شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [4]


الحلقة مفرغة

قال: [ ويشهد أصحاب الحديث ويعتقدون أن القرآن كلام الله وخطابه ووحيه وتنزيله غير مخلوق، ومن قال بخلقه واعتقده فهو كافر عندهم، والقرآن -الذي هو كلام الله ووحيه- هو الذي نزل به جبريل على الرسول صلى الله عليه وسلم قرآنا عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً، كما قال عز وجل: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:192-195].

وهو الذي بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته كما أمر به في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67] فكان الذي بلغهم بأمر الله تعالى كلامه عز وجل، وفيه قال صلى الله عليه وسلم: (أتمنعونني أن أبلغ كلام ربي) وهو الذي تحفظه الصدور، وتتلوه الألسنة، ويكتب في المصاحف، كيفما تصرف بقراءة قارئ ولفظ لافظ وحفظ حافظ، وحيث تلي، وفي أي موضع قرئ أو كتب في مصاحف أهل الإسلام وألواح صبيانهم وغيرها.. كله كلام الله جل جلاله غير مخلوق؛ فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم.

سمعت الحاكم أبا عبد الله الحافظ يقول: سمعت أبا الوليد حسان بن محمد يقول: سمعت الإمام أبا بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة يقول: القرآن كلام الله غير مخلوق؛ فمن قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم، ولا تقبل شهادته، ولا يعاد إن مرض، ولا يصلى عليه إن مات، ولا يدفن في مقابر المسلمين، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه ].

هذا الكلام ذكره المؤلف رحمه الله في إثبات القرآن، وأنه كلام الله عز وجل، وهو من الصفات التي اشتد فيها النزاع بين أهل السنة وبين أهل البدع.

وهناك صفات اشتد فيها النزاع بين أهل السنة وبين أهل البدع، من أثبتها فهو من أهل السنة، ومن نفاها فهو من أهل البدعة، وهي ثلاث صفات: الصفة الأولى: صفة الكلام، والصفة الثانية: صفة رؤية الله عز وجل، والصفة الثالثة: صفة العلو.

فالكلام لا يثبته الجهمية ولا المعتزلة، والأشاعرة يثبتون الكلام على أنه معنى قائم بالنفس، والرؤية كذلك ينكرها الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، وكذلك العلو.

وهنا يبين المؤلف رحمه الله عقيدة السلف وأصحاب الحديث: أنهم يعتقدون أن القرآن كلام الله، تكلم به بصوت وحرف، وسمعه منه جبرائيل عليه الصلاة والسلام، ونزل به وحياً على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، كما قال الله عز وجل: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:194-195].

أما الجهمية فقد أنكروا أن يكون الله تكلم، يقولون: هذا ليس كلام الله وإنما هو مخلوق.

وكذلك المعتزلة قالوا: ليس لله كلام، وأنكروا اللفظ والمعنى، وقالوا: إن الله خلق الكلام وأضافه إليه، فيقولون: إن الله خلق الكلام في الشجرة، والشجرة هي التي كلمت موسى، وقالت: يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [القصص:30] هل الشجرة تقول: (إني أنا الله رب العاملين)؟ يقولون: الكلام نحن نثبت الكلام لكن ما نثبت الكلام على أنه لفظ ولا حرف ولا صوت، الكلام معنى قائم بنفس الرب لا يسمع، كما أن العلم في نفسه فكذلك الكلام قائم في نفسه.

أما الأشاعرة فهم أقرب الطوائف إلى أهل السنة ومع ذلك ما أثبتوا الكلام، يقولون: إن القرآن الموجود في المصاحف ليس كلام الله، إنما كلام الله معنى قائم بنفسه، لكن هذا عبارة عن كلام الله عبر به جبريل أو عبر به محمد، وقالوا: إن الله لم يتكلم بحرف ولا صوت، ولم يسمع جبريل من الله حرفاً ولا صوتاً، ولكن يضطر اضطراراً جبريل، ففهم المعنى القائم بنفسه، وجعلوا الله والعياذ بالله كالأخرس لا يتكلم، والكلام معنىً قائم بنفسه ولا يستطيع أن يتكلم به نعوذ بالله!! ليس بحرف ولا صوت ولا يتكلم بقدرته ومشيئته، ومن أين هذا القرآن؟ قالوا: هذا القرآن الله تعالى اضطر جبريل اضطراراً ففهم المعنى القائم بنفسه، ثم ذهب فعبر بهذا القرآن وأوصله إلى محمد، فلفظه من جبريل، فهمه جبريل من الله فعبر عنه.

وقالت طائفة من الأشاعرة: الذي عبر به محمد وليس بجبريل، وقالت طائفة أخرى من الأشاعرة: إن جبريل أخذ القرآن من اللوح المحفوظ وأنزله على محمد، وكل هذه أقوال باطلة، والذي يعتقده أهل السنة والجماعة وأهل الحديث والسلف: أن القرآن كلام الله لفظه ومعناه، بحرف وصوت، وأن الله تكلم به، فسمعه جبرائيل، ونزل به على محمد صلى الله عليه وسلم.

قوله: (ويشهد أصحاب الحديث ويعتقدون: أن القرآن كلام الله وكتابه وخطابه ووحيه وتنزيله غير مخلوق) فالقرآن لفظه ومعناه تكلم الله به، وهو كتاب الله وهو خطابه وهو وحيه وتنزيله، وهو كلام الله اللفظ والمعنى بحرف وصوت.

قوله: (ومن قال بخلقه واعتقده فهو كافر عندهم) ولهذا قال كثير من السلف: من قال: القرآن مخلوق فهو كافر.

وهذا الحكم إنما هو على العموم، أما المعين فلان بن فلان إذا قال: القرآن مخلوق، فلا يكفر حتى تقام عليه الحجة وتزال الشبهة إذا كانت له شبهة، لكن على العموم يقال: من قال: القرآن مخلوق، أو كلام الله مخلوق فهو كافر، أما الشخص المعين إذا تكلم بهذا فإنه يكفر إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع وزالت الشبهة، فلابد أن يزال اللبس وتزال الشبهة، فإذا أصر قتل لكفره.

قوله: (والقرآن الذي هو كلام الله ووحيه هو الذي نزل به جبريل على الرسول عليه الصلاة والسلام) نعم لفظه ومعناه نزل به من عند الله.

قوله: (قرآناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً ونذيراً) أي: فيه البشارة والنذارة.

قوله: (كما قال عز من قائل: وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ [الشعراء:192-193] وهو جبريل: عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ [الشعراء:194-195]. وهو الذي بلغه الرسول صلى الله عليه وسلم أمته كما أمر به في قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67])، هذا القرآن تكلم الله به وبلغه جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم والرسول صلى الله عليه وسلم بلغه أمته، فهذا القرآن الذي نتلوه ونسمعه ونقرأه ونحفظه هو كلام الله الذي تكلم به بلفظه ومعناه، وسمعه منه جبرائيل، ونزل به على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، والنبي صلى الله عليه وسلم بلغه أمته، فالقرآن منزل من عند الله.

