شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [8]


الحلقة مفرغة

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويؤمن أهل الدين والسنة بالبعث بعد الموت يوم القيامة، وبكل ما أخبر الله سبحانه به من أهوال ذلك اليوم الحق، واختلاف أحوال العباد فيه والخلق فيما يرونه ويلقونه هنالك في ذلك اليوم الهائل، من أخذ الكتب بالأيمان والشمائل، والإجابة عن المسائل، إلى سائر الزلازل والبلابل الموعودة في ذلك اليوم العظيم، والمقام الهائل من الصراط والميزان، ونشر الصحف التي فيها مثاقيل الذر من الخير والشر وغيرها ].

البعث في اللغة: الإثارة، وشرعاً: بعث الله الأجساد وإعادة الأرواح إليها للحساب والجزاء.

قال المؤلف: ويؤمن أهل الدين والسنة بالبعث بعد الموت يوم القيامة، والإيمان بالبعث أصل من أصول الدين، وأصل من أصول الإيمان، وركن من أركان الإيمان لا يصح الإيمان إلا به، ومن لم يؤمن بالبعث فهو كافر بإجماع المسلمين.

وقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيه الكريم أن يقسم على البعث والساعة وقيام الساعة في ثلاثة مواضع من كتابه، الموضع الأول: قال تعالى: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ [التغابن:7] أمر نبيه أن يقسم، وأثبت الله في هذه الآية أن من أنكر البعث كفر: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا [التغابن:7] فمن أنكر البعث فهو كافر بنص القرآن.

والموضع الثاني: قال الله تعالى في سورة يونس: وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ [يونس:53] يعني: البعث بعد الموت: قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ [يونس:53] قل: يا محمد: (إي وربي) أمره أن يحلف على البعث.

والموضع الثالث في سورة سبأ: قال سبحانه وتعالى: وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ [سبأ:3]. فالبعث بعد الموت يعني: الإيمان بأن الله يبعث الأجساد، هذا البدن إذا مات يبلى ويستحيل، ويكون تراباً إلا أجساد الأنبياء؛ لأن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، وكذلك الشهداء يوجد بعضهم يبقى جسده مدة طويلة، وهل يبقى أو لا يبقى؟ كأنه -والله أعلم- كلما كانت الشهادة أكمل كلما كان بقاء الجسد أطول، لكن الأنبياء هم الذين حرم الله على الأرض أن تأكل أجسادهم وأما بقية الناس فإن الجسد يكون تراباً ولا يبقى منه إلا عظم صغير، وهو عجم الذنب آخر فقرة في العمود الفقري، وهو العصعص لا تأكله الأرض، ولا يبلى، منه خلق ابن آدم ومنه يركب كما في الحديث، فإذا كان في آخر الزمان أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور نفخة بعث الموت، فيموت الناس ثم يبقى الناس أربعون، فينزل الله مطراً أبيض فتنبت منه أجساد الناس، وينشئهم الله خلقاً جديداً، وتعاد الذرات التي في السحاب خلقاً جديداً، فالله عالم بالذرات التي في السحاب: وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ [يس:79] وكما قال سبحانه: قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ [ق:4].

فيعيد الله الذرات التي في السحابة وينشئ الله الناس نشأة جديدة، أي: تنشئة الصفات، وأما الذوات فهي هي الذوات، لكن الصفات تختلف، فإذا تكامل خلقهم ونبتوا أمر الله إسرافيل فنفخ في الصور نفخة البعث فتطايرت الأرواح إلى أجسادها، ودخلت كل روح في جسدها، فقام الناس من قبورهم ينفضون التراب عن رءوسهم، ووقفوا بين يدي الله الجبار.

بعث الأجساد هذا هو الذي أنكره الكفرة والفلافسة، قالوا: البعث للروح، وهذا كفر وضلال.

من لم يؤمن بأن الله يبعث الجسد فهو كافر، ولهذا قال المؤلف رحمه الله: ويؤمن أهل الدين والسنة بالبعث بعد الموت يوم القيامة، وبكل ما أخبر الله سبحانه ورسوله، يعني: ويؤمنون بكل ما أخبر الله سبحانه ورسوله من أهوال ذلك اليوم الحق، من الأهوال التي تكون فيه ووقوف الناس حفاة عراة غرلاً، حفاة لا نعال لهم، عراة لا ثياب عليهم، غرلاً غير مختونين، وتعود إلى الإنسان القطعة التي قطعت منه وهو صغير من ذكره، فيكون غير مختون، ويقفون هكذا شاخصة أبصارهم إلى السماء، وأول من يكسى في موقف القيامة هو إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام وهذه منقبة لإبراهيم الخليل.

