، أي: يتكلمون في تأويل الصفات وفي الكيفية؛ لذا حذر منهم الإمام مالك رحمه الله؛ لأنهم لا يسكتون عما سكت عن الصحابة والتابعون.

والمعنى: أنه يجب على المسلم أن يسعه ما وسع الصحابة والتابعين، ولا يتكلم في التأويل، بل يثبت الأسماء والصفات لله عز وجل كما يليق بجلالته وعظمته، يثبت المعنى ويسكت عن الكيفية.

تهوين الإمام الشافعي للكبيرة أمام البدع

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا أبو الحسين أحمد بن محمد بن عمر الزاهد الخفاف أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن محمد بن عدي الفقية حدثنا الربيع بن سليمان سمعت الشافعي رحمه الله يقول: لأن يلقى الله العبد بكل ذنب ما خلا الشرك أحب إلي من أن يلقاه بشيء من الأهواء ].

يعني: البدع، وهذا أخرجه الدارمي واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وهو مشهور عن الشافعي رحمه الله، وفي لفظ: (لأن ألقاه بكل ذنب ما خلا الشرك أحب إلي من أن ألقاه بشيء من الأهواء).

يقول الإمام الشافعي : لأن ألقى الله بكل معصية دون الشرك أسهل علي من أن ألقاه بالبدعة؛ لأن البدع أشد من المعاصي؛ لأن صاحب المعصية الكبيرة مثل الزاني والسارق وشارب الخمر والمرابي عاصٍ، وضعيف الإيمان، لكن يعلم أنه عاص ومعترف بأنها معصية فهو يرجى له أن يتوب، بخلاف صاحب البدعة، فإنه يعتقد أنه على الحق، ولا يعترف لك بأنه على الباطل.

فإذا قلت: هذه بدعة، قال: لا، بل أنت المبتدع، فلا يفكر في التوبة، فلهذا كانت البدعة أشد من الكبيرة، وهي أحب إلى الشيطان من المعصية الكبيرة، فالذي يفعل كبيرة ويشهد الزور ويعق والديه، يعلم أنه عاص ويمكن أن يتوب أو حتى يفكر في التوبة، لكن المبتدع لا يعتقد أنه عاص، بل يعتقد أنه على الحق فمن كان يفعل بدعة المولد فإذا نهيته يقول: لا هذه محبة للرسول، أنت تبغض الرسول، أنا على الحق وأنت على الباطل، ولو كنت تحب الرسول لحضرت المولد.

كما أن المبتدع لا يعترف بأنه على الباطل، بل يعتقد أنه على الحق، ويتقرب إلى الله بالبدعة، فلا يفكر في أن يتوب منها، أما صاحب الكبيرة فهو يعلم أنه على معصية، ويعتقد أنها معصية، ويفكر في التوبة منها، فلهذا كانت البدعة أشد من المعصية، ولهذا قال الإمام الشافعي رحمه الله: لأن ألقى الله بكل ذنب دون الشرك أسهل علي من أن ألقاه بالبدعة؛ لأن البدعة أشد من المعصية، وصاحب البدعة لا يتوقع أن يتوب في الغالب؛ لأنه يعتقد أنه على الحق.

هذا فيه التحذير من البدع، وقد تكون البدعة في أسماء الله، من ذلك: بدعة المعطلة التي تنفي الأسماء والصفات، وبدعة المؤولة، وبدعة الخوارج الذين يكفرون المسلمين بالمعاصي، وبدعة القدرية الذين يقولون: إن العباد خالقون لأفعالهم، وهكذا بدعة الشيعة الرافضة.

نصيحة عمر بن عبد العزيز بلزوم الدين

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخبرني أبو طاهر محمد بن الفضل حدثنا أبو عمرو الحيري حدثنا أبو الأزهر حدثنا قبيصة حدثنا سفيان عن جعفر بن برقان قال: سأل رجل عمر بن عبد العزيز عن شيء من الأهواء، فقال: الزم دين الصبي في الكتاب والأعرابي، واله عما سوى ذلك ].

