بداية المجتهد - كتاب الحج [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل. وبعد:

يقول المؤلف: [وقد بقي من هذا الباب القول في حكم النسك الذي هو العمرة، فإن قوماً قالوا: إنه واجب، وبه قال الشافعي وأحمد وأبو ثور وأبو عبيد والثوري والأوزاعي ، وهو قول ابن عباس من الصحابة وابن عمر -وأنا أقول: وجابر و زيد بن ثابت- وجماعة من التابعين.

وقال مالك وجماعة: هي سنة].

والمسألة هنا هل العمرة واجبة أم تطوع؟

فذهب مالك وأحمد في رواية اختارها ابن تيمية رحمه الله: إلى أن العمرة ليست بواجبة، وقال: كل الأحاديث الواردة في وجوب العمرة: إما أن تكون صحيحة غير صريحة، أو تكون ضعيفة وصريحة.

والأقرب والله تبارك وتعالى أعلم وأحكم: أن العمرة واجبة، وهو قول ابن عباس بسند صحيح قال: (العمرة واجبة كوجوب الحج من استطاع إليه سبيلاً)، كما أخرج ذلك الدارقطني وغيره، وصح عن ابن عمر كما رواه البخاري أنه قال: (الحج والعمرة فريضتان لا يضرك بأيهما بدأت)، وصح أيضاً عن جابر بن عبد الله ، وصح أيضاً عن زيد بن ثابت .

ومما يدل على ذلك ما روي مرفوعاً أو في حكم المرفوع: كما عند أبي داود و أحمد من حديث الصبي بن معبد رضي الله عنه: ( أنه أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال: يا أمير المؤمنين! إني وجدت الحج والعمرة مكتوبان علي، فأهللت بهما، فقال عمر : هديت السنة )، فقوله: ( وجدت الحج والعمرة مكتوبان علي ) دليل على أن العمرة واجبة.

وكذلك حديث أبي رزين العقيلي : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لـأبي رزين حينما قال: إن أبي مات ولم يحج قال: حج عن أبيك واعتمر )، قال الإمام أحمد : أصح شيء في وجوب العمرة حديث أبي رزين ، فإن شعبة قواه وضبطه، أو كما قال رحمه الله.

الجنس الثاني: وهو ما يجري مجرى الأركان، وهي المأمورات والتروك التي فيها نوع شرط، وهذه المأمورات أو الأركان [صنفان: حج وعمرة، والحج ثلاثة أصناف: إفراد، وتمتع، وقران، وهي كلها تشتمل على أفعال محدودة، في أمكنة محدودة، وأوقات محدودة، ومنها ما هو فرض، ومنها غير فرض -أي ما هو سنة- وعلى تروك تشترط]، ويستحب تركها، كما سيأتي بيانها، مثل: الطيب، ولبس المخيط في حق الرجال واجب الترك، ولبس النقاب ولبس القفازين واجب الترك في حق المرأة، والكحل في حق المرأة مستحب الترك وليس بواجب، وترك الترفه مستحب في حق الحاج وليس بواجب، ( أتوني شعثًا غبرًا أشهدكم أني قد غفرت لهم ).

الإحرام ومواقيته المكانية

ثم شرع المؤلف رحمه الله في الأشياء التي تجب مما يشترك فيها الحج والعمرة، وهو الإحرام؛ ولهذا قال: الإحرام واجب، يعني: نية الدخول في النسك واجب، ومعنا وجوبنا هنا إنما هو ركن، وله شروط، وله مكان، وله زمان.

أما المكان: فهو ما يسمى بمواقيت الحج المكانية، فشرع المؤلف في بيانها، ومواقيت الحج المكانية وهي:

الأول: ذو الحليفة وهو ميقات أهل المدينة، وهو ما يسمى اليوم بأبيار علي.

الثاني: الجحفة وهو ميقات أهل الشام.