فيجب على المؤمن أن يؤمن بالوقوف بين يدي الله للحساب والشفاعة والميزان والصراط والحوض والجنة والنار، كل هذا يجب على المسلم أن يؤمن به، ولهذا قال المؤلف: وبكل ما أخبر الله سبحانه ورسوله من أهوال ذلك اليوم الحق، واختلاف أحوال العباد فيه والخلق فيما يرونه ويلقونه هناك في ذلك اليوم الهائل، وهو يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ [المدثر:9-10] من أخذ الكتب بالأيمان، كل واحد يعطى صحيفته إما بيمينه أو بشماله، فالمؤمن يعطى صحيفته بيده اليمنى، فإذا سعى إليها أخذها يستبشر ويقول لكل من لقيه: هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ * إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ [الحاقة:19-22]. وأما الكافر والعياذ بالله فإنه يعطى كتابه بيده الشمال ملوية وراء ظهره، وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ [الحاقة:25].. وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا [الانشقاق:10-11].

فلابد من أخذ الكتب بالأيمان والشمائل والإجابة عن المسائل: (لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع، عن عمره فيما أفناه، وعن شبابه فيما أبلاه، وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وعن علمه ما عمل به).

فلابد من الإيمان بما يكون هناك في ذلك اليوم الهائل من أخذ الكتب بالأيمان والشمائل والإجابة عن المسائل. قال: إلى سائر الزلازل والبلابل الموعودة في ذلك اليوم العظيم، والمقام الهائل من الصراط الذي ينصب على متن جهنم، ويمر الناس فيه على قدر أعمالهم، فأول زمرة تمر على الصراط كالبرق، ثم الزمرة الثانية كالريح، ثم كالطير، ثم كأجاود الخيل، ثم الرجل يركض ركضاً، ثم الرجل يمش مشياً، ثم الرجل يزحف زحفاً، وهناك كلاليب على الصراط تخطف من أمرت بخطفه وتلقيه في النار على حسب الأعمال.

ولا يتكلم إلا الرسل، ودعاء الرسل في ذلك الموقف: اللهم سلم سلم، وكذلك أيضاً الإيمان بالميزان، وأنه توزن فيه أعمال العباد، وهو ميزان حسي له كفتان ولسان، كفتاه أعظم من أطباق السموات والأرض يوزن فيه الأشخاص والأعمال، وتثقل الموازين وتخف على حسب الأعمال، فالمؤمن يثقل ميزانه والعاصي يخف ميزانه على حسب الأعمال، نسأل الله السلامة والعافية، فمن ثقلت موازينه نجا، ومن خفت موازينه هلك، كما أخبر الله في كتابه العظيم: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ * وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ * فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:6-9]، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المؤمنون:102]، وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ [الأعراف:9].

وكذلك الإيمان بنشر الصحف التي فيها مثاقيل الذر من الخير والشر، فصحف الأعمال تنشر، ويعطى كل واحد صحيفة عمله.

كذلك الإيمان بحوض نبينا صلى الله عليه وسلم في موقف القيامة، ويصب فيه ميزابان من نهر الكوثر، كل هذا لابد للمسلم أن يؤمن به، كل هذا داخل في الإيمان باليوم الآخر، وهو يشمل الإيمان بالبعث بعد الموت والإيمان ببعث الأجساد، وبالوقوف بين يدي الله، وتطاير الصحف، وبالميزان، وبالصراط، وبالحوض، وبالجنة، وبالنار.

وكذلك ما قبل البعث حينما يموت الإنسان، فلابد من الإيمان بعذاب القبر ونعيمه، وفتنة السؤال، وضمة القبر، وكون القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النار، والمؤمن يوسع له في قبره مد البصر، ويفتح له باب إلى الجنة، فيأتيه من روحها وطيبها، والفاجر يفتح له باب إلى النار، فيأتيه من حرها وسمومها، ويضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه.

