خطب ومحاضرات
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [10]
الحلقة مفرغة
قال المصنف رحمه الله تعالى: [ ويعتقد أهل السنة أن المؤمن وإن أذنب ذنوباً كثيرة صغائر وكبائر، فإنه لا يكفر بها، وإن خرج عن الدنيا غير تائب منها، ومات على التوحيد والإخلاص فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة يوم القيامة سالماً غانماً غير مبتلى بالنار، ولا معاقب على ما ارتكبه واكتسبه، ثم استصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار، وإن شاء عاقبه وعذبه مدة بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيها بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار ].
هذا فيه بيان عقيدة أهل السنة والجماعة في أصحاب الذنوب وأصحاب الكبائر من المسلمين، فقد بين المؤلف رحمه الله أن عقيدة أهل السنة والجماعة في الموحدين الذين يرتكبون الكبائر ويموتون عليها من غير توبة أنهم تحت مشيئة الله، إن شاء عفا عنهم وغفر لهم بتوحيدهم وإسلامهم وأدخلهم الجنة من أول وهلة، وإن شاء سبحانه وتعالى عذبهم بذنوبهم على قدر جرائمهم ثم يخرجون منها إلى الجنة كما قال الله عز وجل في كتابه المبين: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، وإذا عذب العاصي في النار فإنه لا بد أن يخرج منها، إما بشفاعة الشافعين، أو برحمة أرحم الراحمين، وقد تواترت الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر مؤمنون، موحدون، مصلون، فلا تأكل النار أثر السجود فيعذبهم الله مدة ثم يخرجهم، وقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات، وكذلك بقية الأنبياء يشفعون، والملائكة يشفعون، والأفراط يشفعون، والصالحون يشفعون، والشهداء يشفعون، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته، فيقول الرب سبحانه وتعالى: (شفعت الملائكة وشفع النبيون، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين فيخرج قوماً من النار لم يعملوا خيراً قط) أي: زيادة على التوحيد والإيمان، وهذه عقيدة أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة الذين يقولون: إن صاحب الكبيرة يخلد في النار وهذا مذهب باطل أنكره عليهم أهل السنة وبدعوهم وضللوهم؛ لأن النصوص في إخراج العصاة من النار متواترة، ومع ذلك أنكرها أهل البدع من الخوارج والمعتزلة، فالواجب على المسلم أن يعتني بهذا الأمر، وأن يعتقد ما يعتقده أهل السنة والجماعة، فالخوارج عندهم أن الزاني يكفر ويخلد في النار، ومن شرب الخمر كفر وخلد في النار، وكذلك المعتزلة يخرجونه من الإيمان ولا يدخلونه في الكفر لكن يخلدونه في النار كالخوارج، ومن تعامل بالربا عند الخوارج والمعتزلة كفر وخلد في النار فهو عندهم كالكافر سواء بسواء نعوذ بالله، ومن عق والديه كفر وخلد في النار وهذا مذهب باطل، عند أهل السنة والجماعة، وضعيف الإيمان لا يكفر ولكن يكون ناقص الإيمان ولا يخلد في النار بل هو تحت مشيئة الله إن شاء غفر له وإن شاء عذبه، ثم أخرجه، كما قال المؤلف رحمه الله هنا.
ويعتقد أهل السنة أن المؤمن وإن أذنب ذنوباً كثيرة صغائر كانت أو كبائر فإنه لا يكفر بها، فهذه عقيدة أهل السنة والجماعة، ومحل النزاع هو إذا خرج من الدنيا غير تائب منها، أما من فعل الكبيرة ثم تاب، تاب الله عليه بالاتفاق، فمن تاب قبل الموت من الشرك والذنوب تاب الله عليه، والله تعالى قد عرض التوبة على المثلثة النصارى الذين يقولون: إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ [المائدة:73] قال الله تعالى: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أَفَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ [المائدة:73-74] فالتوبة تجب ما قبلها وليس هناك ذنب لا يغفر أبداً، قال الله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53] يعني: لمن تاب، وقد أجمع العلماء على أن هذه الآية في التائبين فمن تاب تاب الله عليه حتى عند الخوارج المعتزلة، لكن محل النزاع: من مات على كبيرة من غير توبة هذا هو محل النزاع، فأهل السنة يقولون: هو ناقص الإيمان، أو ضعيف الإيمان، وتحت المشيئة قد يعفى عنه وقد يعذب، قد يعذب في قبره، وقد تصيبه شدائد وأهوال في موقف القيامة، وقد يعذب في النار.