قوله: (فكان الذي بلغهم بأمر الله تعالى كلامه عز وجل)، الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالتبليغ: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ [المائدة:67] فالرسول بلغ كلام الله بأمر الله.

قوله: (وفيه قال صلى الله عليه وسلم: (أتمنعونني أن أبلغ كلام ربي) ) هذا الحديث صحيح، لما منعه الكفار من دعوة الناس، قال: (أتمنعونني أن أبلغ كلام ربي)، فالرسول صلى الله عليه وسلم أثبت أنه كلام الله الذي تكلم به.

قوله: (وهو الذي تحفظه الصدور، وتتلوه الألسنة، ويكتب في المصاحف، كيفما تُصِرِّف بقراءة قارئ ولفظ لافظ وحفظ حافظ، وحيث تلي، وفي أي موضع قرئ أو كتب في مصاحف أهل الإسلام، وألواح صبيانهم وغيرها كله كلام الله) يعني: كلام الله عز وجل كيفما تصرف فهو كلام الله، إن حفظه الحافظ فكلام الله له محفوظ، وإن تلاه التالي فكلام الله له متلو، وإن كتب فكلام الله مكتوب، كيفما تصرف فهو كلام الله حقيقة وليس مجازاً، كلام الله محفوظ في الصدور، متلو بالألسنة، مكتوب في المصاحف، إذا قرأه قارئ فهو كلام الله، إذا تلاه التالي يقال: تلا التالي كلام الله، إذا حفظه الحافظ يقال: حفظ الحافظ كلام الله، إذا كتبه كاتب يقال: كتب الكاتب كلام الله.

وهذا حقيقة ليس مجازاً، ولو كان مجازاً لصح أن يوجه النفي إليه فيقال: ما قرأ القارئ كلام الله، ما تلا التالي كلام الله، ما كتب الكاتب كلام الله، وهذا باطل لا يقال، فإذا قرأ القارئ كلام الله يقال: كلام الله مقروء حقيقة، إذا تلاه يقال: كلام الله متلو، إذا حفظه يقال: كلام الله محفوظ في صدور المؤمنين، أو الذين أوتوا العلم، كما قال الله تعالى في سورة العنكبوت: وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ * وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ * وَمَا كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ [العنكبوت:46-49].

إذاً: القرآن محفوظ في الصدور، متلو بالألسن، مكتوب في المصاحف، كيفما تصرف فهو كلام الله، حيث تلي أو لفظ أو حفظ أو قرئ أو كتب في مصاحف أهل الإسلام وفي ألواح الصبيان قبل أن توجد، اللوح قطعة من الخشب يطلى بالطين ثم يكتب عليه حتى يتعلم الصبي، فيقال: كتب في اللوح كلام الله، كتب في المصحف كلام الله، فكلام الله مكتوب في مصاحف الإسلام، وألواح الصبيان، وغيرها كله كلام الله جل جلاله.

قوله: (فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم) يعني: كلام الله في القرآن الذي مكتوب في المصاحف ومتلو بالألسن، وموضوع في الصدور هو القرآن بعينه الذي نقول: إنه غير مخلوق، فمن زعم أنه مخلوق فهو كافر بالله العظيم.

وهذا الحكم ثابت عن عدد من الأئمة كالإمام أحمد وغيره، يقولون: من قال القرآن مخلوق فهو كافر.

أقوال أئمة أهل السنة في القرآن

ذكر المؤلف رحمه الله سنده عن شيخه الحاكم ، والحاكم يروي عن حسان بن محمد، وحسان بن محمد يروي عن الإمام أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب الصحيح يقول: (القرآن كلام الله غير مخلوق، فمن قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم، ولا تقبل شهادته، ولا يعاد إن مرض، ولا يصلى عليه إن مات، ولا يدفن في مقابر المسلمين ويستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه).

إذاً: الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة كفر من قال: القرآن مخلوق، يقول: كافر لا تقبل شهادته؛ لأنه لا تقبل شهادة الكافر على المسلم، ولا يعاد إن مرض؛ لأنه ليس من المسلمين، ولا يصلى عليه إذا مات، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ويستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.

وروي عنه أنه قال: من لم يقل بأن الله مستوٍ على خلقه، مستوٍ على عرشه، بائن عن خلقه، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وطرح على مزبلة حتى لا يتأذى به أهل الإسلام ولا أهل الذمة؛ لأن كفره أشد من كفر، نسأل الله السلامة والعافية.

والمؤلف رحمه الله قصده من هذا: الرد على من أنكر أن يكون كلام الله في المصاحف، فالأشاعرة يقولون: كلام الله هو القائم بنفسه، أما المصاحف فلا يوجد فيها كلام الله، هذا مع أنهم أقرب الطوائف، حتى إن بعضهم غلا تجده يدوس المصحف بقدميه، فإذا قيل له في ذلك؟ قال: لا يوجد فيه كلام الله، كلام الله معنى قائم بنفسه، والمصحف عبارة عن كلام الله، والعياذ بالله.

فالمؤلف رحمه الله يرد على هؤلاء، ويبين بطلان مذهبهم، وأنه كفر وغلو، والقرآن كلام الله مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مكتوب بالألسن.

قال المصنف رحمه الله: [ فأما اللفظ بالقرآن؛ فإن الشيخ أبا بكر الإسماعيلي الجرجاني ذكر في رسالته التي صنفها لأهل جيلان قال فيها: من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق -يريد به القرآن- فقد قال بخلق القرآن.

وذكر ابن مهدي الطبري في كتابه الاعتقاد الذي صنفه لأهل هذه البلاد: أن مذهب أهل السنة والجماعة القول بأن القرآن كلام الله سبحانه ووحيه وتنزيله وأمره ونهيه غير مخلوق، ومن قال: مخلوق فهو كافر بالله العظيم، وأن القرآن في صدورنا محفوظ، وبألسنتنا مقروء، وفي مصاحفنا مكتوب، وهو الكلام الذي تكلم الله عز وجل به، ومن قال: إن القرآن بلفظي مخلوق، أو لفظي به مخلوق، فهو جاهل ضال، كافر بالله العظيم.

وإنما ذكرت هذا الفصل بعينه من كتاب ابن مهدي لاستحساني ذلك منه؛ فإنه اتبع السلف من أصحاب الحديث في ما ذكره مع تبحره في علم الكلام، وتصانيفه الكثيرة فيه، وتقدمه وتبرزه عند أهله].

يقول المؤلف رحمه الله: إن مسألة اللفظ في القرآن حدثت ولم تكن معروفة عند السلف، وهو أن بعضهم تكلم، وقال: لفظي بالقرآن مخلوق، فأنكر عليه العلماء وأهل الحديث، وقالوا: إن هذا الكلام ليس معروفاً عند أهل السلف وأصحاب الحديث.

