شرح سنن ابن ماجه المقدمة [17]


الحلقة مفرغة

شرح حديث: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب الانتفاع بالعلم والعمل به.

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا أبو خالد الأحمر عن ابن عجلان عن سعيد بن أبي سعيد عن أبي هريرة قال: كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن دعاء لا يسمع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع) ].

هذه ترجمة عظيمة، وهي: [باب العمل بالعلم والانتفاع به] لأن المقصود من تعلم العلم هو العمل والانتفاع به، فإذا لم يعمل الإنسان بالعلم ولم ينتفع به فإنه يكون من المغضوب عليهم، ويكون فيه شبه باليهود الذين معهم العلم ولم يعملوا به، أما إذا عمل بعلمه وانتفع به فإنه يكون مع المنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين الذين نسأل الله في كل ركعة من ركعات الصلاة أن يهدينا صراطهم، وهم الذين يعلمون ويعملون؛ تعلموا العلم وانتفعوا به وعملوا به، هؤلاء هم المنعم عليهم وهم أهل السعادة، أما أهل الشقاوة فهم طائفتان:

الطائفة الأولى: المغضوب عليهم، وهم الذين يعلمون ولا يعملون، فلا ينتفعون بعلمهم، كاليهود وأشباههم، ولهذا قال بعض العلماء: من فسد من علمائنا ففيه شبه باليهود.

والطائفة الثانية: الضالون الذين يعملون بجهل وضلال، ليس عندهم علم، فقدوا العلم والبصيرة، فهم يتخبطون في دياجير الظلمات، كالصوفية وبعض الزهاد وغيرهم، ويدخل في هذا النصارى دخولاً أولياً، فهم الضالون، ولهذا شرع لنا الله سبحانه وتعالى قراءة الفاتحة في كل ركعة من ركعات الصلاة، وفي أولها حمد الله والثناء عليه سبحانه وتعالى وتمجيده: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2]، ثم ثناء على الله: مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4] وتمجيد لله، وتوسل في الثناء عليه، وفيها أركان العبادة الثلاثة: المحبة، والخوف، والرجاء.

ثم بعدها: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] (إياك نعبد) هذه هي سر الخليقة التي من أجلها خلق الله الخلق وهي العبادة والتوحيد والطاعة، إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ، فالعبادة منك أيها العبد، والاستعانة بالله عز وجل، ثم بعد ذلك هذا الدعاء العظيم الذي هو أنفع وأعظم وأجمع دعاء، وحاجة الإنسان إلى هذا الدعاء أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب، بل أعظم من حاجته إلى النفس الذي يتردد بين جنبيه؛ وذلك أن الإنسان إذا فقد الطعام والشراب مات الجسد، والموت لابد منه إن عاجلاً أو آجلاً، ولا يضر الإنسان أن يموت إذا كان مستقيماً على طاعة الله، وكان موحداً لله، فالموت لابد منه، لكن إذا فقد الهداية مات قلبه وروحه وصار إلى النار -نعوذ بالله- وبهذا يتبين أن حاجة العبد إلى هذا الدعاء أعظم من حاجته إلى الطعام والشراب، بل أعظم من حاجته إلى النفس الذي يتردد بين جنبيه، وهو : اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7].

فالله تعالى قسم الناس إلى ثلاثة أقسام: منعم عليهم، ومغضوب عليهم، وضالون. فأنت تسأل الله أن يهديك الصراط المستقيم، صراط المنعم عليهم: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ، وقد بينه الله تعالى في سورة النساء بقوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ [النساء:69] أربع طبقات: الأنبياء، والصديقون، والشهداء، والصالحون، فأنت تسأل الله أن يهديك الصراط المستقيم صراط المنعم عليهم، وتسأل الله أن يجنبك طريق المغضوب عليهم، غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ، أي: غير صراط المغضوب عليهم، وهم الذين يعلمون ولا يعملون، (ولا الضالين) أي: وغير طريق الضالين، وهم الذين يعبدون الله على جهل وضلال.