والمؤمن يأتيه رجل حسن الوجه، حسن الثياب، طيب الريح، يؤنسه وهو عمله، والفاجر يأتيه رجل قبيح الوجه، منتن الريح، قبيح الثياب، فلا يزال يوحشه وهو عمله السيئ، نسأل الله السلامة والعافية.

كل هذا لابد من الإيمان به، وهو داخل في الإيمان باليوم الآخر.

وفق الله الجميع لطاعته، ورزق الله الجميع السلامة والعافية، وثبت الله الجميع على الهدى.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ ويؤمن أهل الدين والسنة بشفاعة الرسول صلى الله عليه وسلم لمذنبي أهل التوحيد، ومرتكبي الكبائر، كما ورد به الخبر الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أخبرنا أبو سعيد بن حمدون أنبأنا أبو حامد بن الشرقي حدثنا أحمد بن يوسف السلمي حدثنا عبد الرزاق أنبأنا معمر عن ثابت عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) ].

الشفاعة معناها في اللغة: ضم شيء إلى شيء، به يصير الشيء زوجاً بعد أن كان منفرداً، فالواحد يسمى فرداً، والاثنان شفعاً، وسمي الشفيع شفيعاً؛ لأنه يضم صوته إلى صوت طالب الشفاعة فيكونا اثنين.

وفي الاصطلاح عند أهل الشرع هي: مساعدة صاحب الحاجة عند من يطلب الحاجة.

الشفاعة العظمى لأهل الموقف

والشفاعة في يوم القيامة أنواع متعددة: منها الشفاعة العظمى التي تكون في موقف القيامة، ويتأخر عنها أولو العزم من الرسل، وهي خاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي المقام المحمود الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون، وهي مذكورة في قول الله تعالى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، فالمقام المحمود: هي الشفاعة العظمى، وهي عامة للمؤمنين والكفار، لأهل الموقف جميعاً حتى يستريحوا من موقف القيامة، وذلك أن الناس إذا بعثهم الله من قبورهم حفاة عراة غرلاً وقفوا بين يديه للحساب، وتدنو الشمس من الرءوس، ويزاد في حرارتها، ويقف الناس هذا الموقف العظيم فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4] ويبلغ الناس من الشدة ما الله به عليم، ويلجمهم العرق على حسب الأعمال، منهم من يبلغه العرق إلى كعبيه، ومنهم من يبلغه العرق إلى ركبتيه، وإلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً على حسب الأعمال، فيموج الناس بعضهم من بعض، فيسرع الناس إلى الأنبياء، فيأتون آدم ويطلبون منه الشفاعة فيمتنع، ويقول: لست أهلاً لها، إني أكلت من الشجرة التي نهيت عنها، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح؛ فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون إلى نوح فيسألوه أن يشفع لهم عند الله حتى يحاسبوا ويستريحوا من هذا الموقف، فيعتذر نوح عليه السلام، ويقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة أغرقتهم، اذهبوا إلى غيري، وفي بعض الروايات يقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم؛ فإنه خليل الرحمن فيذهبون إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيطلبون منه الشفاعة، فيعتذر ويقول: إني كذبت في الإسلام ثلاث كذبات، وهو يجادل بها عن دين الله: عندما كسر الأصنام، ووضع الفأس على الصنم، فلما سألوه من فعل ذلك؟ قال: هذا، وكذلك قال عن زوجته: إنها أختي، وتأول أنها أخته في الإسلام لما مر بملك مصر الظالم في ذلك الوقت، ولما نظر في النجوم وقال: إني سقيم يجادل به عن دين الله، ومع ذلك يعتذر فيقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فإنه كليم الرحمن، فيذهبون إلى موسى، فيقولون: يا موسى أنت كليم الرحمن، اصطفاك الله برسالته وبكلامه، اشفع لنا إلى ربك، فيعتذر موسى ويقول: لست أهلاً لها، إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها -وكان هذا قبل النبوة حينما قتل القبطي- اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فإنه روح الله وكلمته فيذهبون إلى عيسى، فيعتذر عليه الصلاة والسلام ولا يذكر ذنباً، إلا أنه يقول: اتخذت أنا وأمي إلهين من دون الله، ولكن نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد، فإنه خاتم النبيين، فيذهبون إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيطلبون منه الشفاعة، فيقول: أنا لها، أنا لها عليه الصلاة والسلام، فيذهب فيسجد تحت العرش فيفتح الله عليه محامد لا يحسنها وهو في دار الدنيا، فيأتيه الإذن من الله عز وجل فيقول الله سبحانه وتعالى: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، هذا الإذن مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، لا أحد يستطيع أن يشفع عند الله إلا بعد الإذن حتى ولو كان وجيهاً عند الله، فمحمد عليه الصلاة والسلام أعظم الناس وجاهة عند الله ومع ذلك لا يشفع حتى يأتيه الإذن، فإذا جاء الإذن رفع رأسه، وسأل ربه الشفاعة، فيقول الرب عز وجل: أنا آت لأقضي بينكم، فيقضي الله تعالى بين الخلائق، ويفرغ من محاسبتهم جميعاً في وقت واحد، لا شيء يشغله عن شيء.