أما الخوارج والمعتزلة فيقولون: هو كافر مخلد في النار نسأل الله السلامة والعافية.
ويجب على طالب العلم أن يعتني بهذا الأمر حتى لا يقع في معتقد أهل البدع. وقول المؤلف رحمه الله:
وإن خرج من الدنيا غير تائب منها ومات على التوحيد والإخلاص فإن أمره إلى الله عز وجل إن شاء عفا عنه وأدخله الجنة يوم القيامة سالماً غانماً غير مبتلى بالنار ولا معاقب على ما ارتكبه من الذنوب واكتسبه ثم استصحبه إلى يوم القيامة من الآثام والأوزار وإن شاء عفا عنه، وعذبه مدة بعذاب النار، وإذا عذبه لم يخلده فيها، بل أعتقه وأخرجه منها إلى نعيم دار القرار والدليل على هذا هو الآية الشريفة: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48] فهذه الآية في غير التائبين؛ لأن الله سبحانه وتعالى خص وعلق، فخص الشرك بأنه لا يغفر، وعلق ما دونه بالمشيئة، فدل على أنها ليست في التائبين، أما آية الزمر وهي قوله تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53] فهي في التائبين فإن الله عمم وأطلق فقال: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53] يعني: لمن تاب، فمن تاب توبة نصوحاً بأن أقلع عن الذنب، وندم عليه، وعزم على ألا يعود إليه، ورد المظلمة إلى أهلها، وكان قبل الموت وقبل طلوع الشمس من مغربها، فإن الله تعالى يغفر ذنبه مهما كان.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وكان شيخنا سهل بن محمد رحمه الله يقول:
المؤمن المذنب وإن عذب بالنار فإنه لا يلقى فيها إلقاء الكفار ولا يبقى فيها بقاء الكفار، ولا يشقى فيها شقاء الكفار، ومعنى ذلك: أن الكافر يسحب على وجهه إلى النار، ويلقى فيها منكوساً في السلاسل والأغلال والأنكال الثقال، والمؤمن المذنب إذا ابتلي بالنار فإنه يدخل النار كما يدخل المجرم في الدنيا السجن على الرجل من غير إلقاء وتنكيس ومعنى قوله: لا يلقى في النار إلقاء الكفار أن الكافر يحرق بدنه كله كلما نضج جلده بدل جلداً غيره ليذوق العذاب كما بينه الله في كتابه في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56] وأما المؤمنون فلا تلفح وجوههم النار، ولا تحرق أعضاء السجود منهم إذ حرم الله على النار أعضاء سجوده، ومعنى قوله: لا يبقى في النار بقاء الكفار. أن الكافر يخلد فيها ولا يخرج منها أبداً، ولا يخلد الله من مذنبي المؤمنين في النار أحداً، ومعنى قوله: ولا يشقى في النار شقاء الكفار: أن الكفار ييأسون فيها من رحمة الله ولا يرجون راحة بال ].
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأما المؤمنون فلا ينقطع طمعهم من رحمة الله في كل حال وعاقبة المؤمنين كلهم الجنة؛ لأنهم خلقوا لها وخلقت لهم فضلاً من الله ومنة ].
هذا الكلام الذي نقله المؤلف رحمه الله عن شيخه سهل بن محمد رحمه الله يبين فيه الفرق بين المؤمن العاصي الذي يعذب بالنار والكافر، وقال: بينهما فروق ثلاثة:
الفرق الأول: أن الكافر يؤتى به ويقذف في النار على أم رأسه ويدخل في سلسلة من النار ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ [الحاقة:32].
أما المؤمن فيدخلها على رجليه مثل المجرم الذي يدخل السجن في الدنيا. الفرق الثاني: أن الكافر تغمره النار من جميع الجهات وتحرق بدنه، أما المؤمن فلا تغمره من جميع الجهات، بل تلهبه النار على حسب أعماله، فقد تصل النار إلى ركبتيه، أو إلى كعبيه أو إلى حقويه على حسب المعاصي.