وهذا الأثر عن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أخرجه الدارمي في سننه، وابن سعد في الطبقات، واللالكائي في شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة، وابن الجوزي في سيرة عمر ، وهو مروي عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله الإمام المشهور الزاهد الورع الذي ضمه بعض العلماء إلى الخلفاء الراشدين الأربعة؛ لعدله وورعه، سأله رجل عن شيء من الأهواء -يعني: من البدع- فقال له: (الزم دين الصبي في الكتاب) كان الناس قبل أن توجد المدارس يدرسون الصبيان في الكتاب، يعني: جماعة في المسجد يأتي لهم مدرس يكتب لهم على اللوح، وهي خشبة يطلونها بالطين ويكتبون فيها، يكتب لهم حتى يتعلموا شيئاً من القراءة، وبعض من الآيات، ثم يقال: قرأ في الكتاتيب.

فيقول له: (الزم دين الصبي في الكتاب) كن على دين الصبي أي على الفطرة، واترك هذه الشبه، وكذلك الأعرابي الذي عاش في البادية ما عنده شيء من شبه المعطلة ولا القدرية بل على الفطرة.

قال: (واله عما سوى ذلك)؛ لأنهم مفطورون على الفطرة، الصبي في الكتاب والأعرابي مؤمن بالله وبملائكته وكتبه ورسله ومؤمن بالأسماء والصفات وليس عنده شيء من الشبه، مفطور على الحق والتوحيد.

قال له: الزم دين الصبي في الكتاب، فإنه على الفطرة، والزم ما عليه الأعراب في البوادي أصحاب الفطرة، ما عندهم شبه ولا شكوك، ولا جاءهم أحد يشبه عليهم، ولا يدخل لهم شبه المعطلة، ولا القدرية ولا الخوارج ولا المعتزلة.

ولهذا كثير من أهل الكلام الذين توغلوا في علم الكلام حاروا في آخر حياتهم، وحصلت لهم حيرة واضطراب، وتمنوا أن يكونوا على الفطرة، حتى قال بعضهم: يا ليتني أموت على عقيدة أمي، وقال بعضهم: يا ليتني أموت على عقيدة عجائز نيسابور.

ولما سأل بعض أهل البدع من الذين صار عندهم حيرة بعض الناس: هل تنام في السرير؟ قال: نعم، قال: احمد الله، أنا لا أستطيع أن أنام من الشبه والشكوك، إذا نمت أفكر في الشبه والمقدمات والنتائج، وهل الرب مستو على عرشه أو ليس مستو على عرشه، وهل هذا يمكن، وهل هو جسم أو ليس بجسم، يقول: احمد الله أنك تستطيع أن تنام.. أنا لا أستطيع أن أنام، وأضع الملاءة على وجهي بعد العشاء ويأتي الفجر وأنا على حالي لم أنم، وأظل أفكر في الشبه، وفي مقدمات أهل البدع، بلا راحة ولا طمأنينة.

هكذا أهل البدع صار عندهم حيرة واضطراب حتى تمنوا أن يموتوا على عقيدة العجائز، فقال أحدهم: يا ليتني أموت على عقيدة أمي، وقال آخر: يا ليتني أموت على عقيدة عجائز نيسابور، وكان من أهل نيسابور، نسأل الله السلامة والعافية.

أمر ابن عيينة وغيره بالسكوت عن التكييف

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ حدثنا محمد بن يزيد سمعت أبا يحيى البزار يقول سمعت العباس بن حمزة يقول: سمعت أحمد بن أبي الحواري يقول: سمعت سفيان بن عيينة يقول: كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره تلاوته والسكوت عنه ].

يعني: ما وصف الله به نفسه من العلم والقدرة والرحمة والغضب والسخط والسمع والبصر تفسيره تلاوته، يعني: حينما تقرأه يكون تفسيره واضح المعنى، لا تكيف ولا تمثل، واسكت عن التأويل والكيفية، حينما تقرأ: وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:134] انسب السمع والبصر لله، ولا تأول ولا يقع في نفسك شيء من الشبه التي يقولها أهل البدع من أنه يلزم إذا أثبت السمع والبصر يلزمه أن يكون مماثلاً لسمع وبصر المخلوقين.

قال: [ أخبرنا أبو الحسين الخفاف حدثنا أبو العباس محمد بن إسحاق السراج حدثنا إسماعيل بن أبي الحارث حدثنا الهيثم بن خارجة سمعت الوليد بن مسلم يقول: سألت الأوزاعي وسفيان ومالك بن أنس عن هذه الأحاديث في الصفات والرؤية فقالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف ].

