بداية المجتهد - كتاب الحج [1]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل. وبعد:

أحبتي الكرام! في هذا الدرس نقف مع مسائل في هذا السفر العظيم؛ وهو بداية المجتهد ونهاية المقتصد للإمام الفيلسوف محمد بن أحمد بن محمد بن رشد الملقب بـابن رشد الحفيد في كتاب يندر مثله، حيث إن المؤلف رحمه الله اعتنى بثمرة الخلاف، ومنزع الخلاف ومنشئه، فذكر بعض المسائل الأصولية، والقواعد الفقهية التي لا يستغني عنها طالب العلم؛ ولهذا فإنه يصعب أن نذكر بعض كنوز هذا الكتاب في جلستين مهما طالت؛ ولهذا سوف أقتصر على المسائل التي ذكرها المؤلف رحمه الله، وأذكر القول الراجح بدليله، ومن ذهب إليه.

وللفائدة: فإن ابن رشد -رحمه الله- قد اعتمد في مرجعه هذا على كتابي أبي عمر بن عبد البر: كتاب التمهيد وكتاب الاستذكار، وغالب الروايات والأحاديث إنما أخذها من هذين الكتابين، وقد أفصح عنهما الإمام ابن رشد حينما ذكر في آخر كتاب العبادات أن غالب هذه الآثار إنما هي من كتاب أبي عمر بن عبد البر ، كما استفاد -أيضاً- من كتاب المحلى لـابن حزم .

و ابن رشد فيلسوف وأصولي، اهتم بكتب المناطقة؛ ولهذا فإن طريقة تفصيله وتقعيداته تختلف عن طريقة المتقدمين والمتأخرين من أهل العلم؛ ولهذا لا نهتم كثيراً في طريقة التقسيم بأكثر من اهتمامنا بأصل المسألة وتفريعاتها.

يقول المؤلف: [ كتاب الحج: والنظر في هذا الكتاب في ثلاثة أجناس ].

ذكر المؤلف ثلاثة أجناس:

الجنس الأول: جنس رأى أنها مقدمة لعبادة الحج، وهي ما يجب معرفته لعمل هذه العبادة، ولا يستغني عنها المتعبد بهذه العبادة.

الجنس الثاني: وهي التي تجري مجرى الأركان، أو التي تجري مجرى المأمورات والمحظورات، وهي التي ذكرها بقوله: [ وهي الأمور المعمولة أنفسها والأشياء المتروكة]، وهي كما قلت: التي تجري مجرى الأركان، أو المأمورات، أو المحظورات.

الجنس الثالث: وهي الأشياء التي تجري مجرى أثر هذه العبادة، أو الأمور اللاحقة لها، وهي ما يسميها: أحكام الأفعال، يعني أثر هذا الفعل، أو ما يترتب عليه، إضافة إلى حكم هذا الفعل.

الجنس الأول: ويشتمل على شيئين: على معرفة الوجوب وشروطها، وعلى من يجب، ومتى يجب.

أما وجوبها، يعني: وجوب عبادة الحج، فهي ركن من أركان الدين، وقد ( بني الإسلام على خمس )، كما في الصحيحين من حديث ابن عمر ومنها: ( وحج بيت الله الحرام )، وقد قال الله تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران:97].

وقد ذهب أحمد و مالك وغيرهما: إلى أن هذه الآية نزلت في السنة التاسعة للهجرة، وهي الآية التي تدل على وجوب الحج.

يقول المؤلف: [ وأما شروط الوجوب فإن الشروط قسمان: شروط صحة وشروط وجوب ].

وطريقة الحنابلة ومن وافقهم كالشافعية في هذا التقسيم أولى، وهي أن يقال: أنها على ثلاثة أقسام:

شروط وجوب وصحة

القسم الأول: شروط وجوب وصحة، وهما شرطان: الإسلام والعقل، فلا يصح حج من لم يكن مسلماً، ولا يصح حج المجنون أيضاً، أما المسلم فإنه واضح ولا إشكال فيه، وأما العقل فقد قال صلى الله عليه وسلم كما عند الإمام أحمد من حديث عائشة وعند أهل السنن من حديث علي رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رفع القلم عن ثلاثة، وذكر المجنون حتى يفيق ).

فلا تصح هذه العبادة من كافر، ولا تصح من مجنون، فهي لا تجب إلا على مسلم، وكذلك غير المجنون يعني: العاقل، إذاً: فالإسلام والعقل شروط وجوب وشروط صحة.