ولهذا نقل المؤلف رحمه الله عن الشيخ أبي بكر الإسماعيلي الجرجاني أنه ذكر في المسألة التي صنفها لأهل جيلان قال فيها: من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فقد قال بخلق القرآن، وهذه المسألة حصل فيها فتنة في بين المحدثين، حتى أن البخاري رحمه الله رمي بمسألة اللفظ، وهجره بعض أهل الحديث، وقالوا: إنه يقول بمسألة اللفظ، وهي مسألة محدثة، وهي قول: لفظي بالقرآن مخلوق، يقول: هذا باطل، هذا الكلام ليس معروفاً عند السلف، القرآن كلام الله منزل غير مخلوق؛ لأن هذا خلاف ما كان عليه السلف الصالح، والبخاري رحمه الله ذكر في صحيحه في كتاب التوحيد أن الإنسان مخلوق في أقواله وأفعاله، وأما كلام الله فهو منزل غير مخلوق.

فالذي يقول: إن لفظي بالقرآن مخلوق. قال قولاً مبتدعاً لم يقله السلف، ولهذا قال كثير من السلف كما نقل المؤلف رحمه الله عن أبي بكر الإسماعيلي أنه قال: (من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فقد قال بخلق القرآن)، أنكر هذه اللفظة، لا تقل: لفظي بالقرآن مخلوق، قل: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، أما الإنسان فهو مخلوق في أقواله وأفعاله، لكن لا تخصص القرآن.

وكذلك ذكر عن ابن مهدي في كتاب الاعتقاد: أن مذهب أهل السنة القول بأن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله وأمره ونهيه غير مخلوق، ومن قال: مخلوق فهو كافر بالله العظيم، وبين كما سبق: أن القرآن في صدورنا محفوظ، وبألسنتنا مقروء، وفي مصاحفنا مكتوب، وهو كلام الله الذي تكلم به عز وجل.

قوله: (ومن قال: إن القرآن بلفظي مخلوق أو لفظي به مخلوق؛ فهو جاهل ضال كافر بالله العظيم)؛ لأنه ابتدع قولاً لم يقله السلف، والمؤلف رحمه الله يقول: إنما نقلت هذا الكلام عن ابن مهدي ؛ لأن ابن مهدي وافق السلف في هذه المسألة، وإن كان قد تعمق في علم الكلام وتبحر فيه، وله تصانيف في الكلام، إلا أنه لما وافق أهل السنة نقلت كلامه؛ لأبين للناس أن بعض أهل الكلام وافق أهل السنة في هذه المسألة لظهور الحق فيها.

قال المصنف رحمه الله: [ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: قرأت بخط أبي عمرو المستملي : سمعت أبا عثمان سعيد بن إشكاب يقول: سألت إسحاق بن إبراهيم بنيسابور عن اللفظ بالقرآن، فقال: لا ينبغي أن يناظر في هذا، القرآن كلام الله غير مخلوق.

وذكر محمد بن جرير الطبري رحمه الله في كتابه الاعتقاد الذي صنفه في هذه المسألة، وقال: أما القول في ألفاظ العباد بالقرآن فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي ولا تابعي إلا عمن في قوله الغناء والشفاء، وفي اتباعه الرشد والهدى، ومن يقوم قوله مقام الأئمة الأول؛ أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله؛ فإن أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: اللفظية جهمية، قال الله تعالى: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ [التوبة:6] ممن يسمع؟

قال: ثم سمعت جماعة من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يذكرون عنه رضي الله عنه أنه كان يقول: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق. فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق. فهو مبتدع.

قال محمد بن جرير : ولا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله غير قوله؛ إذ لم يكن لنا فيه إمام نأتم به سواه، وفيه الكفاية والمقنع، وهو الإمام المتبع رحمة الله عليه ورضوانه.

هذه ألفاظ محمد بن جرير التي نقلتها نفسها إلى ما هاهنا من كتاب الاعتقاد الذي صنفه ].

المؤلف رحمه الله نقل بسنده عن الإمام الحافظ إسحاق بن إبراهيم بن راهويه الإمام المحدث المشهور قوله في مسألة اللفظ بالقرآن، فقال: (لا ينبغي أن يناظر في هذا)، يعني: لا ينبغي أن يتكلم إنسان باللفظ، ويقول: لفظي بالقرآن مخلوق.

ثم نقل عن الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير المعروف في كتاب سماه الاعتقاد صنف في هذه المسألة، فقال الإمام ابن جرير الطبري: (أما القول في ألفاظ العباد بالقرآن)، هل نقول: ألفاظ العباد بالقرآن مخلوقة أو غير مخلوقة؟ يقول: هذه المسألة ما تكلم فيها أحد، ليس فيها أثر نعلمه عن صحابي ولا تابعي إلا عمن في قوله الغناء والشفاء، وفي اتباعه الرشد والهدى، ومن يقوم قوله مقام الأئمة الأولى، وهو الإمام أحمد رحمه الله.

هل يقال: لفظي بالقرآن مخلوق، أو يقال: غير مخلوق؟

يقول الإمام ابن جرير : ما وجدنا فيها أثراً عن الصحابة، ولا عن التابعين إلا أننا وجدنا من يتبع كلامه، وفي كلامه الغناء والشفاء، وفي اتباعه الرشد والهدى، وهو الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إمام أهل السنة والجماعة، ثم روى بسنده عن أبي إسماعيل الترمذي أنه قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: اللفظية جهمية، واللفظية هم الذين يقولون: لفظي بالقرآن مخلوق.

قال الله تعالى: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] يقول الإمام أحمد من يسمع؟

الإمام أحمد استدل على أن اللفظية جهمية بالآية: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، قال الإمام أحمد ممن يسمع؟ أليس يسمع كلام الله؟

ثم قال أيضاً: سمعت جماعة من أصحابنا يذكرون عن الإمام أحمد أنه قال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق. فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق. فهو مبتدع.

هذه العبارة مشهورة عن الإمام أحمد: فمن قال: غير مخلوق مبتدع؛ لأنه خالف ما عليه أهل السنة والجماعة.

وقد اختلف العلماء في تفسير هذه الكلمة وذكرها ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة وأطال وقال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ لأنه قد يطلق اللفظ على الملفوظ، والملفوظ هو كلام الله، فيكون هذا قول الجهمية، وكذلك من قال: غير مخلوق؛ لأنه قد يطلق الملفوظ على اللفظ أيضاً، فيكون هذا مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة، فيكون مبتدعاً في هذه المقالة؛ ولأن اللفظ يطلق على الشيء الملفوظ وهو الشيء الساقط.

فإذاً: الإمام أحمد سد الباب، ولا يوجد روايات بعده، لا تقل: لفظي بالقرآن مخلوق، ولا تقل: غير مخلوق، من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق، فهو مبتدع.

إذاً قل: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، واترك مسألة اللفظ لا نفياً وإثباتاً، لا تقل: لفظي بالقرآن مخلوق ولا غير مخلوق.

يقول محمد بن جرير الطبري رحمه الله: (لا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله غير قوله)، أي: ليس هناك لنا قول يجوز أن نقوله ونعتمده إلا قول الإمام أحمد ، ونحن نقول مثلما يقول الإمام أحمد لا نتكلم في اللفظ لا نفياً ولا إثباتاً، نقول: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق؛ فهو مبتدع، فلا قول لنا بعد قول الإمام أحمد ، هذا كلام ابن جرير لماذا؟ قال: لأنه إمام يؤتم به، وفي الإمامة به كفاية ومقنع، فهو عدل معروف عند جميع أهل السنة والجماعة، وهو إمام أهل السنة والجماعة، فلا نتجاوز قوله، وهو الإمام المتبع رحمة الله عليه ورضوانه.