فما أعظم هذا الدعاء وما أنفعه! فهما داءان إذا سلم الإنسان منهما فقد سلم من الشرور، وقد برأ الله نبيه الكريم عليه الصلاة والسلام من هذين الدائين؛ وهماً داء الغواية، وداء الضلال، فالذي لا يعمل بعلمه غاوٍ، والذي يعمل على جهل وضلال ضال، والذي يعمل بعلمه راشد.

قال تعالى في كتابه الكريم: وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى [النجم:1-2]، فأقسم الله أن نبينا صلى الله عليه وسلم ليس ضالاً ولا غاوياً، بل هو راشد عليه الصلاة والسلام.

فهذه الترجمة ترجمة عظيمة: باب العمل بالعلم والانتفاع به؛ لأن الثمرة من العلم هو العمل به والانتفاع به، فإذا لم يعمل الإنسان بعلمه ولم ينتفع به صار كاليهود، كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا [الجمعة:5].

وهذا الحديث ضعيف؛ لانقطاعه، فـسعيد بن أبي سعيد لم يسمع من أبي هريرة ، وابن عجلان فيه كلام، وأبو خالد الأحمر ضعيف، لكن الحديث أصله في صحيح مسلم : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (اللهم لك أسلمت، وبك آمنت، وعليك توكلت، وإليك أنبت، وبك خاصمت، أعوذ بعزتك أن تضلني، لا إله إلا أنت الحي الذي لا يموت، والجن والإنس يموتون، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع، ومن دعوة لا يستجاب لها)، فهذا الدعاء ثابت معناه وإن كان الحديث سنده ضعيف، لكنه دعاء عظيم، إذ العلم الذي لا ينفع وبال على صاحبه، كاليهود معهم علم ولم يعملوا به، قال تعالى عنهم: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ [البقرة:146]، أي: يعرفون أن محمداً صلى الله عليه وسلم رسول الله وأنه حق، ومع ذلك لم يؤمنوا به، وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ [البقرة:146]، فلا فائدة من العلم الذي لا يعمل به صاحبه، وقال سبحانه عن اليهود: فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ [البقرة:89].

قوله: (ومن نفس لا تشبع)، أي: لا تزال تسأل وتسأل وتسأل، ومن رزق القناعة فقد رزق خيراً كثيراً، فالقناعة كنز لا يفنى، والنفس التي لا تشبع لا يزال صاحبها نهماً، يطلب الدنيا ويسألها ولا يشبعه شيء ولا يرويه شيء، كالنهم الذي لا يروى. قال: (ومن دعوة لا يستجاب لها)، فهذا دعاء عظيم.

والعلم الذي لا ينفع أي: لا ينفع الإنسان ولا يعمل به، وأهم شيء هي الواجبات، وأصل ذلك الإيمان بالله عز وجل، فاليهود يعلمون أن محمداً رسول الله ومع ذلك لم يؤمنوا، ولم يعملوا بعلمهم في أصل الدين، وهو الإيمان بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم، فهي شهادة لله تعالى بالوحدانية ولنبيه بالرسالة، فلم يشهدوا لمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، وإن كانوا يزعمون أنهم مؤمنون بالله، لكن إيمانهم فاسد لا يصح حتى يؤمنوا برسول الله، فالشهادتان لا تقبل إحداهما بدون الأخرى، كل واحدة شرط في الأخرى، فمن شهد أن لا إله إلا الله ولم يشهد أن محمداً رسول الله لم تقبل منه، ومن شهد أن محمداً رسول الله ولم يشهد أن لا إله إلا الله لم تقبل منه، وإذا أطلقت إحداهما دخلت فيها الأخرى، فإذا أطلقت شهادة أن لا إله إلا الله دخلت فيها شهادة أن محمداً رسول الله، وإذا أطلقت شهادة أن محمداً رسول الله دخلت فيها شهادة أن لا إله إلا الله، ولهذا نفى الله تعالى الإيمان عن أهل الكتاب لما لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا يزعمون أنهم يؤمنون بالله، قال سبحانه وتعالى في كتابه الكريم: قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة:29]، فنفى عنهم الإيمان بالله واليوم الآخر؛ لأنهم أنكروا نبوة ورسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وإن كانوا يزعمون أنهم مؤمنون.