الأمر الثالث: أن الكافر ييأس من رحمة الله فليس له طمع بأن يخرج من النار بل هو يائس والعياذ بالله أبد الآباد، وأما المؤمن فإنه لا ييأس بل يرجو رحمة الله ويرجو الخروج من النار؛ لأن دخوله مؤقت؛ لأن المؤمن الموحد الأصل أنه من أهل الجنة فهو خلق للجنة لكن هذه المعاصي خبث لا بد أن يطهر منه، فمنهم من يطهر منها بعفو الله فإذا عفا الله عنها طهر منها، وإذا لم يعفو عنه فلا بد أن يطهر بالنار، مثل النجاسة التي تصيب الثوب والبدن لا بد من غسلها، فنجاسة المعاصي تغسل بالنار إذا لم يعف الله عنها حتى تزول، فإذا طهر صاحبها أخرج منها بشفاعة الشافعين، أو برحمة أرحم الراحمين.
وقول الله: كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ [النساء:56] معنى التبديل: أي التجديد وليس معناه أنه يؤتى بجلود أخرى، وإنما معناه أنه كلما نضجت جدد من جديد حتى يستمر في العذاب نسأل الله السلامة والعافية، والكافر تلفح وجهه النار، أما المؤمن فلا تلفح وجهه النار، والمؤمن المصلي لا تأكل النار مواضع السجود منه، وهي: الجبهة، واليدين، والركبتين، وإنما تأكل بقية جسده، أما الكافر، فتلفحه النار من جميع الجهات نعوذ بالله.
ولهذا جاء في الحديث الصحيح المتفق عليه: (وحرم الله على النار أن تأكل أثر السجود)، وفي اللفظ الآخر: (كل ابن آدم تأكله النار إلا أثر السجود).
ومعنى قوله: (لا يبقى في النار بقاء الكفار) أن الكافر يخلد فيها، ولا يخرج منها أبداً.
(ولا يخلد الله من مذنبي المؤمنين في النار أحداً) الكافر مخلد خلوداً مؤبد، والمؤمن العاصي لا يخلد، وإن خلد بأن طال مكثه لأن بعض العصاة يطول مكثه لكن يكون خلوده خلوداً مؤمداً أي له أمد ونهاية، وخلود الكفار خلود مؤبد لانهاية له، ولهذا قال الله تعالى في القاتل خالداً فيها، فالخلود خلودان: خلود مؤبد لا نهاية له، وهو خلود الكفار.
والثاني: خلود مؤمد له نهاية، وهو خلود العصاة الذين اشتدت جرائمهم أو كثرت.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ اختلف أهل الحديث في ترك المسلم صلاة الفرض متعمداً، فكفره بذلك أحمد بن حنبل رحمه الله وجماعة من علماء السلف، وأخرجوه به من الإسلام؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في الخبر الصحيح: (بين العبد والشرك ترك الصلاة، فمن ترك الصلاة فقد كفر).
وذهب الشافعي وأصحابه وجماعة من علماء السلف رحمة الله عليهم أجمعين إلى أنه لا يكفر ما دام معتقداً لوجوبها، وإنما يستوجب القتل كما يستوجبه المرتد عن الإسلام. وتأولوا الخبر السابق أن معناه: من ترك الصلاة جاحداً لها، كما أخبر سبحانه عن يوسف عليه الصلاة والسلام أنه قال: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [يوسف:37] ولم يكن قد تلبس بكفر ففارقه، ولكن تركه جاحداً له ].
هذه المسألة مسألة عظيمة، وهي مسألة حكم تارك الصلاة تهاوناً وكسلاً، وهي مسألة عظيمة وجديرة بالعناية والبحث؛ ولهذا اعتنى بها العلماء.
فأما من ترك الصلاة جاحداً لوجوبها فهذا كافر بإجماع المسلمين حتى ولو صلى، وليس هذا محل النزاع، ولو جحد الزكاة فهو كافر ولو زكى، ولو جحد الصوم وقال: الصوم ليس واجباً، فمن شاء صام ومن شام أفطر، فهذا كافر بإجماع المسلمين، وكذلك لو جحد تحريم الزنا فهو كافر ولو لم يزن، أو جحد تحريم الربا فهو كافر ولو لم يراب، أو جحد شرب الخمر فهو كافر ولو لم يشرب الخمر، وهذا ليس محل النزاع.
