بداية المجتهد - كتاب الحج [8]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.

وبعد:

فإذا خرج الحاج من مزدلفة قبل طلوع الشمس فإنه يأخذ بالسكينة، حتى إذا وصل وادي محسر فإنه يطأطئ رأسه، ويسرع بسيارته إذا أمكن، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يصنع.

رمي الجمار

فإذا وصل منى فإنه يشرع له أن يرمي جمرة العقبة بعد زوال الشمس، يرميها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، وهو من خروجه من مزدلفة إلى منى لم يزل يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وجمرة العقبة هي أبعد الجمار من منى وأقربها إلى مكة، له أن يرمي من حين وصوله، لكن السنة أن يرميها بعد الزوال، ولو رماها قبل ذلك جاز ولكن خالف السنة، كما قلنا في قصة أسماء بنت أبي بكر ، فالسنة أن يرميها بعد زوال الشمس، ويجوز أن يؤخرها بعد زوال الشمس.

وهل يجوز أن يرميها ليلاً؟ يقول ابن عبد البر : من رماها بعد طلوع الشمس قبل الزوال فقد رماها في وقتها الأفضلي، ومن رماها بعد الزوال إلى المساء فقد رماها في وقتها، ومن رماها بعد المغرب فاختلف العلماء فيه، والراجح جواز ذلك؛ لما روى مالك في موطئه: أن صفية جلست تنفس - أحد نساء ابن عمر - في مزدلفة فلم تأت منى إلا في ليلة الحادي عشر، فقال ابن عمر : الآن حين وصلت؟ قالت: نعم، قال: فارم، فرمت ليلاً، وهذا أصح شيء في الباب، وأما حديث أبي يعلى : ( رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرعاة أن يرموا ليلاً )، فهذا الحديث ضعيف ولا يصح، وأصح شيء في الباب كما قلت: حديث ابن عمر .

وينتهي وقت الرمي يوم العيد إلى طلوع الفجر، فمن رماها في اليوم الحادي عشر فقد أساء؛ ولكن ليس عليه شيء؛ لأنه من وقته، فإذا رمى الحاج جمرة العقبة شرع له أن يكبر، فيرمي جمرة العقبة ولا ينبغي له أن يتحلل إلا بأن يحلق، كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم، وأما حديث عائشة : ( إذا رميتم جمرة العقبة وحلقتم )، ففي سنده الحجاج بن أرطأة ، وكذلك حديث ابن عباس : ( إذا رميتم جمرة العقبة فقد حل لكم كل شيء )، فهو ضعيف أيضاً، فإن في سنده الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس ، وحديث ( إذا رميت وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء )، أيضاً ضعيف، وأصح شيء في الباب فعله عليه الصلاة والسلام وقوله، فإنه قال: ( إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر )، وإنما نحر بعدما رمى، وإذا نحر شرع في التحلل، وهو الحلق.

وقت التحلل الأول

وعلى هذا فلا ينبغي له أن يخلع ثياب الإحرام إلا بعد أن يرمي ويحلق أو يقصر، ومن رمى ثم لبس الثياب المعتادة فقد أساء، ولكن ليس عليه شيء؛ لأن العلماء كما يقول ابن تيمية : أجمعوا على أن من رمى جمرة العقبة ثم جامع أهله قبل الحلق لا شيء عليه، بمعنى: أن حجه صحيح؛ ولكن عليه دم، ومعنى لا شيء عليه، يعني: لا شيء عليه في الحج بل حجه صحيح، لكن يجبره بدم، هذا هو الأقرب والله أعلم؛ لقول عائشة : ( طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت )، وأما زيادة: ( ولحله بعدما رمى جمرة العقبة )، فهذا حديث ضعيف يرويه عروة بن عبد الله بن عروة بن الزبير ، و عروة بن عبد الله مجهول، وقد روى البخاري و مسلم هذا الحديث عند هذا الرجل ولم يذكروا (بعدما رمى جمرة العقبة)، مما يدل على أن البخاري و مسلم تركاها عمداً رضي الله عنهما.

فإذا رمى الحاج جمرة العقبة شرع له أن يحلق أو يقصر، فإذا حلق أو قصر فقد تحلل التحلل الأول، فيباح له كل ما كان محظوراً عليه إلا النساء، والنساء بأن يكن ممنوعاً من الجماع، وممنوعاً من مباشرة المرأة، والمباشرة إما بالمباشرة المعروفة، وإما بالحديث معها كلاماً لا يصلح إلا من الرجل مع زوجته، فإنه ممنوع منها.