شروط وجوب وإجزاء

القسم الثاني: شروط وجوب وإجزاء، وهما شرطان: البلوغ والحرية، أو قل: كمال الحرية، فالصبي الراجح والله أعلم أنها تصح منه وهو مذهب الجمهور، كما نقل ابن رشد خلافاً لـأبي حنيفة ، ولكنها لا تجب عليه ولا تجزئه عن حجة الإسلام.

أما العبد: فقد ذهب الأئمة رحمهم الله إلى أن العبد يجب عليه إذا أعتق أن يحج حجة أخرى، وكذلك الصبي، وإن صحت منه، ولكنها لا تجزئ ولا تجب، وقولنا: إنه لا يجب عليه، أي: لو أن العبد مات وكان له مال فإنه لا يجب أن يخرج من تركته، ولو مات الصبي كذلك وكان له مال فلا يجب أن يخرج من تركته؛ لأن الوجوب حينئذٍ لم يتوفر في حقه، أما لو حجَّا صح منهما الحج نفلاً لا فرضاً.

أما الدليل على هذا فما رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال: أيها الناس! اسمعوا ولا تقولوا: قال ابن عباس ، أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما عبد أعتق فعليه حجة أخرى، فهذا الأثر الصواب أنه موقوف على ابن عباس ، ولكن له حكم الرفع؛ لقوله: ولا تقولوا: قال ابن عباس ، وكذلك العبد؛ لقوله: وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى.

وذهب ابن حزم والشيخ ابن سعدي رحمهما الله إلى أن العبد مأمور إذا كان بالغاً كما يؤمر الحر، وأنه يجب عليه الحج، والراجح أنه لا يجب عليه كما مر معنا.

شروط وجوب

القسم الثالث: شرط وجوب وهو الاستطاعة، كما سوف يأتي تفصيله إن شاء الله، وتزيد المرأة شرطاً آخر عند أبي حنيفة و أحمد خلافاً للشافعي و مالك : وهو المحرم.

يقول المؤلف: [وسبب الخلاف معارضة الأثر]، يعني: الحديث الموقوف [في ذلك للأصول]، فنجد بعض الفقهاء يرى: أن الحديث الآحاد إذا خالف أصلاً من أصول الشريعة التي تواردت الأدلة عليها لا يعول على الحديث الآحاد إذا خالف الأمر الذي أجمع العلماء عليه من الأصول، كأن يكون ثابتاً بالكتاب، أو تواترت به السنة.

فقاعدة أبي حنيفة وقاعدة مالك رحمهما الله أنهم يرون أنه عند معارضة خبر الآحاد للأصل لا يعول على خبر الآحاد لكن مالكاً قال: الأصل عندي: هو عمل أهل المدينة، فإذا جاءني حديث ولو كان بسند صحيح ووجدنا عمل أهل المدينة يخالفه فلا نعول على هذا الحديث، ونأخذ بعمل أهل المدينة.

أما أبو حنيفة رضي الله عنه فقال: إن الأصول ما تواترت الأدلة عليه، وأما خبر الآحاد فلا يعول عليه؛ لأن خبر الآحاد ظني، والأصل قطعي، وإذا تعارضا فنذهب إلى الأصل ونترك خبر الآحاد، فتجد خبر الآحاد إما أن يؤول، وإما أن يقال: قضية عين، وإما أن يضعف، وإما أن يقال: حجتان تعارضتا فنأخذ بأقواهما.

أما الشافعي رحمه الله فكان من أعظم أصوله التي جاء بها هو رد هذه الأقوال، كما في كتاب الرسالة.

وهذا التقعيد مهم، حتى نعرف لماذا اختلف العلماء؟

لماذا أبو حنيفة رحمه الله يأتيه الحديث ولا يأخذ به؟! ولماذا مالك رحمه الله يقول بعدم استحباب صيام ست من شوال؟ مع أنه ثابت في صحيح مسلم ؟!

بل إن بعض الأحاديث رواها مالك في الموطأ، ثم ترك العمل بها؛ لأن أهل المدينة لم يعملوا بها.

يقول المؤلف: [وذلك أن من أجاز ذلك]، يعني: أجاز صحة حج الصبي، [أخذ فيه بحديث ابن عباس] كما في الصحيحين (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركبًا في الروحاء فقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون، قالوا: من أنت؟ قال: رسول الله، فرفعت امرأة إليه صبيًا فقالت: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر ).

