قدوم وفد المدينة للحج وبيعة العقبة الثانية


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد البشير النذير والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فإن نبينا عليه الصلاة والسلام بعد رجوعه من رحلة الإسراء والمعراج شرع في عرض نفسه على القبائل الذين كانوا يأتون في موسم الحج، فما ترك قبيلة إلا عرض عليها دعوته، وطلب منهم أن ينصروه وأن يأووه، وأن ردودهم كانت متفاوتة متباينة، فمنهم من رد عليه أقبح الرد كبني حنيفة، ومنهم من ساومه على أن يجعل لهم الأمر من بعده كما فعل بنو عامر بن صعصعة، ومنهم من بينوا عذرهم في أنهم لا يستطيعون متابعته لكونهم قد أبرموا عهوداً سابقة مثلما قال بنو شيبان: (بأن كسرى قد أخذ علينا عهداً أن لا نحدث حدثاً وأن لا نأوي محدثاً، وإن هذا الأمر الذي تدعو إليه مما تكره الملوك، وإن شئت نصرناك مما يلي مياه العرب)، فأعجب النبي صلى الله عليه وسلم بصدقهم وحسن ردهم.

بيعة العقبة الأولى

وما زال صلوات الله وسلامه عليه يعرض نفسه حتى قيض الله له نفراً من الخزرج، جاءوا حجاجاً فجلس إليهم، وتلا القرآن عليهم، فنظر القوم بعضهم إلى بعض وقالوا: (إنه النبي الذي تتوعدكم به يهود)، فأسلموا وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث معهم من يعلمهم الدين، ويقرئهم القرآن، فبعث معهم الرجل المبارك مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، وهذه البيعة بيعة العقبة ما كان المشاركون فيها يزيدون على أحد عشر رجلاً، مكث مصعب رضي الله عنه نحواً من سنة، يدعو إلى الله في المدينة حتى لم يبق بيت إلا دخل فيه الإسلام، ما بقي بيت في المدينة إلا دخل فيه الإسلام.

بيعة العقبة الثانية

فلما كان الموسم من العام الذي يليه قدم من الأوس والخزرج جماعة أكثر ممن قدموا في المرة الأولى، وكما قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: (أن يوم بعاث، وهو اليوم الذي صارت فيه الحرب بين الأوس والخزرج، كان يوماً قدمه الله لرسوله صلى الله عليه وسلم -يعني: هيأ له الظروف- قتل ساداتهم، وجرح أكثرهم، وتفرق ملؤهم، فقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فجمع الله به هذه القلوب المتنافرة، وهذ النفوس المتشاكسة)، وهذه هي المنة التي امتن الله بها عليهم حين قال: وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً [آل عمران:103].

وامتن الله على نبيه صلى الله عليه وسلم فقال: هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [الأنفال:62-63].

قدم هؤلاء الناس في موسم الحج من العام الثالث عشر للبعثة، يعني: آخر موسم حج يحضره رسول الله صلى الله عليه وسلم في مكة، آخر موسم حج قبل الهجرة، وكان الوفد الذي قدم من المدينة فيه المسلمون والمشركون، وكانوا بزعامة البراء بن معرور رضي الله عنه، جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم اتصالات سرية، فإن هؤلاء المسلمين الطيبين القادمين من المدينة: سأل بعضهم بعضاً حتى متى يبقى رسول الله صلى الله عليه وسلم مخوفاً مطارداً في مكة؟ فوعدهم صلى الله عليه وسلم أوسط ليالي التشريق، وسميت تلك الأيام بأيام التشريق؛ لأن العرب كانوا يذبحون يوم النحر، يوم الأضحى ثم ما يليه من الأيام كانوا يشرقون اللحم، يعني: يجعلونها في خيوط ويعرضونها للشمس من أجل أن تجف، ثم بعد ذلك يطحنونها ويحفظونها يستعملونها في بقية عامهم، مثلما يصنع الناس الآن.