الثالث: قرن المنازل وهو ميقات نجد، ويسميه بعض أهل المذاهب قرن المنازل أو قرن الثعالب، والصحيح: أن هذا ليس قرن الثعالب، وإنما قرن الثعالب جبلان، جبل في عرفة وجبل في الطائف وهو المشهور، وهو الذي جاء في الصحيحين: ( فلم أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب، فجاءني جبريل فقال: إن الله قد علم فعل قومك بك، وهذا ملك الجبال جاء لتأمره بما شئت )، الحديث.

الرابع: يلملم وهو ميقات أهل اليمن.

وهذه المواقيت مما اتفق أهل العلم على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حددها وبينها، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس ، ومن حديث ابن عمر ، قال ابن عباس : ( وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلن ممن أراد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمهله من أهله حتى أهل مكة يهلون منها ).

أما الميقات الخامس: فهو ذات عرق وهو ميقات أهل العراق، وقد اختلف العلماء: هل ذات عرق مما حدده النبي صلى الله عليه وسلم أم هو مما اجتهد فيه عمر رضي الله عنه؟

قولان عند أهل العلم، والراجح: هو مذهب الشافعي والثوري: أن ميقات أهل العراق مما وقته عمر بن الخطاب ، كما عند البخاري من حديث ابن عمر ( أنه لما فتح المصران )، يعني بذلك العراق: الكوفة والبصرة ( أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقت لأهل نجد قرنًا، وإن قرنًا جور عن طريقنا، قال: فانظروا إلى حذوها من ميقاتكم فنظروا فجعلوا ذات عرق ).

وأما مذهب مالك وجمهور الأمصار فإنهم رأوا أن ذات عرق إنما حددها النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء عند مسلم من حديث ابن جريج عن محمد بن مسلم بن تدرس المكي أبو الزبير عن جابر قال: حسبته قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أنه شك هل قاله الرسول أم سمعه من جابر فقط؟ ( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر من الجحفة ...)، الحديث، وكذلك ما رواه النسائي و أبو داود و الترمذي من حديث عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق )، وهذا حديث ضعيف، فقد تفرد فيه بعض الرواة، وقال غير واحد من أهل العلم: إنه زاد حرفاً، يعني بذلك ذات عرق.

والأقرب والله أعلم: أن هذا مما اجتهد فيه عمر ، والأحاديث الواردة فيه ضعيفة.

مكان الإحرام

قال المؤلف رحمه الله: [وجمهور العلماء: على أن من يخطئ هذه وقصده الإحرام فلم يحرم إلا بعدها؛ أن عليه دماً].

يريد المؤلف هنا أن يبين حكم من لم يحرم إلا بعد المواقيت، فمذهب عامة الفقهاء من الأئمة الأربعة وغيرهم، خلافاً لما جاء عن بعض السلف: أن الإحرام عند المواقيت ركن، كما أشار المؤلف إليه، والصحيح: أنه ليس بركن.

فهم قالوا: إن من لم يحرم من المواقيت فإن عليه دماً، ولكنهم اختلفوا في بعض الصور، فالحنابلة رحمهم الله قالوا: من تعدى الميقات الذي مر عليه، ثم أحرم دون المواقيت فإنه يلزمه دم، حتى لو رجع إلى الميقات بعد ذلك، ما دام قد شرع في الإحرام.

وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن الحاج إذا رجع إلى الميقات فأحرم منه سقط عنه الدم، إذا لم يكن قد طاف بالبيت.

وقال آخرون وهم الحنفية: إن رجع إلى الميقات ولبى فيه سقط الدم، وإلا فقد وجب عليه الدم.

والراجح: هو مذهب الحنابلة؛ لأن الدخول في النسك كان دون الميقات، وهو قد شرع في الإحرام، ولا يقال: يرجع؛ لأنه أحرم دونه، والأصل أن من أحرم وجب عليه الإتمام، وقد أحرم ناقصاً فيجب عليه بترك الإحرام دم.

قال المؤلف: [وجمهور العلماء: على أن من كان منزله دونهن فميقات إحرامه من منزله].