كما أنه يخلقهم في وقت واحد ويرزقهم ويعافيهم كذلك يحاسبهم في وقت واحد، بخلاف المخلوق الضعيف، فلو تكلم معك اثنان أو ثلاثة لما استطعت أن تكلمهم جميعاً في وقت واحد، لكن الرب سبحانه وتعالى يخاطبهم في وقت واحد، والخلائق كلهم يحاسبهم في وقت واحد، ويفرغ من حسابهم في مقدار منتصف النهار، ويقيل أهل الجنة في الجنة، فالقيلولة تدرك المؤمنين في الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24].

هذه هي الشفاعة العظمى التي يغبطه فيها الأولون والآخرون، فهذه ما أنكرها أحد، وهي شفاعة خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، وهناك شفاعة أخرى خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم وهي الشفاعة لأهل الجنة بإذنه لهم في دخولها، وهناك شفاعة ثالثة خاصة بعمه أبي طالب في تخفيف العذاب عنه. هذه الشفاعات خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم.

وكذلك هناك شفاعة رابعة في رفع درجات قوم من أهل الجنة، هذه الشفاعات الأربع ما أنكرها أحد، أقر بها أهل السنة وأهل البدعة، وهناك شفاعة أخرى أنكرها أهل البدع هي الشفاعة لمن استحق النار من العصاة ألا يدخلها، والشفاعة فيمن دخل النار من العصاة أن يخرج منها، والشفاعة في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم أن يدخلوا الجنة ولا يدخلوا النار.

هذه الشفاعات أنكرها أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والخوارج وغيرهم، فأنكر عليهم أهل السنة وضللوهم وبدعوهم، والنصوص التي فيها الشفاعة بإخراج العصاة الموحدين من النار بلغت حد التواتر؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات في كل مرة يحد الله له حداً ويشفعه الله فيمن كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وفي بعضها: (أدنى مثقال ذرة)، وفي بعضها: (أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من حبة من إيمان) وكذلك الأنبياء يشفعون، والملائكة يشفعون، والأفراد يشفعون، والصالحون يشفعون، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته.

فهذه الشفاعة في إخراج العصاة من النار، أو من استحق دخول النار ألا يدخلها أنكرها أهل البدع، مع أنها متواترة، والأحاديث التي بلغت حد التواتر قليلة تقارب أربعة عشر حديثاً منها حديث الشفاعة، ومنها حديث الحوض، ومنها حديث: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، ومنها حديث: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة)، ومنها حديث الشفاعة، فأنكرها أهل البدع من الخوارج والمعتزلة، يقولون: العاصي إذا زنا كفر وخلد في النار، إذا سرق يكفر ويخلد في النار، ولا يخرج منها أبد الآباد مثل الكفرة.

وهذا من أبطل الباطل، فإن النصوص في إخراج العصاة من الموحدين متواترة، والذي لا يخرج من النار هم الكفرة، أما المؤمن العاصي لو مات على التوحيد لكنه مات على كبائر من غير توبة فقد تواتر في الأخبار بأنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر، مؤمنون موحدون مصلون، ولا تأكل النار من وجوههم مواضع الصلاة، لكنهم دخلوا بكبائر من غير توبة، هذا مات على الزنا من غير توبة فدخل النار، وهذا مات على شرب الخمر بغير توبة فدخل النار، وهذا مات على التعامل بالربا، وهذا مات على عقوق الوالدين، وهذا مات على الغيبة والنميمة، وهذا مات على أكل حقوق وأموال الناس وهكذا.