وكذلك أيضاً من لم يعمل بعلمه في أداء الواجبات وترك المحرمات، أما من أدى الواجبات والفرائض وترك المحرمات فقد آمن بالله ورسوله، ثم اقتصر على ذلك فهو من المقتصدين أصحاب اليمين الذين يدخلون الجنة من أول وهلة، ولكن أعلى منهم وأفضل هم السابقون المقربون، الذين يؤدون الفرائض والواجبات وينشطون في فعل النوافل والمستحبات، ويتركون المحرمات والمكروهات كراهة التنزيه، ويتركون التوسع في المباحات أيضاً خشية الوقوع في المكروهات، فهؤلاء هم السابقون المقربون، أما المقتصدون فهم الذين يقتصرون على أداء والواجبات فقط، وليس عندهم نشاط في فعل المستحبات والنوافل، ويتركون المحرمات ولا يفعلون شيئاً منها، ولكن ليس عندهم نشاط في ترك المكروهات كراهة تنزيه، وقد يتوسعون في المباحات، وكل من الطائفتين -السابقين المقربين والمقتصدين- يدخلون الجنة من أول وهلة.

وهناك طائفة ثالثة من المؤمنين وهم الظالمون لأنفسهم الذين يقصرون في بعض الواجبات، أو يفعلون بعض المحرمات، وهم مؤمنون بالله ورسوله موحدون، ولكن قصروا في بعض الواجبات أو ارتكبوا بعض المحرمات، فهؤلاء على خطر، وهم داخلون تحت المشيئة، كما قال الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48]، فمنهم من يعفى عنه ومنهم من يصيبه العذاب، فقد يعذب في قبره، كما في حديث ابن عباس في قصة الرجلين اللذين كان أحدهما لا يستنزه من البول، وكان الآخر يمشي بالنميمة، فعذبا في قبريهما.

وقد تصيبه شدائد وأهوال يوم القيامة، ومنهم من يستحق دخول النار فيشفع فيه، ومنهم من يدخل النار، فإذا دخلوا النار دخلوها على أنهم عصاة يعذبون على قدر جرائمهم ومعاصيهم، ثم في النهاية يخرجون منها برحمة أرحم الراحمين، أو بشفاعة الشافعين، وقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر، وهم مؤمنون مصلون لكنهم ماتوا عليها من غير توبة، وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات، في كل مرة يحد الله له حداً، ويشفع الأنبياء، والملائكة، والشهداء، والصالحون، والأفراط، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته، فيقول رب العالمين: (شفعت الملائكة وشفع النبيون، ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين، فيخرج قوماً من النار لم يعملوا خيراً قط) أي: زيادة على التوحيد والإيمان، فهؤلاء هم الظالمون لأنفسهم وكلهم مسلمون.

فهذه ثلاث طبقات: السابقون المقربون، والمقتصدون، والظالمون لأنفسهم، والصنف الرابع هم الكفرة والعياذ بالله بجميع أصنافهم من الوثنيين، والشيوعيين، والنصارى، واليهود، والملاحدة، والزنادقة، والمنافقين، قال الله تعالى في كتابه الكريم في بيان هذه الأصناف الثلاثة: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32]، ثلاثة أصناف كلهم ورثوا الكتاب وكلهم مصطفون، الظالم لنفسه مصطفى؛ لأنه موحد اصطفاه الله وجعله مؤمناً، لكن عنده نقص، ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا [فاطر:32-33]

ثم الصنف الرابع: الكفرة نعوذ بالله، قال تعالى: وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ [فاطر:36].