كلمة: من منزله، هل هي مقصودة وهل هي على ظاهرها؟ أم أن المقصود من عامر قريته التي هي دون المواقيت؟ مثال ذلك: الإحرام من جدة لمن كان من أهل جدة دون المواقيت، ولكن أهل جدة يختلفون، فبعضهم شمال جدة وبعضهم جنوب جدة، فلو قلنا: إن الواجب أن يحرم من قريته من عامر البلدة التي هي جدة، فهل من كان في جنوب جدة له أن يحرم من بيته، أو يحرم من شمال جدة أو العكس؟

لو قلنا: إنه يجب أن يحرم من بيته، فلا يسوغ للذي هو في جنوب جدة أن يحرم من شمال جدة، وشمال جدة أقرب إلى مكة من جنوبها.

والراجح: أنه يحرم من عامر قريته، يعني: للجنوبي من أهل جدة أن يحرم من شمالها، ولشماليها أن يحرم من جنوبها؛ لأنها كلها في جدة فهي هي الميقات كاملاً.

ولكن لا يسوغ له أن يتقدم جدة ويخرج من البنيان حتى إذا كان قريباً من الحرم قبل أن يدخله أحرم، فهذا خطأ، ويجب عليه حينئذ دم.

يقول المؤلف أيضاً: [واختلفوا هل الأفضل إحرام الحاج منهن؟ أو من منزله إذا كان منزله خارجاً منهن؟].

صورة المسألة: هل يستحب للإنسان أن يحرم قبل المواقيت؟ أو أن السنة والواجب في حقه أن يحرم من الميقات؟

للعلماء في هذه المسألة ثلاثة أقوال:

القول الأول: قول ابن حزم فذهب: إلى أنه يجب عليه أن يحرم عند الميقات، ويحرم أن يحرم قبل ذلك.

القول الثاني: وهو قول مالك و أحمد : قالوا إنه إن أحرم قبل الميقات من غير حاجة كره له وأساء؛ لأن الصحابة ما أحرموا إلا عند المواقيت، والنبي صلى الله عليه وسلم ما أحرم إلا عند المواقيت وهم على الخير.

القول الثالث: وهو قول الشافعي رحمه الله و أبي حنيفة : حيث قالوا إن له أن يحرم قبل الميقات، بل استحبوا له ذلك إذا كان إحرامه من بيت المقدس، وقد ذكروا دليلاً لذلك وهو ما رواه أهل السنن من حديث أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( من أحرم من بيت المقدس ثم حج فحجته تامة )، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، وهذا الحديث ضعيف.

والراجح والله أعلم: هو مذهب أحمد و مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت هذه المواقيت، فكما أن المرء لا يسوغ له أن يحرم بالصلاة قبل وقتها فكذلك لا يسوغ له أن يحرم بالحج أو العمرة قبل ميقاته الزماني أو المكاني، ولكن المؤلف ذكر المكاني، وهذا أظهر، حتى إن مالكاً جاءه رجل فقال: يا أبا عبد الله ! ما ترى فيمن أحرم قبل الميقات؟ قال: لا أدري، أخاف عليك، قال: يا أبا عبد الله ! أي شيء؟ إنما هي بضعة مترات أتقرب بها إلى الله، قال: يا هذا! وأي شيء أعظم فتنة أن ترى عملاً فيه خير لم يعمله النبي صلى الله عليه وسلم؟ اللهم صل وسلم على رسول الله، وهذا من الفقه، فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63].

[واختلفوا فيمن ترك الإحرام من ميقاته وأحرم من ميقات آخر غير ميقاته].

صورة المسألة: شخص من أهل نجد، ميقاته قرن المنازل، فهل له أن يتعدى قرن المنازل ليحرم من يلملم؟ أو شخص من أهل المدينة، هل له أن يتعدى ميقاته ميقات المدينة ليحرم من الجحفة؟ أو شخص من أهل نجد ذهب إلى المدينة، فهل له أن يتعدى ميقات بلده إلى ميقات غير بلده، فيذهب فيحرم من القرن؟ هذه أقوال مشهورة عند أهل العلم.