هؤلاء حكم عليهم أهل البدع بالكفر، بالخلود في النار، مع أن النصوص بلغت حد التواتر في دخولهم الجنة بعد خروجهم من النار.

ومن ذلك هذا الحديث الذي ذكره المؤلف: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) وهو حديث صحيح.

فأهل الكبائر الموحدون لهم شفاعة ولا يخلدون في النار، وهناك بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته ويقول: (شفعت الملائكة وشفع النبيون ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين فيخرج قوماً من النار لم يعملوا خيراً قط)يعني: زيادة على التوحيد والإيمان، أما من مات على الكفر الأكبر، أو الشرك الأكبر أو النفاق الأكبر، فهذا لا شفاعة له، ولا يدفع عنه عذاب الله أحد ولو افتدى بملء الأرض ذهباً لم ينفعه كما قال سبحانه: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37].

وقال سبحانه: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167].

وقال سبحانه: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97].

وقال سبحانه: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23] والأحقاب هي المدد المتطاولة كلما انتهى حقب يعقبه حقب إلى ما لا نهاية. نسأل الله السلامة العافية.

فالمعتزلة والخوارج جعلوا عصاة الموحدين مثل الكفار، يخلدون في النار، وهذا من أبطل الباطل والنصوص الواردة في الكفار حملوها على العصاة كقوله تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48] فإنها في الكفار يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254].

مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18] وهذه في الكفار أيضاً، أما العصاة فلهم شفاعة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد قال: أخبرنا محمد بن المسيب الأرغياني قال: حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي عن زياد بن خيثمة عن نعمان بن قراد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل شطر أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكفى أترونها للمؤمنين المتقين لا، ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين) ].

وهذا الحديث فيه إثبات الشفاعة للعصاة الموحدين، وفيه رد على الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا الشفاعة للموحدين العصاة، والحديث لا بأس به، وهو حديث صحيح مروي في كتب السنة، فقد رواه الإمام أحمد والطبراني وابن أبي عاصم في السنة دون قوله: (لأنها أعم وأكفى).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا أبو محمد المخلدي قال: أخبرنا أبو العباس السراج قال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو ح وأخبرنا أبو طاهر بن خزيمة قال: أخبرنا جدي الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا علي بن حجر قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: لقد ظننت ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث: إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قبل نفسه) ].

وهذا حديث ثابت أخرجه البخاري رحمه الله في صحيحه وأخرجه الإمام أحمد والبغوي وابن خزيمة، وابن أبي عاصم وغيرهم، وفيه قصة الشفاعة لعصاة الموحدين، وفيه اشتراط التوحيد في قوله: (من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) قوله: (خالصاً من قلبه) هذا التوحيد.

وفي رواية: (من قال لا إله إلا الله صدقاً من نفسه)، وفي رواية: (من قال لا إله إلا الله مخلصاً)، وفي رواية: (من قال لا إله إلا الله صادقاً).

وفيه أن الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد بخلاف المشرك الذي لم يخلص عمله لله فليس له شفاعة، ومن مات على الشرك لا خلاف فيه، وكذلك المنافق الذي لا يقولها عن صدق وإنما يقولها عن كذب، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:8-9] إلى أن قال: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10] فهم يكذبون بقولها، قال سبحانه: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1] فمن قال لا إله إلا الله عن إخلاص وصدق فإنه تنفعه الشفاعة ولو مات على المعاصي بشرط ألا يقع في عمله شرك، وفيه الرد على المعتزلة والخوارج الذين ينكرون الشفاعة لعصاة الموحدين، وقوله: (خالصاً من قبل نفسه)، وفي لفظ: (خالصاً من قلبه) أي: إذا قالها عن إخلاص وعن صدق باختياره فهذا يشفع له النبي.