وقت التحلل الثاني

فإذا رمى وحلق أو قصر فإنه يشرع له أن يطوف طواف الإفاضة، ويجوز لمن معه نساء ويخاف عليهن أن يأتيهن العادة أن يذهب من مزدلفة إلى الحرم ليطوف معهن طواف الإفاضة، ويسعى إن كان عليه سعي الحج، ولا حرج في ذلك؛ لأن أم سلمة طافت للإفاضة بعد الفجر أو قريباً من الفجر، فإذا رمى وحلق أو قصر وطاف فقد تحلل التحلل الأول والثاني، وجاز له أن يأتي أهله.

أما من لم يطف فلا يجوز له أن يأتي النساء، أو يباشروهن.

ويجوز له أن يؤخر طواف الإفاضة ليجمعها مع طواف الوداع بنية الإفاضة والوداع، ولو كان بعده سعي؛ لأنه يصدق أن يكون آخر عهده بالبيت الطواف، وقد روى البخاري في صحيحه قال: باب إجزاء العمرة عن طواف الوداع، وذكر حديث عائشة : ( أنها أخذت عمرة ثم نفرت ولم تكن قد طافت طواف الوداع )، وفي رواية: ( أنها طافت بعد العمرة )، كما عند البخاري أيضاً.

لكن الأقرب والله أعلم أن من أخذ عمرةً أو طاف وسعى بعد ذلك ونفر يصدق عليه أنه جعل آخر عهده بالبيت الطواف.

المبيت بمنى

فإذا رمى وحلق أو قصر ثم طاف فإنه يشرع له أن يأتي منى ويبقى في منى، ومن لم يجد مكاناً في منى إلا بمبلغ عال عليه، أو يشق عليه النفقة فإن المبيت بمنى يسقط في حقه، وإن كنا نقول: إن الراجح المبيت بمنى أنه واجب كما هو مذهب الجمهور؛ لقول ابن عمر : ( رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم للعباس بن عبد المطلب في البيتوتة عن منى لأجل سقاية الحاج )، فدل ذلك على أن من احتاج إلى الخروج من منى كالأطباء، وكرجال الأمن، وغيرهم من الذين تناط عليهم مسئوليات عظيمة، أنهم يجوز لهم ترك المبيت بمنى ولا شيء عليهم، وكذلك يجوز لمن لم يجد مكاناً يصلح لمثله أن يترك المبيت بمنى، ومعنى (مكاناً يصلح لمثله) لا يقف في الطرقات، أو يوقف سيارته في طرقات المسلمين فيؤذي الحجيج؛ بل إن وجد مكاناً في أمكنة يستطيع أن يأوي إليها، وإلا فلا يؤذ الحجيج في طرقاتهم؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إياكم والجلوس في الطرقات، فقالوا: ما لنا بد من مجالسنا، قال: أما وإن أبيتم فأعطوا الطريق حقه )، فمن أعظم حق الطريق عدم أذية المسلمين.

الصلاة بمنى

فإذا تحلل الإنسان التحلل الأول والثاني شرع له أن يبقى في منى، فيصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء قصراً كل صلاة بوقتها، هذا هو السنة، فلو جمع الحاج المسافر جاز؛ ولكنه خالف السنة. ويشرع له بعد رمي جمرة العقبة أن يكبر، في فسطاطه يعني في خيمته، ويكبر في طريقه إلى رمي الجمار، ويكبر بعد رجوعه من الجمار، ويكبر وهو في أكله وشربه، ويكبر أدبار الصلوات، كما ثبت عن الصحابة كـعمر و ابن عمر و جابر و أبي هريرة و ابن عباس و ابن مسعود كما حكى ذلك الحاكم عنهم يقول: بأسانيد صحيحة.