هذا مقالة للأوزاعي وسفيان ومالك بن أنس لما سئلوا عن الحديث في الصفات، قالوا: أمروها كما جاءت بلا كيف.

وهذا الأثر صحيح أخرجه البيهقي في الأسماء والصفات، والدارقطني ، والذهبي في مختصر العلوم وغيرهم.

وقوله: أمروها كما جاءت. رد على المعطلة الذين يعطلون ولا يثبتون الصفات.

وقوله: بلا كيف. رد على الممثلة الذين يقولون: إن صفات الله مثل صفات المخلوقين.

وأمروها كما جاءت، يعني: أثبتوا معاني الصفات، واتركوا الكلام في الكيفية، وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا [النساء:134] أثبت السمع والبصر بلا كيف، لا تقل: كيفية السمع كذا، ولا سمع الخالق مثل سمع المخلوق.

وهذا فيه إثبات للمعاني، فاستوى على العرش. تمر كما جاءت ويثبت الاستواء لله تعالى.

قوله: بلا كيف: معناه لا تسأل عن الكيفية، ولا تقل إن استواء الخالق مثل استواء المخلوق، يعني: أثبتوا المعاني بلا سؤال عن الكيفية، ولا تمثلوها بصفات المخلوقين، وهذا قول السلف قاطبة.

لزوم التسليم لبيان الله وبلاغ رسوله

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ قال الإمام الزهري -إمام الأئمة في عصره، وعين علماء الأمة في وقته- على الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم ].

الإمام الزهري رحمه الله إمام معروف، والمؤلف قال عنه إمام الأئمة في عصره، فقيده، وإلا فإن إمام الأئمة إذا أطلق فهو الرسول عليه الصلاة والسلام، وهو إمام المتقين، وهذا اللقب يطلق أيضاً على محمد بن إسحاق بن خزيمة ، يقال له: إمام الأئمة، فينبغي أن يقيد إمام الأئمة في وقته، وإمام الأئمة على الإطلاق هو رسول الله.

يقول الزهري : على الله البيان، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم، وهذا كلام عظيم ينبغي لكل مسلم أن يستشعره.

على الله البيان: أي: الله تعالى بين لنا في الكتاب العزيز، وعلى لسان نبيه. وعلى الرسول البلاغ وعلينا التسليم والقبول ولا نعترض، فنحن عبيد مأمورون، نقول: سمعاً لك يا رب وطاعة.

فإذا جاء في النصوص إثبات الصفات نقول: علينا التسليم، فنثبت لله الأسماء والصفات ولا نعترض، ولا نقول: ما كيفية الصفات، ولا نمثلها بل نسلم ونؤمن بها.

الحث على إحياء السنن

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا أبو طاهر بن خزيمة حدثنا جدي الإمام حدثنا أحمد بن نصر ].

الجد الإمام هو محمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب الصحيح.

قال: [ حدثنا أبو يعقوب الحنيني حدثنا كثير بن عبد الله المزني عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: يا رسول الله! ومن الغرباء؟ قال: الذين يحيون سنتي من بعدي، ويعلمونها عباد الله) ].

الشطر الأول من الحديث: (إن هذا الدين بدأ غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء) أخرجه الإمام مسلم في صحيحه، وأخرجه الترمذي وابن ماجة ، وكذلك أيضاً ابن خزيمة والخطيب البغدادي وغيرهم، وهو حديث ثابت.

والرسول صلى الله عليه وسلم أول المؤمنين وأول المسلمين، ثم أسلم معه حر وعبد، وهو أبو بكر وبلال ، ثم أسلم عدد من الصحابة، وسيعود غريباً في آخر الزمان كما بدأ، فيخرج الناس من الدين كما دخلوا فيه، (فطوبى للغرباء)، طوبى: الجنة، فالجنة للغرباء الذين يتمسكون بالدين.

جاء في اللفظ الآخر: (قيل: من الغرباء يا رسول الله؟ قال: الذين يصلحون ما أفسد الناس)، وفي لفظ: (قيل من الغرباء؟ قال: الذين يصلحون إذا فسد الناس)، يعني: يصلحون بأنفسهم إذا فسد الناس.