قوله: (هذه ألفاظ محمد بن جرير التي نقلتها نفسها إلى ما هاهنا من كتاب الاعتقاد الذي صنفه) كتاب ابن جرير سماه الاعتقاد نقل فيه كلام الإمام أحمد ، واعتمده في هذه المسألة، وعلى هذا فلا ينبغي للإنسان أن يقول: لفظي بالقرآن مخلوق ولا غير مخلوق.

واللفظية شر من الجهمية، وهنا نقول: كلام الله منزل غير مخلوق، وكلام الله نفسه هو معناه، ولا يقال: لفظي بالقرآن مخلوق ولا غير مخلوق.

قال المصنف رحمه الله: [ قلت: وهو -أعني: محمد بن جرير - قد نفى عن نفسه بهذا الفصل الذي ذكره في كتابه كل ما نسب إليه، وقذف به من عدول عن سبيل السنة، أو ميل إلى شيء من البدعة، والذي حكاه عن أحمد رضي الله عنه وأرضاه: أن اللفظية جهمية، فصحيح عنه وإنما قال ذلك؛ لأن جهماً وأصحابه صرحوا بخلق القرآن، والذين قالوا باللفظ تدرجوا به إلى القول بخلق القرآن، وخافوا أهل السنة في ذلك الزمان من التصريح بخلق القرآن ].

يقول أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني رحمه الله تعالى بعدما نقل كلام ابن جرير رحمه الله فيما نقل عن الإمام أحمد أن القول بخلق القرآن كفر وضلال، وأن من قال: لفظي بالقرآن فهو جهمي، يقول الصابوني رحمه الله: والإمام محمد بن جرير الطبري عندما نقل هذا القول عن الإمام أحمد يدل على أنه من أهل السنة والجماعة، وأنه موافق للإمام أحمد رحمه الله في المذهب، وأن من قذفه بأنه ليس من أهل السنة والجماعة، أو أن له قولاً يعدل به عن سبيل السنة، أو يميل إلى شيء من البدعة أن هذا ليس بصحيح، ومن رماه بأنه مبتدع فقد أخطأ، لأنه حينما نقل عن الإمام أحمد هذا المقال دل على أنه موافق له، وأنه من أهل السنة والجماعة.

إذاً: هناك بعض الناس رموا الإمام محمد بن جرير الطبري بأنه ليس على مذهب الإمام أحمد ، وقذفوه بأن له عدولاً عن سبيل السنة، وأنه يميل إلى شيء من البدعة؛ فأنكر الصابوني هذا الكلام.

قوله: (والذي حكاه عن أحمد أن اللفظية جهمية فصحيح عنه، وإنما قال ذلك لأن جهماً وأصحابه صرحوا بخلق القرآن ].

الجهم بن صفوان السمرقندي الترمذي ، وتنسب إليه عقيدة نفي الأسماء والصفات، وأول من ابتدع القول بنفي الصفات هو الجعد بن درهم ، وقد قتله خالد بن عبد الله القسري كما سيبين المؤلف رحمه الله، ولكن قبل قتله اتصل به الجهم وأخذ عنه عقيدة نفي الصفات، وقد تزعم الجهم خلط العقائد الخبيثة، كعقيدة نفي الأسماء والصفات، وعقيدة الإرجاء، أي: القول بأن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان - وعقيدة الجبر - القول بأن الإنسان مجبور على أفعاله، وعقيدة القول بفناء الجنة والنار.

فـالجهم اشتهر بهذه العقائد الأربع، وقد قتل الجهم بن صفوان سلم بن أحوز أمير خراسان، وتنسب إلى الجهم طائفة الجهمية الذين ينفون الأسماء والصفات عن الله عز وجل، ونفي الأسماء والصفات عن الله كفر وضلال؛ لأن معناه العدم، فالشيء الذي ليس له اسم ولا صفة لا وجود له، فلا يوجد شيء إلا وله اسم وصفة، حتى الجماد، فالطاولة مثلاً تصفها بأن لها طولاً، ولها عرضاً، ولها عمقاً، وتصفها بأنها موجودة، فإذا قلت: إن هناك طاولة ليس لها طول ولا عرض ولا عمق، وليست داخل العالم ولا خارج العالم، ولا متصلة بالعالم، ولا منفصلة عن العالم، ولا حالة بالعالم، ولا خارجة عنه، ماذا تكون؟! هذا عدم.

فهؤلاء الجهمية نفوا عن الله جميع الأسماء والصفات؛ فألزمهم العلماء بأن هذا إنكار لوجود الله، ولهذا قال العلماء: إن أقوال الجهمية تدور على أنه: ليس فوق السماء إله، وليس فوق العرش إله يعبد، نسأل الله السلامة والعافية.

يقول عبد الله بن المبارك : إنا لنحكي أقوال اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي أقوال الجهمية؛ من خبث أقوالهم.

قوله: (والذين قالوا باللفظ تدرجوا به إلى القول بخلق القرآن، وخافوا أهل السنة في ذلك الزمان من التصريح بخلق القرآن) أي أن الذين قالوا: لفظي بالقرآن مخلوق تستروا، وما استطاعوا أن يقولوا: القرآن مخلوق خوفاً من أن تقطع رقابهم ويقتلوا، فقال الواحد منهم: لفظي بالقرآن مخلوق. وتدرجوا به إلى القول بخلق القرآن، وخافوا أهل السنة في ذلك الزمان -لأن لهم قوة- من التصريح بخلق القرآن فأدرجوه في هذا القول، أي: قولهم: لفظي بالقرآن مخلوق، لئلا يعدوا في زمرة الجهم فيقتلوا، فجاءوا بقول ملبس يدخلون فيه ما يريدون من الكفر دون أن يكشف أمرهم.

قال المصنف رحمه الله: [ فأدرجوه في هذا القول ذي اللبس لئلا يعدوا في زمرة الجهم الذين هم شياطين الإنس يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، فذكروا هذا اللفظ وأرادوا أن القرآن بلفظنا مخلوق، فلذلك سماهم أحمد رحمه الله جهمية، وحكي عنه أيضاً أنه قال: اللفظية شر من الجهمية ].