ليس من السنة للحاج أن يتقصد صلاة العيد؛ لأن تقصده لصلاة العيد يخالف سنةً مأموراً بها، إلا إن جاء إلى البيت والناس يصلون فلا حرج أن يصلي معهم؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إذا دخلتم المسجد والإمام يصلي فصلوا معهم تكن لكم نافلة ) فإذا رمى الحاج جمرة العقبة فإن الأفضل له أن يهدي، ومن المعلوم الآن أن غالب الحجاج بل تسعة وتسعون بالمائة من الحجاج ليسوا هم الذين يقومون بالهدي، إما أن يعطوا أصحاب الحملات فينحروا لهم، فإذا نحروا فالأفضل أن يُعلموا صاحب الهدي من أجل أن يحلق فإن لم يستطع فلا حرج أن يرمي ويحلق قبل النحر، لكن السنة الرمي ثم النحر ثم الحلق أو التقصير.

النحر والحلق بمنى

والنحر يبدأ صبيحة يوم الحج الأكبر بعد طلوع الشمس، فلو نحر قبل أن يرمي لا حرج؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( افعل ولا حرج )؛ ولكن الأفضل أن يكون النحر بعد الرمي وقبل الحلق أو التقصير، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: ( إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر )، والنحر إنما يكون يوم الحج الأكبر، وهذا هو الأولى؛ لقوله تعالى: ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ [الحج:33]. وأما لو طاف للإفاضة ورمى ثم نحر قبل الفجر فهذه تحتاج إلى مزيد بحث، والعلم عند الله.

ويوم العاشر يسمى يوم الحج الأكبر، ويبقى الحاج في منى، ومنى واجب المبيت بها، ويسقط مع العجز أو الحاجة للخروج منها، فمن وجد مكاناً يجب عليه أن يبقى، ومن لم يجد مكاناً، أو ذهب العصر إلى الحرم فلم يستطع الرجوع إلا بعد الفجر فلا حرج عليه أيضاً؛ لأنه من غير قصده وإرادته.

وفي اليوم الحادي عشر يشرع له أن يرمي الجمار بعد زوال الشمس، قال ابن عمر ( كنا نتحين فإذا زالت الشمس رمينا الجمار في عهد النبي صلى الله عليه وسلم )، وهذا هو السنة ولا شك، ولا يجوز أن يرمي الحاج الجمار قبل الزوال في اليوم الحادي عشر، والسنة أن يرمي الصغرى وهي أقرب الجمار إلى منى، ثم الوسطى، ثم الكبرى.

طريقة رمي الجمار

وطريقة الرمي: بأن يذهب وهو يكبر، ثم يرمي الجمرة الصغرى، والراجح أنه لا يشرع للحاج مكاناً معيناً، سواء استقبل البيت، أو استقبل الجمار، أو استقبل منى فإن كل ذلك جائز لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم فيه شيء، وما جاء في كتب الحنابلة: من أن يجعل الجمرة عن يمينه ثم يرمي، فهذا كله لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم بإسناد صحيح، بل لم يرد بحديث، وإنما فهم هذا وهو خطأ، ولكن السنة أن يرمي الجمرة الصغرى كيفما اتفق، ويبتعد عن زحام الناس؛ لأن العبادة المتعلقة بذاتها أولى من العبادة المتعلقة بمكانها وزمانها، فالناس بعضهم يستقبل القبلة، ولو زاحم الناس من غير خشوع، والأصل: أنه ينتظر حتى إذا وجد مكاناً قريباً فليذهب ويرمي بخشوع وخنوع، ويتذكر موقف النبي صلى الله عليه وسلم، فإن الرمي إنما جعل وشرع لإقامة ذكر الله تعالى، فإذا رماها بسبع حصيات ينظر أسهل شيء إلى طريقه ذات اليمين أو ذات الشمال، قال ابن عمر : ( فرمى الجمرة الصغرى بسبع حصيات ثم أسهل فتقدم أمامه )، ومعنى أسهل يأخذ السهل اليسير أي لأن الجمار كان فيها نوع من الوعورة، فكان الرسول صلى الله عليه وسلم إذا رمى الصغرى يذهب نحو الجهة الأسهل.

وقد نص ابن قدامة و ابن تيمية و ابن حجر فقالوا: إن على الحاج أن يبتعد عن مرمى الحصى حتى لا يصيبه، وبعض طلاب العلم قالوا: إنه إذا رمى الصغرى يأخذ ذات اليمين، و ابن خزيمة يقول: يأخذ أمامه، والأقرب والله أعلم أنه ليس ثمة مكان يشرع فيه العبادة والدعاء، إلا أنه يستقبل القبلة بأي مكان اتجه، هذا هو الأظهر، والله أعلم.