إذاً: الخشوع واجب في القلب وفي الجوارح، والقلب هو العقل، فإذا خشع القلب خشعت الجوارح، ولا يكتب للإنسان من صلاته إلا ما عقل منها كما جاء في الحديث: (إن من الناس من يخرج من صلاته ولم يكتب له إلا ثلثيها، إلا نصفها، إلا ثلثها، إلا ربعها، إلا عشرها) على حسب ما يعقل من صلاته، والخشوع في القلب واجب، لكن إذا كثرت الوساوس فالصلاة صحيحة في أصح قولي العلماء، وهو الذي عليه الجماهير، وبعض العلماء يرى أنه إذا كثرت الوساوس تبطل الصلاة وتجب إعادتها، لكنه قول مرجوح، والصواب عدم وجوب إعادتها، لكن لا يكتب له من الثواب إلا على حسب ما عقل من صلاته.

أما الحقوق المتعلقة بالناس فلابد من أدائها إلى أصحابها، أو تؤدى من حسنات الإنسان، فإن لم يكن له حسنات أو فنيت حسناته، أخذ من سيئاتهم فطرحت عليه، ثم طرح في النار، كما جاء في الحديث، وحقوق الخلق مبنية على المشاحة، أما المعاصي التي بين الإنسان وبين نفسه فهي تحت مشيئة الله قد يغفر الله له وقد يعاقبه.

مثال ذلك: القاتل المتعمد؛ فإنه يتعلق به ثلاثة حقوق -كما جاء في الحديث-: حق لله، وحق للقتيل، وحق لأولياء القاتل، فلابد من أداء الحقوق الثلاثة، فإذا سلم نفسه لأولياء القتيل فهم بالخيار بين واحدة من ثلاث: إما أن يقتصوا منه، أو يصطلحوا معه على الدية، أو يصفحوا عنه مجاناً، وإذا سلم نفسه وفعلوا معه واحدة من الثلاثة الأمور سقط حقهم، وبقي حق الله، فإذا تاب توبة نصوحاً، وندم على ما مضى، وأقلع عن المعصية، وعزم على ألا يعود إليها، فإن حق الله تعالى يسقط، ويبقى حق القتيل، فإذا أدى الحقين فإن الله سبحانه وتعالى يرضي المقتول بما يعطيه من الثواب والجزاء، فيصفح عن أخيه فيسقط حقه.

شرح حديث: (اللهم انفعني بما علمتني...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا عبد الله بن نمير عن موسى بن عبيدة عن محمد بن ثابت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علماً، والحمد لله على كل حال) ].

هذا الحديث ضعيف أيضاً؛ لأن موسى بن عبيدة الربذي يضعف في الحديث، ولكن هذا دعاء طيب: (اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني) فهذا دعاء مطلوب، كون الإنسان يسأل ربه أن ينفعه بما علمه وأن يعلمه ما ينفعه، فهذا مطلوب، لكن الحديث بهذا السند ضعيف، ولكن معناه صحيح، فقد جاءت الأدلة بما يدل على هذا، ومن ذلك سورة الفاتحة فالدعاء الذي فيها يشهد لهذا الدعاء، فأنت تسأل الله أن يهديك: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:6-7]، فقوله: (اللهم علمني ما ينفعني، وانفعني بما علمتني)، له شواهد من الأدلة العامة، وهو بهذا السند ضعيف.

وقد قال الترمذي : (حسن غريب من هذا الوجه).

لكن له شواهد أخرى، وهو بهذا السند ضعيف.

وقوله: (الحمد لله على كل حال) ورد في بعض الأحاديث الضعيفة ما يدل عليه، فقد ورد عند دخول المسجد الحرام، كما ذكر صاحب شرح زاد المستقنع: أنه إذا دخل المسجد الحرام يقول: اللهم لك الحمد كما ينبغي لجلالك وعظيم سلطانك، وفي آخره: (والحمد لله على كل حال)، لكنه ضعيف.