والشفاعة في يوم القيامة أنواع متعددة: منها الشفاعة العظمى التي تكون في موقف القيامة، ويتأخر عنها أولو العزم من الرسل، وهي خاصة بنبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهي المقام المحمود الذي يغبطه فيه الأولون والآخرون، وهي مذكورة في قول الله تعالى: عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا [الإسراء:79]، فالمقام المحمود: هي الشفاعة العظمى، وهي عامة للمؤمنين والكفار، لأهل الموقف جميعاً حتى يستريحوا من موقف القيامة، وذلك أن الناس إذا بعثهم الله من قبورهم حفاة عراة غرلاً وقفوا بين يديه للحساب، وتدنو الشمس من الرءوس، ويزاد في حرارتها، ويقف الناس هذا الموقف العظيم فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ [المعارج:4] ويبلغ الناس من الشدة ما الله به عليم، ويلجمهم العرق على حسب الأعمال، منهم من يبلغه العرق إلى كعبيه، ومنهم من يبلغه العرق إلى ركبتيه، وإلى حقويه، ومنهم من يلجمه العرق إلجاماً على حسب الأعمال، فيموج الناس بعضهم من بعض، فيسرع الناس إلى الأنبياء، فيأتون آدم ويطلبون منه الشفاعة فيمتنع، ويقول: لست أهلاً لها، إني أكلت من الشجرة التي نهيت عنها، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى نوح؛ فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض، فيأتون إلى نوح فيسألوه أن يشفع لهم عند الله حتى يحاسبوا ويستريحوا من هذا الموقف، فيعتذر نوح عليه السلام، ويقول: إني دعوت على أهل الأرض دعوة أغرقتهم، اذهبوا إلى غيري، وفي بعض الروايات يقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى إبراهيم؛ فإنه خليل الرحمن فيذهبون إلى إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيطلبون منه الشفاعة، فيعتذر ويقول: إني كذبت في الإسلام ثلاث كذبات، وهو يجادل بها عن دين الله: عندما كسر الأصنام، ووضع الفأس على الصنم، فلما سألوه من فعل ذلك؟ قال: هذا، وكذلك قال عن زوجته: إنها أختي، وتأول أنها أخته في الإسلام لما مر بملك مصر الظالم في ذلك الوقت، ولما نظر في النجوم وقال: إني سقيم يجادل به عن دين الله، ومع ذلك يعتذر فيقول: نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى موسى، فإنه كليم الرحمن، فيذهبون إلى موسى، فيقولون: يا موسى أنت كليم الرحمن، اصطفاك الله برسالته وبكلامه، اشفع لنا إلى ربك، فيعتذر موسى ويقول: لست أهلاً لها، إني قتلت نفساً لم أؤمر بقتلها -وكان هذا قبل النبوة حينما قتل القبطي- اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى عيسى، فإنه روح الله وكلمته فيذهبون إلى عيسى، فيعتذر عليه الصلاة والسلام ولا يذكر ذنباً، إلا أنه يقول: اتخذت أنا وأمي إلهين من دون الله، ولكن نفسي نفسي، اذهبوا إلى غيري، اذهبوا إلى محمد، فإنه خاتم النبيين، فيذهبون إلى نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فيطلبون منه الشفاعة، فيقول: أنا لها، أنا لها عليه الصلاة والسلام، فيذهب فيسجد تحت العرش فيفتح الله عليه محامد لا يحسنها وهو في دار الدنيا، فيأتيه الإذن من الله عز وجل فيقول الله سبحانه وتعالى: يا محمد! ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعط، واشفع تشفع، هذا الإذن مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، لا أحد يستطيع أن يشفع عند الله إلا بعد الإذن حتى ولو كان وجيهاً عند الله، فمحمد عليه الصلاة والسلام أعظم الناس وجاهة عند الله ومع ذلك لا يشفع حتى يأتيه الإذن، فإذا جاء الإذن رفع رأسه، وسأل ربه الشفاعة، فيقول الرب عز وجل: أنا آت لأقضي بينكم، فيقضي الله تعالى بين الخلائق، ويفرغ من محاسبتهم جميعاً في وقت واحد، لا شيء يشغله عن شيء.

كما أنه يخلقهم في وقت واحد ويرزقهم ويعافيهم كذلك يحاسبهم في وقت واحد، بخلاف المخلوق الضعيف، فلو تكلم معك اثنان أو ثلاثة لما استطعت أن تكلمهم جميعاً في وقت واحد، لكن الرب سبحانه وتعالى يخاطبهم في وقت واحد، والخلائق كلهم يحاسبهم في وقت واحد، ويفرغ من حسابهم في مقدار منتصف النهار، ويقيل أهل الجنة في الجنة، فالقيلولة تدرك المؤمنين في الجنة، نسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا [الفرقان:24].