فمن جحد أمراً معلوماً من الدين بالضرورة وجوبه، أو أمراً معلوماً من الدين بالضرورة تحريمه، فهو كافر بالإجماع، وليس في ذلك خلاف بين المسلمين، فمن جحد وجوب الصلاة، أو الزكاة، أو الصوم، أو الحج أو غير ذلك مما هو من الدين بالضرورة وجوبه فهذا يكفر بالإجماع، وكذلك لو جحد أمراً معلوماً من الدين بالضرورة تحريمه، كأن جحد تحريم الزنا، أو الربا، أو الخمر، أو عقوق الوالدين، وأما لو جحد شيئاً مختلفاً فيه فلا يكفر، كأن يجحد الوضوء من أكل لحوم الإبل فلا يكفر؛ لأن المسألة خلافية، فبعض أهل العلم يرى الوجوب، وبعضهم لا يرى الوجوب، ولو جحد تحريم الدخان فإنه لا يكفر؛ لأن المسألة فيها شبهة، وإن كان الصواب أن الدخان حرام، لكن قد يكون عند بعض الناس شبهة، فقد يجد من يفتيه من غير هذه البلاد بأن الدخان ليس بحرام، فهذا لا يكفر لأجل الشبهة التي عنده، وأما من جحد تحريم الخمر فإنه يكفر؛ لأنه مجمع على تحريمه.
إن محل النزاع الذي ذكره المؤلف هو في رجل ترك الصلاة وهو يؤمن بوجوبها وأنها فريضة ولكنه تركها كسلاً وتهاوناً، فما حكمه؟ هل يكفر أو لا يكفر؟
الجواب: في هذه المسألة قولان لأهل العلم:
القول الأول: أنه يكفر كفراً أكبر مخرجاً من الملة، وهذا هو الذي أجمع عليه الصحابة، وقد نقل الإجماع على هذا التابعي الجليل عبد الله بن شقيق العقيلي ، فقد قال رحمه الله: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئاً تركه كفر غير الصلاة.
إذاً فهذا إجماع نقله عبد الله بن شقيق العقيلي التابعي الجليل عن الصحابة على أن تارك الصلاة كافر، ونقله أيضاً إسحاق بن راهويه الإمام المشهور، وهو قرين الإمام أحمد رحمه الله، ونقل الإجماع أيضاً أبو محمد بن حزم رحمه الله.
إذاً فالصحابة مجمعون على أن من ترك الصلاة تكاسلاً وتهاوناً فهو كافر كفراً مخرجاً من الملة، وهو رواية عن الإمام أحمد ، وأحد الوجهين في مذهب الشافعي ، ومذهب جماعة كبيرة من السلف كـإسحاق بن راهويه وعامر الشعبي وأبي عمرو الأوزاعي وجماعة من التابعين والأئمة.
وهذا المذهب تدل عليه النصوص.
من تلك النصوص الصريحة: ما ثبت في صحيح مسلم رحمه الله عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (بين الرجل وبين الكفر ترك الصلاة).
وجه الدلالة فيه من وجهين: الوجه الأول: أنه أتى بأل في الكفر، وهذه تفيد الاستغراق، ولو كان كفراً أصغر لأتى بالكفر منكراً، مثل حديث: (اثنتان في الناس هما بهما كفر: الطعن في النسب...)، فأل إذا دخلت على الكفر دلت على الاستغراق وأن المراد هو الكفر الأكبر.
ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الصلاة حداً فاصلاً بين الكفر وبين الإيمان، فالبينية تفصل بين الشيء وغيره، أي: بين كذا وبين كذا، وبين الرجل وبين الكفر.
ثالثاً: عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر) أخرجه أهل السنن وأحمد بسند جيد، فجعل الصلاة حداً فاصلاً بين المسلم والكافر.
رابعاً: في صحيح البخاري عن بريدة بن الحصيب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله)، والذي يحبط عمله هو الكافر، وأما المؤمن فلا يحبط عمله بالمعصية، فلما عبر النبي صلى الله عليه وسلم بحبوط العمل دل على أنه كافر، والدليل على أن الذي يحبط عمله إنما هو الكافر: قول الله تعالى: وَمَنْ يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ [المائدة:5]، وقال سبحانه: وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة:217].
خامساً: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من ترك صلاة متعمداً فقد برئت منه ذمة الله).
سادساً: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص : (أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الصلاة يوماً فقال: من حافظ عليها كانت له نوراً وبرهاناً ونجاة يوم القيامة، ومن لم يحافظ عليها لم تكن له نوراً ولا برهاناً ولا نجاة يوم القيامة، وحشر مع فرعون و
قال بعض العلماء: إنما يحشر مع هؤلاء الأربعة لأنه إن اشتغل عن الصلاة برئاسته وملكه حشر مع فرعون ملك مصر الذي ادعى الربوبية، وإن اشتغل عن الصلاة بوزارته حشر مع هامان وزير فرعون، وإن اشتغل عن الصلاة بأمواله فإنه يحشر مع قارون صاحب الأموال من بني إسرائيل، وإن اشتغل عن الصلاة بتجارته وشهواته ووظائفه حشر مع أبي بن خلف ، فهذا يدل على كفر تارك الصلاة.