أما أبو حنيفة رحمه الله فقال: فيجوز للمسلم أن يتعدى ميقات بلده فيحرم من ميقات أقرب منه؛ لأن الأصل والواجب هو أن يحرم من أي ميقات، وقالوا: إن قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( هن لهن )، إنما قصد بذلك بيان أن المرء لا يسوغ له أن يحرم إلا من هذه المواقيت، فلو تعدى ميقاتاً بعيداً إلى ميقات قريب جاز له ذلك. وقد رأيت بعض طلاب العلم المعاصرين يفتي به ويستدل بقول ابن المنذر : فيما ثبت عن عائشة أنها كانت إذا أحرمت بالحج أحرمت من ذي الحليفة، وإذا أحرمت بالعمرة أحرمت من الجحفة، فقالوا: إن هذا الأثر بإسناد صحيح كما يقول ابن المنذر ، فعائشة تركت ميقات بلدها وهو ذو الحليفة وأحرمت من الجحفة، وهذا يدل على الجواز.

والراجح والله تبارك وتعالى أعلم: هو نص هذا الحديث وهو ( هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلهن )، فمن جاء إلى ميقات بلده فلا يسوغ له أن يحرم من ميقات غير بلده؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( هن لهن )، ومن مر على ميقات غير ميقات بلده فلا يسوغ له أن يتعداه إلى ميقات آخر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ).

وأما أثر عائشة : فإن الواجب على المسلم أن يجمع طرق الأثر، حتى يتبين له، كما قال الحافظ ابن حجر في شرح النخبة: وتتبع الطرق لذلك هو الاعتبار.

وقد روى ابن أبي شيبة بسند صحيح من طريق هشام بن عروة عن عائشة : أنها كانت إذا أرادت الحج أحرمت من ذي الحليفة، وإذا أرادت أن تعتمر بعد الحج خرجت من مكة إلى الجحفة فأحرمت منه، فحينئذ تكون عمرة عائشة ليست من المدينة إلى الجحفة، ولكن من مكة خرجت إلى الجحفة كي تطبق أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله لها: ( إن أجرك على قدر نصبك )، فأرادت أن تحج من مكان بعيد.

وثبت عن أنس أيضاً: أنه أحرم من الجحفة بعد ما حج، كان يقول عكرمة : كان أنس إذا حمحم رأسه أحرم من الجحفة، وهذا يدل على أن أنساً كان ربما في مكة لحاجة؛ لأنه لا يسوغ للمسلم أن يبقى بعد قضاء نسكه ثلاثاً إذا كان من المهاجرين؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ( يبقى المهاجر بعد قضاء نسكه ثلاثاً )، وحينئذ نقول: لا يسوغ لأهل نجد إذا مروا على ميقات ذي الحليفة وهم قد نووا الحج أو العمرة أن يتعدوا ميقات ذي الحليفة إلى ميقات قرن؛ لأنهم قد مروا عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: ( ولمن أتى عليهن من غير أهلهن ).

والتفاصيل في هذا الباب كثيرة، لكن لا يسعفنا الوقت أن نذكر كل تفاصيل الباب. إلا أننا نعرف أنه لا يسوغ لمسلم أن يتعدى ميقات بلده ليحرم من ميقات قريب، لمخالفة الحديث.

وكذلك لا يسوغ لمسلم أن يتعدى ميقات بلده إلى ميقات قريب غير ميقات بلده؛ لمخالفته الحديث.