فالنبي عليه الصلاة والسلام وعدهم أوسط أيام التشريق عند العقبة، فلما كانت تلك الليلة يقول كعب بن مالك رضي الله عنه: (تسللنا من فرشنا تسلل القطا حتى لا يشعر بنا قومنا) لأن فيهم مسلمين ومشركين ليسوا على قلب رجل واحد، قال: (خرجنا في رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم نتسلل تسلل القطا مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً وامرأتان) المرأتان: نسيبة بنت كعب المازنية رضي الله عنها، وأسماء بنت عمرو بن عدي وهي أم منيع رضي الله عنها، قال: (وبقينا ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقدم ومعه عمه العباس ، وكان العباس إذ ذاك على دين قومه ما كان مسلماً، لكنه أراد أن يستوثق لابن أخيه) يعني: على عادة العم الطيب لا يمنعه خلافه لابن أخيه في الرأي أن يحنو عليه، وأن يدفع عنه، وأن يسعى في مصالحه، مثلما كان يفعل أبو طالب ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ومعه عمه العباس ، وبدأ ذلك الاجتماع الخطير الذي ستتمخض عنه اتفاقية تغير موازين القوى في جزيرة العرب.

وكان الذي بدأ الكلام هو العباس رضي الله عنه، قال: (يا معشر الخزرج!) وكانت العرب تسمي أهل المدينة خزرجاً أوسهم وخزرجهم، قال لهم: (يا معشر الخزرج! إن محمداً منا حيث قد علمتم، وقد منعناه من قومه ممن هم على مثل رأينا فيه) يعني يقول لهم: رأيي ورأي بقية الجماعة: أبي جهل و أبي لهب و أبي سفيان و أبي الوليد وأبي فلان، رأينا في محمد كله واحد، لكن مع ذلك نحن منعناه من قومه، يستطيعون أن يؤذوه، فهو في عز من قومه ومنعة من بلده، وقد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم، فإن كنتم مانعيه مما تمنعون منه نساءكم وأولادكم فدونكم، وإن كنتم ترون أنكم مسلموه فمن الآن. فقالوا: قد سمعنا ما قلت. يا رسول الله تكلم، فخذ لربك ولنفسك ما شئت، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا عليهم القرآن، ودعاهم إلى الإسلام وقال لهم: ( أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبناءكم )، فقام زعيم القوم البراء بن معرور رضي الله عنه فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: (والذي بعثك بالحق نبياً! لنمنعنك مما نمنع منه أزرنا، فبايعنا يا رسول الله، فنحن والله أهل الحروب، وأصحاب الحلقة) الحلقة يعني: السلاح، قال له: نحن ناس ذوو حرب ما يهمك الكلام الذي قاله العباس رضي الله عنه، قال: (ورثناها كابراً عن كابر)، فقام أبو الهيثم بن التيهان وكان أيضاً من ساداتهم فقال: (يا رسول الله! إن بيننا وبين القوم حبالاً وإنا قاطعوها) العلاقات التي بيننا وبين قريش وغيرها كل من عاداك سنقطع الحبل الذي بيننا وبينه (فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا)؟!

فذاك الرجل الذي كان من بني عامر بن صعصعة اشترط أن يكون له الأمر من بعده، قال له: (أرأيت إن بايعناك وأظهرك الله على من دونك أيكون لنا الأمر من بعدك)؟ فقال النبي عليه الصلاة والسلام: ( إن الأمر لله يضعه حيث شاء )، فقال له: (أفنهدف نحورنا للعرب حتى إذا ظهر أمرك كان لغيرنا! لا حاجة لنا فيك).

لكن انظروا هاهنا أبو الهيثم رضي الله عنه ماذا يطلب؟ لا يطلب الأمر لنفسه، وإنما يطلب بقاء رسول الله صلى الله عليه وسلم، (يا رسول الله! إن بيننا وبين القوم حبالاً وإنا قاطعوها، أرأيت إن أظهرك الله أترجع إلى قومك وتدعنا؟) فقال صلى الله عليه وسلم: ( بل الدم الدم، والهدم الهدم، المحيا محياكم والممات مماتكم )، قال لهم: أنا سأكون عندكم حتى أموت بينكم، وقد وفى عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك المدينة إلى يوم القيامة مشرفة منورة بأن فيها أطهر جسد لمخلوق، فيها قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ( بل الدم الدم والهدم الهدم المحيا محياكم والممات مماتكم ).