الجهمية قالوا: القرآن مخلوق وصرحوا، واللفظية لم يصرحوا وأرادوا أن يقول الواحد منهم: القرآن مخلوق؛ لكن سلكوا مسلك النفاق الذي هو كفر وزيادة، فاليهودي والنصراني والوثني كافر واضح ومكشوف، لكن المنافق يظهر الإسلام ويبطن الكفر، فهو كافر لأنه يبطن الكفر، وزاد على الكفر بالتلبيس؛ فصار ذنبه أشد، ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى المنافقين في الدرك الأسفل من النار، فكذلك الذين قالوا: لفظي بالقرآن مخلوق يريدون أن القرآن مخلوق، ولكن سلكوا مسلك التلبيس والنفاق فصاروا منافقين، وافقوا القائلين بأن القرآن مخلوق، وزادوا عليهم باللبس، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: اللفظية شر من الجهمية؛ لأنهم وافقوا الجهمية وزادوا عليهم بالتلبيس والنفاق.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأما ما حكاه محمد بن جرير عن أحمد رحمه الله أن من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع، فإنما أراد به أن السلف من أهل السنة لم يتكلموا في باب اللفظ، ولم يحوجهم الحال إليه، وإنما حدث الكلام في اللفظ من أهل التعمق وذوي الحمق الذين أتوا بالمحدثات، وبحثوا عما نهوا عنه من الضلالات وذميم المقالات، وخاضوا فيما لم يخض فيه السلف من علماء الإسلام، فقال الإمام -أي: أحمد رحمه الله-: هذا القول في نفسه بدعة، ومن حق المتسنن أن يدعه، وكل بدعة مبتدعة، ولا يتفوه به، ولا بمثله من البدع المبتدعة، ويقتصر على ما قاله السلف من الأئمة المتبعة؛ أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولا يزيد عليه إلا تكفير من يقول بخلقه ].

قوله: (وأما ما حكاه ابن جرير رحمه الله عن الإمام أحمد أنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع) هذه الجملة مشهورة عن الإمام أحمد أنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي؛ لأنه يتدرج به إلى القول بخلق القرآن، ولأنه قاله نفاقاً، وأما من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع، والسبب في كونه مبتدعاً أن الإمام أحمد أراد من هذا أن السلف الصالح من أهل السنة لم يتكلموا في باب اللفظ، فلم يقولوا: اللفظ مخلوق ولا غير مخلوق، فمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع؛ لأنه قال قولاً لم يقله أحد من السلف.

قوله: (وإنما حدث الكلام في اللفظ من أهل التعمق وذوي الحمق) أي: الذين يتعمقون ويتكلفون أشياء لم يقلها السلف.

قوله: (فأتوا بالمحدثات من الدين، وبحثوا عما نهوا عنه من الضلالات وذميم المقالات، وخاضوا في ما لم يخض فيه السلف من علماء الإسلام)؛ ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع.

قوله: (فقال الإمام: هذا القول في نفسه بدعة، ومن حق المتسنن -وفي النسخة الأخرى (المتدين)- أن يدعه)، أي: يترك هذا الأمر فلا يقول: لفظي بالقرآن مخلوق ولا غير مخلوق، (ولا يتفوه به ولا بمثله من البدع المبتدعة، ويقتصر على ما قاله السلف من الأئمة المتبعة) أي من العلماء والأئمة، (أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولا يزيد عليه إلا تكفير من يقول بخلقه) إذاً القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، ومن قال: القرآن مخلوق فهو كافر على وجه العموم، أما الشخص المعيَّن الذي يقول: القرآن مخلوق فهذا لا بد من قيام الحجة عليه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجراحي بمرو، قال: حدثنا يحيى بن سالوكه ، عنه أبيه عبد الكريم السندي ، قال: قال وهب بن زمعة : أخبرني علي الباساني قال: سمعت عبد الله بن المبارك رحمه الله يقول: من كفر بحرف من القرآن فقد كفر بالقرآن، ومن قال: لا أؤمن بهذا الكلام فقد كفر ].

هنا نقل الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله بسنده عن الحاكم في كتابه التاريخ الذي جمعه بنيسابور، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله هنا: الخراجي وفي نسخة: الجراحي ، - ويحتاج إلى مراجعة - عن يحيى بن سالوكه عن أبيه عبد الكريم السندي ، وفي نسخة: اليشكري بدلاً من: السندي ، وفي النسخة الثالثة: شاكويه بدلاً من: سالوكه ، وهذا يحتاج إلى مراجعة، فنقل بسنده عن عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه قال: من كفر بحرف من القرآن فقد كفر بالقرآن كله. يعني: من أنكر حرفاً من كلام الله - من القرآن - فهو كافر، ومن جحد حرفاً من القرآن فهو كافر، ومن قال: لا أؤمن بهذا الكلام، وفي نسخة: اللام يعني: بحرف اللام، أو لا أؤمن بهذا الكلام فقد كفر. يعني: من لم يؤمن بالقرآن فهو كافر، ومن جحد حرفاً أو كلمة من القرآن فهو كافر، نسأل الله العافية؛ لأن القرآن كلام الله، وهو متواتر ومعلوم من الدين بالضرورة أن القرآن كلام الله، فمن أنكر شيئاً منه ولو حرفاً واحداً فإنه يكفر.

ذكر المؤلف رحمه الله سنده عن شيخه الحاكم ، والحاكم يروي عن حسان بن محمد، وحسان بن محمد يروي عن الإمام أبي بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة صاحب الصحيح يقول: (القرآن كلام الله غير مخلوق، فمن قال: إن القرآن مخلوق فهو كافر بالله العظيم، ولا تقبل شهادته، ولا يعاد إن مرض، ولا يصلى عليه إن مات، ولا يدفن في مقابر المسلمين ويستتاب، فإن تاب وإلا ضربت عنقه).

إذاً: الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة كفر من قال: القرآن مخلوق، يقول: كافر لا تقبل شهادته؛ لأنه لا تقبل شهادة الكافر على المسلم، ولا يعاد إن مرض؛ لأنه ليس من المسلمين، ولا يصلى عليه إذا مات، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ويستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه.

وروي عنه أنه قال: من لم يقل بأن الله مستوٍ على خلقه، مستوٍ على عرشه، بائن عن خلقه، يستتاب فإن تاب وإلا ضربت عنقه، وطرح على مزبلة حتى لا يتأذى به أهل الإسلام ولا أهل الذمة؛ لأن كفره أشد من كفر، نسأل الله السلامة والعافية.

والمؤلف رحمه الله قصده من هذا: الرد على من أنكر أن يكون كلام الله في المصاحف، فالأشاعرة يقولون: كلام الله هو القائم بنفسه، أما المصاحف فلا يوجد فيها كلام الله، هذا مع أنهم أقرب الطوائف، حتى إن بعضهم غلا تجده يدوس المصحف بقدميه، فإذا قيل له في ذلك؟ قال: لا يوجد فيه كلام الله، كلام الله معنى قائم بنفسه، والمصحف عبارة عن كلام الله، والعياذ بالله.

فالمؤلف رحمه الله يرد على هؤلاء، ويبين بطلان مذهبهم، وأنه كفر وغلو، والقرآن كلام الله مكتوب في المصاحف، محفوظ في الصدور، مكتوب بالألسن.

قال المصنف رحمه الله: [ فأما اللفظ بالقرآن؛ فإن الشيخ أبا بكر الإسماعيلي الجرجاني ذكر في رسالته التي صنفها لأهل جيلان قال فيها: من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق -يريد به القرآن- فقد قال بخلق القرآن.