فلو أن شخصاً قال: أنا أريد الحج أو العمرة وأريد أيضاً النزهة، فسوف أذهب إلى جدة وأبقى بها زماناً، ثم إذا أردت الحج أو العمرة أذهب إلى الميقات الذي حاذيته أو مررت عليه، فنقول: لا حرج في ذلك إن شاء الله، لكن الفرق والأصل في هذا أن كل من أنشأ سفراً لقصد الحج أو لقصد العمرة فلا يسوغ له أن يحرم إلا من الميقات، وأما من أنشأ سفراً لا لأجل العمرة، ولكن لأجل عمل، فدخلت العمرة تبعاً، مثل أن يقول: جاءني عمل انتداب إلى جدة، وأنا من أهل الرياض، فلما صدر القرار أنا غير ناو للعمرة، فأقول: إذا كانت العمرة ليست أصلاً، بل جاءت تبعاً لأصل آخر أو لمقصود آخر فلا حرج، إذا أنهى انتدابه أن يحرم من المكان التي هو فيها؛ لأن العمرة لم تكن أصلاً، وهو حينما مر على الميقات لم يرد الحج أو العمرة، وهذه النية التبع من النية المقصودة لها أثر في الحكم.

أرأيتم لو أن رجلاً خرج من الرياض ليزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فهل يسوغ له ذلك شرعاً؟ لا يسوغ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث أبي سعيد : ( لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد )، أما لو نوى أن يزور مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم ويزور قبره هل يجوز؟ فيكون الجواب بالجواز؛ لأن النية هنا نية زيارة قبر الرسول صلى الله عليه وسلم جاءت تبعاً، والقاعدة الفقهية: يجوز تبعاً ما لا يجوز استقلالاً.

زمن الإحرام

يقول المؤلف: [القول في ميقات الزمان، وأما ميقات الزمان، فهو محدود أيضاً في أنواع الحج الثلاثة: وهو شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة باتفاق].

قوله: باتفاق، يقصد بذلك أنهم لم يقولوا بأقل من تسعة، وإن كانوا قد اختلفوا بأكثر من ذلك، والذي قال بتسعة هو الإمام الشافعي .

وقال أحمد و أبو حنيفة : بعشر ذي الحجة.

[وقال مالك : هو ثلاثة الأشهر كلها مكان للحج] بكمالها وتمامها، وهو شهر شوال، وشهر ذي القعدة، وشهر ذي الحجة، ودليل ما ذهب إليه مالك هو أن في أشهر الحج غير تسع ذي الحجة وغير العاشر فيه من أعمال الحج، وهي أيام التشريق.

واستدل الشافعي على قوله بتسع ذي الحجة بقوله تعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، ومعناها وقت الحج أشهر معلومات.

ومن المعلوم: أن يوم العاشر لا يسوغ للإنسان أن يهل به؛ لأن الحج قد انتهى؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الرحمن بن يعمر : ( الحج عرفة ).

والراجح والله تبارك وتعالى أعلم: هو مذهب أبي حنيفة و أحمد على أن أشهر الحج هي: شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة.

وأما اعتراض الإمام الشافعي رحمه الله فنقول: إنه ثبت عن ابن عباس أنه فسر ذلك بعشر من ذي الحجة، كما رواه ابن جرير في تفسيره، ثم إن قوله: ينتهي الحج، محل نظر؛ لأن ليلة العاشر تأخذ حكم العاشر، فيسوغ للإنسان أن يهل بالحج ليلة العيد، فيقف بعرفة ثم يقف بمزدلفة، ويفعل أركان الحج، ومن المعلوم أن يوم العاشر هو يوم الحج الأكبر، فيكون الحج يوم العاشر فيه من الإهلال وفيه من أعمال الحج.

ومن المعلوم: أنه لا يوجد ركن بعد يوم العاشر؛ وما وجد فإنما هو قضاء، أو يعد جواز لا من وقته؛ لأن وقت الطواف في يوم العيد، والسعي على القول بأنه ركن، يوم العيد، ومن أخره عن وقته الذي هو فيه أفضل.

وثمرة الخلاف فيما قاله مالك من أن أشهر الحج شهر ذي الحجة كاملاً، فلو أن حاجاً أخر طواف الإفاضة عن شهر ذي الحجة لوجب عليه بتركه دم، والجمهور يقولون: بقول مالك .