فتتابع القوم يريدون أن يبايعوا، لكن قام رجلان يخوفانهم من أجل أن يستوثقوا ويعلموا أن هذه البيعة وراءها ما وراءها، هذان الرجلان أحدهما: العباس بن نضلة ، والآخر: أسعد بن زرارة رضوان الله عليهما، فقام العباس بن عبادة بن نضلة ، فقال لهم: (صبراً! أتدرون على ما تبايعون هذا الرجل؟ إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود -من الآن ستشمون ريح الدم- فإن كنتم ترون أنه إذا نهكت أموالكم مصيبة، ورجالكم قتلى، أنكم مسلموه فمن الآن، فوالله! إن فعلتم لهو خزي الدنيا والآخرة، وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما بايعتموه عليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف، فخذوه فهو والله خير الدنيا والآخرة)، هذا نوع من إثارة الحماس في نفوس هؤلاء المسلمين، يقول لهم هذا الرجل: أنتم حين تبايعونه سترميكم العرب عن قوس واحدة، سيقاتلونكم جميعاً؛ لأنهم كلهم كارهون للتوحيد.

قال: (إن كنتم ترون أنه إذا نهكت أموالكم مصيبة)، يعني: أموالكم أصيبت، (ورجالكم قتلى، أنكم مسلموه)، لا داعي أن تبايعوه من الآن، (فهو خزي الدنيا والآخرة)؛ لأن الله قال: فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ [الفتح:10]، ( وإن كنتم ترون أن تبايعوه على قتل الأشراف ونهكة الأموال، فخذوه فهو عز الدنيا والآخرة).

فالقوم كانوا عقلاء ( قالوا: يا رسول الله! إنا نأخذك على قتل الأشراف ومصيبة الأموال فما لنا -الثمن ما هو؟- قال لهم: الجنة، قالوا: ابسط يدك لا نقيل ولا نستقيل )، يعني: لن نطلب أن تعفينا ولا نقبل منك أن تترك هذا الأمر.

فقام أسعد بن زرارة رضي الله عنه فقال: (رويداً يا أهل يثرب! فوالله ما ضربنا أكباد الإبل إلى هذا الرجل إلا ونحن نعلم أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة، وقتل خيركم وأن تعضكم السيوف)، كرر فحوى الكلام الذي قاله من قبل العباس بن عبادة بن نضلة رضي الله عنه.

تمت هذه البيعة وهي التي عرفت في التاريخ ببيعة العقبة الثانية، البيعة الأولى يسمونها بيعة النساء؛ لأنها تشبه بيعة النساء؛ أن لا يسرقوا، ولا يزنوا، ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتان يفترونه بين أيديهم وأرجلهم، ولا يعصوه في معروف، ولا يشركوا بالله شيئاً.

لكن هذه البيعة: على أن يمنعوه، (أن يدافعوا عنه) بحيث لا يصل إليه عدو، مثلما يمنعون نساءهم وأولادهم.

بويع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الثلاثة والسبعين رجل والمرأتين، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: ( أخرجوا إليَّ منكم اثني عشر نقيباً )، وهذا من التنظيم الذي شرعه النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، هؤلاء الثلاثة والسبعون لا بد أن يقسموا ويكون عليهم نقباء، اثني عشر نقيباً، يعني: كل واحد يأخذ له حوالي ستة، بحيث يكون مسئولاً عنهم يتفقد أحوالهم ويتتبع شئونهم، ويوالي تعليمهم، مثلما قال الله عز وجل: وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمْ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً [المائدة:12]، وهؤلاء النقباء كانوا: عبادة بن الصامت، و البراء بن معرور ، و عبد الله بن رواحة، و سعد بن الربيع، و أسعد بن زرارة ، و سعد بن عبادة، و أسيد بن حضير، و المنذر بن عمرو ، و سعد بن خيثمة، و عبد الله بن عمرو بن حرام، و رافع بن مالك، و أبا الهيثم بن التيهان ، عليهم جميعاً رضوان الله.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الاثني عشر: ( أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء ككفالة الحواريين لـعيسى بن مريم ، وأنا كفيل على قومي )، يعني المسلمين الذين لا يزالون في مكة.