وكون الإنسان يحمد الله على كل حال له شواهد، منها قوله تعالى: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2].

شرح حديث: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجه الله...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة حدثنا يونس بن محمد وسريج بن النعمان قالا: حدثنا فليح بن سليمان عن عبد الله بن عبد الرحمن بن معمر أبي طوالة عن سعيد بن يسار عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجهُ الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يجد عَرفَ الجنة يوم القيامة) يعني: ريحها ].

قوله: (مما يبتغي) أي: المتعلم، فيكون (وجه) مفعولاً به، أو (مما يبتغى به وجه الله) فيكون (وجه) نائب فاعل.

وهذا الحديث ضعيف لأجل فليح بن سليمان ، لكن له شواهد وهو ثابت، وفيه الوعيد الشديد على تعلم العلم لأجل الدنيا، ويشهد له قوله صلى الله عليه وسلم: (من تعلم علماً مما يبتغى به وجهُ الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة)، وفي هذا اللفظ: (لم يجد عرف الجنة) يعني: ريحها، ويشهد له كذلك قول الله تعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].

فتعلم العلم من أجل القربات، وأفضل الطاعات، فيجب على الإنسان أن يخلصه لله، وأن يخلص نيته لله في طلبه للعلم، ويقصد به وجه الله والدار الآخرة، فيتعلم العلم من أجل أن يرفع الجهل عن نفسه وعن غيره، من أجل أن يعبد الله على بصيرة، يتعلمه طاعة لله وابتغاء مرضاته وتعبداً له؛ لأن تعلم العلم من أفضل القربات وأجل الطاعات، حتى قال العلماء: إنه أفضل من نوافل العبادة وأفضل من أن تتفرغ للعبادة، فإذا كان يمنعك صلاة النافلة أو صوم النافلة من طلب العلم فطلب العلم مقدم، فالواجب على طالب العلم أن يخلص نيته لله، وأن يقصد في تعلمه للعلم وجه الله والدار الآخرة، وأن يرفع عن نفسه الجهل، سئل الإمام أحمد رحمه الله: كيف يخلص نيته لله؟ قال: ينوي رفع الجهل عن نفسه وعن غيره؛ فيعبد ربه على بصيرة، وينوي رفع الجهل عن غيره ويعلم غيره؛ لأن الإنسان خرج من بطن أمه لا يعلم شيئاً ثم علمه الله، قال تعالى: وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [النحل:78].

والحديث ضعيف كما سبق، لكن الشواهد تقويه، وينظر هل هو في مسلم أو معناه فقط، وأظنه في سنن أبي داود ، وتشهد له الآية الكريمة: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ * أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:15-16].

والآيات الكريمة قد تشهد للحديث الضعيف ويدل على أن له أصل.

والمراد بالعلم هنا العلم الشرعي، والعلم إذا أطلق فالمراد به العلم الشرعي، علم الحلال والحرام، وفي مقدمة ذلك علم التوحيد وأسماء الله وصفاته وأفعاله، وقد ثبت في الصحيحين من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين، وأنا القاسم والله المعطي)، هذا الحديث منطوقه: أن من فقهه الله في الدين فقد أراد به خيراً، ومفهومه: أن من لم يفقه في الدين لم يرد الله به خيراً، وأعظم الفقه في الدين الفقه في أسماء الله وصفاته، ثم الفقه في أحكام الحلال والحرام.

[ قال أبو الحسن : أنبأنا أبو حاتم حدثنا سعيد بن منصور حدثنا فليح بن سليمان ، فذكر نحوه ].

أبو الحسن القطان هو راوي السنن عن ابن ماجة.

وهذا سند آخر لكن مداره على فليح شيخ الحديث الأول.

شرح حديث: (من طلب العلم ليماري به السفهاء...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا هشام بن عمار حدثنا حماد بن عبد الرحمن حدثنا أبو كرب الأزدي عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من طلب العلم ليماري به السفهاء، أو ليباهي به العلماء، أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار) ].