هذه هي الشفاعة العظمى التي يغبطه فيها الأولون والآخرون، فهذه ما أنكرها أحد، وهي شفاعة خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم، وهناك شفاعة أخرى خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم وهي الشفاعة لأهل الجنة بإذنه لهم في دخولها، وهناك شفاعة ثالثة خاصة بعمه أبي طالب في تخفيف العذاب عنه. هذه الشفاعات خاصة بنبينا صلى الله عليه وسلم.

وكذلك هناك شفاعة رابعة في رفع درجات قوم من أهل الجنة، هذه الشفاعات الأربع ما أنكرها أحد، أقر بها أهل السنة وأهل البدعة، وهناك شفاعة أخرى أنكرها أهل البدع هي الشفاعة لمن استحق النار من العصاة ألا يدخلها، والشفاعة فيمن دخل النار من العصاة أن يخرج منها، والشفاعة في قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم أن يدخلوا الجنة ولا يدخلوا النار.

هذه الشفاعات أنكرها أهل البدع من الجهمية والمعتزلة والخوارج وغيرهم، فأنكر عليهم أهل السنة وضللوهم وبدعوهم، والنصوص التي فيها الشفاعة بإخراج العصاة الموحدين من النار بلغت حد التواتر؛ لأن نبينا صلى الله عليه وسلم يشفع أربع شفاعات في كل مرة يحد الله له حداً ويشفعه الله فيمن كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان، وفي بعضها: (أدنى مثقال ذرة)، وفي بعضها: (أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من حبة من إيمان) وكذلك الأنبياء يشفعون، والملائكة يشفعون، والأفراد يشفعون، والصالحون يشفعون، وتبقى بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته.

فهذه الشفاعة في إخراج العصاة من النار، أو من استحق دخول النار ألا يدخلها أنكرها أهل البدع، مع أنها متواترة، والأحاديث التي بلغت حد التواتر قليلة تقارب أربعة عشر حديثاً منها حديث الشفاعة، ومنها حديث الحوض، ومنها حديث: (من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار)، ومنها حديث: (من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة)، ومنها حديث الشفاعة، فأنكرها أهل البدع من الخوارج والمعتزلة، يقولون: العاصي إذا زنا كفر وخلد في النار، إذا سرق يكفر ويخلد في النار، ولا يخرج منها أبد الآباد مثل الكفرة.

وهذا من أبطل الباطل، فإن النصوص في إخراج العصاة من الموحدين متواترة، والذي لا يخرج من النار هم الكفرة، أما المؤمن العاصي لو مات على التوحيد لكنه مات على كبائر من غير توبة فقد تواتر في الأخبار بأنه يدخل النار جملة من أهل الكبائر، مؤمنون موحدون مصلون، ولا تأكل النار من وجوههم مواضع الصلاة، لكنهم دخلوا بكبائر من غير توبة، هذا مات على الزنا من غير توبة فدخل النار، وهذا مات على شرب الخمر بغير توبة فدخل النار، وهذا مات على التعامل بالربا، وهذا مات على عقوق الوالدين، وهذا مات على الغيبة والنميمة، وهذا مات على أكل حقوق وأموال الناس وهكذا.

هؤلاء حكم عليهم أهل البدع بالكفر، بالخلود في النار، مع أن النصوص بلغت حد التواتر في دخولهم الجنة بعد خروجهم من النار.

ومن ذلك هذا الحديث الذي ذكره المؤلف: (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) وهو حديث صحيح.

فأهل الكبائر الموحدون لهم شفاعة ولا يخلدون في النار، وهناك بقية لا تنالهم الشفاعة فيخرجهم رب العالمين برحمته ويقول: (شفعت الملائكة وشفع النبيون ولم يبق إلا رحمة أرحم الراحمين فيخرج قوماً من النار لم يعملوا خيراً قط)يعني: زيادة على التوحيد والإيمان، أما من مات على الكفر الأكبر، أو الشرك الأكبر أو النفاق الأكبر، فهذا لا شفاعة له، ولا يدفع عنه عذاب الله أحد ولو افتدى بملء الأرض ذهباً لم ينفعه كما قال سبحانه: يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37].