والقول الآخر: أنه أساء ولا يلزمه دم؛ لأن طواف الإفاضة ليس له وقت ينتهي، ولعل هذا القول أظهر، والله تبارك وتعالى أعلم.

تبقى مسألة وهي: من أحرم للحج قبل أشهر الحج، يعني: أحرم بالحج في رمضان، كأن أحرم في رمضان على أنه يريد الحج، فطاف طواف القدوم وسعى سعي الحج وبقي حتى أتت أشهر الحج، فهل يصح إحرامه للحج قبل مواقيت الحج الزمانية أم لا؟ هذه هي صورة المسألة.

ذهب مالك وجمهور الفقهاء من الحنابلة والحنفية إلى أنه يصح منه ذلك، إلا أنهم كرهوا له أن يهل بالحج قبل مواقيت الحج الزمانية، ولو فعل فإنه يصح منه، وقالوا: كما لو أنه أحرم بالحج أو العمرة قبل المواقيت المكانية فإنه يصح مع الكراهة، فكذلك لو أحرم قبل المواقيت الزمانية فيصح مع الكراهة.

وذهب الشافعي رحمه الله: وهو قول ابن عباس كما رواه ابن جرير بسند صحيح إلى أنه: لا يصلح الحج إلا في أشهر الحج؛ لقول الله سبحانه وتعالى: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، ومن المعلوم من قوله: الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ [البقرة:197]، أن وقت الحج أشهره المعلومات، فكما أنه لا يسوغ للمسلم أن يصلي الظهر قبل وقته، فكذلك لا يسوغ له أن يحرم بالحج قبل وقته، وهذا القول أظهر.

وحينئذ فلو جاءنا الآفاقي من خارج مكة وأحرم بالحج وهو مفرد في رمضان، وطاف للقدوم وسعى سعي الحج، فنقول له على مذهب الشافعي : يجب عليك أن تقلبها إلى عمرة فتحل من هذه الحجة، ثم تهل بالحج في أشهر الحج، وهذا القول أظهر، والله تبارك وتعالى أعلم.

إلا أنهم اختلفوا متى تكون عمرته في أشهر الحج أمن حين إحرامه بالحج -أي: بأن يكون إحرامه بالحج في أشهر الحج- أم العبرة بأن يطوف أول طواف في أشهر الحج ليكون حجه صحيحاً؟ ومثال ذلك: لو أن رجلاً أحرم صبيحة ليلة واحد من رمضان، أو صبيحة يوم ثلاثين من رمضان، ولكنه لم يؤد العمرة أو طواف القدوم إلا بعد ليلة العيد، فهل يصح حجه؟

يقول الشافعي : يصح منه ذلك؛ لأن العبرة ليست بالإحرام، وإنما العبرة بالطواف، فإذا كان طوافه في أشهر الحج صح منه هذا الإحرام.

و مالك رحمه الله يقول: ليس العبرة بالإحرام، وليس العبرة بالطواف، وإنما العبرة بالتحلل من العمرة إذا قد فعل جزءً من العمرة في أشهر الحج، فلو بقي عليه جزء من السعي فأكمله في صبيحة يوم العيد صح منه هذا الإحرام، وصار حينئذ حجه صحيحاً، ويكون حينئذ متمتعاً.

وذهب آخرون وهو قول أبي ثور : إلى أن العبرة بالإحرام، فمن أحرم صبيحة يوم ثلاثين من رمضان فإن عمرته حينئذ ليست عمرةً في أشهر الحج، لو أداها في أشهر الحج، وهذا القول أظهر، والله تبارك وتعالى أعلم.

لأن العبرة هو الإهلال بالحج أو العمرة من مكانه، ونقول حينئذ: لو أن شخصاً أحرم ليلة واحد من رمضان فإن عمرته حينئذ تكون عمرة رمضانية، ولو أحرم بالعمرة ليلة العيد من رمضان تكون عمرته شوالية وليست رمضانية، ولو أحرم صبيحة يوم ثلاثين من رمضان وأداها في ليلة العيد تكون عمرته رمضانية؛ لأن العبرة في الإهلال بالعمرة.