وذكر ابن مهدي الطبري في كتابه الاعتقاد الذي صنفه لأهل هذه البلاد: أن مذهب أهل السنة والجماعة القول بأن القرآن كلام الله سبحانه ووحيه وتنزيله وأمره ونهيه غير مخلوق، ومن قال: مخلوق فهو كافر بالله العظيم، وأن القرآن في صدورنا محفوظ، وبألسنتنا مقروء، وفي مصاحفنا مكتوب، وهو الكلام الذي تكلم الله عز وجل به، ومن قال: إن القرآن بلفظي مخلوق، أو لفظي به مخلوق، فهو جاهل ضال، كافر بالله العظيم.

وإنما ذكرت هذا الفصل بعينه من كتاب ابن مهدي لاستحساني ذلك منه؛ فإنه اتبع السلف من أصحاب الحديث في ما ذكره مع تبحره في علم الكلام، وتصانيفه الكثيرة فيه، وتقدمه وتبرزه عند أهله].

يقول المؤلف رحمه الله: إن مسألة اللفظ في القرآن حدثت ولم تكن معروفة عند السلف، وهو أن بعضهم تكلم، وقال: لفظي بالقرآن مخلوق، فأنكر عليه العلماء وأهل الحديث، وقالوا: إن هذا الكلام ليس معروفاً عند أهل السلف وأصحاب الحديث.

ولهذا نقل المؤلف رحمه الله عن الشيخ أبي بكر الإسماعيلي الجرجاني أنه ذكر في المسألة التي صنفها لأهل جيلان قال فيها: من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فقد قال بخلق القرآن، وهذه المسألة حصل فيها فتنة في بين المحدثين، حتى أن البخاري رحمه الله رمي بمسألة اللفظ، وهجره بعض أهل الحديث، وقالوا: إنه يقول بمسألة اللفظ، وهي مسألة محدثة، وهي قول: لفظي بالقرآن مخلوق، يقول: هذا باطل، هذا الكلام ليس معروفاً عند السلف، القرآن كلام الله منزل غير مخلوق؛ لأن هذا خلاف ما كان عليه السلف الصالح، والبخاري رحمه الله ذكر في صحيحه في كتاب التوحيد أن الإنسان مخلوق في أقواله وأفعاله، وأما كلام الله فهو منزل غير مخلوق.

فالذي يقول: إن لفظي بالقرآن مخلوق. قال قولاً مبتدعاً لم يقله السلف، ولهذا قال كثير من السلف كما نقل المؤلف رحمه الله عن أبي بكر الإسماعيلي أنه قال: (من زعم أن لفظه بالقرآن مخلوق يريد به القرآن فقد قال بخلق القرآن)، أنكر هذه اللفظة، لا تقل: لفظي بالقرآن مخلوق، قل: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، أما الإنسان فهو مخلوق في أقواله وأفعاله، لكن لا تخصص القرآن.

وكذلك ذكر عن ابن مهدي في كتاب الاعتقاد: أن مذهب أهل السنة القول بأن القرآن كلام الله ووحيه وتنزيله وأمره ونهيه غير مخلوق، ومن قال: مخلوق فهو كافر بالله العظيم، وبين كما سبق: أن القرآن في صدورنا محفوظ، وبألسنتنا مقروء، وفي مصاحفنا مكتوب، وهو كلام الله الذي تكلم به عز وجل.

قوله: (ومن قال: إن القرآن بلفظي مخلوق أو لفظي به مخلوق؛ فهو جاهل ضال كافر بالله العظيم)؛ لأنه ابتدع قولاً لم يقله السلف، والمؤلف رحمه الله يقول: إنما نقلت هذا الكلام عن ابن مهدي ؛ لأن ابن مهدي وافق السلف في هذه المسألة، وإن كان قد تعمق في علم الكلام وتبحر فيه، وله تصانيف في الكلام، إلا أنه لما وافق أهل السنة نقلت كلامه؛ لأبين للناس أن بعض أهل الكلام وافق أهل السنة في هذه المسألة لظهور الحق فيها.

قال المصنف رحمه الله: [ أخبرنا أبو عبد الله الحافظ قال: قرأت بخط أبي عمرو المستملي : سمعت أبا عثمان سعيد بن إشكاب يقول: سألت إسحاق بن إبراهيم بنيسابور عن اللفظ بالقرآن، فقال: لا ينبغي أن يناظر في هذا، القرآن كلام الله غير مخلوق.

وذكر محمد بن جرير الطبري رحمه الله في كتابه الاعتقاد الذي صنفه في هذه المسألة، وقال: أما القول في ألفاظ العباد بالقرآن فلا أثر فيه نعلمه عن صحابي ولا تابعي إلا عمن في قوله الغناء والشفاء، وفي اتباعه الرشد والهدى، ومن يقوم قوله مقام الأئمة الأول؛ أبي عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله؛ فإن أبا إسماعيل الترمذي حدثني قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل رحمه الله يقول: اللفظية جهمية، قال الله تعالى: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ [التوبة:6] ممن يسمع؟

قال: ثم سمعت جماعة من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يذكرون عنه رضي الله عنه أنه كان يقول: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق. فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق. فهو مبتدع.

قال محمد بن جرير : ولا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله غير قوله؛ إذ لم يكن لنا فيه إمام نأتم به سواه، وفيه الكفاية والمقنع، وهو الإمام المتبع رحمة الله عليه ورضوانه.

هذه ألفاظ محمد بن جرير التي نقلتها نفسها إلى ما هاهنا من كتاب الاعتقاد الذي صنفه ].

المؤلف رحمه الله نقل بسنده عن الإمام الحافظ إسحاق بن إبراهيم بن راهويه الإمام المحدث المشهور قوله في مسألة اللفظ بالقرآن، فقال: (لا ينبغي أن يناظر في هذا)، يعني: لا ينبغي أن يتكلم إنسان باللفظ، ويقول: لفظي بالقرآن مخلوق.

ثم نقل عن الإمام أبي جعفر محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير المعروف في كتاب سماه الاعتقاد صنف في هذه المسألة، فقال الإمام ابن جرير الطبري: (أما القول في ألفاظ العباد بالقرآن)، هل نقول: ألفاظ العباد بالقرآن مخلوقة أو غير مخلوقة؟ يقول: هذه المسألة ما تكلم فيها أحد، ليس فيها أثر نعلمه عن صحابي ولا تابعي إلا عمن في قوله الغناء والشفاء، وفي اتباعه الرشد والهدى، ومن يقوم قوله مقام الأئمة الأولى، وهو الإمام أحمد رحمه الله.

هل يقال: لفظي بالقرآن مخلوق، أو يقال: غير مخلوق؟

يقول الإمام ابن جرير : ما وجدنا فيها أثراً عن الصحابة، ولا عن التابعين إلا أننا وجدنا من يتبع كلامه، وفي كلامه الغناء والشفاء، وفي اتباعه الرشد والهدى، وهو الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إمام أهل السنة والجماعة، ثم روى بسنده عن أبي إسماعيل الترمذي أنه قال: سمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل يقول: اللفظية جهمية، واللفظية هم الذين يقولون: لفظي بالقرآن مخلوق.