وفي لفظ: (هم النزاع من القبائل)، يعني: من كل قبيلة واحد أو اثنان والباقي على الباطل.

وفي لفظ: (هم قوم صالحون قليل في قوم سوء كثير).

فجاء في تفسير الغرباء أربع تفسيرات:

اللفظ الأول: قيل: من الغرباء؟ فقال: الذين يصلحون إذا فسد الناس. يعني: الناس يفسدون وهم صالحون في أنفسهم مستقيمون.

واللفظ الثاني: قال: هم الذين يصلحون ما أفسد الناس. يعني: دعاة إلى الخير يصلحون.

واللفظ الثالث: هم النزاع من القبائل.

واللفظ الرابع: هم قوم صالحون قليل في قوم سوء كثي).

وهنا قيل: يا رسول الله! من الغرباء؟ هذا أيضاً لفظ خامس، قال: الذين يحيون سنتي من بعدي، ويعلمونها عباد الله. وهذا مثل: (يصلحون ما أفسد الناس).

وقوله: (الذين يحيون سنتي من بعدي ويعلمونها عباد الله)، هذه الزيادة أخرجها الخطيب البغدادي في شرف أصحاب الحديث، والشيخ: نصر المقدسي في كتاب الحجة.

ساق المؤلف هذا الحديث ليبين أنه ينبغي إحياء السنن، وأن الذين يحيون السنن، ويعلمونها عباد الله هم الغرباء، ومعلوم أنه إذا أحييت السنة ماتت البدعة في مقابلها، وفيه التحذير من البدع، والحث على إحياء السنن.

قال: [ أخبرنا أ

إن رؤية المؤمنين لربهم عز وجل ثابتة في القرآن العزيز وفي السنة المطهرة، والنصوص التي في إثبات الرؤية من السنة متواترة.

قال ابن القيم رحمه الله في حادي الأرواح بعد أن ساق هذه الأحاديث: رواها نحو ثلاثين صحابياً في الصحاح والسنن والمسانيد، فرؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة ثابتة في القرآن العظيم وبالنصوص المتواترة في السنة المطهرة.

وإثبات رؤية المؤمنين لربهم من العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين المبتدعة، فأنكرتها الجهمية والمعتزلة، وفسروها بالعلم، والأشاعرة أثبتوا الرؤية لكن في غير جهة، فقالوا: إنه يرى، لكن لا في جهة، فيقال لهم: كيف يرى؟ إن كان المؤمنون لن يروه لا من فوق؟ ولا من تحت؟ ولا من أمام؟ ولا من خلف؟ ولا عن يمين؟ ولا عن شمال؟ فأين يرى؟ قالوا: يُرى لا في جهة، فسخر منهم كثير من العقلاء وقالوا: إن هذا غير متصور، الرؤية لا بد أن تكون بجهة من الرائي، أي: أن المرئي لا بد أن يكون بجهة من الرائي، فلابد أن يكون مبايناً له مواجهاً له، فإثبات الرؤية من دون إثبات جهة غير متصور وغير معقول، وهذا يدل على تذبذب الأشاعرة، أي: كونهم بين أهل السنة وبين المعتزلة، فأرادوا أن يكونوا مع المعتزلة في إنكار الجهة وأن يكونوا مع أهل السنة في الرؤية، فعجزوا عن ذلك فلجأوا إلى حجج سفسطائية، وهي الحجج المموهة، أي: التي ترى كأنها حجة وليست بحجة.

ورؤية المؤمنين لربهم عز وجل ثابتة بالنصوص من الكتاب والسنة، وهي من العلامات الفارقة بين أهل السنة وبين أهل البدع.

ولهذا قال كثير من أهل العلم: من أنكر رؤية الله فهو كافر؛ لأنه أنكر النصوص المتواترة، وهي مروية في الصحاح والسنن والمسانيد.




استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [10] 2187 استماع
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [9] 2099 استماع
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [8] 2050 استماع
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [3] 1937 استماع
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [12] 1882 استماع
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [1] 1792 استماع
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [15] 1734 استماع
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [13] 1699 استماع
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [4] 1582 استماع
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [6] 1544 استماع