وهذا يدل على أن الصبي صح حجه، وقد ثبت أيضاً: أن أبا بكر رضي الله عنه حج بابنه محمد بن أبي بكر حينما نفست أسماء بن عميس به في الشجرة.

[ومن منع ذلك تمسك بأن الأصل هو أن العبادة لا تصح من غير عاقل]، وهذا أصل مجمع عليه، إلا أن الحج له صفة خاصة فصحت منه، لكننا نقول: لا تجب ولا تجزئ، كما أن صيام الصبي أو صلاة الصبي تصح منه، ولكنها لا تجب عليه، وليست فرضاً بل نفلاً.

ولهذا اختلف أهل العلم في الصبي لو أراد أن يحج ففعل محظوراً من محظورات الإحرام، هل يؤمر بما يؤمر به الكبير؟

ذهب الجمهور إلى أنه يؤمر بما يؤمر به الكبير، ويجب على وليه أن يمنعه، فإن فعل محظوراً فإنه يجب على وليه أن يفتدي عنه.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يجب عليه ذلك، وهذا أقرب؛ ولكننا نقول: لوليه أن يأمره بما يؤمر به الكبير، إلا أن الصبي لو فعل محظوراً من محظورات الإحرام فلا يجب أن يخرج عنه فدية أو دماً لترك واجب، لأن هذا إنما مناطه التكليف، والصبي غير مكلف.

المسألة الأخرى يقول: [فأما المباشرة فلا خلاف عندهم أن من شرطها الاستطاعة]، والاستطاعة ذكرناها على أنها شرط وجوب، وقد اتفق الفقهاء رحمهم الله على هذا الشرط في الجملة، إلا أنهم اختلفوا في تفاصيلها، فذهب الجمهور: إلى أن الاستطاعة المراد بها الاستطاعة المالية، وهي التي فسرت في حديث أنس عند الترمذي مرفوعاً والصواب أنه مرسل، وهو ضعيف مرفوع، وروي عن عمر بن الخطاب و ابن عباس : (أن الاستطاعة هي الزاد والراحلة)، والصواب أنه من مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فقالوا: إن الاستطاعة هي الزاد والراحلة، والزاد والراحلة كلاهما مال، وهذا هو مذهب الجمهور خلافاً لمالك ، لأن مالكاً يقول: إن الاستطاعة إنما هي الاستطاعة البدنية، وليست الاستطاعة المالية.

يقول المؤلف: [وقال مالك: من استطاع المشي فليس وجود الراحلة من شرط الوجوب في حقه]، فـمالك يرى: أن من استطاع أن يمشي فهو قادر ببدنه، وعلى هذا فيجب عليه أن يحج. وقد قيل لمالك: إذا لم يكن عنده زاد وهو فقير، قال مالك : إن كان ممن يمكنه الاكتساب في طريقه، أو تعود على سؤال المخلوق وهو المتسول فإنه يجب عليه.

مثاله في صورتنا المعاصرة: شخص قادر ببدنه، وهو يستطيع أن يخدم الحجيج، فلو ذهب إلى حملة من حملات الحج وقال لهم: أنا أخدمكم وأقوم بالسقي، أو أقوم بتوزيع السبيل، وهذه عادته وطريقته، فإن مالكاً يقول: يجب عليه الحج، ولو لم يكن عنده شيء؛ لأنه قادر على التكسب بعمله.

أو شخص يقول: أنا لا أعمل، ولكني أسأل الناس وهذه طريقتي، يقول مالك : إذا كان من عادته في غير الحج أن يسأل فيجب عليه أن يسأل.

والراجح والله أعلم: أن ثمة تفصيلاً فنقول: إن كان قريباً كمن كان من أهل مكة أو أهل الحرم، ولا يجد مشقةً في ذلك، وهو يملك طعامه وشرابه فإنه يجب عليه الحج؛ لأن ذلك لا يكلفه في المشي إذا كان من عادته، وطعامه وشرابه يجده في قوت يومه؛ فحينئذ يجب عليه أن يحج، لكنه لو مات قبل أن يحج وليس عنده تركة فعندها لا يجب عليه الحج.