يقول عبادة بن الصامت رضي الله عنه: ( بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان، وأن نقول بالحق أينما كنا لا نخاف في الله لومة لائم )، هذا الذي بويع عليه.

دور الشيطان في نشر خبر بيعة العقبة الثانية

أيها الإخوة الكرام! هذا الاجتماع سري في أقصى درجات السرية، لكن الشيطان عليه لعنة الله كشف هذا الاجتماع فوقف على العقبة صارخاً من أجل أن يأتي المشركون فيقبضوا على المسلمين، قال: ( يا أهل الجباجب! -والجباجب منازل منى- هل لكم في مذمم والصباة معه ) ، هل لكم في مذمم يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم، الرسول عليه الصلاة والسلام كان يقول: ( أما تعجبون كيف يصرف الله أذى المشركين عني يدعونني مذمماً وأنا محمد )، قال لهم: ( يا أهل الجباجب! هل لكم في مذمم والصباة معه، قد اجتمعوا على حربكم، فالنبي عليه الصلاة والسلام قال: ( هذا أزب العقبة )، سماه باسمه، الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعرف أسماء الشياطين، تخصص كل واحد؛ ولذلك لما جاءه عثمان بن أبي العاص الثقفي قال : ( يا رسول الله! إن الشيطان قد لبس علي صلاتي حتى ما أدري كم صليت. فقال له النبي عليه الصلاة والسلام: ذاك شيطان يقال له: خنزب )، الشيطان الذي يأتي في الصلاة اسمه خنزب. ( فإذا أحسسته في صلاتك فاتفل عن يسارك ثلاثاً واستعذ بالله منه، يقول عثمان : ففعلت فأذهبه الله عني ).

وهناك شيطان للطهارة يقال له: الولهان، يشكك الناس ويوسوس لهم في الطهارة.

وهناك شيطان متخصص في إفساد العلاقات الزوجية، أول ما تدخل بيتك إذا لم تذكر الله يقول لك: انظر الملابس التي قلت لهم: اغسلوها في مكانها، فتستشيط غضباً، ثم يقول لك: انظر الولد وسخان ما غسلوه، فهنا تنتفخ حتى تكاد تملأ ثيابك، ثم يقول لك: انظر أيضاً راقدة ما قامت، أنت دخلت وما قامت، كأنك ولا شيء، ويبدأ يحرضك، تكلم. قل حاجة، يا أخي! اشتمها على شان تخاف منك. فإذا شتمتها مشى عليها قال لها: اشتميه وردي له، ليش أنت خدامة عنده؟ فترد يقول لك: اضربها. فتضربها، يقوم يمشي يقول لها: خذي شيئاً افعليه، فتفعل. يقول لك: طلقها، فتطلقها، فهنا يفرك يديه ويبتسم، ولربما صفق، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( إن الشيطان يضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه -جمع سرية- فأحبهم إليه أعظمهم فتنة، يأتيه واحد يقول له: ما زلت بفلان حتى فعل كذا، يقول له: ما صنعت شيئاً سيتوب. ما زلت بفلان حتى فعل كذا. ما صنعت شيئاً سيتوب، حتى يأتيه شيطان يقول له: ما زلت بفلان بينه وبين امرأته حتى قال لها: أنت طالق. فيحتضنه إبليس ويقول له: أنت الفتى! أنت الفتى )، أنت الذي اشتغلت شغلاً تماماً. هذا متخصص في الإفساد بين الأزواج.

وهناك شيطان متخصص بالتحريش بين المؤمنين: ( إن الشيطان قد أيس أن يعبد في أرضكم، ولكن رضي بما دون ذلك بالتحريش بينكم )، وهناك شيطان يخوفك من الصدقة، كلما أردت تخرج صدقة يقول لك: اعقل. القرش الأبيض ينفعك في اليوم الأسود، والظروف غير معروفة، امسك يدك. خليك حريص. واصل كفاحك، وما إلى ذلك من كلمات من أجل أن يمنعك من الطاعات، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إن الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه كلها، قعد له بطريق الإسلام قال له: تسلم وتذر دينك ودين آبائك وأجدادك! فعصاه فأسلم. ثم قعد له بطريق الهجرة، قال له: تهاجر وتدع أرضك وسماءك! فعصاه فهاجر. ثم قعد له بطريق الجهاد، قال له: تجاهد وإنما الجهاد ذهاب المال والنفس! فعصاه فجاهد. فمن فعل ذلك كان حقاً على الله إن مات أن يدخله الجنة، وإن قتل أن يدخله الجنة، وإن وقصته دابته أن يدخله الجنة ).