قال الله تعالى: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6] يقول الإمام أحمد من يسمع؟

الإمام أحمد استدل على أن اللفظية جهمية بالآية: فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ [التوبة:6]، قال الإمام أحمد ممن يسمع؟ أليس يسمع كلام الله؟

ثم قال أيضاً: سمعت جماعة من أصحابنا يذكرون عن الإمام أحمد أنه قال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق. فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق. فهو مبتدع.

هذه العبارة مشهورة عن الإمام أحمد: فمن قال: غير مخلوق مبتدع؛ لأنه خالف ما عليه أهل السنة والجماعة.

وقد اختلف العلماء في تفسير هذه الكلمة وذكرها ابن القيم رحمه الله في الصواعق المرسلة وأطال وقال: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق؛ لأنه قد يطلق اللفظ على الملفوظ، والملفوظ هو كلام الله، فيكون هذا قول الجهمية، وكذلك من قال: غير مخلوق؛ لأنه قد يطلق الملفوظ على اللفظ أيضاً، فيكون هذا مخالف لما عليه أهل السنة والجماعة، فيكون مبتدعاً في هذه المقالة؛ ولأن اللفظ يطلق على الشيء الملفوظ وهو الشيء الساقط.

فإذاً: الإمام أحمد سد الباب، ولا يوجد روايات بعده، لا تقل: لفظي بالقرآن مخلوق، ولا تقل: غير مخلوق، من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق، فهو مبتدع.

إذاً قل: القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، واترك مسألة اللفظ لا نفياً وإثباتاً، لا تقل: لفظي بالقرآن مخلوق ولا غير مخلوق.

يقول محمد بن جرير الطبري رحمه الله: (لا قول في ذلك عندنا يجوز أن نقوله غير قوله)، أي: ليس هناك لنا قول يجوز أن نقوله ونعتمده إلا قول الإمام أحمد ، ونحن نقول مثلما يقول الإمام أحمد لا نتكلم في اللفظ لا نفياً ولا إثباتاً، نقول: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق؛ فهو مبتدع، فلا قول لنا بعد قول الإمام أحمد ، هذا كلام ابن جرير لماذا؟ قال: لأنه إمام يؤتم به، وفي الإمامة به كفاية ومقنع، فهو عدل معروف عند جميع أهل السنة والجماعة، وهو إمام أهل السنة والجماعة، فلا نتجاوز قوله، وهو الإمام المتبع رحمة الله عليه ورضوانه.

قوله: (هذه ألفاظ محمد بن جرير التي نقلتها نفسها إلى ما هاهنا من كتاب الاعتقاد الذي صنفه) كتاب ابن جرير سماه الاعتقاد نقل فيه كلام الإمام أحمد ، واعتمده في هذه المسألة، وعلى هذا فلا ينبغي للإنسان أن يقول: لفظي بالقرآن مخلوق ولا غير مخلوق.

واللفظية شر من الجهمية، وهنا نقول: كلام الله منزل غير مخلوق، وكلام الله نفسه هو معناه، ولا يقال: لفظي بالقرآن مخلوق ولا غير مخلوق.

قال المصنف رحمه الله: [ قلت: وهو -أعني: محمد بن جرير - قد نفى عن نفسه بهذا الفصل الذي ذكره في كتابه كل ما نسب إليه، وقذف به من عدول عن سبيل السنة، أو ميل إلى شيء من البدعة، والذي حكاه عن أحمد رضي الله عنه وأرضاه: أن اللفظية جهمية، فصحيح عنه وإنما قال ذلك؛ لأن جهماً وأصحابه صرحوا بخلق القرآن، والذين قالوا باللفظ تدرجوا به إلى القول بخلق القرآن، وخافوا أهل السنة في ذلك الزمان من التصريح بخلق القرآن ].

يقول أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني رحمه الله تعالى بعدما نقل كلام ابن جرير رحمه الله فيما نقل عن الإمام أحمد أن القول بخلق القرآن كفر وضلال، وأن من قال: لفظي بالقرآن فهو جهمي، يقول الصابوني رحمه الله: والإمام محمد بن جرير الطبري عندما نقل هذا القول عن الإمام أحمد يدل على أنه من أهل السنة والجماعة، وأنه موافق للإمام أحمد رحمه الله في المذهب، وأن من قذفه بأنه ليس من أهل السنة والجماعة، أو أن له قولاً يعدل به عن سبيل السنة، أو يميل إلى شيء من البدعة أن هذا ليس بصحيح، ومن رماه بأنه مبتدع فقد أخطأ، لأنه حينما نقل عن الإمام أحمد هذا المقال دل على أنه موافق له، وأنه من أهل السنة والجماعة.

إذاً: هناك بعض الناس رموا الإمام محمد بن جرير الطبري بأنه ليس على مذهب الإمام أحمد ، وقذفوه بأن له عدولاً عن سبيل السنة، وأنه يميل إلى شيء من البدعة؛ فأنكر الصابوني هذا الكلام.

قوله: (والذي حكاه عن أحمد أن اللفظية جهمية فصحيح عنه، وإنما قال ذلك لأن جهماً وأصحابه صرحوا بخلق القرآن ].

الجهم بن صفوان السمرقندي الترمذي ، وتنسب إليه عقيدة نفي الأسماء والصفات، وأول من ابتدع القول بنفي الصفات هو الجعد بن درهم ، وقد قتله خالد بن عبد الله القسري كما سيبين المؤلف رحمه الله، ولكن قبل قتله اتصل به الجهم وأخذ عنه عقيدة نفي الصفات، وقد تزعم الجهم خلط العقائد الخبيثة، كعقيدة نفي الأسماء والصفات، وعقيدة الإرجاء، أي: القول بأن الأعمال ليست داخلة في مسمى الإيمان - وعقيدة الجبر - القول بأن الإنسان مجبور على أفعاله، وعقيدة القول بفناء الجنة والنار.

فـالجهم اشتهر بهذه العقائد الأربع، وقد قتل الجهم بن صفوان سلم بن أحوز أمير خراسان، وتنسب إلى الجهم طائفة الجهمية الذين ينفون الأسماء والصفات عن الله عز وجل، ونفي الأسماء والصفات عن الله كفر وضلال؛ لأن معناه العدم، فالشيء الذي ليس له اسم ولا صفة لا وجود له، فلا يوجد شيء إلا وله اسم وصفة، حتى الجماد، فالطاولة مثلاً تصفها بأن لها طولاً، ولها عرضاً، ولها عمقاً، وتصفها بأنها موجودة، فإذا قلت: إن هناك طاولة ليس لها طول ولا عرض ولا عمق، وليست داخل العالم ولا خارج العالم، ولا متصلة بالعالم، ولا منفصلة عن العالم، ولا حالة بالعالم، ولا خارجة عنه، ماذا تكون؟! هذا عدم.

فهؤلاء الجهمية نفوا عن الله جميع الأسماء والصفات؛ فألزمهم العلماء بأن هذا إنكار لوجود الله، ولهذا قال العلماء: إن أقوال الجهمية تدور على أنه: ليس فوق السماء إله، وليس فوق العرش إله يعبد، نسأل الله السلامة والعافية.