أما البعيد: فإن الواجب هنا على المال، وأما البدن فإنما هو شرط للزوم السعي لا شرط في الوجوب، ومعنى لزوم السعي أن على الرجل المريض القادر بماله ولكنه غير قادر ببدنه، فلا يجب عليه أن يمضي لزوم السعي؛ لأن ذلك يشق عليه، لكن الحج واجب عليه، فإن كان مرضه يرجى برؤه جاز له تأخير الحج حتى يعافى، وإن كان مرضه لا يرجى برؤه كنضو الخلقة، وهو الذي لا يستطيع أن يثبت على الطائرة، ولا يثبت على السيارة فإنه في هذه الحالة يجب عليه الحج بماله، وهذا هو مذهب الجمهور.

وبهذا نكون قد جمعنا بين القولين، بين مذهب مالك في القريب الذي يعتاد المشي، وهو الذي من أهل مكة، وبين البعيد الذي يشق عليه المشي، لكن ليس عنده زاد ولا راحلة، فحينئذ لا يجب عليه الحج، فإن كان عنده زاد وراحلة، يعني صالحين لمثله، فحينئذ يجب عليه الحج، ومعنى زاد أي عنده طعام أو مال يفي بطعامه منذ خروجه إلى عودته، وراحلة يعني: حمل ومركب يصلح لمثله من حين خروجه إلى عودته.

ونقول: صالحين لمثله، فلو أن رجلاً لم يعتد ركوب الإبل، وهو غني، وكان في طريق لا يستطيع أن يأتي بسيارة، ولو كان قادراً بماله، لكن ليس عنده راحلة تصلح لمثله، فحينئذ لا يجب عليه المضي في الحج، وإن كان يجب عليه لأنه قادر بماله.

القسم الأول: شروط وجوب وصحة، وهما شرطان: الإسلام والعقل، فلا يصح حج من لم يكن مسلماً، ولا يصح حج المجنون أيضاً، أما المسلم فإنه واضح ولا إشكال فيه، وأما العقل فقد قال صلى الله عليه وسلم كما عند الإمام أحمد من حديث عائشة وعند أهل السنن من حديث علي رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( رفع القلم عن ثلاثة، وذكر المجنون حتى يفيق ).

فلا تصح هذه العبادة من كافر، ولا تصح من مجنون، فهي لا تجب إلا على مسلم، وكذلك غير المجنون يعني: العاقل، إذاً: فالإسلام والعقل شروط وجوب وشروط صحة.

القسم الثاني: شروط وجوب وإجزاء، وهما شرطان: البلوغ والحرية، أو قل: كمال الحرية، فالصبي الراجح والله أعلم أنها تصح منه وهو مذهب الجمهور، كما نقل ابن رشد خلافاً لـأبي حنيفة ، ولكنها لا تجب عليه ولا تجزئه عن حجة الإسلام.

أما العبد: فقد ذهب الأئمة رحمهم الله إلى أن العبد يجب عليه إذا أعتق أن يحج حجة أخرى، وكذلك الصبي، وإن صحت منه، ولكنها لا تجزئ ولا تجب، وقولنا: إنه لا يجب عليه، أي: لو أن العبد مات وكان له مال فإنه لا يجب أن يخرج من تركته، ولو مات الصبي كذلك وكان له مال فلا يجب أن يخرج من تركته؛ لأن الوجوب حينئذٍ لم يتوفر في حقه، أما لو حجَّا صح منهما الحج نفلاً لا فرضاً.

أما الدليل على هذا فما رواه ابن أبي شيبة بسند صحيح عن ابن عباس أنه قال: أيها الناس! اسمعوا ولا تقولوا: قال ابن عباس ، أيما صبي حج ثم بلغ فعليه حجة أخرى، وأيما عبد أعتق فعليه حجة أخرى، فهذا الأثر الصواب أنه موقوف على ابن عباس ، ولكن له حكم الرفع؛ لقوله: ولا تقولوا: قال ابن عباس ، وكذلك العبد؛ لقوله: وأيما عبد حج ثم أعتق فعليه حجة أخرى.

وذهب ابن حزم والشيخ ابن سعدي رحمهما الله إلى أن العبد مأمور إذا كان بالغاً كما يؤمر الحر، وأنه يجب عليه الحج، والراجح أنه لا يجب عليه كما مر معنا.

القسم الثالث: شرط وجوب وهو الاستطاعة، كما سوف يأتي تفصيله إن شاء الله، وتزيد المرأة شرطاً آخر عند أبي حنيفة و أحمد خلافاً للشافعي و مالك : وهو المحرم.