الشيطان يقف لك في كل طاعة: لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ [الأعراف:16-17]، ولذلك إذا أردت مثلاً: المغرب أذن، تريد تصلي يقول لك: قدام، امش قدام. فتمشي قدام، وإذا الصلاة قد انقضت واشتبكت النجوم لو أدركتها قبيل العشاء لكان خيراً لك، لماذا؟ لأنه في البداية قال لك: قدام. وقل مثل ذلك في سائر الطاعات.

ولذلك مطلوب منا أن نجاهد هذه الأربعة: نجاهد النفس، ونجاهد الشيطان، ونجاهد المنافقين، ونجاهد الكفار.

ونسأل الله أن يعيننا عليهم!

فهذا أزب العقبة لعنه الله! قام يصيح في مكة: (هذا مذمم والصباة معه قد اجتمعوا على حربكم يا أهل الجباجب!)، فرجع القوم إلى فرشهم متسللين كأنهم ما صنعوا شيئاً، فلما أصبحوا جاء كبراء قريش قالوا لهم: (يا معشر الخزرج! إنه بلغنا أنكم قد جئتم إلى صاحبنا هذا -يعنون النبي عليه الصلاة والسلام- تستخرجونه من بين أظهرنا وتبايعونه على حربنا، وإنه والله! ما من حي من العرب أبغض إلينا أن تنشب الحرب بيننا وبينهم منكم، قال: فانبعث مشركو قومنا يحلفون بالله ما كان، وقد صدقوا؛ لأنهم كانوا نائمين، المشركون يحلفون أبداً والله ما حصل، يقول: ونحن ينظر بعضنا إلى بعض، والجماعة الذين خرجوا واجتمعوا بالرسول صلى الله عليه وسلم ينظر بعضهم إلى بعض).

ثم بعد ذلك نفروا، في طريق العودة إلى المدينة، وتنطق القوم الخبر، يعني: بدأت قريش تتحقق، فثبت عندها يقيناً أن اجتماعاً خطيراً قد تم عند العقبة بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أولئك القوم، فأرسلوا في طلبهم، لكنهم أعجزوهم هرباً، ما أدركوا إلا رجلين : سعد بن عبادة و المنذر بن عمرو ، أما المنذر فقد أفلت وأما سعد فقد جمعوا يديه إلى عنقه ودخلوا به مكة يجرونه من شعره يضربونه ويلكزونه، فاستنقذه الله عز وجل بـجبير بن مطعم و الحارث بن حرب ؛ لأن سعداً كان يجير قوافلهما، استنقذوه من أيدي المشركين ولحق بقومه في المدينة.

هذه البيعة كانت مقدمة لهجرة المسلمين إلى المدينة، ومن ثم هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن تقوم للإسلام دولة، وتكون للمسلمين شوكة.

نقف عند هذا، والله أعلم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وما زال صلوات الله وسلامه عليه يعرض نفسه حتى قيض الله له نفراً من الخزرج، جاءوا حجاجاً فجلس إليهم، وتلا القرآن عليهم، فنظر القوم بعضهم إلى بعض وقالوا: (إنه النبي الذي تتوعدكم به يهود)، فأسلموا وطلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يبعث معهم من يعلمهم الدين، ويقرئهم القرآن، فبعث معهم الرجل المبارك مصعب بن عمير رضي الله عنه وأرضاه، وهذه البيعة بيعة العقبة ما كان المشاركون فيها يزيدون على أحد عشر رجلاً، مكث مصعب رضي الله عنه نحواً من سنة، يدعو إلى الله في المدينة حتى لم يبق بيت إلا دخل فيه الإسلام، ما بقي بيت في المدينة إلا دخل فيه الإسلام.