وقال سبحانه: كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ [البقرة:167].

وقال سبحانه: كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا [الإسراء:97].

وقال سبحانه: لابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا [النبأ:23] والأحقاب هي المدد المتطاولة كلما انتهى حقب يعقبه حقب إلى ما لا نهاية. نسأل الله السلامة العافية.

فالمعتزلة والخوارج جعلوا عصاة الموحدين مثل الكفار، يخلدون في النار، وهذا من أبطل الباطل والنصوص الواردة في الكفار حملوها على العصاة كقوله تعالى: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ [المدثر:48] فإنها في الكفار يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفَاعَةٌ [البقرة:254].

مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ [غافر:18] وهذه في الكفار أيضاً، أما العصاة فلهم شفاعة.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ وأخبرنا أبو علي زاهر بن أحمد قال: أخبرنا محمد بن المسيب الأرغياني قال: حدثنا عبد السلام بن حرب الملائي عن زياد بن خيثمة عن نعمان بن قراد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (خيرت بين الشفاعة وبين أن يدخل شطر أمتي الجنة فاخترت الشفاعة لأنها أعم وأكفى أترونها للمؤمنين المتقين لا، ولكنها للمذنبين المتلوثين الخطائين) ].

وهذا الحديث فيه إثبات الشفاعة للعصاة الموحدين، وفيه رد على الخوارج والمعتزلة الذين أنكروا الشفاعة للموحدين العصاة، والحديث لا بأس به، وهو حديث صحيح مروي في كتب السنة، فقد رواه الإمام أحمد والطبراني وابن أبي عاصم في السنة دون قوله: (لأنها أعم وأكفى).

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ أخبرنا أبو محمد المخلدي قال: أخبرنا أبو العباس السراج قال: حدثنا قتيبة بن سعيد قال: حدثنا عبد العزيز بن محمد الدراوردي عن عمرو بن أبي عمرو ح وأخبرنا أبو طاهر بن خزيمة قال: أخبرنا جدي الإمام محمد بن إسحاق بن خزيمة قال: حدثنا علي بن حجر قال: حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عمرو بن أبي عمرو عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: (يا رسول الله! من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ فقال: لقد ظننت ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث: إن أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قبل نفسه) ].

وهذا حديث ثابت أخرجه البخاري رحمه الله في صحيحه وأخرجه الإمام أحمد والبغوي وابن خزيمة، وابن أبي عاصم وغيرهم، وفيه قصة الشفاعة لعصاة الموحدين، وفيه اشتراط التوحيد في قوله: (من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه) قوله: (خالصاً من قلبه) هذا التوحيد.

وفي رواية: (من قال لا إله إلا الله صدقاً من نفسه)، وفي رواية: (من قال لا إله إلا الله مخلصاً)، وفي رواية: (من قال لا إله إلا الله صادقاً).

وفيه أن الشفاعة لا تكون إلا لأهل التوحيد بخلاف المشرك الذي لم يخلص عمله لله فليس له شفاعة، ومن مات على الشرك لا خلاف فيه، وكذلك المنافق الذي لا يقولها عن صدق وإنما يقولها عن كذب، قال تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ [البقرة:8-9] إلى أن قال: وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:10] فهم يكذبون بقولها، قال سبحانه: إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ [المنافقون:1] فمن قال لا إله إلا الله عن إخلاص وصدق فإنه تنفعه الشفاعة ولو مات على المعاصي بشرط ألا يقع في عمله شرك، وفيه الرد على المعتزلة والخوارج الذين ينكرون الشفاعة لعصاة الموحدين، وقوله: (خالصاً من قبل نفسه)، وفي لفظ: (خالصاً من قلبه) أي: إذا قالها عن إخلاص وعن صدق باختياره فهذا يشفع له النبي.


استمع المزيد من الشيخ عبد العزيز بن عبد الله الراجحي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [10] 2191 استماع
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [9] 2102 استماع
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [3] 1938 استماع
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [7] 1899 استماع
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [12] 1885 استماع
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [1] 1793 استماع
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [15] 1736 استماع
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [13] 1699 استماع
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [4] 1586 استماع
شرح عقيدة السلف وأصحاب الحديث للصابوني [6] 1546 استماع