ثم شرع المؤلف رحمه الله في الأشياء التي تجب مما يشترك فيها الحج والعمرة، وهو الإحرام؛ ولهذا قال: الإحرام واجب، يعني: نية الدخول في النسك واجب، ومعنا وجوبنا هنا إنما هو ركن، وله شروط، وله مكان، وله زمان.

أما المكان: فهو ما يسمى بمواقيت الحج المكانية، فشرع المؤلف في بيانها، ومواقيت الحج المكانية وهي:

الأول: ذو الحليفة وهو ميقات أهل المدينة، وهو ما يسمى اليوم بأبيار علي.

الثاني: الجحفة وهو ميقات أهل الشام.

الثالث: قرن المنازل وهو ميقات نجد، ويسميه بعض أهل المذاهب قرن المنازل أو قرن الثعالب، والصحيح: أن هذا ليس قرن الثعالب، وإنما قرن الثعالب جبلان، جبل في عرفة وجبل في الطائف وهو المشهور، وهو الذي جاء في الصحيحين: ( فلم أستفق إلا وأنا في قرن الثعالب، فجاءني جبريل فقال: إن الله قد علم فعل قومك بك، وهذا ملك الجبال جاء لتأمره بما شئت )، الحديث.

الرابع: يلملم وهو ميقات أهل اليمن.

وهذه المواقيت مما اتفق أهل العلم على أن النبي صلى الله عليه وسلم قد حددها وبينها، كما في الصحيحين من حديث ابن عباس ، ومن حديث ابن عمر ، قال ابن عباس : ( وقت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأهل المدينة ذا الحليفة، ولأهل الشام الجحفة، ولأهل نجد قرن المنازل، ولأهل اليمن يلملم، وقال: هن لهن ولمن أتى عليهن من غير أهلن ممن أراد الحج والعمرة، فمن كان دونهن فمهله من أهله حتى أهل مكة يهلون منها ).

أما الميقات الخامس: فهو ذات عرق وهو ميقات أهل العراق، وقد اختلف العلماء: هل ذات عرق مما حدده النبي صلى الله عليه وسلم أم هو مما اجتهد فيه عمر رضي الله عنه؟

قولان عند أهل العلم، والراجح: هو مذهب الشافعي والثوري: أن ميقات أهل العراق مما وقته عمر بن الخطاب ، كما عند البخاري من حديث ابن عمر ( أنه لما فتح المصران )، يعني بذلك العراق: الكوفة والبصرة ( أتوا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقالوا: يا أمير المؤمنين! إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وقت لأهل نجد قرنًا، وإن قرنًا جور عن طريقنا، قال: فانظروا إلى حذوها من ميقاتكم فنظروا فجعلوا ذات عرق ).

وأما مذهب مالك وجمهور الأمصار فإنهم رأوا أن ذات عرق إنما حددها النبي صلى الله عليه وسلم، كما جاء عند مسلم من حديث ابن جريج عن محمد بن مسلم بن تدرس المكي أبو الزبير عن جابر قال: حسبته قال: عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يدل على أنه شك هل قاله الرسول أم سمعه من جابر فقط؟ ( يهل أهل المدينة من ذي الحليفة والطريق الآخر من الجحفة ...)، الحديث، وكذلك ما رواه النسائي و أبو داود و الترمذي من حديث عائشة : ( أن النبي صلى الله عليه وسلم وقت لأهل العراق ذات عرق )، وهذا حديث ضعيف، فقد تفرد فيه بعض الرواة، وقال غير واحد من أهل العلم: إنه زاد حرفاً، يعني بذلك ذات عرق.

والأقرب والله أعلم: أن هذا مما اجتهد فيه عمر ، والأحاديث الواردة فيه ضعيفة.