وهذا الحديث أيضاً ضعيف، من أجل أبي كرب وحماد بن عبد الرحمن ، وهما ضعيفان، لكن الحديث له شواهد.

قوله: (من تعلم العلم ليماري به السفهاء) أي: يجادلهم (أو ليباهي به العلماء، أو ليصرف وجوه الناس إليه فهو في النار)، ففيه الوعيد الشديد على من تعلم لأجل هذه المقاصد السيئة؛ فلم يتعلم إلا ليخاصم العلماء، ويجادلهم، أو ليجاري السفهاء ويترفع عليهم، أو ليصرف وجوه الناس إليه، أي: لا يتعلمه إلا رياء وسمعة لا لأجل الله، وتعلم العلم عبادة عظيمة، فيجب على طالب العلم أن يخلص نيته في طلبه لله ويجاهد نفسه، ويدافع الوساوس والخواطر الرديئة، فلا يتعلم لأجل المال، ولا لأجل الدنيا، ولا من أجل الشهرة، ولا من أجل المنصب، فكل هذه الأمور لا ينبغي أن تكون على بال طالب العلم، فالعلم أسمى من ذلك وأعلى، وما يعطاه من المكافأة وغيرها مما يعينه على تعلم العلم ويشجعه، فينبغي ألا تكون له مقاصد سيئة.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (أو ليباهي به العلماء) أي: ليفاخر العلماء، أو ليصرف وجوه الناس إليه، وهذا الوعيد الشديد يدل على أنه من الكبائر، وللحديث له شواهد يرتقي بها.

وينبغي للإنسان أن يكون تعلمه العلم لله، أما إذا كانت النية مشتركة كما جاء في حديث: (الرجل يجاهد لإعلاء كلمة الله وللمغنم)، فعلى حسب ما غلب عليه، فإن غلب الإخلاص فهو مخلص، وإن غلبت نية الدنيا فهو لها، لكن ينبغي للإنسان في كل حال أن يجاهد نفسه حتى يكون طلبه للعلم لله، مثلما قال بعض السلف: طلبنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله، فيجاهد ويدافع الخواطر الرديئة، والله تعالى يقول: وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ [العنكبوت:69]، وقال سبحانه: وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ [العنكبوت:6].

وإذا لم يدخل في العلم إلا ليماري العلماء، أو يصرف وجوه الناس فقد يعاقب بهذه النية السيئة.

شرح حديث: (لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن يحيى حدثنا ابن أبي مريم أنبأنا يحيى بن أيوب عن ابن جريج عن أبي الزبير عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا تعلموا العلم لتباهوا به العلماء، ولا لتماروا به السفهاء، ولا تخيروا به المجالس، فمن فعل ذلك فالنار النار) ].

وهذا الحديث ضعيف بسبب أبي الزبير فهو مدلس، وفيه تدليس ابن جريج ، ولكن الحديث له شواهد يرتقي بها إلى درجة الحسن لغيره، وفيه التحذير من هذه المقاصد السيئة.

فمن تعلم العلم ليباهي به العلماء، أي: للمفاخرة والمباهاة، أو ليماري به السفهاء، أي: يخاطب السفهاء، أو ليتخير به المجالس، أي: حتى يقدم في المجالس ويشار إليه وينظر إليه من أجل المراءاة والتعاظم، فمن تعلم العلم لأجل ذلك فهذا مقصد سيئ.

شرح حديث: (إن أناساً يتفقهون في الدين ويأتون الأمراء ليصيبوا من دنياهم...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا محمد بن الصباح أنبأنا الوليد بن مسلم عن يحيى بن عبد الرحمن الكندي عن عبيد الله بن أبي بردة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن أناساً من أمتي سيتفقهون في الدين، ويقرءون القرآن، ويقولون: نأتي الأمراء فنصيب من دنياهم، ونعتزلهم بديننا، ولا يكون ذلك، كما لا يجتنى من القتاد إلا الشوك، كذلك لا يجتنى من قربهم إلا) قال محمد بن الصباح : كأنه يعني ، الخطايا ].