سابعاً: حديث عوف بن مالك الأشجعي في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم -المراد بالأئمة هنا: ولاة الأمور- وتصلون عليهم ويصلون عليكم، وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم، وتلعنونهم ويلعنونكم. قلنا: يا رسول الله! أفلا نبادرهم بالسيف؟ قال: لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)، يعني: لا تقاتلونهم ما داموا يقيمون الصلاة.
وهذه الجملة لها مفهوم ومنطوق، فمنطوقها أنهم إذا أقاموا الصلاة فهم مسلمون لا يقاتلون، ومفهومها: أنهم إذا لم يقيموا الصلاة فهم كفار يقاتلون.
ثامناً: ويدل على هذا أيضاً الحديث الذي في صحيح مسلم في المنع من الخروج على الأمراء، وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم منع من الخروج على ولاة الأمور فقال: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان) وقال في الحديث السابق: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة)، فإذا جمعت بين حديث: (لا، ما أقاموا فيكم الصلاة) وحديث: (إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان) دل على أن ترك الصلاة كفر بواح، فهذه الأدلة واضحة صريحة، وهناك إجماع الصحابة رضوان الله عليهم على ذلك.
وأما المتأخرون فقد ذهبوا إلى أن ترك الصلاة كفر أصغر لا يخرج من الملة، وهذا مشهور عن الإمام أحمد ومالك وأبي حنيفة والشافعي .
واستدلوا على ذلك بأنه مؤمن مصدق، وما دام أنه مصدق فلا نجعله كالكافر.
واستدلوا أيضاً بنصوص فضل التوحيد، وأن الموحد لا يخلد في النار إذا قال: لا إله إلا الله خالصاً من قلبه، فقد جاء أن الصحابة قالوا: (من أسعد الناس بشفاعتك يا رسول الله؟! قال: من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه)، وفي لفظ: (مخلصاً)، وفي لفظ: (غير شاك).
وجاء في حديث عتبان : (فإن الله حرم على النار من قال: لا إله إلا الله، يبتغي بذلك وجه الله)، وهناك أحاديث ضعيفة استدلوا بها.
والجواب عن هذه الأحاديث: أن هذه الأحاديث التي فيها فضل التوحيد مقيدة بعدم ترك الصلاة؛ لأن أداء الصلاة شرط في صحة التوحيد، فمن ترك الصلاة فهو ليس بموحد.
وقوله صلى الله عليه وسلم: (من قال: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله) لا يمكن أن يوجد إنسان يترك الصلاة وهو يقول: لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله.
إذاً: فالصلاة شرط في صحة التوحيد والإيمان، وهو ممن لم يصل فليس بموحد ولا مؤمن، وتنتقض عليه كلمة لا إله إلا الله، ولو قال: لا إله إلا الله ولم يصل بطلت صلاته، وذلك مثل أن تقول: لا إله إلا الله ثم يسب الله، أو يسب الدين، أو يسب الإسلام، فإنه ينتقض توحيده، فكذلك من قال: لا إله إلا الله ولم يصل فإن توحيده ينتقض؛ لأنه ترك شرطاً فيها، كالذي يصلي ولم يتوضأ فإن صلاته لا تصح؛ لأن الطهارة شرط في الصلاة، وكذلك الصلاة شرط في صحة التوحيد، فمن قال: لا إله إلا الله ولم يصل لم يصح توحيده ولا إيمانه، وبهذا يتبين لنا أن القول بكفر تارك الصلاة كسلاً وتهاوناً هو الصواب.
واتفق أصحاب القولين على أنه يقتل، لكن من قال: إنه يكفر كفراً أكبر قال: يقتل ردة، ولا يغسل، ولا يصلى عليه، ولا يدفن في مقابر المسلمين، ولا يرث ولا يورث.
وأما الذين قالوا: لا يكفر، فإنهم قالوا: يقتل حداً، ويغسل ويصلى عليه ويدفن في مقابر المسلمين.
وقال أبو حنيفة : يعزر ويحبس حتى يتوب أو يموت.
وقال الآخرون: يستتاب فإن تاب أو قتل ويغسل ويصلى عليه ويقبر مع المسلمين.