والمشاهد مع الأسف الشديد أنهم بمجرد رميهم الصغرى، تجدهم يتزاحمون ذات اليمين زحاماً شديداً، والأقرب أن الحاج ينظر المكان الذي يكون لقلبه أخشع، ولنفسه في مناجاته لربه أنفع، فإن هذا هو أولى وأقرب في الدعاء.

ثم إنه لو ثبت كما يقول بعضهم: إنه سنة، فنقول: هذه السنة العبادة سنة في مكانها، ولكن تنشغل النفس في الدعاء، والقاعدة الفقهية أن العبادة المتعلقة بذاتها أولى من العبادة المتعلقة بزمانها ومكانها، فإذا رمى الصغرى يذهب بخشوع وهو يكبر إلى الوسطى، فيفعل في الوسطى مثلما فعل في الصغرى، ليس ثمة مكان خاص في طريقة الرمي، ولا في مكان الرمي، بل يبحث عن الأيسر والأسهل، ثم بعد ذلك يرميها بسبع حصيات، يأخذ ذات اليمين أو ذات الشمال فما كان أسهل له سلكه ويبتعد عن زحام الناس وعن موضع الحصى، ويستقبل القبلة ويتضرع في الدعاء.

ولا ينبغي للحاج أن يترك الدعاء بعد الصغرى ولا بعد الوسطى، بل قال سفيان الثوري : من ترك الدعاء؛ فعليه دم، وخالفه عامة أهل العلم، والراجح قول عامة أهل العلم، لكن لا ينبغي للحاج أن يترك الدعاء، فإن السلف كانوا يطيلون الدعاء، فقد ثبت عند مالك أن ابن عمر كان يجلس مقدار سورة البقرة، والواحد منا اليوم وهو يمشي يقول: الله أكبر، اللهم اهدنا فيمن هديت وهو يلتفت ذات اليمين وذات الشمال، وربما دعا من غير خشوع، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

فهذا موطن يحب الإنسان أن يستجيب الله دعاءه؛ فليتضرع ولينكسر بين يديه، فإن الله سبحانه وتعالى يحب الملحين في الدعاء، (ينظر إليكم أزلين فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب).

فإذا رمى الحاج الجمرة الوسطى ذهب إلى جمرة العقبة، وتسمى جمرة العقبة؛ لأنه كان هناك عقبة جبل فيها، والسنة أن يرميها بأن يجعل منى عن يمينه ومكة عن يساره ويستقبل الجمرة فيرميها بسبع حصيات، كما قال ابن مسعود : ( هذا والذي نفسي بيده مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة )، فلو رماها من الجهة الخلفية بأن يجعل منى خلفه جاز، كما صنع عمر بأن رماها من العقبة حين رقى على الجبل ورماها، واليوم من أي مكان رمى جاز ذلك؛ لأنها تجتمع الحصى في المكان الذي خصصت له.

فإذا وصل منى فإنه يشرع له أن يرمي جمرة العقبة بعد زوال الشمس، يرميها بسبع حصيات، يكبر مع كل حصاة، وهو من خروجه من مزدلفة إلى منى لم يزل يلبي حتى يرمي جمرة العقبة، وجمرة العقبة هي أبعد الجمار من منى وأقربها إلى مكة، له أن يرمي من حين وصوله، لكن السنة أن يرميها بعد الزوال، ولو رماها قبل ذلك جاز ولكن خالف السنة، كما قلنا في قصة أسماء بنت أبي بكر ، فالسنة أن يرميها بعد زوال الشمس، ويجوز أن يؤخرها بعد زوال الشمس.

وهل يجوز أن يرميها ليلاً؟ يقول ابن عبد البر : من رماها بعد طلوع الشمس قبل الزوال فقد رماها في وقتها الأفضلي، ومن رماها بعد الزوال إلى المساء فقد رماها في وقتها، ومن رماها بعد المغرب فاختلف العلماء فيه، والراجح جواز ذلك؛ لما روى مالك في موطئه: أن صفية جلست تنفس - أحد نساء ابن عمر - في مزدلفة فلم تأت منى إلا في ليلة الحادي عشر، فقال ابن عمر : الآن حين وصلت؟ قالت: نعم، قال: فارم، فرمت ليلاً، وهذا أصح شيء في الباب، وأما حديث أبي يعلى : ( رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرعاة أن يرموا ليلاً )، فهذا الحديث ضعيف ولا يصح، وأصح شيء في الباب كما قلت: حديث ابن عمر .