يقول عبد الله بن المبارك : إنا لنحكي أقوال اليهود والنصارى ولا نستطيع أن نحكي أقوال الجهمية؛ من خبث أقوالهم.

قوله: (والذين قالوا باللفظ تدرجوا به إلى القول بخلق القرآن، وخافوا أهل السنة في ذلك الزمان من التصريح بخلق القرآن) أي أن الذين قالوا: لفظي بالقرآن مخلوق تستروا، وما استطاعوا أن يقولوا: القرآن مخلوق خوفاً من أن تقطع رقابهم ويقتلوا، فقال الواحد منهم: لفظي بالقرآن مخلوق. وتدرجوا به إلى القول بخلق القرآن، وخافوا أهل السنة في ذلك الزمان -لأن لهم قوة- من التصريح بخلق القرآن فأدرجوه في هذا القول، أي: قولهم: لفظي بالقرآن مخلوق، لئلا يعدوا في زمرة الجهم فيقتلوا، فجاءوا بقول ملبس يدخلون فيه ما يريدون من الكفر دون أن يكشف أمرهم.

قال المصنف رحمه الله: [ فأدرجوه في هذا القول ذي اللبس لئلا يعدوا في زمرة الجهم الذين هم شياطين الإنس يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، فذكروا هذا اللفظ وأرادوا أن القرآن بلفظنا مخلوق، فلذلك سماهم أحمد رحمه الله جهمية، وحكي عنه أيضاً أنه قال: اللفظية شر من الجهمية ].

الجهمية قالوا: القرآن مخلوق وصرحوا، واللفظية لم يصرحوا وأرادوا أن يقول الواحد منهم: القرآن مخلوق؛ لكن سلكوا مسلك النفاق الذي هو كفر وزيادة، فاليهودي والنصراني والوثني كافر واضح ومكشوف، لكن المنافق يظهر الإسلام ويبطن الكفر، فهو كافر لأنه يبطن الكفر، وزاد على الكفر بالتلبيس؛ فصار ذنبه أشد، ولهذا جعل الله سبحانه وتعالى المنافقين في الدرك الأسفل من النار، فكذلك الذين قالوا: لفظي بالقرآن مخلوق يريدون أن القرآن مخلوق، ولكن سلكوا مسلك التلبيس والنفاق فصاروا منافقين، وافقوا القائلين بأن القرآن مخلوق، وزادوا عليهم باللبس، ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: اللفظية شر من الجهمية؛ لأنهم وافقوا الجهمية وزادوا عليهم بالتلبيس والنفاق.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ وأما ما حكاه محمد بن جرير عن أحمد رحمه الله أن من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع، فإنما أراد به أن السلف من أهل السنة لم يتكلموا في باب اللفظ، ولم يحوجهم الحال إليه، وإنما حدث الكلام في اللفظ من أهل التعمق وذوي الحمق الذين أتوا بالمحدثات، وبحثوا عما نهوا عنه من الضلالات وذميم المقالات، وخاضوا فيما لم يخض فيه السلف من علماء الإسلام، فقال الإمام -أي: أحمد رحمه الله-: هذا القول في نفسه بدعة، ومن حق المتسنن أن يدعه، وكل بدعة مبتدعة، ولا يتفوه به، ولا بمثله من البدع المبتدعة، ويقتصر على ما قاله السلف من الأئمة المتبعة؛ أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولا يزيد عليه إلا تكفير من يقول بخلقه ].

قوله: (وأما ما حكاه ابن جرير رحمه الله عن الإمام أحمد أنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع) هذه الجملة مشهورة عن الإمام أحمد أنه قال: من قال لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي؛ لأنه يتدرج به إلى القول بخلق القرآن، ولأنه قاله نفاقاً، وأما من قال: لفظي بالقرآن غير مخلوق فهو مبتدع، والسبب في كونه مبتدعاً أن الإمام أحمد أراد من هذا أن السلف الصالح من أهل السنة لم يتكلموا في باب اللفظ، فلم يقولوا: اللفظ مخلوق ولا غير مخلوق، فمن قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع؛ لأنه قال قولاً لم يقله أحد من السلف.

قوله: (وإنما حدث الكلام في اللفظ من أهل التعمق وذوي الحمق) أي: الذين يتعمقون ويتكلفون أشياء لم يقلها السلف.

قوله: (فأتوا بالمحدثات من الدين، وبحثوا عما نهوا عنه من الضلالات وذميم المقالات، وخاضوا في ما لم يخض فيه السلف من علماء الإسلام)؛ ولهذا قال الإمام أحمد رحمه الله: من قال: لفظي بالقرآن مخلوق فهو جهمي، ومن قال: غير مخلوق فهو مبتدع.

قوله: (فقال الإمام: هذا القول في نفسه بدعة، ومن حق المتسنن -وفي النسخة الأخرى (المتدين)- أن يدعه)، أي: يترك هذا الأمر فلا يقول: لفظي بالقرآن مخلوق ولا غير مخلوق، (ولا يتفوه به ولا بمثله من البدع المبتدعة، ويقتصر على ما قاله السلف من الأئمة المتبعة) أي من العلماء والأئمة، (أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولا يزيد عليه إلا تكفير من يقول بخلقه) إذاً القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، ومن قال: القرآن مخلوق فهو كافر على وجه العموم، أما الشخص المعيَّن الذي يقول: القرآن مخلوق فهذا لا بد من قيام الحجة عليه.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا الحاكم أبو عبد الله الحافظ قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الجراحي بمرو، قال: حدثنا يحيى بن سالوكه ، عنه أبيه عبد الكريم السندي ، قال: قال وهب بن زمعة : أخبرني علي الباساني قال: سمعت عبد الله بن المبارك رحمه الله يقول: من كفر بحرف من القرآن فقد كفر بالقرآن، ومن قال: لا أؤمن بهذا الكلام فقد كفر ].

هنا نقل الإمام أبو عثمان الصابوني رحمه الله بسنده عن الحاكم في كتابه التاريخ الذي جمعه بنيسابور، قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله هنا: الخراجي وفي نسخة: الجراحي ، - ويحتاج إلى مراجعة - عن يحيى بن سالوكه عن أبيه عبد الكريم السندي ، وفي نسخة: اليشكري بدلاً من: السندي ، وفي النسخة الثالثة: شاكويه بدلاً من: سالوكه ، وهذا يحتاج إلى مراجعة، فنقل بسنده عن عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه قال: من كفر بحرف من القرآن فقد كفر بالقرآن كله. يعني: من أنكر حرفاً من كلام الله - من القرآن - فهو كافر، ومن جحد حرفاً من القرآن فهو كافر، ومن قال: لا أؤمن بهذا الكلام، وفي نسخة: اللام يعني: بحرف اللام، أو لا أؤمن بهذا الكلام فقد كفر. يعني: من لم يؤمن بالقرآن فهو كافر، ومن جحد حرفاً أو كلمة من القرآن فهو كافر، نسأل الله العافية؛ لأن القرآن كلام الله، وهو متواتر ومعلوم من الدين بالضرورة أن القرآن كلام الله، فمن أنكر شيئاً منه ولو حرفاً واحداً فإنه يكفر.