الإتيان إلى الأمراء ينبغي أن يكون لمصلحة الدين، لنصحهم وإبلاغهم ما يحصل من الناس، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: (الدين النصحية، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم)، وأئمة المسلمين هم الأمراء، فإذا أتاهم لأجل النصيحة والبلاغ والبيان فهذا طيب، أما إذا جاء الأمراء من أجل المداهنة، ولكي يحصل على شيء من رزقهم وعطائهم فهذا هو المذموم.

وهذا الحديث إسناده ضعيف؛ لأن عبيد الله بن المغيرة بن أبي بردة الكناني مجهول، وإن كان الحافظ ابن حجر قال: إنه مقبول، لكن يحيى بن عبد الرحمن الكندي تفرد بالرواية عنه، ولم يوثقه أحد، وحكم بجهالته الذهبي والبوصيري.

وفيه أيضاً الوليد بن مسلم وهو مدلس وقد عنعن.

والمقصود أن الأمراء يزارون للبلاغ والنصيحة والبيان، وإذا كانت الزيارة للسلام فينبغي أن تكون معها نصيحة وبيان وإبلاغ وإظهار للشفقة والنصح.

شرح حديث: (تعوذوا بالله من جب الحزن...)

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ حدثنا علي بن محمد ومحمد بن إسماعيل قالا: حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي حدثنا عمار بن سيف عن أبي معاذ البصري ح وحدثنا علي بن محمد حدثنا إسحاق بن منصور عن عمار بن سيف عن أبي معاذ عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (تعوذوا بالله من جب الحزن، قالوا: يا رسول الله! وما جب الحزن؟ قال: واد في جهنم تتعوذ منه جهنم كل يوم أربعمائة مرة، قالوا: يا رسول الله! ومن يدخله؟ قال: أُعِدَّ للقراء المرائين بأعمالهم، وإن من أبغض القراء إلى الله الذين يزورون الأمراء) قال المحاربي : الجورة.

قال أبو الحسن : حدثنا حازم بن يحيى حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ومحمد بن نمير قالا: حدثنا ابن نمير عن معاوية النصري -وكان ثقة- ثم ذكر الحديث نحوه بإسناده.

حدثنا إبراهيم بن نصر حدثنا أبو غسان مالك بن إسماعيل حدثنا عمار بن سيف عن أبي معاذ قال مالك بن إسماعيل : قال عمار : لا أدري محمد أو أنس بن سيرين ].

هذه الأسانيد كلها مدارها على عمار بن سيف وأبي معاذ وهما ضعيفان، فالحديث ضعيف بهذا السند، وأما المتن ففيه نكارة، فإن فيه أن جهنم تتعوذ من جب الحُزن فتتعوذ من نفسها ومن جزء منها، وقد ورد في بعض الأحاديث الاستعاذة من شر النفس، ومعنى ذلك: الاستعاذة من شرها كلها وليس من جزءٍ منها.

وأما القراء الذين يراءون بأعمالهم فقد ثبت فيهم الوعيد الشديد من النصوص الأخرى الواضحة، قال الله تعالى: فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا [الكهف:110]، وقال سبحانه: وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى [لقمان:22]، وثبت في صحيح مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما يرويه عن ربه عز وجل أنه قال: (أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)، والرياء لا شك أنه من الشرك، قال عليه الصلاة والسلام: (ألا أنبئكم بما هو أقوى عليكم عندي من المسيح الدجال؟ قلنا: بلى يا رسول الله! قال: الشرك الخفي؛ يقوم الرجل فيصلي ف


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [12] 2220 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [16] 2216 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [9] 2140 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [10] 2069 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [2] 2026 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [4] 1897 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [18] 1793 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [6] 1774 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [1] 1749 استماع
شرح سنن ابن ماجه المقدمة [8] 1697 استماع