والصواب الذي عليه الجمهور: أنه يقتل كفراً، ولا يغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن مع المسلمين في مقابرهم.
حكم تأخير الصلاة عن وقتها عمداً
أما الذي تفوته الصلاة مع الحرص عليها وبدون اختياره فهذا معذور، لكن الذي ينام عنها باستمرار، أو جعل المنبه يوقظه بعد الفجر فقد تعمد التأخير، وهذا أمر جد خطير.
حكم ترك الصلاة تعمداً
يعني: في أحد الروايتين، وإلا فالمشهور من مذهب الإمام أحمد : أنه كفر أصغر.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ فكفره بذلك أحمد بن حنبل وجماعة من علماء السلف وأخرجوه به من الإسلام للخبر الصحيح المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (بين العبد والشرك ترك الصلاة؛ فمن ترك الصلاة فقد كفر).
وذهب الشافعي وأصحابه وجماعة من علماء السلف رحمة الله عليهم أجمعين إلى أنه لا يكفر بذلك -يعني: لا يكون كفراً أكبر، لكنه يكفر كفراً أصغر- ما دام معتقداً لوجوبها، وإنما يستوجب القتل كما يستوجبه المرتد عن الإسلام ].
يعني: أن طائفة قالت: يقتل حداً مثلما يقتل الزاني المحصن والقاتل.
وتأولوا الخبر في أن المقصود من قوله صلى الله عليه وسلم: (بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة)، هو قوله: (من ترك الصلاة جاحداً لها). ويقولون: لو أراد الرسول كفره لقال جاحداً، والرسول لم يقل جاحداً، وهذا من التأويل السائغ، وهو تأويل أصحاب القول الأول.
وقالت طائفة ثانية: عندنا دليل، وهو أن الله سبحانه أخبر عن يوسف عليه الصلاة والسلام أنه قال: إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [يوسف:37] قالوا: إن المراد بقوله: تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ يعني: تركتها جاحداً لها، ولا يلزم من ذلك أن يكون تلبس بالكفر، فكذلك قوله: من ترك الصلاة يعني: من ترك الصلاة جاحداً لوجوبها لكن هذا التأويل ليس بظاهر، والصواب القول الأول.
قال المؤلف رحمه الله تعالى: حكم تارك الصلاة. وإنما تكلمت -يعني: في هذه المثل- لأن هذه المسألة قد عمت بها البلوى، فهناك كثير من الناس -والعياذ بالله- صاروا لا يبالون بالصلاة، فمنهم من يتركها حتى يخرج وقتها، وحديث بريدة في البخاري يدل على هذا، قال صلى الله عليه وسلم: (من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله) فدل على أنه يكفر، ومن ذلك الشخص الذي لا يصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس، وقد حدد وقتها بطلوع الشمس، فلو صلى الإنسان قبل دخول الوقت لما صحت صلاته، وإذا صلى بعد خروجها فلا تصح إلا من عذر وهذا لا عذر له، فليس نائماً أو متأولاً أو ناسياً، ولو كان كذلك لكان معذوراً، فمن نام عن صلاة فإنه يصليها إذا ذكرها، لكن إذا كان الإنسان لا يصلي الفجر يومياً متعمداً إلا بعد طلوع الشمس، كأن يرتب الصلاة على العمل، فيستيقظ مرة واحدة لعمله وصلاته وفطوره، فقد أفتى جمع من أهل العلم بأنه يكون مرتداً؛ لأنه لم يؤد الصلاة في وقتها، وممن أفتى بهذا: سماحة شيخنا الشيخ العلامة عبد العزيز بن باز -رحمة الله عليه وجمعنا وإياه في جنته- فإنه يفتي بأن الشخص الذي لا يصلي الفجر إلا بعد طلوع الشمس دائماً أنه كافر؛ لأنه لم يؤد الصلاة في وقتها.
أما الذي تفوته الصلاة مع الحرص عليها وبدون اختياره فهذا معذور، لكن الذي ينام عنها باستمرار، أو جعل المنبه يوقظه بعد الفجر فقد تعمد التأخير، وهذا أمر جد خطير.
استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [9] | 2102 استماع |
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [8] | 2053 استماع |
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [3] | 1938 استماع |
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [7] | 1899 استماع |
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [12] | 1885 استماع |
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [1] | 1793 استماع |
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [15] | 1736 استماع |
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [13] | 1699 استماع |
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [4] | 1586 استماع |
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [6] | 1546 استماع |