وينتهي وقت الرمي يوم العيد إلى طلوع الفجر، فمن رماها في اليوم الحادي عشر فقد أساء؛ ولكن ليس عليه شيء؛ لأنه من وقته، فإذا رمى الحاج جمرة العقبة شرع له أن يكبر، فيرمي جمرة العقبة ولا ينبغي له أن يتحلل إلا بأن يحلق، كما صنع النبي صلى الله عليه وسلم، وأما حديث عائشة : ( إذا رميتم جمرة العقبة وحلقتم )، ففي سنده الحجاج بن أرطأة ، وكذلك حديث ابن عباس : ( إذا رميتم جمرة العقبة فقد حل لكم كل شيء )، فهو ضعيف أيضاً، فإن في سنده الحسن العرني لم يسمع من ابن عباس ، وحديث ( إذا رميت وحلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء )، أيضاً ضعيف، وأصح شيء في الباب فعله عليه الصلاة والسلام وقوله، فإنه قال: ( إني لبدت رأسي وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر )، وإنما نحر بعدما رمى، وإذا نحر شرع في التحلل، وهو الحلق.

وعلى هذا فلا ينبغي له أن يخلع ثياب الإحرام إلا بعد أن يرمي ويحلق أو يقصر، ومن رمى ثم لبس الثياب المعتادة فقد أساء، ولكن ليس عليه شيء؛ لأن العلماء كما يقول ابن تيمية : أجمعوا على أن من رمى جمرة العقبة ثم جامع أهله قبل الحلق لا شيء عليه، بمعنى: أن حجه صحيح؛ ولكن عليه دم، ومعنى لا شيء عليه، يعني: لا شيء عليه في الحج بل حجه صحيح، لكن يجبره بدم، هذا هو الأقرب والله أعلم؛ لقول عائشة : ( طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لحرمه حين أحرم ولحله قبل أن يطوف بالبيت )، وأما زيادة: ( ولحله بعدما رمى جمرة العقبة )، فهذا حديث ضعيف يرويه عروة بن عبد الله بن عروة بن الزبير ، و عروة بن عبد الله مجهول، وقد روى البخاري و مسلم هذا الحديث عند هذا الرجل ولم يذكروا (بعدما رمى جمرة العقبة)، مما يدل على أن البخاري و مسلم تركاها عمداً رضي الله عنهما.

فإذا رمى الحاج جمرة العقبة شرع له أن يحلق أو يقصر، فإذا حلق أو قصر فقد تحلل التحلل الأول، فيباح له كل ما كان محظوراً عليه إلا النساء، والنساء بأن يكن ممنوعاً من الجماع، وممنوعاً من مباشرة المرأة، والمباشرة إما بالمباشرة المعروفة، وإما بالحديث معها كلاماً لا يصلح إلا من الرجل مع زوجته، فإنه ممنوع منها.

فإذا رمى وحلق أو قصر فإنه يشرع له أن يطوف طواف الإفاضة، ويجوز لمن معه نساء ويخاف عليهن أن يأتيهن العادة أن يذهب من مزدلفة إلى الحرم ليطوف معهن طواف الإفاضة، ويسعى إن كان عليه سعي الحج، ولا حرج في ذلك؛ لأن أم سلمة طافت للإفاضة بعد الفجر أو قريباً من الفجر، فإذا رمى وحلق أو قصر وطاف فقد تحلل التحلل الأول والثاني، وجاز له أن يأتي أهله.

أما من لم يطف فلا يجوز له أن يأتي النساء، أو يباشروهن.

ويجوز له أن يؤخر طواف الإفاضة ليجمعها مع طواف الوداع بنية الإفاضة والوداع، ولو كان بعده سعي؛ لأنه يصدق أن يكون آخر عهده بالبيت الطواف، وقد روى البخاري في صحيحه قال: باب إجزاء العمرة عن طواف الوداع، وذكر حديث عائشة : ( أنها أخذت عمرة ثم نفرت ولم تكن قد طافت طواف الوداع )، وفي رواية: ( أنها طافت بعد العمرة )، كما عند البخاري أيضاً.

لكن الأقرب والله أعلم أن من أخذ عمرةً أو طاف وسعى بعد ذلك ونفر يصدق عليه أنه جعل آخر عهده بالبيت الطواف.