يقول المؤلف: [وسبب الخلاف معارضة الأثر]، يعني: الحديث الموقوف [في ذلك للأصول]، فنجد بعض الفقهاء يرى: أن الحديث الآحاد إذا خالف أصلاً من أصول الشريعة التي تواردت الأدلة عليها لا يعول على الحديث الآحاد إذا خالف الأمر الذي أجمع العلماء عليه من الأصول، كأن يكون ثابتاً بالكتاب، أو تواترت به السنة.

فقاعدة أبي حنيفة وقاعدة مالك رحمهما الله أنهم يرون أنه عند معارضة خبر الآحاد للأصل لا يعول على خبر الآحاد لكن مالكاً قال: الأصل عندي: هو عمل أهل المدينة، فإذا جاءني حديث ولو كان بسند صحيح ووجدنا عمل أهل المدينة يخالفه فلا نعول على هذا الحديث، ونأخذ بعمل أهل المدينة.

أما أبو حنيفة رضي الله عنه فقال: إن الأصول ما تواترت الأدلة عليه، وأما خبر الآحاد فلا يعول عليه؛ لأن خبر الآحاد ظني، والأصل قطعي، وإذا تعارضا فنذهب إلى الأصل ونترك خبر الآحاد، فتجد خبر الآحاد إما أن يؤول، وإما أن يقال: قضية عين، وإما أن يضعف، وإما أن يقال: حجتان تعارضتا فنأخذ بأقواهما.

أما الشافعي رحمه الله فكان من أعظم أصوله التي جاء بها هو رد هذه الأقوال، كما في كتاب الرسالة.

وهذا التقعيد مهم، حتى نعرف لماذا اختلف العلماء؟

لماذا أبو حنيفة رحمه الله يأتيه الحديث ولا يأخذ به؟! ولماذا مالك رحمه الله يقول بعدم استحباب صيام ست من شوال؟ مع أنه ثابت في صحيح مسلم ؟!

بل إن بعض الأحاديث رواها مالك في الموطأ، ثم ترك العمل بها؛ لأن أهل المدينة لم يعملوا بها.

يقول المؤلف: [وذلك أن من أجاز ذلك]، يعني: أجاز صحة حج الصبي، [أخذ فيه بحديث ابن عباس] كما في الصحيحين (أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي ركبًا في الروحاء فقال: من القوم؟ قالوا: المسلمون، قالوا: من أنت؟ قال: رسول الله، فرفعت امرأة إليه صبيًا فقالت: يا رسول الله! ألهذا حج؟ قال: نعم، ولك أجر ).

وهذا يدل على أن الصبي صح حجه، وقد ثبت أيضاً: أن أبا بكر رضي الله عنه حج بابنه محمد بن أبي بكر حينما نفست أسماء بن عميس به في الشجرة.

[ومن منع ذلك تمسك بأن الأصل هو أن العبادة لا تصح من غير عاقل]، وهذا أصل مجمع عليه، إلا أن الحج له صفة خاصة فصحت منه، لكننا نقول: لا تجب ولا تجزئ، كما أن صيام الصبي أو صلاة الصبي تصح منه، ولكنها لا تجب عليه، وليست فرضاً بل نفلاً.

ولهذا اختلف أهل العلم في الصبي لو أراد أن يحج ففعل محظوراً من محظورات الإحرام، هل يؤمر بما يؤمر به الكبير؟

ذهب الجمهور إلى أنه يؤمر بما يؤمر به الكبير، ويجب على وليه أن يمنعه، فإن فعل محظوراً فإنه يجب على وليه أن يفتدي عنه.

وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا يجب عليه ذلك، وهذا أقرب؛ ولكننا نقول: لوليه أن يأمره بما يؤمر به الكبير، إلا أن الصبي لو فعل محظوراً من محظورات الإحرام فلا يجب أن يخرج عنه فدية أو دماً لترك واجب، لأن هذا إنما مناطه التكليف، والصبي غير مكلف.

المسألة الأخرى يقول: [فأما المباشرة فلا خلاف عندهم أن من شرطها الاستطاعة]، والاستطاعة ذكرناها على أنها شرط وجوب، وقد اتفق الفقهاء رحمهم الله على هذا الشرط في الجملة، إلا أنهم اختلفوا في تفاصيلها، فذهب الجمهور: إلى أن الاستطاعة المراد بها الاستطاعة المالية، وهي التي فسرت في حديث أنس عند الترمذي مرفوعاً والصواب أنه مرسل، وهو ضعيف مرفوع، وروي عن عمر بن الخطاب و ابن عباس : (أن الاستطاعة هي الزاد والراحلة)، والصواب أنه من مراسيل الحسن عن النبي صلى الله عليه وسلم.

فقالوا: إن الاستطاعة هي الزاد والراحلة، والزاد والراحلة كلاهما مال، وهذا هو مذهب الجمهور خلافاً لمالك ، لأن مالكاً يقول: إن الاستطاعة إنما هي الاستطاعة البدنية، وليست الاستطاعة المالية.

يقول المؤلف: [وقال مالك: من استطاع المشي فليس وجود الراحلة من شرط الوجوب في حقه]، فـمالك يرى: أن من استطاع أن يمشي فهو قادر ببدنه، وعلى هذا فيجب عليه أن يحج. وقد قيل لمالك: إذا لم يكن عنده زاد وهو فقير، قال مالك : إن كان ممن يمكنه الاكتساب في طريقه، أو تعود على سؤال المخلوق وهو المتسول فإنه يجب عليه.

مثاله في صورتنا المعاصرة: شخص قادر ببدنه، وهو يستطيع أن يخدم الحجيج، فلو ذهب إلى حملة من حملات الحج وقال لهم: أنا أخدمكم وأقوم بالسقي، أو أقوم بتوزيع السبيل، وهذه عادته وطريقته، فإن مالكاً يقول: يجب عليه الحج، ولو لم يكن عنده شيء؛ لأنه قادر على التكسب بعمله.

أو شخص يقول: أنا لا أعمل، ولكني أسأل الناس وهذه طريقتي، يقول مالك : إذا كان من عادته في غير الحج أن يسأل فيجب عليه أن يسأل.

والراجح والله أعلم: أن ثمة تفصيلاً فنقول: إن كان قريباً كمن كان من أهل مكة أو أهل الحرم، ولا يجد مشقةً في ذلك، وهو يملك طعامه وشرابه فإنه يجب عليه الحج؛ لأن ذلك لا يكلفه في المشي إذا كان من عادته، وطعامه وشرابه يجده في قوت يومه؛ فحينئذ يجب عليه أن يحج، لكنه لو مات قبل أن يحج وليس عنده تركة فعندها لا يجب عليه الحج.

أما البعيد: فإن الواجب هنا على المال، وأما البدن فإنما هو شرط للزوم السعي لا شرط في الوجوب، ومعنى لزوم السعي أن على الرجل المريض القادر بماله ولكنه غير قادر ببدنه، فلا يجب عليه أن يمضي لزوم السعي؛ لأن ذلك يشق عليه، لكن الحج واجب عليه، فإن كان مرضه يرجى برؤه جاز له تأخير الحج حتى يعافى، وإن كان مرضه لا يرجى برؤه كنضو الخلقة، وهو الذي لا يستطيع أن يثبت على الطائرة، ولا يثبت على السيارة فإنه في هذه الحالة يجب عليه الحج بماله، وهذا هو مذهب الجمهور.

وبهذا نكون قد جمعنا بين القولين، بين مذهب مالك في القريب الذي يعتاد المشي، وهو الذي من أهل مكة، وبين البعيد الذي يشق عليه المشي، لكن ليس عنده زاد ولا راحلة، فحينئذ لا يجب عليه الحج، فإن كان عنده زاد وراحلة، يعني صالحين لمثله، فحينئذ يجب عليه الحج، ومعنى زاد أي عنده طعام أو مال يفي بطعامه منذ خروجه إلى عودته، وراحلة يعني: حمل ومركب يصلح لمثله من حين خروجه إلى عودته.

ونقول: صالحين لمثله، فلو أن رجلاً لم يعتد ركوب الإبل، وهو غني، وكان في طريق لا يستطيع أن يأتي بسيارة، ولو كان قادراً بماله، لكن ليس عنده راحلة تصلح لمثله، فحينئذ لا يجب عليه المضي في الحج، وإن كان يجب عليه لأنه قادر بماله.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الله بن ناصر السلمي - عنوان الحلقة اسٌتمع
بداية المجتهد - كتاب الحج [6] 2793 استماع
بداية المجتهد - كتاب الحج [2] 2166 استماع
بداية المجتهد - كتاب الحج [4] 1880 استماع
بداية المجتهد - كتاب الحج [7] 1649 استماع
بداية المجتهد - كتاب الحج [8] 1328 استماع
بداية المجتهد - كتاب الحج [3] 1089 استماع
بداية المجتهد - كتاب الحج [5] 1081 استماع